مقدمة
1 - النسر الأعظم في فقره ومسكنته
2 - فتش عن المرأة
3 - في سبيل المجد
4 - اليسر بعد العسر
5 - هيام نابوليون بجوزفين
6 - نابوليون بعد الزواج
7 - سلوك جوزفين في ميلان
8 - نابوليون مع أسرته
9 - المشاغل الحربية في ذاك الوقت
10 - إلى مصر
11 - العاطفة الأبوية عند نابوليون
12 - تقرير الطلاق
13 - زواج نابوليون وماري لويز
14 - ولادة ملك روما
15 - خيانة ماري لويز
16 - أخلاق نابوليون
17 - نابوليون وجنوده
18 - نابوليون وقواده
19 - نابوليون وأهوال الحرب
20 - تأييد نابوليون للعلوم والفنون
21 - نابوليون في شاهق العظمة
22 - كيف كان مع أعدائه؟
23 - هل كان نابوليون شجاعا بالمعنى الصحيح؟
24 - طالع النحس
أسرة بونابارت
مقدمة
1 - النسر الأعظم في فقره ومسكنته
2 - فتش عن المرأة
3 - في سبيل المجد
4 - اليسر بعد العسر
5 - هيام نابوليون بجوزفين
6 - نابوليون بعد الزواج
7 - سلوك جوزفين في ميلان
8 - نابوليون مع أسرته
9 - المشاغل الحربية في ذاك الوقت
10 - إلى مصر
11 - العاطفة الأبوية عند نابوليون
12 - تقرير الطلاق
13 - زواج نابوليون وماري لويز
14 - ولادة ملك روما
15 - خيانة ماري لويز
16 - أخلاق نابوليون
17 - نابوليون وجنوده
18 - نابوليون وقواده
19 - نابوليون وأهوال الحرب
20 - تأييد نابوليون للعلوم والفنون
21 - نابوليون في شاهق العظمة
22 - كيف كان مع أعدائه؟
23 - هل كان نابوليون شجاعا بالمعنى الصحيح؟
24 - طالع النحس
أسرة بونابارت
النسر الأعظم
النسر الأعظم
تأليف
يوسف البستاني
مقدمة
لقد أصبت خير جزاء على إخراج رواية «فرخ النسر» إلى اللغة العربية بما رأيته من ارتياح القراء إلى وقائعها وحوادثها التاريخية المؤثرة، ورأيت اليوم أن أصور لمحبي التاريخ أبا فرخ النسر، الذي لقبه بعض المؤرخين بأفضل لقب يجمل بعلائه وعظمته؛ أي: «النسر الأعظم».
وليس من غرضي أن أنقل تاريخ حروبه التي وضع لها المؤلفون الغربيون مئات المؤلفات وترجم بعضها إلى لغتنا، بل غرضي كله أن أذكر ما يظهر للقارئ «النسر الأعظم» ورب الحرب بصفاته ومزاياه وعواطفه الخاصة، فيراه شابا فأخا فعاشقا فزوجا فأبا ... إلخ.
وما اخترت هذا الشطر من سيرة ذلك الرجل الفريد إلا لأمرين؛ أولهما: أن فيه من اللذة والعبرة ما تحلو مطالعته. والثاني: أني لا أجد - أو لا أعرف - من المؤلفات والمترجمات العربية ما هو جامع لذاك كله، وإنه لحقيق بكل كاتب عربي أن يهتم بنقل النفائس الأجنبية التي ترجمت إلى لغات عديدة ما خلا لغتنا؛ لأن فيها من فرائد الفوائد ما ينير الأذهان ويزيد «الثروة الأدبية والتاريخية»، وإنا لنخدع أنفسنا إذا قلنا أن «ثروتنا» تكفي طلاب الرقي الفكري، أو أنها تضارع ما تملكه الأمم العظمى.
أما المؤلفات التي اعتمدت عليها في هذا الموضوع، فأخصها مؤلف «المسيو أرتور لافي»، وهو لم يكتبه إلا بعد أن درس عشرات من المذكرات والكتب التي خصت ب «النسر الأعظم»، وحسبي لإظهار شأنه قول «فرنسوا كوبيه» الشاعر الشهير في مقدمة كتبها له: «اقرأ كتاب المسيو أرتور لافي تعجب بما تراه من الترتيب الفكري، وسكون النفس، وعمران الضمير، والترفع عن التحزب كما يجب على كل مؤرخ بالمعنى الصحيح.»
وإذا صح أن ما يؤثر في نفس الكاتب يؤثر في كل قارئ، فإن هذا المؤلف الصغير الذي أقدمه للقراء الكرام لا يكون أقل أثرا في نفوسهم من «فرخ النسر»؛ لأنهما من معدن واحد، وإذا أخطأ ظني الغرض، فحسبي ما نويته من الخدمة العامة، وإنما الأعمال بالنيات.
يوسف البستاني
الفصل الأول
النسر الأعظم في فقره ومسكنته
في الخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1769 شعرت لاتيتيا زوجة شارل بونابارت بآلام الولادة وهي في الكنيسة، فأسرعت إلى بيتها حيث ولدت على سجادة غرفتها ولدا سمته «نابوليون»، فهل كان في تلك السجادة سر من طراز ما يذكرونه في الأقاصيص والحكايات؟ إنا لا نتصدى لمثل هذا البحث ولا نريد مشاركة أهل الخرافات، وإنما نجتزئ بذكر ملاحظة في شأن المحيط الذي ولد فيه النسر الأعظم، وهي أن أمه صرفت الأعوام التي تقدمت زواجها في محيط تجاري مالي عند رجل سويسري من أرباب المصارف اسمه فيش - لأن هذا الرجل تزوج أم والدة نابوليون بعد وفاة زوجها الأول - فتعلمت الضبط والترتيب والنظام، فإذا صح ما يقوله الفلاسفة من أن الأم تورث بنيها من أخلاقها ومزاياها، فإن ما اشتهر به نابوليون الأول من حب النظام والتدقيق في الحساب كان من فضل أمه لاتيتيا، وأول ما شعر به نابوليون حين ترعرع أن حالة بيته كانت تقتضي النظر والتدقيق؛ لأن الحروب أورثت آله الضنك والضيق، فلم يكن لأبيه إلا ملك صغير لا يربو ريعه عن ألف أو ألف وخمسمائة من الفرنكات في العام، ولكن أمه الفاضلة قابلت تلك الحال بثبت الجنان وسكون الجأش، ولجأت إلى حكمتها في تدبير المنزل، وأضمرت حزنها في قلبها الكبير.
ولما بلغ جوزيف كبير ولدها وأخوه نابوليون العمر الذي يجب فيه طلب العلم ووضع الأساس للمستقبل، أخذ أبوه يلتمس هنا وهناك من أرباب الكلمة والشأن أن يسعوا لولديه المذكورين في الحصول على مراكز مجانية في بعض مدارس فرنسا.
وبعد التعب والوصب وتوالي الرجاء والالتماس تمكن أسقف أوتون - وكان حفيد حاكم كورسيكا مسقط رأس نابوليون - من إدخال جوزيف في مدرسة أوتون وإدخال نابوليون في مدرسة بريان رجاء أن يدمجه يوما في سلك البحرية، ولكن نابوليون اضطر قبل الذهاب إلى مدرسة بريان أن يدخل إلى حين مدرسة أوتون ليتعلم اللغة الفرنسوية ويصبح قادرا على الانتظام في عقد البحرية الفرنسوية، وما مضت ثلاثة أشهر على نابوليون حتى صار قادرا على التحدث والكتابة بها.
وكانت أقوال المؤرخين الذين وصفوا نابوليون وهو في مدرسة أوتون منطبقة على عواطفهم الخاصة، فجعله بعضهم أعجوبة الذكاء والعبقرية، ووصفه آخرون ب «طالب متكتم عنيد ميال إلى الاستبداد وسفك الدماء»، وربما كان القول الحق ما ذكره شاتوبريان، وهو أن نابوليون لم يكن إذ ذاك إلا صبيا صغيرا لا يتميز تميزا كبيرا عن الأقران؛ لأنه دخل تلك المدرسة وهو لا يعرف اللغة الفرنسية ولا يعرف عادات الطلاب التي كانت تختلف عن عادات أهل كورسيكا، ولا يشعر إلا بتفوقهم عليه في الثروة ومميزات أخرى، فلا عجب لدى هذا كله أن يكون قليل الكلام، قليل الامتزاج بالطلاب، مستشعرا أثر الغربة ووجوب العزلة، ولما انتقل إلى مدرسة بريان أخذت مواهبه العقلية تظهر وتتجلى، ولكن حالته المادية كانت سيئة ومؤثرة في مسلكه بدليل قوله لكولنكور سنة 1811؛ أي بعد أن صار إمبراطورا: «إني كنت في بريان أشد فقرا من زملائي؛ فهم كانوا يجدون المال في جيوبهم وأنا لم أكن أجد شيئا، على أني كنت عيوفا أنوفا، أفرغ جهدي حتى لا أدع أحدا يشعر بإفلاسي، وكنت لا أعرف الضحك واللهو كسائر الطلاب ... إن التلميذ بونابارت كان حاصلا على علامات جيدة في دروسه، ولكنه لم يكن محبوبا.»
فالقائد العظيم والإمبراطور الأعظم الذي عشقه الجيش والشعب زمنا مديدا يعترف بأنه لم يكن محبوبا في المدرسة، والسر في هذا النفور منه يظهر للباحث في أمرين؛ أولهما: اجتناب نابوليون أسباب النفقة وضروب المعاشرة لفراغ جيبه. والثاني: سخر الطلاب به وتلقيبه ب «الكورسيكي» لما رأوه من ذاك الانقباض ومن اختلاف عاداته وحالاته عما ألفوه في جمهورهم، والحقيقة أن نابوليون لم يكن يخشن إلا لمن ناوأه وهزأ به؛ بدليل ما قاله لبوريان الذي كان أحد الطلاب: «أما أنت فأحبك؛ لأنك لا تهزأ بي ...»
وروي أن نابوليون قال مرة لأحدهم: «إني سألحق بمواطنيك الفرنسويين كل ما أستطيعه من الضرر.» فبنى بعض المؤرخين على هذا الكلام علالي وقصورا، ولكن المنصف لا يوافقهم على كل ما استنتجوه، بل ينظر إلى الأحوال التي قال فيها نابوليون تلك العبارة؛ فهو لم يقلها إلا في ساعة غضب، وفي الرد على صبية أوسعوه سخرية ولقبوه بالكورسيكي فلقبهم هو بالفرنسويين، وإن هذا كله إلا زلة لسان، وكلمة طالب لا يزن ما يقوله ولا يفكر إلا في جرح خصومه.
وكان نابوليون مع ضيق ذات اليد وشدة المعاكسة مكبا على الدرس، منقطعا إلى البحث، ناجحا في كل فروع الدروس ولا سيما الرياضيات، وكان همه بعد الدرس منصرفا إلى إخوته وآله، ولما علم أن أخاه جوزيف كان يريد الانتقال إلى مدرسة بريان أو متز اهتم بالأمر، وكان عمره لا يزيد عن ثلاث عشرة سنة، فكتب إلى أبيه كتابا قال فيه: «إن أستاذي في الرياضيات - الأب بترول - لا ينوي السفر، فيمكن أخي جوزيف أن يأتي إلى هنا، وإذا أراد أن يشتغل فإنه يذهب معي للامتحان والدخول في سلك المدفعيين ...» فأي صبي في هذا العمر يظهر أفضل من تلك العواطف الأخوية؟
ولقد رمى كثيرون نابوليون بالأنانية ونكران الجميل ونسيان الأصدقاء بعد الصعود إلى ذروة المجد والعز، ولكن أهل القسط والإنصاف من المؤرخين نفوا عنه ذاك العيب، ومما قدموه من البراهين الدامغة تعيين بوريان الذي كان صديقه منذ عهد المدرسة كاتب سر خاص، ثم اهتمامه بأمر «زميله» لوريتسون الذي رقاه إلى رتبة جنرال وعينه بعد حين سفيرا له في العاصمة الروسية، فكان آخر سفير لنابوليون، وقس عليهم كثيرين من الذين كانوا زملاء أو أساتذة أو أصدقاء للبطل الكورسيكي منذ أيام المدرسة. وصفوة ما يقال أن نابوليون كان حسن العواطف في المدرسة وشديد الحرص على اتباع وصايا أمه الفاضلة، ومتجه الفكر والقلب نحو آله، ومحترما من أساتذته ومحترما لهم.
وفي 15 سبتمبر سنة 1783 امتحن الشفالييه وكيل المدارس الحربية الملكية ذاك الطالب الذي يضمر له المستقبل كل عجيبة حربية، وكتب عن نتيجة امتحانه الكلمات الآتية: «إنه سيكون بحارا بارعا، ويستحق أن ينقل إلى مدرسة باريس.»
على أن البحرية لم تقبل نابوليون؛ لأن عدد تلاميذها كان محدودا؛ ولأن كثيرين من الطلاب كانوا يتهافتون عليها ويلتمسون نفوذ الكبراء في الوصول إليها.
فاضطر نابوليون أن يبقى في مدرسة بريان، ثم رأى أن الواجب عليه لأهله يقضي بأن يترك مركزه المجاني لأخيه لوسيين؛ لأن القانون لم يكن يسمح بتعليم أخوين مجانا في وقت معا، ولما رأى نفسه مضطرا إلى العدول عن البحرية كتب إلى أبيه يسأله أن يلتمس له محلا في مدرسة المدفعية أو الهندسة.
وفي أكتوبر سنة 1784 تمكن من الدخول في مدرسة باريس الحربية، فدخل العاصمة الفرنسوية وليس عليه شيء من هيئة ذاك الذي سيدخلها فاتحا وإمبراطورا عظيما، بل دخلها غريبا تدل مشيته على حداثة وصوله، حتى وصفه دمرتيوس كومين أحد مواطنيه بأنه «كان من أولئك الذين يعرفهم المحتالون الطرارون بمجرد النظر إليهم»، وليس بعجب أن يكون نابوليون على تلك الحال؛ فقد وصل العاصمة الفرنسوية وليس له من العمر إلا خمس عشرة سنة، وعينه لم تألف منظر مدينة كباريس، وجيبه ضامر لا يسمح له بأن ينفق عن سعة كسائر تلاميذ المدرسة الحربية، وزد على هذا كله أن فقر أبويه كان ماثلا نصب عينيه وحائلا دون تمتعه بشيء من الترف والاشتراك في اللذات والحفلات، وكان صديقه برمون يشعر بما خامر نفس نابوليون فيعرض عليه أن يقرضه مبلغا من المال، فيجيبه نابوليون: «إن أعباء أمي كثيرة، فلا أريد أن أضيف إليها حملا آخر بإسرافي، ولا سيما إذا كان الباعث عليه جنون زملائي ...»
وتكلم نابوليون مرة سنة 1811 عن حالته في المدرسة فقال: «إن تلك الهموم كدرت علي صفاء الشباب، وأثرت في طبعي، وأكسبتني الرزانة قبل وقتها ...» ومما زاد حزن نابوليون وهو في المدرسة وفاة أبيه سنة 1785 وليس له من العمر إلا تسع وثلاثون سنة، وهاك ما كتبه إلى أمه:
أمي العزيزة، تعزي واصبري؛ فإن الأحوال توجب علينا العزاء والصبر، ونحن سنضاعف العناية بك والاعتراف بجميلك، فإذا تمكنا من تعويضك بعض الخسارة من فقد زوج عزيز، كنا سعداء الطالع.
