لقد فقدنا أبا، والله أعلم ما كان في صدر هذا الأب من الحنو والحب لنا ... كل شيء وا أسفاه كان يدلنا على أن الفقيد سيكون عوننا وعضدنا في زمن الشباب، ولكن الله لم يرد أن يبقيه لنا، وإرادة الله نافذة لا مرد لها، وهو وحده قادر على تعزيتنا.
وإذا نظرنا إلى نجاح نابوليون في درسه بعد انتقاله إلى المدرسة الحربية في باريس وجدناه لم يأت شيئا عجبا يدل دلالة قوية على مستقبله الباهر، فقد كانت نمرته 42 بين 58 طالبا، وكان أستاذه في الألمانية «بولير» يقول: «إن نابوليون حيوان لا يفهم»، خلافا لما توسمه أهل النظر الصادق ولما حققه الزمان.
ولما كانت سنة 1785 صدر الأمر بتعيين بونابارت ملازما ثانيا في ألاي لافير، فسر سرورا عظيما كما يحدث لشاب مثله لم يتجاوز السادسة عشرة، وأسرع فأوصى بصنع ملابسه العسكرية، ولكن الأخبار متفقة على أن الهندام والزخرف كانا بعيدين عن ذياك الضابط الصغير، وأنه اشترى حذاء ضخما ثقيلا، وأن فخذيه النحيفتين توارتا في البنطلون الجديد الواسع، ولما رأته فتاتان صغيرتان اسمهما سسيل ولور - والثانية هي التي صارت الدوقة دابراتيز - لقبتاه ب «القط المبيطر»، فلم يغضب نابوليون من هذا اللقب، بل ذهب وأتى بمركبة فيها قط يلبس حذاء ومعه قصة مضحكة.
ولما سافر نابوليون إلى فالانس رافقه ألكسندر دي مازي الذي عين مثله ضابطا في ألاي لافير، وعند وصوله إلى فالانس حيث كان الألاي استقبله جبريل دي مازي أخو ألكسندر، وكان ليوتينان في الألاي نفسه، ونزل بونابارت عند امرأة عزبة مسنة اسمها «مدموازيل بو» وكانت صاحبة قهوة، وهناك أخذ يظهر جانب من خلق بونابارت وهو التشبث بعاداته، فإنه بقي عند تلك المرأة سحابة المدة التي صرفها هنا، وكان كلما عاد إلى فالانس وحده أو هو وأحد إخوته ينزل عند «مدموازيل بو».
وكان نابوليون في فالانس مثل كل شاب لا يزيد عمره عن سبع عشرة سنة يريد أن يظهر في مظاهر الرجال، وهناك بدأ يذوق شيئا من طعم الحياة الطيبة بعد الضيق والمسكنة، فتعلم الرقص على يد أستاذ اسمه دوتيل، وأخذ يزور المجالس والأسر المعروفة ويرمق الفتيات ببعض النظرات.
على أنه لم يكن يخص باللهو وترويح النفس إلا بعض أوقات الفراغ، ولم يغفل المطالعة والكتابة بل أخذ يشتغل بوضع تاريخ لكورسيكا، ولما فرغ من الفصلين الأولين أرسلهما إلى الأب رينال فسر بهما وحضه على إتمام هذا التاريخ.
وبعد حين من الزمن دعي ألاي نابوليون إلى ليون حيث خيف من حدوث اضطراب، فقضى شهرا في تلك المدينة، ثم طلب إذنا في السفر إلى كورسيكا، ولما انتهت «إجازته» سافر إلى أوكسون حيث كان ألايه، وكان صدره منقبضا وقلبه منفطرا لما رآه من الضيق الذي حل بأمه وإخوته، وانقطع عن الملاهي والملاذ التي بدأ يألفها في فالانس، ونزل عند المسيو لومبار أستاذه في الرياضيات، وما كان يترك شغله إلا ليتناول غذاءه في بيت صديقه أمون الذي كان أمام منزل أستاذه ثم يعود إلى غرفته ويكب على الدرس. ويمكننا أن نحصر وصف حياة نابوليون إذ ذاك في الكلمات الآتية التي بعث بها إلى أمه، قال:
إني لا أملك شيئا سوى الشغل، ولا أغير ملابسي إلا مرة واحدة في كل ثمانية أيام، ولا أنام إلا قليلا منذ عراني المرض، وأنا أرقد الساعة العاشرة مساء وأستيقظ الساعة الرابعة صباحا، ولا آكل إلا دفعة في اليوم نحو الساعة الثالثة بعد الظهر.
ولخوفه من زيادة الغم والهم على قلب أمه ختم بقوله: «وهذا موافق جدا للصحة»، على أن خوفه وقلقه على آله وتواصل الدرس وشظف العيش كل ذلك أضنى نابوليون وأصابه بفقر الدم، حتى إن المسيو بيافالو طبيب الألاي خاف عليه سوء المغبة، وفي أول سبتمبر سنة 1789 حمله ضعف جسمه والشوق إلى آله على طلب إجازة أخرى فنالها وسافر إلى كورسيكا. •••
ولما شفي نابوليون من ضعفه الشديد عاد من كورسيكا إلى أوكسون ومعه أخوه لويس، وكان بوده أن يعود وحده ولكنه رأى أمه في ضائقة مالية فأراد أن يخفف من أعبائها بتعهد أمر أخيه والإنفاق عليه، وما كان للويس من العمر في ذاك الوقت إلا ثلاث عشرة سنة، على أن هذا الشعور الشريف لم يخفف إلا قليلا من أثقال أمه الفاضلة؛ لأنها بقيت مضطرة إلى تربية سبعة أولاد ما عدا لويس، وحسبك لتعلم التقتير الذي لجأ إليه نابوليون من أجل أخيه أن تتصور أنه لم يكن يقبض في آخر الشهر إلا راتب ملازم ثان؛ أي 92 فرنكا، فكيف يكفي هذا المبلغ القليل ضابطا شابا وأخا محتاجا إلى العلم والغذاء والكساء؟ إن نابوليون وجد طريقة للاكتفاء به وهي أن يحرم نفسه الجلوس في القهوات وحضور الحفلات وملاذ الزيارات، وأن يأكل في كثير من الأحيان خبزا جافا وينفض غبار ملابسه بيده.
Página desconocida