وكتب إلى عمه:
لقد فقدنا أبا، والله أعلم ما كان في صدر هذا الأب من الحنو والحب لنا ... كل شيء وا أسفاه كان يدلنا على أن الفقيد سيكون عوننا وعضدنا في زمن الشباب، ولكن الله لم يرد أن يبقيه لنا، وإرادة الله نافذة لا مرد لها، وهو وحده قادر على تعزيتنا.
وإذا نظرنا إلى نجاح نابوليون في درسه بعد انتقاله إلى المدرسة الحربية في باريس وجدناه لم يأت شيئا عجبا يدل دلالة قوية على مستقبله الباهر، فقد كانت نمرته 42 بين 58 طالبا، وكان أستاذه في الألمانية «بولير» يقول: «إن نابوليون حيوان لا يفهم»، خلافا لما توسمه أهل النظر الصادق ولما حققه الزمان.
ولما كانت سنة 1785 صدر الأمر بتعيين بونابارت ملازما ثانيا في ألاي لافير، فسر سرورا عظيما كما يحدث لشاب مثله لم يتجاوز السادسة عشرة، وأسرع فأوصى بصنع ملابسه العسكرية، ولكن الأخبار متفقة على أن الهندام والزخرف كانا بعيدين عن ذياك الضابط الصغير، وأنه اشترى حذاء ضخما ثقيلا، وأن فخذيه النحيفتين توارتا في البنطلون الجديد الواسع، ولما رأته فتاتان صغيرتان اسمهما سسيل ولور - والثانية هي التي صارت الدوقة دابراتيز - لقبتاه ب «القط المبيطر»، فلم يغضب نابوليون من هذا اللقب، بل ذهب وأتى بمركبة فيها قط يلبس حذاء ومعه قصة مضحكة.
ولما سافر نابوليون إلى فالانس رافقه ألكسندر دي مازي الذي عين مثله ضابطا في ألاي لافير، وعند وصوله إلى فالانس حيث كان الألاي استقبله جبريل دي مازي أخو ألكسندر، وكان ليوتينان في الألاي نفسه، ونزل بونابارت عند امرأة عزبة مسنة اسمها «مدموازيل بو» وكانت صاحبة قهوة، وهناك أخذ يظهر جانب من خلق بونابارت وهو التشبث بعاداته، فإنه بقي عند تلك المرأة سحابة المدة التي صرفها هنا، وكان كلما عاد إلى فالانس وحده أو هو وأحد إخوته ينزل عند «مدموازيل بو».
وكان نابوليون في فالانس مثل كل شاب لا يزيد عمره عن سبع عشرة سنة يريد أن يظهر في مظاهر الرجال، وهناك بدأ يذوق شيئا من طعم الحياة الطيبة بعد الضيق والمسكنة، فتعلم الرقص على يد أستاذ اسمه دوتيل، وأخذ يزور المجالس والأسر المعروفة ويرمق الفتيات ببعض النظرات.
على أنه لم يكن يخص باللهو وترويح النفس إلا بعض أوقات الفراغ، ولم يغفل المطالعة والكتابة بل أخذ يشتغل بوضع تاريخ لكورسيكا، ولما فرغ من الفصلين الأولين أرسلهما إلى الأب رينال فسر بهما وحضه على إتمام هذا التاريخ.
وبعد حين من الزمن دعي ألاي نابوليون إلى ليون حيث خيف من حدوث اضطراب، فقضى شهرا في تلك المدينة، ثم طلب إذنا في السفر إلى كورسيكا، ولما انتهت «إجازته» سافر إلى أوكسون حيث كان ألايه، وكان صدره منقبضا وقلبه منفطرا لما رآه من الضيق الذي حل بأمه وإخوته، وانقطع عن الملاهي والملاذ التي بدأ يألفها في فالانس، ونزل عند المسيو لومبار أستاذه في الرياضيات، وما كان يترك شغله إلا ليتناول غذاءه في بيت صديقه أمون الذي كان أمام منزل أستاذه ثم يعود إلى غرفته ويكب على الدرس. ويمكننا أن نحصر وصف حياة نابوليون إذ ذاك في الكلمات الآتية التي بعث بها إلى أمه، قال:
إني لا أملك شيئا سوى الشغل، ولا أغير ملابسي إلا مرة واحدة في كل ثمانية أيام، ولا أنام إلا قليلا منذ عراني المرض، وأنا أرقد الساعة العاشرة مساء وأستيقظ الساعة الرابعة صباحا، ولا آكل إلا دفعة في اليوم نحو الساعة الثالثة بعد الظهر.
ولخوفه من زيادة الغم والهم على قلب أمه ختم بقوله: «وهذا موافق جدا للصحة»، على أن خوفه وقلقه على آله وتواصل الدرس وشظف العيش كل ذلك أضنى نابوليون وأصابه بفقر الدم، حتى إن المسيو بيافالو طبيب الألاي خاف عليه سوء المغبة، وفي أول سبتمبر سنة 1789 حمله ضعف جسمه والشوق إلى آله على طلب إجازة أخرى فنالها وسافر إلى كورسيكا. •••
ولما شفي نابوليون من ضعفه الشديد عاد من كورسيكا إلى أوكسون ومعه أخوه لويس، وكان بوده أن يعود وحده ولكنه رأى أمه في ضائقة مالية فأراد أن يخفف من أعبائها بتعهد أمر أخيه والإنفاق عليه، وما كان للويس من العمر في ذاك الوقت إلا ثلاث عشرة سنة، على أن هذا الشعور الشريف لم يخفف إلا قليلا من أثقال أمه الفاضلة؛ لأنها بقيت مضطرة إلى تربية سبعة أولاد ما عدا لويس، وحسبك لتعلم التقتير الذي لجأ إليه نابوليون من أجل أخيه أن تتصور أنه لم يكن يقبض في آخر الشهر إلا راتب ملازم ثان؛ أي 92 فرنكا، فكيف يكفي هذا المبلغ القليل ضابطا شابا وأخا محتاجا إلى العلم والغذاء والكساء؟ إن نابوليون وجد طريقة للاكتفاء به وهي أن يحرم نفسه الجلوس في القهوات وحضور الحفلات وملاذ الزيارات، وأن يأكل في كثير من الأحيان خبزا جافا وينفض غبار ملابسه بيده.
وحدث يوما بعد ما صار نابوليون إمبراطورا أن أحد الموظفين شكا قلة راتبه وكثرة عياله، فقال له نابوليون: «أنا أعرف كل ما تقول ... أعرفه يوم كنت ملازما أول آكل الخبز الجاف، وأوصد الباب على فقري ومسكنتي.»
وكان نابوليون في أوكسون يهتم بأقل الأمور في غرفته الوضيعة، وكان من جملة ما وجد مكتوبا بخط يده في دفتر خياط اسمه بيوت ما يلي:
المطلوب من نابوليون بونابارت.
س
فرنك
4
4
صنع بنطلون من الجوخ
4
1
صنع كلسون عدد 2
4
1
صنع تطريز
ثم ذكر أن الخياط أنزل له شيئا قليلا من أجرة الكلسونين.
وكان نابوليون يهتم بتعليم أخيه في بعض أوقاته الحرة ويصرف الباقي منها في الكتابة الأدبية؛ لأنه كان يرجو منها بعض الربح المادي، ولقد كابد نابوليون تلك الحال بصبر وحزم ولم يظهر شيئا من التذمر والتأنف، قال المسيو جولي الذي قابله وهو على تلك الحال: إني رأيت نابوليون طلق المحيا، ولما دخلت عليه قال لي: «لا شك في أنك لم تحضر القداس هذا الصباح فتعال إذا شئت لأسمعك إياه»، ثم أخرج من صندوق ملابس كهنوتية لقسيس الألاي ...
وقال المسيو سوجور: إن عناية نابوليون بأخيه زادت احترام الناس له فأخذوا يبالغون في إكرام وفادته، ولكن زياراته للناس كانت نادرة جدا، وقيل إن الآنسة بيليه كانت تأسف لقلتها وإن مدام نودين كانت تنظر بعين السرور إلى زيارته لزوجها ...
ولكن نابوليون وقف في أوائل المنحدر فلم يهو في درك الهوى، وقد كتب حديثه عن الحب وهو في أوكسون نفسها فقال: «إني أرى الحب مضرا بمصلحة المجتمع وبسعادة الفرد، وأرى على وجه الجملة أن ضرره أكثر من نفعه.»
وليس بعجيب أن يصدر مثل هذا القول عن شاب لا يجد رزقه ورزق أخيه إلا بشق النفس وتراكم الشغل، فإن الحب لا ينمو عادة في قلب مشغول بالماديات، كما أن الزرع اللطيف لا يعيش في أرض كثيرة الأشواك، وسيرى القارئ من رسائل الحب التي أرسلها نابوليون بعد ارتقائه، أن قلب البطل الكورسيكي كان يخفق بين ضلوعه شوقا وغراما، كما يخفق قلب كل إنسان يحب الحسان. •••
وفي مايو سنة 1791 رقي نابوليون إلى رتبة ملازم أول وألحق بألاي المدفعية الرابع، فعاد إلى فالانس ومعه أخوه لويس، وذهب توا إلى غرفته القديمة عند «مدموازيل بو» فوجدها مشغولة فأبى أن يغير عادته وبقي في بيت «بو» حتى خلت الغرفة، وما كانت حالته المالية في ذاك الوقت أفضل مما كانت في أوكسون، فاضطر إلى اجتناب الزيارات والحفلات كما كان يفعل قبل نقله إلى فالانس، وبقي مثابرا على تعليم أخيه لويس، فلم يترك له كثيرا من أوقات الفراغ ولا من المرتب الضئيل، وكان يدفع المبلغ القليل الذي يبقى له بعد النفقة الضرورية قيمة اشتراكه في المطالعة بإحدى المكتبات.
وكان نابوليون منذ ريعان الشباب يتحمس لفكرة الثورة ويميل إلى الحرية، واندمج هناك في «جمعية أصدقاء الدستور» وعين كاتب سر لها، وقد حفظ أعضاء تلك الجمعية آثار خطبه المملوءة نخوة وحمية، وكان ميله إلى الأفكار الحرة سببا في تغير بعض رؤسائه ورفاقه عليه وخصوصا الشفاليه ديدوفيل الذي كان مثله ملازما أول.
ولما صار نابوليون إمبراطورا كان ديدوفيل في الهجرة، فأوعز إليه نابوليون بالعودة إلى الوطن وعينه في إحدى الوظائف، ولما استقبله نابوليون بعد رجوعه قال لحاشيته: «هذا أحد رفاقي القدماء الذين اشتد النزاع بيني وبينهم في فالانس لأجل دستور 1791.»
وبعد حين التمس بونابارت من الجنرال تايل أن يحصل له على إجازة، ففعل برغم معارضة الكولونيل الذي كان الألاي تحت إمرته، فسافر بونابارت وأخوه لويس إلى كورسيكا حيث قابل أمه وإخوته، وهناك عين في رتبة «قائمقام» للمتطوعين الوطنيين، وقيل إنه ما التمس هذا المركز إلا لرغبته في مساعدة أمه وإخوته من الوجهة المالية.
واتفق أن كولونيل الألاي أصدر إليه أمرا موجبا للشك والريب، فأبى تنفيذه، فعزله، ثم دعي نابوليون إلى باريس فأوضح الأمر لوزير الحربية، فأعاده إلى الجيش العامل وأمره بأن يعود إلى كورسيكا ليستلم فيها قيادة الحرس الوطني.
ومما يذكر هنا أن نابوليون قاسى ضيقا شديدا سحابة المدة التي قضاها في باريس لتبرئة نفسه والرجوع إلى الجيش، حتى اضطر إلى رهن ساعته عند فوفيليه أخي صديقه وزميله بوريين، ولما التقى بذاك الصديق في باريس سر به سرورا بالغا، وذكر بوريين ما كان من أمرهما، قال: «إن صداقتنا عادت إلينا تامة كما كانت في المدرسة، على أني لم أكن سعيدا مع نابوليون؛ لأن وطأة الضيق والمسكنة كانت ثقيلة عليه، فكنا نقضي أيامنا كما يقضيها شابان في الثالثة والعشرين وليس في جيبهما إلا شيء قليل من النقود، وكنت أنا أحسن حالا منه ، ولطالما بحثنا عن ضروب من المضاربة لنكسب من ورائها شيئا.» وكان من جملة ما خطر ببال نابوليون حينئذ أن يستأجر عدة بيوت جديدة ليؤجرها لآخرين ويربح الفرق، ولكن أصحاب الملك أقاموا في سبيلهما العقبات لقلة مالهما، وكانا يأكلان في مطعم صغير في شارع فالوا، وكثيرا ما كان بوريين يدفع كل المطلوب؛ لأنه كان أحسن حالا كما تقدم.
ولقد شهد نابوليون في ذاك الحين هياج العامة ورأى نحو خمسة أو ستة آلاف من الرعاع المسلحين يصيحون ويتجهون نحو قصر الملك، فقال لصديقه بوريين: «تعال نتبع هؤلاء السفلة»، ولما رأي الملك لويس السادس عشر وسطهم لابسا قبعة حمراء صاح نابوليون قائلا: «كيف تركوا هؤلاء الرعاع يدخلون؟ لقد كان من الواجب أن تنظف قنابل المدافع أربعمائة أو خمسمائة منهم ثم تدع الباقين يركضون.»
وفي ذاك الحين أخذ يشعر نابوليون بنفور شديد من ترك السلطة للعامة، وكتب إلى أخيه جوزيف في 3 يوليو سنة 1792 يقول: «إن زعماء الثائرين من زمرة المساكين، فكل منهم يبحث عن مصلحته الخاصة، والدسائس اليوم هي أدنى مما كانت في كل زمان ... وجل ما يتمناه المرء هو دخل أربعة أو خمسة آلاف فرنك والحياة الهادئة ومحبة الآل والإخوان ...»
وفي ذاك الحين أيضا رأى نابوليون مقتل بقية أنصار الملك وسوقه إلى الجمعية الوطنية، فشعر بخوف شديد على أمه وإخوته من الحوادث المتوقعة في كورسيكا وغيرها، ولكن انتظار القرار المنوط بوظيفته اضطره إلى البقاء في العاصمة.
وفي 13 أغسطس من تلك السنة صدر الأمر بإخلاء جميع المدارس الملكية، فذهب نابوليون مسرعا إلى سان سير، فأخرج أخته إليزا من مدرسة البنات، وفي 30 من الشهر المذكور صدر الأمر بإعادة نابوليون إلى رتبة كابتن في المدفعية، وبالإذن له في السفر إلى كورسيكا، فسافر هو وأخته إلى ليون ثم برحها عن طريق نهر الرون، فقابلته مدموازيل بو صاحبة الفندق الصغير في فالانس والسيدة ميزانجير وقدمتا له سلة من العنب، وفي 17 سبتمبر وصل نابوليون وأخته إلى أجاكسيو حيث اجتمعت عائلة بونابارت كلها لأول مرة منذ ثلاث عشرة سنة، ولولا الفقر والمسكنة التي كانت تحيق بها لكان سرور أعضائها عظيما، وقيل إن المورد الوحيد الذي كانوا يعتمدون عليه حينئذ ويرجون منه دفع غائلة الجوع هو مرتب نابوليون.
وكانت أم نابوليون تجلس معه بعد رقاد أولادها الصغار وتظهر قلقها الشديد على مستقبل بناتها، فيعمد نابوليون إلى تطييب نفسها وتسكين جأشها، وقد قال لها مرة: «إني سأذهب إلى الهند ثم أعود بعد سنوات قليلة بمال وافر وأخص كل واحدة من أخواتي الثلاث بمبلغ منه ...»
وفي تلك الأيام اشتدت دسائس زعيم كورسيكي اسمه باسكال باولي وقام نزاع شديد بينه وبين نابوليون؛ لأن باولي كان يريد إلحاق الجزيرة بإنكلترا، وحدث وقتئذ أن الجنود الفرنسوية فشلت في جزيرة مادلين وكاجلياري، فاشتد ساعد باولي وتمكن من تأليف حكومة وقتية لكورسيكا وأمر بنفي آل نابوليون كلهم، وكان نابوليون قد استشعر الخطر المقبل فبرح كورسيكا، ولكنه علم في طريقه بالقرار المتعلق بآله، فأخذ يتنازعه عاملان عامل الواجب لعائلته وعامل الخطر الذي يتهدده، ولكن تردده لم يطل فعاد قاصدا بلده لينقذ أهله، ولما وصل إلى باب مدينة أجاكيسو علم أن أمه وسائر آله غير مهددين بخطر داهم، وأنهم انطلقوا إلى كالفي، فأسرع إلى حيث كانوا، ثم أبحروا جميعا إلى مرسيليا بينما كان رجال باولي يحرقون وينهبون أملاكهم.
وكان وصول نابوليون وأمه إلى مرسيليا في يونيو سنة 1793، وقد وصف أخوه لوسيين حالة «لاتيتيا وأولادها» في مذكراته فقال: «كان نابوليون يخص معظم مرتبه بتخفيف أعباء أمه وسد حاجة إخوته، وتمكنا من الحصول على جراية من الخبز وبعض المساعدة بصفتنا مهاجرين وطنيين، فكان هذا العون كافيا لنا على قلته؛ لأن أمنا الفاضلة كانت مدبرة مقتصدة.»
وكان من جملة الذين ساعدوا أرملة بونابرت وأولادها في مرسيليا الموسيو كلاري من كبار تجار الصابون، فإن قلبه رق لحال تلك السيدة وأولادها، وتوثقت العلاقات الودية بين الأسرتين، وما مضت سنتان حتى تزوج جوزيف جولي ابنة ذاك التاجر، ثم جرى حديث عن قرب اقتران نابوليون بأختها دزيريه، ولكن يد الدهر كتبت لها أن تكون بعد حين زوجة لبرنادوت.
وبعد حين سافر نابوليون من مرسيليا إلى مدينة نيس حيث كان الألاي الرابع مع جيش القائد كارتو، فأخذ ينتقل معه من مدينة إلى أخرى في جنوبي فرنسا ليخمدوا فتنة الذين هبوا لمعارضة الدستور.
وفي ليل 27-28 أغسطس حدثت الخيانة العظيمة بتسليم ثغر طولون للإنكليز، فأسرع جيش بارتو - ومعه ألاي بونابارت - نحو تلك المدينة لاسترجاعها، فاستولى أولا على موقع أوليول، وفي إبان القتال جرح قائد الطوبجية دومارتين، فعين نابوليون خلفا له، ومع أن الجنرال دي تايل كان صاحب الأمر في المدفعية لم يشأ خوفا من المسئولية أو ثقة بالضابط نابوليون أن يتولى هو القيادة الفعلية للمدفعية، وهناك كان ابتداء شهرة نابوليون وفاتحة مجده الحربي.
وفي 22 ديسمبر أي بعد إخراج الإنكليز من طولون ببضعة أيام صدر الأمر بترقية نابوليون إلى رتبة جنرال، على أن اسمه لم يكن معروفا بين الفرنسويين، ولما أبلغ الضابط جونو أباه أنه سيكون ياور الجنرال بونابارت كتب إليه يقول: «لماذا تركت القائد لابورد، ولماذا تركت فرقتك؟ ومن هو الجنرال بونابارت، وأين خدم؟ إني لا أعرف أحدا يعرفه ...»
وكان عمر نابوليون في ذاك الحين لا يزيد عن خمس وعشرين سنة، فلم يأخذه الزهو والكبر لحصوله على تلك الرتبة العالية ولم ينس أمه وإخوته، بل ازداد عناية بهم وعطفا عليهم، قال أخوه لوسيين: «إن ترقية نابوليون أدت إلى تحسين حالنا، وقد ذهبنا إلى قصر ساليه لنكون على مقربة من معسكره العام، فكان يقضي معنا كل أوقات الفراغ.»
وتمكن نابوليون من تعيين أخيه لويس ياورا براتب ملازم أول وأبقاه معه، وأدخل أخاه جوزيف في إحدى الوظائف.
وفي ذاك الحين أراد روبسبير الصغير أن يولي نابوليون قيادة الحامية الباريسية، فأخذت أسرة بونابارت تتحدث في هذا الشأن، فقال نابوليون: «إن روبسبير الصغير رجل عامر الذمة، ولكن أخاه لا يمزح وهو يريد أن أخدمه وأنفذ مقاصده، وأنا لا أريد أن أخدم مثل هذا الرجل ... أنا لا أرى لي محلا شريفا في هذا الوقت إلا في الجيش، فلا تضيقوا صدرا واعلموا أني سأكون قائد باريس ولكن بعد حين ...»
على أن الزمان أراد أن يدخله الحبس قبل أن يذهب به إلى باريس قائدا وإمبراطورا ويصبح قادرا على إخراج المساجين، وسبب حبسه أن «القومسير ريكور» فوض إليه مهمة سرية وأرسله إلى جنوى، فقامت الشكوك والريب حول نابوليون، ولما عزل ريكور صدر الأمر بالقبض على بطل طولون للتحقيق فجيء به من نيس إلى حصن كاريه، فاستولى القلق العظيم على أمه وإخوته وأصدقائه، واسودت الدنيا أمام ذاك القائد الشاب؛ لأن الحبس في ذاك الوقت كان على الغالب أول مرحلة من طريق الغليوتين.
ولكن نابوليون لم يسترسل إلى الجبن واليأس، بل ظهر في المظهر الذي تميز به سحابة العمر، مظهر الثبات والحزم أمام الخطوب والكروب، وكتب إلى ألبيت وساليساتي اللذين استصدرا الأمر بالقبض عليه قال: «إني خدمت الوطن في طولون وأحرزت شيئا من الامتياز، وكان لي نصيب من الفوز الذي ناله جيش إيطاليا في سورجيو وتارانو، فكيف أنزل تحت الشبهات قبل سؤالي وسماع جوابي؟ إنهم جعلوني موضع الريب، ثم ألقوا الحجز على أوراقي، مع أن الواجب يقضي بحجز أوراقي وطلب الإيضاح مني، وبعد ذلك أرمى بالشبهات إن كان هناك مسوغ.»
رمى جماعة من المؤرخين نابوليون بالتجرد من العواطف الإنسانية الطيبة، فإذا أراد القارئ أن يعرف قيمة هذا الزعم وجد البرهان الدامغ على بطلانه فيما جرى بينه وبين ساليساتي، فإن البطل الكورسيكي علم في يونيو من سنة 1795 أي بعد سنة لحبسه أن ساليساتي - وكان وقتئذ فارا من وجه الحكومة - لجأ إلى منزل بيرمون حيث كان نابوليون يتناول الغداء كل يوم، فتجاهل نابوليون وجود ذاك الرجل الذي اضطهده، واكتفى بأن يرسل إليه بعد هربه إلى بوردو كتابا قال فيه: «رأيت يا ساليساتي أني كنت قادرا على مقابلة الشر بمثله، ولو فعلت لثأرت لنفسي من رجل أنزل بي الضر وما رميته بإهانة أو شر، فاذهب بسلام وابحث عن ملجأ تأوي إليه ريثما يتحسن شعورك الوطني.» •••
ثم رجع نابوليون إلى مدينة نيس في 24 أغسطس بعد أن قضى ثلاثة عشر يوما في الحبس، وهناك اشترك في مظاهرة قام بها الجيش، وصدر الأمر بتعيينه قائدا لبطاريات الحملة البحرية التي أرسلت إلى سيفيتا فكشيا، ولكنه ما لبث أن عاد مع حملته إلى طولون؛ لأن البوارج الفرنسوية لم تستطع يومئذ أن تقهر البوارج الإنكليزية، وبعد أيام صدر الأمر بصرف رجال الحملة فأصبح الجنرال نابوليون بلا منصب، وفي أوائل إبريل سنة 1795 سافر إلى مرسيليا حيث تلقى أمرا بالسفر إلى مركز الجيش الفرنسوي المعروف بجيش الغرب والموكل بإخماد الفتنة الأهلية، فاستاء نابوليون من هذا الأمر؛ لأنه قضي بنقله إلى جيش يصادم الفرنسويين بدلا من أن يكون في جيش يقاتل الأجانب، وما نزل على قلبه شيء من التعزية إلا عند تفكيره في تحسين حالة أمه وأخواته الثلاث وأخيه جيروم - أما أخواه جوزيف ولوسيين فقد كانا متزوجين يومئذ.
وبعد حين تولى وزارة الحربية كابتن قديم اسمه أوبري فعين نفسه فريقا ومفتشا عاما للبطاريات، وأمر بنقل نابوليون إلى إحدى فرق المشاة، فتبرم نابوليون واعترض على هذا التعيين، فأجابه أوبري: «أنت لا تزال شابا ... فيجب أن يتقدمك المسنون»، فقال له نابوليون: «إن الشباب يسن عاجلا في ساحة القتال»، ولكن أوبري أصر على رأيه العتيق، فأبى نابوليون أن ينتقل إلى المشاة، وأصبح في موقف حرج، ولكن بعض ذوي الشأن الذين عرفهم في طولون توسطوا له عند ذاك الوزير، وبعد الجهد الشديد استنزلوا له أمرا بالبقاء في العاصمة على سبيل «الإجازة»، إلا إنه كان محروما من مرتبه. أما السبب الذي حمل نابوليون على رفض الانتقال إلى صفوف المشاة فهو أن ضباط البطاريات كانوا ينظرون بعين الاستخفاف إلى ضباط المشاة، فعد نابوليون نقله حطا من قدره كما قال مارمون في «مذكراته»، وكتب نابوليون نفسه إلى أحد أصدقائه يقول: «أرادوا أن يعينوني جنرالا للمشاة في جيش فنديه فلم أقبل؛ لأن كثيرا من الضباط يمكنهم أن يقودوا المشاة ويكونوا فيها أبرع مني، أما البطاريات فقليل أولئك الذين ينجحون في قيادتها.»
فاستنتج بعض المفكرين أن مطامع نابوليون لم تكن عظيمة وأحلامه لم تكن كبيرة في ذاك الوقت؛ لأن جنرال البطاريات إذا كان محترما فهو لا يجد أمامه مجالا لإشباع المطامع العظيمة كقائد المشاة الذي يصدر الأوامر إلى قواد البطاريات، ويرى أمامه متسعا للأعمال الباهرة وتحقيق الأماني الجميلة.
وفي تلك الأثناء اضطر الجنرال بونابارت أن يعدل عن الكماليات ويكتفي بالضروريات، فباع مركبته وأخذ يصرف جانبا من وقته في زيارة أهل النفوذ والسلطان ليوضح لهم أمره، ثم يصرف الجانب الآخر في زيادة علومه ومعارفه بزيارة المعاهد العلمية والفنية وغيرها، وكان بين حين وآخر يذهب مع صديقه جونو إلى بعض الحدائق فيتحدثون عن إخوته وأخواته، ولقد عشق «جونو» «بولين بونابرت» وطلبها من نابوليون، فأجابه بلطف: «إنك ستكون صاحب ريع، ولكنك لم تحصل عليه حتى الآن، وأبوك لا يزال جيد الصحة، وكل ما تملكه رتبة ملازم في الجيش، والخلاصة أيها العزيز أنك لا تملك شيئا وبولين لا تملك شيئا، فخير لنا أن ننتظر ...» وكانت حالة نابوليون في ذلك الوقت تزداد اشتدادا لحبس راتبه عنه، فكان مضطرا مع صديقه جونو إلى الاكتفاء بما كان يرد على هذا الصديق من أهله، وإذا اتفق أن جونو كان فارغ الجيب ذهب به نابوليون إلى منزل السيدة برمون - التي صارت ابنتها دوقة أبرانتيز بعد صعود نابوليون إلى ذروة العز والمجد، وكان نابوليون يقول عند وصولهما ضاحكا: «إن حمل الذهب لم يصل حتى الآن ...»
وليس يدلنا على الحالة النفسية التي كان نابوليون عليها في ذاك العهد مثل الكتب التي بعث بها إلى أخيه جوزيف؛ فقد كتب إليه في 23 يونيو من ذاك العام: «إني أفعل كل ما في وسعي لأجد وظيفة لأخينا لوسيين.»
وكتب في 24 منه: «لم أتمكن من الحصول على مركز للويس في فرقة المدفعيات، ولكني سأرسله إلى شالون؛ لأن عمره لم يتجاوز السادسة عشرة، فلا تمضي سنة حتى يصير ضابطا.»
وكتب في 25 منه: «إذا أضمرت السفر وكنت معتقدا أن غيابك يطول مدة من الزمن فابعث إلي برسمك، إنا عشنا معا سنوات عديدة فتمازجت قلوبنا وتقاربت أرواحنا وأنت أعلم بحبي لك ...»
وكتب إليه في 19 يوليو: «لم أر منك كتابا حتى الآن مع أنك سافرت منذ شهر ... أظن أنك تغتنم فرصة وجودك في جنوى لتاتي بآنيتنا الفضية وأشيائنا النفيسة.»
وكتب في 29 منه: «تجد ضمن هذا الكتاب الجواز الذي طلبته، وسيأتيك غدا كتاب من لجنة الأمور الخارجية لتعضيدك في أشغالك.»
وكتب إليه في أول أغسطس: «إن لويس مكب على الشغل في شالون فأنا مسرور منه ... أكثر لي من أخبارك، وحدثني عن الآنسة أوجيني فإنك لا تذكر لي شيئا عنها ولا عن الأولاد الذين يجب عليك إبرازهم ... إنك تنسى نفسك في هذا السبيل ... ألا فاعطنا حفيدا ... اشرع في الأمر ...»
وكتب إليه في 20 أغسطس: «سأسعى في تعيينك قنصلا وفي تعيين فيلنوف - هو حمو جوزيف - مهندسا فيذهب معي إلى تركيا.»
ثم عاد فكتب إليه في 25 منه: «آمل أن تصير قنصلا في مملكة نابولي بعد عقد الصلح معها ...»
وكتب في 6 سبتمبر: «كتبت إلى قرينتك، أما لويس فأنا مسرور جدا منه؛ لأنه محقق أملي فيه وناهج على ما أريد؛ فهو نشيط، ذكي، جيد الصحة، حسن المواهب العقلية، طيب القلب، محب للتدقيق، وأنت تعلم أيها الصديق أني لا أعيش إلا بالسرور الذي أنزله على قلوب أهلي ...»
فحسبنا ما تقدم لنعلم أن رب الحرب كان محبا لآله، كثير التفكير في مصالح إخوته وأخواته حتى في أحرج المواقف التي وقع فيها.
قال بعض النقاد: إن المطامع الشخصية كانت تملأ قلب نابوليون في ذاك الوقت، ولكن مذكرات صديقه بوريين ومذكرات مارمون لا تقوم دليلا على صحة هذا القول، وإذا نظرنا إلى الكتب التي بعث بها إلى أخيه في تلك الأيام أبصرنا في خلال سطورها حقيقة ما كان يشعر به؛ فقد كتب إليه: «أنا قائد لواء في مشاة جيش الغرب، على أني مريض ومضطر إلى طلب الراحة مدة شهرين أو ثلاثة، وسأرى ما يحسن فعله بعد الشفاء.» «الدستور يتلى اليوم، والناس يرجون منه السعادة والراحة، وسأرسل صورته إليك بعد أن يطبع ويمكنني الحصول عليه.»
ثم قال عبارة تدل على حزنه وانقباض صدره وهي: «إن الحياة حلم يمر على جناح السرعة»، وبعد أيام قليلة بعث بكتاب آخر لم يتكلم فيه عن نفسه، وهاك فحواه:
في كل يوم يصدر أمر بالموافقة على بعض مواد الدستور، ولا تزال الراحة وطيدة، على أن الخبز لا يزال مفقودا والجو يبدو رطبا باردا فيؤخر الموسم، ومع ذاك كله فإن الفخفخة واللهو والفنون المستطرفة عادت على منوال مدهش، فمثلت أمس رواية فيدر في الأوبرا وخص دخلها بإحدى الممثلات، فأقبل الجمهور عليها إقبالا كبيرا مع أن الأسعار زادت ثلاثة أضعاف، وحيثما تذهب تجد المركبات وأهل اللباقة وترى النساء رائحات غاديات إلى المسارح والمتنزهات والمكتبات، وإذا دخلت مكتب العالم نفسه وجدت فيه السيدات البارعات في الجمال، إن النساء في هذا البلد دون سائر المعمور لجديرات بأن يدرن دفة السفينة، والرجال مجانين بهن لا يفكرون إلا فيهن ولا يعيشون إلا بهن ولأجلهن ... أما جونو (صديقه) فيعيش هنا كالشيطان وينفق من مال أبيه كل ما يقدر على ابتزازه، وأما مارمون الذي صحبني من مرسيليا فيقيم الآن في مركزه بمدينة مايانس.
كل شيء هنا على ما يرام، والهياج محصور في الجهات الغربية دون سواها، والحوادث التي قام بها جماعة من الشبان هنا لا تخرج عن أعمال الصبية، والمعروف أن جانبا من أعضاء «لجنة الخلاص العام»، سيجدد في الخامس عشر من هذا الشهر فعسى أن يكون الاختيار حسنا.
ومما يلاحظ هنا أن تجديد هؤلاء الأعضاء كان يخلص نابوليون من أوبري وزير الحربية الذي أظهر له منتهى العدوان كما تقدم.
وكتب في جواب: «إن حالتي حسنة، وكل ما يعوزني هو حضور إحدى المعارك؛ لأن الواجب على الرجل الحربي أن ينتزع من عدوه رايات النصر أو يموت على مهد المجد.» «إن باريس هي هي، فكل الأفكار منصرفة إلى المسارح والمراقص والمتنزهات والأشياء النفيسة الجميلة ... أما أنا فلا أتشبث بالحياة ولا أرمقها بعين الارتياح ... وسينتهي بي الأمر إلى حد أن أصرف النظر عن أية مركبة تمر ...»
وقال في كتاب آخر: «أنا ملحق اليوم بمكتب الطوبوغرافيا (رسم الأرض) المختص بإدارة الجيش في «لجنة الخلاص العام»، ولو أني أشاء السفر إلى تركيا برتبة جنرال لتنظيم مدفعيات السلطان من قبل الحكومة الفرنسوية لتمكنت من الحصول على مرتب وافر ولقب أعتز به ...» •••
رأينا أن قلب نابوليون كان يخفق أحيانا للنساء الجميلات كما يقع لكل شاب في ربيع الحياة، ثم رأيناه مسترسلا إلى الحزن والأسى، وربما كان ضغط الحوادث والمصاعب على نفسه مولدا عنده ضربا من اليأس، وكان نابوليون كما قال بوريين في مذكراته يميل إلى الزواج ويغبط أخاه جوزيف الذي تزوج الآنسة كلاري ابنة تاجر شهير، ويفكر في الاقتران بالآنسة دزيريه كلاري أخت زوجة أخيه، على أنه لم يكن واثقا بأنها تحبه كما كان يحبها؛ بدليل ما كتبه إلى أخيه وهو أن «دزيريه طلبت رسمي وسأرسله إليها إن كانت لا تزال راغبة فيه، وإلا فأبقه عندك.»
وكتب إلى أخيه يوم كانت دزيريه معه في جنوى: «إن دزيريه لا تكتب إلي منذ سفرها إلى جنوى»، ثم كتب إليه ليعلم أخبارها من غيرها: «أظن أنك اجتنبت الكلام عن دزيريه عمدا، فأنا لا أدري هل هي في قيد الحياة أم لا؟ ...»
وبعد خمسة أيام أمل أن يسافر إلى مدينة نيس فكتب إلى أخيه يقول: «إذا سافرت إلى نيس فإني أراك وأرى دزيريه أيضا ...» وفي التاسع من أغسطس كتب إلى أخيه - بعد أن جاءه كتاب من دزيريه - فأظهر رغبته الشديدة في الاقتران بها، ثم توالت رسائله إلى أخيه في هذا الموضوع، ولكن قلب دزيريه - التي اقترنت أخيرا ببرنادوت ووضعت على رأسها تاج أسوج بدلا من تاج فرنسا - لم تكن تشاطر نابوليون ذاك الحب.
وهنا يجمل بنا أن نشير إلى رأي بسطه بعض المؤرخين المحققين، وهو أن نابوليون لم يكن ينوي أو يؤمل أن يقوم بالمهمة العظمى ويعمل عمله التاريخي الكبير حين أراد الاقتران بتلك الفتاة؛ لأنه لو كان يضمر شيئا مثل ذاك العمل العظيم لأجل اقترانه إلى فرصة أخرى، والواقع أن نابوليون كان في ذاك الوقت حزين النفس، ضعيف الجسم، يطوف في شوارع باريس بقدم متزعزعة وهمة فاترة، ويضع على هامته برنيطة واسعة تنزل إلى عينيه ، ويلبس ذاك «الردنجوت» الرمادي الشهير، ويرسل يدين ضئيلتين طويلتين ويأبى أن يشتري قفازا؛ لأنه يقتضي نفقة زائدة لا حاجة إليها، ويحتذي حذاء ثقيلا متشبعا من الغبار، ولولا نظرته وابتسامته لما كان في مظهره شيء مستحب، وكان يفكر على الدوام في مورد رزق مخافة أن يدهمه أمر العزل في ساعة لا يتوقعها.
قالت السيدة بوريين: «إنه على أثر رجوعنا من ألمانيا سنة 1795 وجدنا نابوليون في «القصر الملكي»، فتقدم وعانق بوريين كما يعانق رفيقا وصديقا محبوبا يتوق إلى رؤيته ويسر بقربه، ثم ذهبنا إلى «المسرح الفرنسوي»، فحضرنا رواية «الأصم أو الفندق الممتلئ»، فكان جميع الحاضرين يقهقهون ويبتهجون ما عدا نابوليون، فإنه كان صامتا واجما، فأثر منظره في نفسي تأثيرا كبيرا، إن فكر نابوليون كان سارحا مشغولا بأمور أخرى، وقلبه بات خائفا أن يأتيه خبر يقضي على أمله، وكان من جملة الأشغال التي فكر في اتخاذها موردا للرزق إذا جاءه أمر العزل تجارة تصدير الكتب إلى الخارج، وقد بدأ فعلا بإرسال صندوق مملوء من الكتب إلى مدينة بال فكان نصيبه الخسارة، وبعد هذا الفشل عاد إلى مشروعه القديم؛ أي السفر إلى تركيا لتعليم فرقة المدفعية هناك.» •••
رأينا أن نابوليون لم يكن يلقى من كل مسعى إلا خيبة الأمل، وأشد ما فت في عضده وأدمى قلبه أن اضطهاد وزير الحربية «أوبري» أودى بثمرة جده وخدمته في إيطاليا وغيرها، وأن أصدقاءه أو حماته - كما يقول - مثل باراس وفييرون لم يقوموا بكل ما رجاه منهم، وزد على كل ما تقدم أن الفتاة دزيريه لم تشاطره الحب ولم ترغب فيه زوجا.
وإنه لعلى تلك الحال إذا بنور الفرج يبدو له من حيث لا يؤمل ولا يرجو؛ ذلك أن الموسيو بونتيكولان - العضو في لجنة الخلاص العام - عين في اللجنة الحربية ونيطت به إدارة الأعمال العسكرية، على أن الفوضى كانت تضرب أطنابها في ديوان الحربية، حتى إنهم فقدوا خطة حرب البيرنيه كما قال سيجور، وبعد البحث الطويل وجدوها في قمطر مستخدم صغير، ثم اتفق ذات يوم أن الموسيو بونتيكولان حدث الموسيو بواسي دانجلاس عما رآه من الخلل والعلل، فقال له الموسيو بواسي: «إني لقيت أمس جنرالا معتزلا يتكلم عن معرفة وعلم في أمر الجيش الفرنسوي الذي حارب في إيطاليا وهو يستطيع أن يقدم لك نصائح نافعة»، فطلب إليه الموسيو بونتيكولان أن يرسل إليه هذا الجنرال، فأبلغ الموسيو بواسي طلبه إلى نابوليون.
وبينما كان الموسيو بونتيكولان جالسا إلى مكتبه في الطبقة السادسة - حتى يخلص من كثرة الرجاء والالتماس - دخل عليه إنسان نحيل ضئيل ممتقع اللون متقوس الظهر - كما قال مونتيكولان نفسه، فدهش لرؤية هذا المخلوق الذي وضعه الموسيو بواسي تحت حمايته، على أنه ما تجاذب معه حديث الحرب الإيطالية التي كانت تهمه حتى رأى أن أفكاره لم تكن مريضة مثل جسمه، ورغب إليه أن يكتب كل ما ذكره في حضرته ثم يعود إليه.
على أن نابوليون أدرك من محادثته للموسيو بونتيكولان أن هذا الوزير الذي فوضت إليه أمور الحرب كان يجهل الأمور الحربية، واعتقد أن المذكرة التي طلبها منه ستطرح كغيرها في محفظة بعض المستخدمين، فأبى أن يرجع إلى بونتيكولان.
وبعد أيام قليلة لقي بونتيكولان الموسيو بواسي فأعرب له عن تعجبه وقال: «إني رأيت رجلك، ويظهر إنه مجنون»، فقال له: «لقد كان يؤمل أن تدعوه للشغل معك»، فقال بونتيكولان: «لا بأس، فليعد غدا.»
فقابل المسيو بواسي نابوليون ونصح له ملحا بأن يكتب مذكرة عن جيش إيطاليا إجابة لطلب بونتيكولان، فكتب بضع صفحات أودعها صفوة آرائه، ثم حملها إلى وزارة الحربية، وعاد بدون أن يقابل بونتيكولان، فلما طالع هذا الوزير مذكرة نابوليون دهش من كفاءة واضعها وسعة معارفه الحربية، وأرسل يطلبه من غرفة الانتظار لظنه أن نابوليون كان منتظرا أوامره، فلم يجد الرسول أحدا، ولكن نابوليون عاد في اليوم التالي ليرى تأثير المذكرة، فاستقبله الموسيو بونتيكولان باسما وقال له: «أتريد أن تشتغل معي؟» قال: «مع السرور والارتياح ...» ثم جلس إلى أحد المكاتب في الديوان، وأخذ يقوم لبونتيكولان بالخدمة التي سجلها التاريخ، فأعجب هذا الوزير بها وسأل نابوليون «عما يريد»، فطلب نابوليون أولا أن يعود إلى فرقة المدفعية، فذهب بونتيكولان إلى الموسيو لتورنور الذي كان موكلا بأمر الترقية، فعرض عليه رغبة نابوليون وهو معتقد أنه يمكن تعيين شاب مثل نابوليون جنرالا ما دام يمكن تعيين شاب مثله وزيرا، ولكن لتورنور كان لسوء الطالع قصير النظر، فأجاب الموسيو بونتيكولان أنه «لا يمكن قبول هذا المطمع من نابوليون؛ لأن رفاقه القدماء في صفوف الفرق العلمية - يريد المدفعية - ما زالوا في رتبة كابتن.»
فانظر كيف عاند الحظ نابوليون في أوائل عهده، فإنه امتاز بدرايته وشجاعته أمام العدو، ونظم وزارة الحربية بعد أن كان الخلل ضاربا قبابه فيها، ثم وضع الخطة الحربية للجيش الذي احتل فادو، ومع هذا كله أبى لتورنور أن يرجعه إلى صفوف المدفعيات، والمظنون أن السبب في تلك المعاكسة هو أن لتورنور نفسه لم يكن له إلا رتبة كابتن في الجيش، فلم يستطع أن يرى نابوليون متفوقا عليه بين حماة الوطن وإن كان هو وزيرا آمرا.
على أن نابوليون لم يضمر له شرا ولم يحمل شيئا من الحقد عليه؛ لأن النفوس الكبيرة تتعالى عن الضغينة وتعفو عند المقدرة، وهذا ما وقع لنابوليون فإنه لما ارتقى إلى ذرى المعالي عين لتورنور مستشارا في وزارة المالية، ثم دعا المسيو بونتيكولان وقال له: «أنت منذ اليوم عضو في مجلس الشيوخ»، فأجابه بونتيكولان: «لا يمكنني قبول النعمة التي تنعمون بها؛ لأن القانون يقضي بأن يكون عمر العضو أربعين سنة، وأنا ليس لي من العمر إلا ستة وثلاثون عاما»، فقال له نابوليون: «إنك تعين مديرا لبروكسل أو لمدينة أخرى إلى أن تبلع الأربعين فتأتي وتستلم منصبك ... أنا أود أن أظهر لك أني لم أنس ما صنعته لي ...»
واتفق بعد سنوات أن المسيو بونتيكولان ضمن صديقا مدينا بثلاث مائة ألف فرنك، وأن هذا الصديق عجز عن الدفع فشدد الدائن على المسيو بونتيكولان في وجوب الوفاء قياما بالعهد، وبينما كان الوزير القديم في أحرج المواقف علم نابوليون بأمره، فدعاه إلى قصر التويلري وعنفه على البقاء نحو ثلاثة أشهر في ذاك المأزق دون أن يخبره بالأمر، ثم قال له: «اذهب إلى الخزينة الخاصة واقبض المبلغ ...»
ولما كان الشيء بالشيء يذكر وجب علينا أن نذكر للحقيقة أن بنتيكولان كان أول الذين عارضوا في بقاء الإمبراطورية البونابارتية في الجلسة التي عقدها مجلس الأمة الفرنسوية في 22 يونيو سنة 1815؛ أي سنة الشؤم على نابوليون. •••
ولما أبى الموسيو لتورنو أن يحقق أمل الجنرال نابوليون بنقله إلى صفوف المدفعيات، استقال نابوليون من وظيفته في وزارة الحربية وعاد بمساعدة بونتيكولان يتذرع بالذرائع اللازمة لتحقيق أمنيته القديمة، نعني السفر إلى تركيا، وجاءت ساعة كان فيها الأمر بسفره مكتوبا معدا، والأمل بنجاحه وطيدا، وما بقي عليه إلا انتظار نتيجة الاستعلام الذي قامت به «لجنة الخلاص العام»، في شأن الضباط الذين اختارهم لتأليف بعثته، على أن الخلل كان متسربا إلى فروع تلك اللجنة؛ فبينما كان نابوليون ينتظر أمر السفر صدر الأمر بعزله؛ لأنه رفض الوظيفة التي عينت له في جيش الغرب، والحقيقة أن نابوليون عزل خطأ وظلما؛ لأنه أقيل على وجه قانوني من الوظيفة التي عينت له أولا في جيش الغرب، ثم عين في وزارة الحربية وقام للحكومة بخدمات جليلة، ولكن سوء الطالع كان ملازما له والدهر الداهر واقفا في صف خصومه.
ولما دهمه أمر العزل فت في عضده، ورأى أن خير وسيلة إلى إلغاء هذا الأمر الذي حرمه من رتبته العسكرية هو أن يذهب إلى أصدقائه وحماته، ويوضح لهم ما جرى له لعلهم يكشفون عنه تلك الظلامة، فنجح أولئك الأصدقاء في مساعدته، وكتب نابوليون في 26 سبتمبر؛ أي بعد أمر العزل بأحد عشر يوما إلى أخيه جوزيف يقول: «إن مسألة سفري هي اليوم أقرب إلى التحقيق منها في كل آن.»
الفصل الثاني
فتش عن المرأة
وفي تلك الأثناء صدر أمر «لجنة الخلاص العام» بأن يعطى ضباط الجيش العامل قطعة من الجوخ كافية لصنع ردنجوت وصدرية وبنطلون، فذهب نابوليون إلى أمين مخزن الجيش وطلب قطعة الجوخ، فرفض أن يعطيه إياها بحجة أن نابوليون لم يكن في الجيش العامل، فلجأ نابوليون إلى مدام تاليان فأعطته كتابا إلى الموسيو ليفوف الموكل بذاك الأمر في الفرقة السابعة عشرة، فتكرم عليه بقطعة الجوخ، وما كان سعي نابوليون في هذا السبيل ناشئا عن رغبته في الهندام والإتقان والترف، بل كان ناجما عن سبب آخر ذكره البارون فين، هو أن ملابسه خاضت معه العجاج ولقيت النار مرارا فأخلقت جدتها.
وكانت السيدة تاليان معشوقة المسيو باراس صاحب الكلمة والحول، فصار كل امرئ يطمح إلى تعضيد من باراس أو يلتمس منه عفوا مضطرا في غالب الأحيان إلى زيارة مدام تاليان، حتى أصبحت ردهتها ملتقى المطامع والمطامح من نساء ورجال، وكان نابوليون من جملة الذين يختلفون إلى منزلها، فيرى فيه الزوار والزائرات يؤلفون لجانا مسترسلة إلى أحاديث فيها من كل شجرة ثمرة ومن كل ينبوع قطرة، وكثيرا ما كانوا ينسون لدى تلك السيدة الجميلة خطر الحال في فرنسا. على أن نابوليون كان أقلهم كلاما وأقلهم مظهرا، وإذا تكلم فلا تكلف ولا تصلف.
وحدث يوما أن نابوليون كان منشرح الصدر، حديد الفكر، فأخذ يد مدام تاليان يقرأ فيها ويكثر من الفكاهات والسخافات ليزيد سرور الحضور، فبدا للعين منظر جدير بأن يصوره المصورون ويحفظوه على مر القرون، فمن جهة سيدة بارعة الجمال، كثيرة الدلال، تكتنفها السراء، وتشملها النعماء، وتنصرف إليها الأنظار والأفكار، ومن جهة مخلوق ضئيل نحيل، أصفر اللون، معروق لحم الوجه، يلبس ثوبا عسكريا لا يملأ العين، ويرسل شعرا طويلا عند السالفين.
وهناك سرب من النساء الجميلات جالسات ينظرن إليهما ويضحكن من منظرهما، وبينهن سيدة من ذوات الجمال الضارب إلى السمرة الخفيفة مسترسلة بلا تكلف إلى ذاك المشهد المضحك، اسمها جوزفين، أرملة بومارشيه التي صارت بعد خمسة أشهر قرينة ذاك الجنرال المضحك، ثم صارت بعد ثلاث سنوات إمبراطورة الفرنسويين وتلقت إكليل الزواج من يد البابا، فهل كان نابوليون الذي حاول استطلاع طلع المستقبل للسيدة تاليان، هل كان يقرأ في يده ما أعدته يد الزمان، وهل قرأ في صفحة المستقبل أنه سيصير ملك الملوك وسيد أرباب التيجان؟
الفصل الثالث
في سبيل المجد
وفي تلك الأيام كانت نيران الثورة كامنة تحت رماد السياسة في باريس، والأفكار قلقة مضطربة، وسبب هذا الاضطراب أن كثيرين من الفرنسويين لم يكونوا راضين بالدستور المعروف بدستور السنة الثالثة، فاغتنم الملكيون فرصة استيائهم وهبوا لتعضيدهم، وفي 12 فندميير (الشهر الأول من سنة الجمهورية التي ألغي حسابها) حدث شغب في باريس، فأخرجت حكومة الكونفانسيون الجيش لتفريق المتجمهرين بقيادة الجنرال مينو، فلم يفلح في مهمته، بل اتفق مع الخوارج اتفاقا لا يؤيد سطوة الحكومة، وترك الثائرين في مواقعهم، فما طار هذا الخبر إلى حكومة الكونفاسيون حتى اهتزت أركانها وأمرت بالقبض على الجنرال مينو وبعزل الجنرال ديبريير والجنرال ديبور وغيرهما، وأخذت تبحث عن قائد آخر صحيح العزيمة وطيد الأمانة؛ لأن موت الكونفانسيون وحياتها كانا متوقفين على نجاح الثوار وفشلهم، وبعد المفاوضة الطويلة والمد والجزر اتفق رجال الكونفانسيون على تسليم القيادة إلى واحد منهم خوفا من الخيانة، فعينوا باراس قائدا أكبر للجيش.
على أن باراس كان يحب الترف والنعيم، وهذا لا يتفق مع الواجب العظيم الذي نيط به، فارتبكت أفكاره لدى ذاك الخلل الذي أصاب الجيش نفسه، وأوقف صديقه الموسيو كارنو على أمره، فنصح له الموسيو كارنو بأن يطلب مساعدة أحد القواد، وذكر له ثلاثة ومنهم الجنرال بونابارت، ثم عرضت أسماء قواد آخرين، فقال باراس: «إنا نحتاج إلى جنرال عالم بأمور المدفعية»، فألح المسيو فريرون في وجوب اختيار نابوليون، ثم ذهب وأتى به، فقال له باراس: «أتريد أن تكون قائدا ثانيا لجيش الكونفانسيون؟» فسكت نابوليون فقال له باراس: «أعطيك ثلاث دقائق فقط للتفكير.»
ففي تلك الدقائق الثلاث تقرر حظ نابوليون وفرنسا وأوروبا، ولما فكر نابوليون في واجبه بدا له أن واجب كل محب لفرنسا كان يقضي بإسقاط حكومة الكونفانسيون التي نشرت الهول والرعب وضمت إليها كثيرين من أهل الجهل والخلل، ولكنه نظر من جهة أخرى فتصور خمسين ألف نمسوي على أبواب ستراسبورغ وأربعين بارجة إنكليزية أمام برست، فقال في نفسه أن صد العدو الخارجي هو رأس الواجبات، واختار ما جعله كل فرنسوي أساس وطنيته، وما نراه في الحرب العظيمة الناشبة في هذا الوقت، وهو أن «تعضيد كل حكومة واجب على كل وطني في وقت الخطر الخارجي.»
على أن نابوليون لم يقبل ذاك المركز الصعب إلا بشرط، وهو «أن لا يغمد الحسام قبل إعادة النظام» فقبل باراس شرطه، وكان هذا الاتفاق نحو الساعة الواحدة بعد نصف الليل؛ أي ليل 13 فندميير، وما جاء مساء 14 منه حتى تغلب نابوليون على الثوار، وفي اليوم ذاته صدر الأمر بترقيته إلى رتبة قائد فرقة (فريق)، ولما اجتمع أعضاء الكونفانسيون قال لهم فريرون الذي قدمه لباراس: «لا تنسوا أن الجنرال نابوليون الذي عين في ليل 12-13 لم يكن لديه إلا صباح ذاك اليوم لاتخاذ الوسائل التي رأيتم نتائجها»، ثم وقف باراس بعد فريزون فذكر الخدمة الجليلة التي أداها نابوليون، وطلب تثبيته في منصب قائد ثان للجيش الداخلي.
ثم انتقل اسم نابوليون من الكونفانسيون إلى الجرائد، وتداولته الألسنة بعد الأقلام، وفي 26 أكتوبر من تلك السنة عين قائدا عاما للجيش الداخلي، وأقام في المعسكر العام الذي كان وقتئذ في شارع الكبوشيين، وعين الجنرال دوفينيو رئيسا لأركان حربه، ثم ضم نابوليون إليه جونو ومارمون وغيرهما ممن كان لهم شأن وسمعة طيبة في حروبه.
الفصل الرابع
اليسر بعد العسر
وانتقل نابوليون من العسر إلى اليسر بعد انتقاله إلى المعسكر العام، وأصبح الباريسيون يشيرون إليه بالبنان، ولم يعد الجنرال بونابارت يحتذي ذاك الحذاء الملطخ بالوحل ويلبس الملابس العتيقة ويسكن في منزل عليه مسحة المسكنة، بل صار يعنى بنفسه ولا يخرج إلا في مركبة فخمة.
ولعل القارئ يسأل هنا: كيف كان تأثير النعمة التي جاءته بتلك السرعة وليس له من العمر أكثر من ست وعشرين سنة؟ هل تغيرت عواطفه وتبدلت أخلاقه أو بقي كما رأيناه في سنواته المنصرمة؟ إن الأعمال التي قام بها والكتب التي أرسلها تتضمن خير جواب على هذا السؤال؛ فقد كان في مقدمة أعماله بعد وصوله إلى شرفة المجد أنه توسط للجنرال مينو «سلفه في المنصب» فبرأه مما أتهمته به حكومة الكونفاسيون، وفي 13-14 فندميير «الموافق 5-6 أكتوبر » كتب إلى أخيه جوزيف يقول:
انتهى كل شيء، وكان أول ما فكرت فيه إرسال أخباري إليك، وقد أمرت حكومة الكونفاسيون بنزع السلاح من قسم لابيلسييه، وعين باراس قائدا عاما وعينني قائدا ثانيا، فأعددنا جنودنا ثم قهرنا الأعداء الذين هاجمونا عند التويلري ونزعنا السلاح من جميع الأيدي ووطدنا الراحة، ثم رجعت كما تعودت؛ أي دون أن أصاب بأقل جرح ... الطالع السعيد لي والسلام الجزيل لأوجيني وجولي.
ثم كتب إليه في 26 أكتوبر: «عرفت من الجرائد كل ما يتعلق بي، فقد عينت قائدا ثانيا لجيش الداخلية وعين باراس قائدا أول، ثم تغلبنا على الخصوم وبات كل شيء نسيا منسيا ... أودعك وأنا لا أنسى شيئا مما ينفعك ويساعدك على نيل السعادة.»
وكتب إليه في 18 أكتوبر: «إن أحد مواطنينا المدعو بيلون - وأنت تعرفه كما يؤكدون لي - طلب بوليت، ولكنه لا يملك ثروة، وقد كتبت إلى أمي ورغبت إليها أن لا تفكر في أمره، وأنا أستزيد اليوم من الاستفهام والاستعلام.»
وكتب إليه في أول نوفمبر: «صار لوسيين قومسيرا في جيش الرين ... قبل عني امرأتك ودزيريه.»
وكتب إليه في 9 منه: «إن العيلة لا تحتاج إلى شيء؛ فقد أرسلت إليها نقودا وأرواقا مالية ... إلخ.»
وكتب إليه في 17 منه: «يحتمل أن أطلب العيلة إلى هنا ... زدني من أخبارك وأخبار قرينتك وأوجيني ... وإني لا أشعر بوحشة إلا من بعدك، فإذا لم تكن امرأتك حبلى فتعال بلا إبطاء إلى باريس لتقضي فيها حينا من الزمن.»
وكتب إليه في 31 ديسمبر: «لا يأخذنك شيء من القلق على العيلة فإنها حاصلة على كل شيء ... وصل جيروم إلى باريس، وسأدخله في إحدى المدارس الموافقة له، وأنت ستصير قنصلا في وقت قريب فلا يحق لك أن تقلق، وإذا تولاك الملل في جنوى فتعال إلى باريس حيث تجد مائدة ومركبة رهن إشارتك، وإذا كنت لا تود أن تكون قنصلا أمكنك أن تختار هنا الوظيفة التي توافقك.»
وكتب إليه في 11 يناير: «إن كثرة أشغالي وأهمية الأمور التي تشغلني تمنعني من مواصلة الكتابة إليك، أنا سعيد ومسرور، وأما العيلة فقد أرسلت إليها ما قيمته 50 إلى 60 ألف فرنك من نقود وأوراق وغيرها، فلا يشغل أمرها فكرك، وأما أخونا لويس فهو ياور لي وأنا مسرور جدا منه، ومارمون وجونو ياوران أيضا، وجيروم يتعلم في المدرسة اللغة اللاتينية والحساب والرسم والموسيقى ... إلخ، وأنا لا أرى أقل مانع لزواج الشقيقة إذا كان الطالب غنيا.»
فأنت ترى أن نابوليون هو هو مع أهله، لم يغير اليسر ما ظهر من أخلاقه وعواطفه أيام العسر.
الفصل الخامس
هيام نابوليون بجوزفين
على أنه إذا كان نابوليون لم يغير سلوكه مع أهله بعد ذاك الفوز الباهر فإن منصبه كان يضطره إلى الظهور في مظهر الأبهة في المجالس، فكنت تراه يدخل الردهات دخول الظافر المعتز لا دخول الجنرال الوضيع المعوز كما رأيناه، وكان بحكم منصبه يقابل كثيرا أعضاء الحكومة، فيكرمون وفادته ويلقبونه تحببا ب «جنرالنا الصغير».
ولم ينقطع الجنرال نابوليون عن زيارة «صالون» السيدة تاليان وهناك كان يجد نخبة من السيدات والرجال، وهناك عرف جوزفين دي بومارشيه وعشقها أشد عشق. قال مارمون: «إن هذا أول عشق داخل قلب نابوليون على ما يظهر، وكان عمر نابوليون لا يزيد حينئذ عن سبع وعشرين سنة وعمر جوزفين يبلغ اثنتين وثلاثين، على أن فقدها لنضارة الشباب لم يحل دون تملكها لقلبه»، والظاهر من أقوال أخرى أن مارمون جار على جوزفين في حكمه؛ لأنها لم تكن محرومة من نضارة الشباب بالقدر الذي يدل عليه كلام مارمون، وإذا كان جمالها لا يضارع جمال مدام تاليان، فإنه كان كافيا لاجتذاب قلب لم يعرف الغرام كقلب نابوليون.
ولقد وصف المؤرخون جوزفين بأنها كانت متوسطة القامة، متناسبة الأعضاء، لينة المعاطف، قليلة التكلف في حركاتها وسكناتها، حنطية اللون، ذات عينين شديدتي الزرقة وحاجبين مرتفعين بعض الارتفاع، وكانت ملابسها على الغالب من الحرير الهندي الرقيق.
وزعم بعض أولئك المؤرخين - الذين اشتهروا بالتحامل على أسد أوسترليتز - أنه كان يرمي في حبه لجوزفين إلى غرض واحد هو الحصول على منصب القيادة العامة لجيش إيطاليا، ولكن الآخرين يؤكدون أنه أحبها حبا أكيدا شديدا ، وأن فكرة الزواج كانت ملازمة له منذ سنة 1794؛ بدليل قوله عن أخيه جوزيف بعد زواجه: «إن جوزيف لسعيد»، وبدليل سعيه للاقتران بدزيريه كلاري أخت زوجته، وبدليل رغبته في الاقتران بجوزفين التي كان لها ولدان.
فليس بعجيب بعد أن رفضته دزيريه أن يتزوج أول امرأة يحبها وتمد يدها إليه، وكانت جوزفين دي بومارشيه التي أوقعت على نفسها الشبهات بشدة امتزاجها مع مدام تاليان، واسترسلت إلى اللهو والصفاء بعد وفاة زوجها، تحتاج إلى الاعتماد على قرين يرجى له مستقبل جميل، وكل من اطلع على ما كتبته يعلم أنها كانت أشد رغبة من نابوليون في الاقتران به، وإليك ما كتبته إليه في 28 أكتوبر سنة 1795: «إنك انقطعت عن زيارة صديقة تحبك، وأهملتها إهمالا تاما، فأنت مخطئ في عملك؛ لأن قلبها متعلق بك... فتعال غدا لتناول الغداء معي، فإني في حاجة إلى رؤيتك ومحادثتك فيما يختص بمصلحتك ... أقبلك أيها الصديق ...»
فإذا نظرنا إلى هذا الكتاب بعين الناقد المنصف ظهر لنا منه أمران؛ أولهما: أن نابوليون مع حبه لجوزفين لم يكن يوالي الزيارات لها خوفا من إزعاجها. والثاني: أنه لم يكن يستخدمها لتأييد مصلحته الخاصة كما اتهم، بل أن جوزفين هي التي كانت تتوسل بجملة وسائل لتستميله إليها، ومن جملة وسائلها التحدث عن مصلحته ومستقبله.
وليس بصحيح أنها كانت رفيقة باراس مع مدام تاليان، فإنها لم تكن على رواية المحققين إلا صديقة لمدام تاليان عشيقة باراس، ومما لا ريب فيه أنها لو كانت كما زعموا لقذفت بها مدام تاليان من مجلسها، ولما احتملت منها تلك الخيانة، وكل ما يمكن تصديقه هو أن جوزفين لما صارت خطيبة للجنرال نابوليون التمست توسط مدام تاليان لدى باراس ليساعد على تعيين نابوليون قائدا عاما لجيش إيطاليا، وليس هذا بغريب من خطيبة ترجو تحسين سمعتها وإعلاء منزلتها وتأييد مصلحتها بارتقاء خطيبها، ولا سيما أن جوزفين كما ظهر واشتهر بعد حين لم تندفع بعامل الحب إلى ذاك الاقتران، وإليك ما كتبته إلى إحدى صديقاتها:
إنك رأيت عندي الجنرال بونابارت، فهذا الجنرال أراد أن يكون أبا لليتيمين اللذين تركهما ألكسندر دي بومارشيه وزوجا لأرملته، ولعلك تسألينني: «أأنت تحبينه؟» فأقول: «كلا»، ولكني لا أرى ما ينفرني منه ...
على أن نابوليون نفسه كان يتعالى عن الدسائس ويعتمد على سيفه قبل كل شيء، بدليل ما قالته جوزفين نفسها في كتاب، وهو أن «باراس أكد لي أني إذا اقترنت بالجنرال نابوليون أناله القيادة العامة لجيش إيطاليا»، فحادثت نابوليون في شأن هذا المنصب الذي ساء رفاقه قبل وصوله إليه، فقال لي: «أيظنون أني أحتاج إلى الحماية؟ إنهم إذا حصلوا على حمايتي لهم كانوا من السعداء، وما دام سيفي معي فإني أرتقي به إلى أسمى المناصب ...»
ولكن تلك الأنفة عند نابوليون لا تنفي أن جوزفين صاحبة السلطان على قلبه كانت تستطيع أن تجبره على التسليم بإرادتها، والمعروف أنها كانت تريد توسط باراس وتسعى إليه في بيت حبيبته، وإذا أراد القارئ أن يعرف مبلغ الحب الذي تمكن من قلب نابوليون بعد خطبة جوزفين فليقرأ كتبه إليها، فقد كتب إليها على أثر سهرة: «إني أستيقظ ولا أرى أمامي غيرك، فإن صورتك والسهرة المسكرة التي قضيناها أمس لم تبقيا لحواسي شيئا من الراحة، فما هذا التأثير الغريب الذي أحدثته في قلبي يا جوزفين، يا عزيزة المثال ... إني إذا رأيتك مكدرة الصفاء أو حزينة القلب أو قلقة الفكر تفطر فؤادي وفقدت الراحة»، ثم ختم بقوله: «أعطني ألف قبلة، لا بل امنعيها عني فإنها تحرق دمي في عروقي ...»
حسبك ما تقدم لتعلم أن نابوليون كان يحب جوزفين حبا حارا، وقد استمر حبه لها زمنا طويلا بعد بلوغه ذروة المجد وإحرازه النصر الباهر، وهذا يدل دلالة دامغة على خطأ بعض المؤرخين الذين زعموا أن نابوليون إنما أحب تلك المرأة متصنعا وراميا إلى غرض مادي، في حين أنه كان يحبها حبا خالصا وشديدا إلى حد منعه من درس حقيقة الحب الذي تظاهرت به جوزفين، ولم يدرك أنها اتخذته واسطة لبلوغ غرضها - أي الوصول إلى مركز في المجتمع - إلا بعد زمن.
أما الوقت الذي بدأ فيه نابوليون يتحبب إلى جوزفين ويجتمع بها على نية الزواج، فهو على ما يظهر شهر نوفمبر سنة 1795، وكانت جوزفين تقيم حينئذ في شارع الكلية مع عمتها فاني دي بومارشيه، التي قال فيها أحد الشعراء ما معناه: «إن فاني جميلة وشاعرة، ولكن فيها عيبين؛ الأول أن وجهها مصطنع، والثاني أنها لا تنظم شعرها ...»
على أن نابوليون لم يخطب جوزفين خطبة رسمية إلا سنة 1796، ولم يكن يكثر من الزيارات لها قبل هذا الميعاد؛ لأن الحكومة الفرنسوية «حكومة الديركتوار» فوضت إليه أن يضع خطة الحرب الإيطالية، فاستغرقت مع أعماله الأخرى معظم وقته، وبعد أن عقدت الخطبة بينهما انتقلت جوزفين إلى منزل نمرة 6 في شارع شانترين بالعاصمة، وهو المنزل الصغير الجميل الذي اشتراه لها نابوليون بمبلغ 50400 فرنك.
وكان نابوليون يزور الأحباء والأصدقاء مع خطيبته، وقيل إن جوزفين أظهرت شيئا من التردد بعد الخطبة، بدليل أنها كانت يوما مع نابوليون مارة أمام منزل مستشارها الموسيو راجيدو أحد موثقي العقود، فدخلت منزله وسألت خطيبها أن يبقى خارج غرفة هذا الرجل، ولما خلت به استشارته لآخر مرة في مسألة اقترانها بنابوليون، فقال لها: «ماذا تفعلين؟ أتقترنين بجنرال لا يملك إلا السيف والعباءة العسكرية ... بجنرال صغير ليس له اسم ولا مستقبل ... بجنرال هو دون سائر قواد الجمهورية! إنه لخير لك أن تتزوجي أحد المتعهدين بتقديم البضائع والحاجيات من أن تعقدي مثل هذا القران.»
حفلة زواج نابوليون وجوزفين.
وكان نابوليون في تلك الساعة ينصت وراء الباب المفتوح قليلا، فسمع حديث الموسيو راجيدو، ولكنه كظم غيظه وأضمر استياءه ولم ينبس ببنت شفة، وبعد مضي ثماني سنوات انتقم لنفسه بأن دعا راجيدو إلى حفلة القران التي أقيمت في قصر التويلري ليرى ذاك «الجنرال الذي ليس له اسم ولا مستقبل.»
وكان اقتران نابوليون بجوزفين في 9 مارس من سنة 1796، ومما يذكر أن جوزفين نقصت من عمرها يوم كتابة عقد الزواج أربع سنوات، ونابوليون زاد على عمره سنة واحدة مراعاة لعواطفها، وكان شاهدا جوزفين باراس وتاليين، وشاهدا نابوليون ياوره ماروا والمسيو كالميلي أحد رجال القضاء، وبعد التوقيع على السجل الرسمي أمام المسيو لكليرك مسجل الأحوال الشخصية في القسم الثاني من العاصمة، ذهب نابوليون وعروسه إلى منزلهما في شارع شانتيرين حيث ابتدأ شهر العسل رسميا، أما ولدا جوزفين أوجين وهورتنس فقد أرسلا إلى سان جرمين.
وقبل زواج نابوليون باثني عشر يوما صدر الأمر بتعيينه قائدا عاما لجيش إيطاليا، فأخذت الألسن اللاذعة تقول: «إن باراس جعل القيادة العامة مهرا لجوزفين.» ونقل بعض المؤرخين هذا القول الجارح على علاته، ولكن الذين رمقوا نابوليون بعين الإنصاف يرون أن باراس مع رغبته في إرضاء حبيبته السيدة تاليان - التي التمست جوزفين توسطها - لم يكن من السهل عليه أن يجعل القيادة العامة في جيش إيطاليا - تلك القيادة التي كانت المصلحة الوطنية العظمى منوطة بها - هدية زواج أو ينقلها من يد إلى يد على ذاك النمط من الخفة والطيش.
وزد على هذا كله أن باراس مع نفوذه ومقدرته على إغداق نعم كثيرة لم يكن قادرا على التصرف وحده بأمر تلك القيادة؛ لأن القائد العام لم يكن يعين إلا باتفاق آراء الغالبية في مجلس «الديركتوار»، وهو كان مؤلفا من كارنو وباراس ورفيليير ليبو وريبل ولتورنور، وإذا رجعنا إلى مذكرات رفيليير ليبو - الذي اشتهر بتحامله على نابوليون - رأيناه يؤكد فيها إن «الديركتوار كان حرا في اختياره لنابوليون؛ فهو لم يتأثر بشيء لا من باراس ولا من أحد آخر ...»
والواقع أن مجرى الحوادث هو الذي أفضى بالقيادة العامة إلى يد نابوليون، وتحرير الأمر أن نابوليون وضع خطة حربية لاكتساح أنحاء البيامون منذ 19 يناير من تلك السنة ورفعها إلى الحكومة، فأرسلتها إلى الجنرال شارير - وكان وقتئذ قائدا عاما - فما اطلع عليها حتى أعادها إلى الحكومة وقال لها في كتاب: «إن الذي وضع هذه الخطة رجل مجنون، ومن يتصور خطة مثلها يجب عليه أن يأتي لتنفيذها»، بيد أن كارنو أحد أعضاء الحكومة أدرك سر الخطة وأيد نابوليون وتمكن من استمالة الغالبية إلى رأيه، وفي 11 مارس من سنة 1796 - أي بعد الزواج بيومين فقط - سافر نابوليون إلى معسكر الجيش الإيطالي وقلبه يتلفت نحو زوجه المحبوبة، وهناك كان استهلال الأعمال الحربية العجيبة التي استمرت نحوا من عشرين سنة.
الفصل السادس
نابوليون بعد الزواج
كان نابوليون يعتقد مثل كل إنسان عاقل أن من القواعد الأدبية الأساسية في الزواج أن يحب الرجل امرأته وأن يفرغ الجهد في تحبيب نفسه إليها، كما أن الواجب على المرأة أن تنحو هذا النحو، على أن نابوليون أظهر من الاندفاع والتحمس في حبه لجوزفين ما بلغ به حدا قصيا، فكأنما الفقر والضنك اللذان حالا بينه وبين عيشة الشباب في أوائل عهده تركا في صدره قوة احتياطية عظيمة من الحب فتدفقت وطغت، حتى قال المؤرخون المحققون أن حاجته لأن يكون محبا وحبيبا بلغت به درجة تضاهي ما نطالعه في الحكايات الخرافية، وكان يسعى إلى هذا الغرض من كل طريق؛ فتارة يقسم لها الأيمان المغلظة، وتارة يصوغ لها عقود الثناء والمدح، وحينا يلتمس ويضرع، وآخر يتذلل ويخضع، ولو عرفت جوزفين كيف تستفيد من تلك العواطف المتقدة لدام حب نابوليون لها وتوثقت عرى الوئام بينهما توثقا ليس بعده انفصام، ولكن جوزفين كانت أميل إلى الملذات والمسرات العالمية منها إلى إقامة بيتها على أسس وطيدة وإلى التماس الحياة الزوجية الرغيدة، ونحن ذاكرون هنا مقتطفات من الكتب التي بعث بها إلى جوزفين بعد سفره إلى معسكر جيش إيطاليا؛ لأنها تدل القارئ على المجرى الذي جرت فيه عواطف نابوليون بعد زواجه؛ قال لها في كتاب بعث به في 14 مارس 1796؛ أي بعد سفره بيومين:
أيتها الصديقة المعبودة، إن كل دقيقة تمر بي وأنا بعيد عنك تضعف مقدرتي على احتمال هذا البعد، فأنت على الدوام نصب عين الفكر، ومخيلتي تفنى جهدا ووصبا لكي تتصور ما تصنعين، فإذا تصورتك حزينة تفطر فؤادي وتفاقم حزني، وإذا تصورتك طلقة المحيا لعوبا مع الأصدقاء والصديقات ملت إلى تعنيفك؛ لأنك نسيت فراقنا الأليم منذ ثلاثة أيام ... اكتبي وأسهبي لي أيتها الصديقة، وتقبلي ألف قبلة وقبلة ممن يحبك أصدق حب.
وقال مارمون: «إن الجنرال بونابارت مع اشتغاله بالعلاء والعظمة وبالمصالح الخطيرة التي فوضت حمايتها إليه ومع اهتمامه بمستقبله لم يكن ينسى امرأته، بل كان يفكر فيها على الدوام ويتمنى قربها وينتظر قدومها بفروغ صبر، وكثيرا ما كان يحدثني عنها وعن حبه لها، ويتألم من تأخرها عن السفر إليه، ويظهر شيئا من الغيرة والتطير.»
وحدث يوما أن المرآة الملحقة برسم صغير لجوزفين انكسرت في جيبه قضاء وقدرا، فاصفر لون نابوليون اصفرارا مخيفا وقال لمارمون: «إن امرأتي على أحد أمرين: فإما أن تكون مريضة، وإما أن تكون خائنة ...» ولطالما تضرع نابوليون إلى جوزفين بعد أن أشرق طالع السعد عليه وأخذ يحرز النصر تلو النصر أن تحضر وتخمد لهيب شوقه، ولكن جوزفين كانت تود قبل كل شيء أن تبقى حرة في باريس، لتتمتع برؤية التحمس العظيم الذي كانت تحدثه انتصارات زوجها في الجمهور الباريسي، وتجني أزهار المديح من جميع الطبقات، وتطلع مرتفعة الرأس في المجالس والمحافل، وتبسم ابتسامات كلها أنفة وعزة للذين كانوا يهتفون لها ويلقبونها ب «سيدة النصر»، فهي لم تكن تحب زوجها، بل كانت تحب منصبه وشهرته وتتخذهما سلما للصعود إلى حيث كانت تريد في المجتمع، وكانت إذا رأت نابوليون يلح في طلبها والتضرع إليها قالت بدلال: «إن نابوليون لمغرب مضحك ...» وإذا أجابته فإن جوابها لا يتجاوز ثلاثة أسطر، وكانت تدعي تارة أنها مريضة، وطورا أن دلائل الحبل بادية عليها فلا قبل لها بالسفر.
على أن هذا العذر كان يزيد شوقه وقلقه، وفي 15 يونيو كتب إليها كتابا قال فيه: «صارت حياتي كلها أحلاما مخيفة، وصرت كأني لا أحيا، وفقدت ما هو أغلى من الحياة والسعادة والراحة، وكاد اليأس يتولاني ... اكتبي لي عشر صفحات، فإن هذا هو الأمر الوحيد الذي يعزيني بعض التعزية ... قلت أنك مريضة، وأنك تحبينني، وأنني أحزنتك، وأنك حامل، فأنا أذنبت إليك ذنوبا عديدة لا أدري كيف أكفر عنها، فاغتفريها لي واعذريها أيتها الصديقة؛ لأن حبك ذهب بعقلي فلن أرى إليه سبيلا.» «إن ما بي من الداء لا يقبل الشفاء، وما عندي من الأفكار السوداء بلغ حدا صرت أكتفي معه بأن أراك فأضمك ساعتين إلى قلبي ثم نموت معا ... ألا خبريني من يعتني بك؟ أظنك دعوت هورتنس إليك ... إن حبي لهذه الفتاة اللطيفة زاد ألف ضعف منذ عرفت أنها تقدر على إنزال شيء من السلوان على قلبك ... أما أنا فلا عزاء ولا راحة ولا أمل لي قبل أن يرد علي كتاب طويل منك أعرف منه ما هو مرضك، فإذا كان منه خطر عليك، فإني أسرع إلى السفر نحوك ... أيتها الصديقة، قولي لي أنك مقتنعة كل الاقتناع بأن حبي لك يتجاوز ما يستطيع الفكر أن يتصوره، وبأني لا أفكر في امرأة أخرى غيرك، وبأن كل النساء هن في نظري عاطلات من حلي اللطف والظرف والجمال والذكاء، وبأنك أنت وحدك تعجبينني وتروقين ناظري، وبأن قواي وساعدي ومداركي كلها لك، وروحي مقيمة في جسمانك، فإذا مت مت أنا معك ... وأنت تعلمين أني لا أستطيع أن أرى لك حبيبا»، ثم ختم بقوله: «أيتها الصديقة المعبودة، أنا مريض لمرضك، والحمى تتسعر في جسمي، فلا تدعي البريد يتأخر أكثر من ست ساعات، بل أعيديه مسرعا بجواب من سيدتي ومولاتي.»
فماذا كان جواب جوزفين على هذا الكتاب الذي تكاد حروفه تلتهب من نار شوقه إليها؟ إنها قالت عند وصوله: «إن نابوليون لمغرب مضحك.» أجل إن ذاك الزوج الذي خدعته الأيمان التي أقسمتها تلك المرأة أيام الخطبة، وذاك الجنرال الذي بز الأبطال، وأخذت فتيات الطليان تتزلف إليه في كل مكان فلم يعجبه غير امرأته من النساء الحسان، وذاك القائد الذي كان يصدر أوامره إلى أرباب التيجان وصاحب الفاتيكان، ثم يقف أمام تلك المرأة كخادم في حضرة سلطان، إن مثل هذا الإنسان لغريب في أفكاره مضحك في أطواره.
قيل - وما أكثر ما قيل عن نابوليون - إن ذاك الإنشاء الممتلئ حرارة ليس بالدليل الدامغ على شدة لهيب الشوق بين ضلوعه؛ لأن من العادة المألوفة في إيطاليا - ولا سيما في ذاك العهد - أن يبالغ المتحبب في كلامه وإن كان لا يصور حقيقة هيامه، على أن هناك برهانا لا يبقي ريبا في خطأ هذا القول عن نابوليون، وهو بعض الكتب التي أرسلها في ذاك الوقت إلى كارنو أحد رجال الديركتوار وإلى أخيه جوزيف؛ فإن المطلع على تلك الكتب يرى بين تضاعيف سطورها تلك الأشواق كما رآها في كتب نابوليون إلى جوزفين نفسها، ومما كتبه إلى كارنو قوله: «إني أشكر لكم العناية التي تصرفونها إلى قرينتي، فهي وطنية صادقة، وأنا مجنون بحبها ...» ومما كتبه إلى أخيه جوزيف: «إن اليأس تولاني منذ علمت بمرض امرأتي، فأضعت الصواب وتوالت علي الأوهام المخيفة، فأسألك أن تبذل لها كل عناية ... إنك بعدها الإنسان الوحيد الذي يهمني أمره فطمئني وقل الصحيح ... إنك لا تجهل مبلغ حبي الشديد، ولا يفوتك أن جوزفين هي المرأة الأولى التي أعبدها، فمرضها يورثني اليأس، وإذا كانت حالتها جيدة فأنا أود من صميم الفؤاد أن تحضر؛ لأني محتاج إلى مرآها وضمها إلى قلبي ... أنا أحبها أشد الحب، فلا يمكنني أن أبقى بعيدا عنها، وإذا كانت هي لا تحبني فإني لا أود بقائي في هذا العالم ... أيها الصديق المحب، لا تدع البريد يتأخر أكثر من ست ساعات، بل سارع إلى إرساله ليعيد إلي الحياة، أودعك وأدعو لك بالسعادة، أما أنا فقد شاء الدهر أن لا يبقي لي إلا الظواهر اللامعة.» •••
وبقي نابوليون يرسل الكتاب تلو الكتاب على هذا المنوال فيري من جوزفين ضروبا مختلفة للتخلص من السفر، حتى علمت أن جونو مرسل من قبل نابوليون إلى باريس ليحمل الرايات والغنائم التي غنمها نابوليون من النمسويين، فخافت أن يوقف نابوليون على حقيقة أمرها وسلمت بالسفر معه ومع مورات في 22 يوليو سنة 1796، ولكن صدرها كان منقبضا وحزنها شديدا لفراق باريس. قال أرنو في مذكراته: «لقد كان جزعها شديدا عندما رأت أن السفر أمر لا مناص منه، يا لها من امرأة مسكينة! إنها كانت تذرف الدمع الغزير وتشهق كأنها سائرة إلى العذاب.»
ولما وصلت إلى تورين أرسل نابوليون مارمون لملاقاتها، ثم عاد معها إلى ميلان حيث نزلت في قصر سرباوني، وهناك قابلها نابوليون بشوق وحنان متدفقين، وذكر مارمون تلك المقابلة فقال: «إن الجنرال بونابارت سر بها أبلغ سرور؛ لأنه لم يكن يعيش إلا بها، وإني لم أر حبا تملك قلب رجل وكان أصدق مظهرا وأشد صفاء وأقوى اندفاعا من حب نابوليون لجوزفين.»
على أن أوقات الصفاء والهناء لم تكن طويلة بعد وصول جوزفين؛ لأن الحالة الحربية اقتضت أن يسافر الجنرال نابوليون في أوائل يوليو من ميلان ويترك حبيبته هناك، وفي 6 يوليو كتب إليها يقول: «إني قهرت العدو، والتعب آخذ مني كل مأخذ، فاسألك أن تحضري مسرعة إلى فيرون؛ لأني أحتاج إليك، وأظن أن مرضي سيكون شديدا، أقبلك ألف قبلة وأنا في السرير»، وكانت مكاتيب نابوليون تزداد كلما طال الفراق، وفي 18 من ذاك الشهر كتب إليها يقول:
أنا قلق الفكر، أود أن أعرف ماذا تصنعين ... كنت في قرية فيرميل وجلست عند ضفة البحيرة على نور القمر الفضي، وكنت أذكر على الدوام جوزفين ... إني أضعت علبة التبغ، فأرجو أن تختاري لي علبة أخرى مسطحة قليلا، وأن تكتبي عليها كلمة جميلة من شعر رأسك ... ألف قبلة فيها من الضرام بقدر ما عندك من البرودة.
وكتب إليها: «لقد نال اليأس مني لظنك أني أميل إلى امرأة سواك، فأنا ملك لك بحق الفتح الدائم الوطيد، ولا أدري لماذا تحدثيني في شأن مدام ت ... مع أني لا أهتم بها ولا بغيرها من نساء برتشيا ... وأنا أعدك بأني لا أفض مكاتيبك بعد الآن ما دام فتحها يكدر صفاءك، أما سفرك فليكن قبل اشتداد الحر، وسأحضر لملاقاتك.»
أنت ترى مما تقدم أن حب نابوليون لم يضعف، ولكن شيئا من القلق بات يخيم عليه، وأنه صار يستشعر الخيانة ولكنه لا يستطيع ولا يريد تصديقها، وأن مداراته لشعور زوجه المحبوبة بلغت به إلى حد أن وعدها بالعدول عن فتح مكاتيبها.
أما تظاهر جوزفين بالغيرة كما يؤخذ من أحد كتبها فلم يكن إلا تحويلا لأفكاره وتبديدا لشكوكه.
الفصل السابع
سلوك جوزفين في ميلان
وإذا نظرنا إلى جوزفين في قصر سرباوني، وجدناها تسلك المسلك الذي اتبعته في باريس ولم تتركه إلا كاسفة آسفة، فقد اتفقت أخبار الرواة على أن جمهورا من الضباط الشبان أخذوا يلتفون حولها منذ وصولها إلى ميلان ويبالغون في إكرامها والتزلف إليها، وأن كتب الشوق والرجاء والتضرع التي أرسلها نابوليون كانت تصل إليها وهي في ذاك المحيط بين ضروب الملذات وأفانين المسرات، وكانت تنتحل الأعذار التي ألفتها في باريس لتؤجل سفرها إلى حيث كان نابوليون، وما تمكن نابوليون من استقدامها إلى برتشيا إلا بعد الجهد الكبير والرجاء الكثير.
ولكن اجتماع نابوليون وجوزفين في برتشيا لم يكن أطول من اجتماعهما في ميلان؛ لأن نابوليون اضطر إلى السفر بحكم الحرب التي كانت ناشبة، فعادت جوزفين إلى ميلان، وقاست بعض الأخطار في عودتها، ومنذ هذا الحين ازداد سلوك جوزفين ظهورا، وأخد نابوليون يشعر شعورا أكيدا بقلة اكتراثها له وضعف ميلها إليه، ومع ذلك فإنه بقي شديد الحب مضطرب الأحشاء؛ بدليل ما كتبه إليها بعدئذ، وهاك بعض ما قاله:
كنت أؤمل أن أحصل على كتاب منك، فخاب الأمل وتولاني قلق مخيف؛ لأنك كنت منحرفة الصحة عند السفر، فأرجو منك أن لا تدعيني في مثل هذا القلق ... كيف يمكنك أن تنسي من يحبك ذلك الحب الشديد؟! آه! إن الفراق هائل والليالي طويلة تدعو إلى الملل ... فكري في، ولا تعيشي لغيري، واقضي معظم أوقاتك مع من يحبك، فإني لا أخاف إلا مصيبة واحدة وهي أن لا تحبني جوزفين.
ولما مضى يوم آخر ولم يرد عليه خبر كتب إليها: «إني لم أر منك كتابا فتولاني القلق الشديد ... إنهم يؤكدون لي أن صحتك جيدة وأنك تنزهت عند بحيرة كوم.»
وبعد أيام كتب إليها ينبئها بنصر باهر قال: «أيتها الصديقة العزيزة، لقد فشل العدو وخسر ثمانية عشر ألف أسير وترك بقية رجاله قتلى أو جرحى، وما أحرزنا قط مثل هذا النصر المستمر؛ فإن إيطاليا وفريول والتيرول أصبحت كلها في قبضة الجمهورية ...» ثم ختم نبأ النصر بقوله: «إنا سنجتمع بعد أيام قليلة وسيكون اجتماعنا ألطف ثواب لي على ما قاسيت من التعب والجهد، ألف قبلة حارة من عاشق متيم .»
ولعل القارئ يسأل هنا: كيف كان جواب جوزفين بعد أن وضع ذاك البطل العاشق غنائمه الحربية بين أقدامها؟ هل باتت ترعى جانبه وتداري عواطفه ما دامت لا تستطيع حبه، أو بقيت على حالتها المعروفة؟ إن الكتاب الذي بعث به إليها في 17 سبتمبر يدل على حقيقة حالها، وهاك بعض ما قاله فيه: «كتبت إليك مرارا أيتها الصديقة ولم تكتبي لي إلا قليلا، فأنت شنيعة جدا! وشناعتك تضاهي خفتك وطيشك ... بل أنت خداعة، تخونين عاشقا متيما، فهل أضاع يا ترى هذا العاشق حقوقه؛ لأنه بعيد مثقل بالمتاعب والأشغال؟ ألا ماذا يبقى له في هذا العالم إذا خسر جوزفين وأبت أن تؤكد حبها له؟» «نشبت أمس معركة شديدة كسرنا فيها العدو كسرة تامة وفجعناه بخسارة عدد كبير من الرجال واستولينا على ضواحي مانتو، أودعك أيتها المعبودة، وسترين بابك يفتح في إحدى الساعات بلا ضجة ولا ضوضاء، فأدخل كما يدخل العاشق الغيور وأنطرح بين ذراعيك.»
فأنت ترى من هذا الكتاب أن الخوف من الخيانة بات يساور قلب نابوليون، ولكنه مثله مثل كل عاشق أعماه الغرام، فكاد يظن نفسه جانيا لغيابه عن حبيبته، فما أعظم الفرق بين ضلالة فكره في معترك الغرام، وأصالة رأيه في معترك المدفع والحسام!
ثم كتب إليها أيضا: «ماذا تعملين سحابة النهار؟ وأي شغل هام لا يدع لك وقتا لمكاتبة مغرم طيب القلب؟ ألا أي حبيب جديد يستغرق كل أوقاتك ويقتل ساعات النهار فيمنعك من مراسلة زوجك؟ حذار حذار يا جوزفين! فإني سأباغتك وأخلع الباب ذات ليلة ... آمل أن أضمك بين ذراعي في وقت قريب وأنهال عليك بقبلات حارة كجو خط الاستواء.»
وفي 27 نوفمبر سنة 1796 برح نابوليون معسكره ووصل إلى ميلان، فوجد القصر خلوا من زوجته المحبوبة، فسأل عنها، فقيل له إنها سافرت إلى جنوى لترويح النفس وحضور بعض الحفلات. فاستولى على نابوليون ضرب من اليأس، وكتب إليها يقول:
إني وصلت إلى ميلان وأسرعت إلى الطبقة المعدة لك في القصر تاركا كل شيء لأراك وأضمك بين ذراعي فلم أجدك؛ لأنك تنتقلين من مدينة إلى أخرى في طلب الأفراح والملاحي ولا تهتمين «بنابوليونك العزيز»؛ لأن قلة الثبات ولدت فيك قلة الاكتراث، فما كان حبك إلا هبة وقتية ما لبثت أن سكنت ... على أني رجل ألفت المخاطر وعرفت دواء الضر والضجر اللذين يصيبان المرء في حياته، ولكن المصاب الذي نابني اليوم يفوت حد الوصف ... أنا مقيم في ميلان إلى التاسع من هذا الشهر، فلا تزعجي نفسك ولا تتركي المسرات والملذات؛ فإن السعادة لك وحدك، والعالم يعد بنفسه سعيدا إذا أعجبك، وسوء الحظ لزوجك دون سواه.
ثم كتب إليها أيضا: «وصل بريد برتييه المرسل من جنوى، وأدركت أنك لم تجدي وقتا لمكاتبتي، فأنت بين الملاهي والملاذ، وحقك ألا تضحي بشيء من أجلي، وأنا لا أنوي أن أوقع خللا في حسابك أو أحرمك شيئا من الملاهي إذ لا أستحق مثل هذا التسامح منك، وإن رجلا لا تحبينه لا يكون من حقه أن تهتمي بشقائه أو سعادته، فليس لحياتي غاية أو مقدور سوى أمر واحد، هو أن أحبك وأسعدك ولا آتي أمرا يخالف مشيئتك، وإني لمخطئ إذا كنت أتقاضى منك أن تحبيني بقدر حبي لك، ولو فعلت لكان مثلي مثل رجل يطلب أن يكون وزن القطن كوزن الذهب، على أني إذا كنت لا أملك من الجاذبية ما يجذب فؤادك فإني أستحق الاحترام والإكرام من جوزفين، وإن قلبي ليلتهب بنار حبها ولا يبغي بها بدلا ... أودعك أيتها المرأة المعبودة، أودعك يا جوزفين.»
أليس من العجب العجاب سلوك تلك المرأة التي قدم إليها زوجها مع القلب المضطرم باقة من رايات النصر الباهر فلم تبدل من سلوكها ولم تكبح من هواها، بل استمرت على الخطة التي اتبعتها في باريس - أي طلب الابتعاد عن زوجها وطلب التمتع بشهرته ومجده - فكان لسان حالها يردد له: «أسعدك الله لأجلي وأبعدك عني ...» وروى ستاندال في مؤلفه أن الضباط الشبان الذين كانوا يحيطون بجوزفين في ميلان وجنوى جنوا بها تحمسا وابتهاجا وكانوا مستعدين استعدادا عجيبا لسبي العقول، وأخص من يذكر منهم ضابط شاب اسمه هيبوليت شارل وهو من طبقة الشبان الذين يبالغون في العناية والاهتمام بأنفسهم وملابسهم، كان نحيف الجسم، أسمر اللون، أسود الشعر، يلبس زي الهوسار، ويكثر من النكات واللطائف، ويروح نفوس الجلوس بأحاديثه وحكاياته، ويقال بالإجمال إنه من الشبان الذين يعدون خطرا كبيرا على الزوجات اللواتي لم يحببن أزواجهن، ولم يجدن مناصا من الضجر، ولقد تملك قلب جوزفين على ما يظهر، وشاع خبر ميلها إليه بين رجال الجيش، حتى اضطر نابوليون إلى عزله وعزل ضباط آخرين من الذين تزلقوا إلى جوزفين في غياب رئيسهم وقائدهم الأكبر.
ولعل القارئ يسأل هنا: ماذا جرى لجوزفين بعد تلك الكتب وتلك الحوادث؟
جرى أن نظرة واحدة منها بعد رجوعه إلى ميلان خففت من حدة نابوليون وكسرت من شوكته، فأضمر حزنه في أعماق صدره كما ذكر في كتاب ماض، وغفر لها ذنبها، ولكن الخيبة ضربت أمله وأدمت فؤاده حين رأى قلب زوجه خاليا منه، وكان نابوليون كمعظم الأزواج العاشقين ينتحل لها الأعذار في سره ويعزو فعلتها إلى خفة قليلة الشأن.
قالوا: إن خوفه من الرأي العام واحتفاظه بطيب السمعة لدى السفراء ورؤساء الدين الذين كان يسمعهم كل يوم خبر نصر جديد، ورغبته في الظهور لدى أوروبا، كل ذلك حمله على اجتناب الفضيحة وستر الأمر. ولقد يكون هذا صحيحا، ولكن هناك قولا آخر لا ريب فيه وهو أن حب نابوليون كان حائلا كبيرا دون عقاب جوزفين، وأن نابوليون كان من جهة أخرى يأبى الإضرار بها حتى بعد زوال الحب وبعد الطلاق، فإن رسائله كلها تدل على أن هذا الغرام تحول إلى صداقة قديمة ساكنة، وأن نفسه أبت عليه أن يتذكر حينئذ خيانتها وبرودتها في معاملته وقلة اكتراثها لما أبداه من الرجاء والتضرع والتذلل.
وإليك حكاية صغيرة تدلك على أن ذاك الرجل الذي كان يسير ألوف الأبطال بكلمة لم يكن يستطيع أن يخرج كلبا صغيرا من بيته؛ قال نابوليون يوما لأرنو عندما رأى الكلب الصغير فورتينه يتسلق أحد المقاعد: «انظر إلى هذا السيد فهو ندي ومنافسي، ولما تزوجت جوزفين كان فراشها ملكا له من قبلي، وقد أردت يوما أن أخرجه منه، فقيل لي: أنت بين أمرين؛ إما إن ترضى بالنوم معه وإما أن تنام في محل آخر، فاضطررت أن أقبله معي.» ثم أشار نابوليون إلى أثر عضة في فخذه، ويظهر أن هذا الكلب نفحه بها تلك الليلة، وهو ما جعل نابوليون يكتب إلى جوزفين بعد حين قائلا: «ألف قبلة لك ولفورتينه وإن كان شريرا ...»
ولما توفي فورتينه جلبت جوزفين كلبا آخر برغم نابوليون، فانظر إلى البطل الذي كان يسوق الجيوش أمامه كيف يعجز عن سوق كلب إلى خارج بيته، واعجب لبطل يفتح البلدان والعواصم ولا يجسر على فتح كتاب لامرأته!
الفصل الثامن
نابوليون مع أسرته
كثرت الأقاويل عن سجية نابوليون في وسط أسرته، فقيل إنه كان في الغالب معبس الوجه راغبا في الجد. وقيل بل كان يسترسل في أحيان كثيرة إلى المزح والمداعبة. على أن هناك حقيقة لا ريب فيها، وهي أن نابوليون كان يجد لذة كبيرة في الحياة بين أهله، وهو ما حصل عليه مدة من الزمن بعد صلح كامبو فورميو، فإنه كان وقتئذ يعيش عيشة عيلية تحيط به أمه وأختاه إليزا وبولين، وأخواه جوزيف ولويس، ومعهم أوجين ابن محبوبته وزوجته، وقد جعله ياورا خاصا، وليس يدلنا على حقيقة عيشته في ذاك الوقت مثل أقوال شهود العيان، قال مارمون: «إن نابوليون كان يظهر في بيته كثيرا من الانبساط والطلاقة وبساطة المعاشرة ما كاد ينتفي معه كل تكلف، وكان يحب المزح، ويجتنب في مزحه الكلام المر، واتفق له غير مرة أن شاركنا في ألعابنا، وحمل المفوضين النمسويين على الخروج من رزانتهم لمشاركة اللاعبين.»
وروى أرنوك أن «نابوليون نفسه كان يدبر أمر اللهو بعد خروجنا من غرفة الطعام إلى الردهة، وكان إذا رأى الحديث مائلا إلى السكون حركه بالأقاصيص والحكايات الملفقة الغريبة التي كان يجنح إليها.»
ولما كان في مونتبللو زف أخته بولين إلى الجنرال لكلريك ابن أحد تجار الدقيق، وبعد أشهر قليلة تزوج الضابط باشيوشي إليزا أخته الثانية، وليس من الغلو أن نستنتج من قبوله هذين الرجلين أن نابوليون لم يكن يحلم وقتئذ بالتيجان لأسرته.
وانتقد بعض المؤرخين على نابوليون في ذاك الحين أنه كان يتطلب المبالغة في إكرامه واحترامه ويستقبل الناس على وجه لم يألفوه، بيد أن المنصف لا يسعه أن يوافق على هذا الانتقاد؛ لأن منصب نابوليون في ذاك الحين كان يقتضي ذاك السلوك، ألم يكن قائد جيش كبير يحتاج إلى احترام الناس؟! ألم يكن صاحب علم منصور تتحدث بنصره الدنيا من أقصائها إلى أقصائها؟! ألم يكن الرجل الذي دان له أرباب التيجان وملك بلاد الطليان؟! أولم يكن فوق هذا كله ممثل دولة عظيمة الشأن؟!
نعم إن نهوض ذاك الرجل الذي كان في ظلام النسيان قبل هذا المجد ببضعة أعوام لم يكن مألوفا عند الأقوام، ولكن كل عجيب وعظيم غير مألوف لدى العوام ...
الفصل التاسع
المشاغل الحربية في ذاك الوقت
ليس من غرض هذا المؤلف أن نشرح المعارك والانتصارات التي خلدت ذكر البطل الكورسيكي، على أننا لا نرى بأسا في إيراد موجز للمشاغل الحربية العظمى التي كانت تشغل نابوليون أيام بعث بتلك الكتب الغرامية ونظر في أموره العيلية؛ لأن إظهار تلك المشاغل يجعل العبرة أبلغ وأقوى، ويقرنها بفائدة تاريخية. قال القومندان كلود برجيه في تاريخه ما صفوته أنه لما سافر نابوليون إلى إيطاليا ليستلم القيادة من الجنرال شرير - كما تقدم - كانت الحالة الخارجية تهدد فرنسا بالخطر، أجل إن جنود الجمهورية كانت تدافع عن حدودنا الشمالية دفاعا جميلا سنيا، ولكن فرنسا كانت ترى أمامها عدوتين شديدتين؛ أولاهما إنكلترا المعتصمة في جزرها، والثانية النمسا الملتهبة شوقا إلى طلب الثأر، وكان نخبة القواد النمسويين يقولون ويكررون: «إن إيطاليا ستكون قبرا للجنود الفرنسوية.»
ولما وصل نابوليون إلى مدينة نيس - حيث كان معسكر الجيش العام - رأى فيه القواد أوجيرو ولاهارب وبرتييه وماسينا وسرورييه، وكلهم من الذين قادوا الجحافل وخاضوا العجاج، فجعلوا ينظرون بعين الاستخفاف إلى الجنرال الضئيل النحيل الذي قدم ليتولى القيادة العامة، وكان عدد الجيش الفرنسوي لا يتجاوز ستة وثلاثين ألف رجل، وكانت ملابسه قديمة ورواتبه متأخرة، في حين أن الجنود النمسوية وحلفاءها أبناء بيومون كانوا أربعة وثمانين ألفا مسلحين بثلاث مائة مدفع ومعهم قوة كبيرة من الفرسان، فكان كل جندي فرنسوي مضطرا وهو على تلك الحال إلى مقاومة ثلاثة من الأعداء الحاصلين على الغذاء والكساء.
ولكن الجنرال نابوليون كان يعرف ما تنطوي عليه ضلوع الفرنسوي من العزيمة والحماسة، ويعرف كيف يستنهض تلك العزيمة ويثير تلك الحماسة، فجمع قواده وجنوده وأراهم من أعالي الألب السهول الخصيبة في بيمون ولومبارديا وحرضهم قائلا:
يا جنود جيش إيطاليا، إن الحكومة تريد لكم خيرا كثيرا ولكنها لا تجد إليه سبيلا، وإن صبركم وشجاعتكم لمما يكسبكم الفخر ولكنهما لا يجلبان المنافع ولا يكسبان المجد، وها أنا أنزل بكم اليوم إلى أخصب سهول العالم فتجدون المدن العظيمة والأقاليم الغنية وتحرزون معها الفخر والمجد والغنى، فيا أيها الجنود هل تنقصكم البسالة فتتقاعدون؟
فما انتهى نابوليون حتى تفتحت له قلوب القواد والجنود قبل فتح تلك السهول.
ونحن نتساءل هنا: أصاحب هذا القول هو نفسه كاتب تلك المكاتيب التي قرأناها؟
وكان هم نابوليون في ذاك الوقت أن يشطر أعداءه شطرين ويضرب كل فريق منهما على حدة، فأمر الكولونيل رامبون بأن يدخل حصن مونتجيو بقوة لا تزيد عن 1200 رجل، وبأن يقطع طريق مونتلنوت على النمسويين، فأتى من الشجاعة عجبا عجابا هو ورجاله، وصدوا حملات النمسويين ثلاث مرات، وفي إبان الهجمة الثانية التفت إلى رجاله قائلا: «إن القائد العام يطلب إلينا الثبات حتى النهاية، فأقسموا أنكم تموتون ولا تتركون الحصن.» فصاحوا: «إنا لمقسمون ...» وبفضل ذاك الدفاع العجيب تمكن نابوليون من التقدم ومن ضرب النمسويين ضربة مزقت شملهم. وكان القسم الآخر من الأعداء - أي جنود بيومون - إلى يسار نابوليون، فوكل إلى بعض قواده الإجهاز على القوات النمسوية التي عادت فتجمعت، والتفت هو إلى الجنرال كولي قائد جيش بيومون فشطره واضطره إلى التقهقر تاركا بين أيدي الفرنسويين 3000 أسير أضافها إلى 9000 من النمسويين و21 راية و31 مدفعا.
ولما بلغ ملك سردينيا خبر هذا النصر التمس هدنة من الجنرال بونابارت، فدهشت أوروبا إذ علمت أن جيشا فرنسويا لا يزيد عن ثلث أعدائه اضطرهم إلى طلب المهادنة.
أما نابوليون فمنحه الهدنة بشرط أن يسلم الأعداء إلى الفرنسويين ثلاثة حصون كبيرة ومخازن المئونة، فقبل، وانتقل الجندي الفرنسوي من العسر إلى اليسر بفضل بسالته وبراعة قائده في ميدان الجدال ومجال القتال.
وفي تلك الأثناء أرسل نابوليون مورات إلى باريس ليحمل إلى حكومة الديركتوار الإحدى والعشرين الراية التي غنمها من النمسويين - والتي من أجلها لقب الجمهور الباريسي جوزفين بسيدة النصر - فعقد الديركتوار جلسة حافلة وقرر «أن جيش إيطاليا استحق شكر الوطن» ثم أقيمت «حفلة النصر» في العاصمة.
على أن نابوليون لم يكن يرى نصره وافيا بالمرام، ولم يشأ أن يغمد الحسام قبل أن يقهر الأعداء قهرا تاما فلا يبقى لهم قبل بالدفاع، وعلى هذا العزم برح نابوليون وجيشه بلاد بيومون قاصدا لومبارديا، واجتاز نهر أدا على جسر لودي حيث كان المدافعون النمسويون، وهناك أظهرت الجنود الفرنسوية بأسا عظيما وقتلت رجال المدفعية وفتكت بصفوة الألايات النمسوية، وفي الوقت نفسه عبر الفرسان الفرنسويون النهر وانقضوا على الأعداء من ورائهم فحولوا كسرتهم إلى انهزام، ودخل الجيش الفرنسوي كريمون وبافي، ولما طار الخبر إلى ميلان برحها الأرشيدوق النمسوي هاربا مدحورا، فدخلها نابوليون فاتحا منصورا، ولقي من الجمهور كل ترحاب وسرور، وضرب ضريبة حربية قدرها عشرون مليون فرنك على البلدان المفتوحة وقبل الطاعة من دوقي بارم ومودين، ثم كافأ جنوده بالكلمات الآتية:
أيها الجنود، إنكم لمستحقون شكرا جزيلا من الوطن، وإن السلالات القادمة ستتداول أخبار انتصاراتكم، وسيبقى مجدكم خالدا بما غيرتموه في أجمل شقة من أوروبا، وستمنح الأمة الفرنسوية الحرة والمحترمة في العالم كله بلاد أوروبا سلما مجيدا، وأنتم سترون مواطنيكم يشيرون إليكم بالبنان بعد رجوعكم إلى الأوطان، وسيقولون لأولادهم كلما رأوا أحدكم: «إن هذا الشجاع كان في جيش إيطاليا.»
ولكن هذا النصر الجديد لم يكن كافيا أيضا؛ فإن جمهورية جنوى وجمهورية البندقية أصرتا على المقاومة، والجيش النمسوي تلقى نجدات أخرى رجاء أن «يقهر الجيش الفرنسوي الصغير » كما وصفوه مع فشلهم الفاضح، وكانت إنكلترا من جهة أخرى ترسل المبالغ العظيمة من الذهب إلى مندوبيها السريين بقصد أن تثير الفلاحين اللومبارديين على الفرنسويين، فتمكن المندوبون من تدبير مكيدة عظيمة على جنود فرنسا، وقرروا أن يباغتوهم ويذبحوهم في اليوم الثاني لعيد الفصح، ولكن عين نابوليون كانت ساهرة على جنوده، فعرف بالمؤامرة واتخذ أشد الذرائع لإفسادها، وأحرق مدينة بافي ما عدا منازل سبالازاني وفولتا؛ لأنهم كانوا من أكابر العلماء، فكان لعمله تأثير جميل في نفوس محبي العلم والعلماء، ونقض كلمة ذاك الثائر الوحشي الذي قال للعالم لافوازييه حين ساقه إلى الإعدام: «إن الجمهورية غير محتاجة إلى علماء ...»
ومما يذكر أن البابا بيوس السادس انضم وقتئذ إلى أعداء فرنسا، فأمر نابوليون القائد أوجرو بأن يكتسح أملاكه، وتقاضى منه ضريبة حربية قدرها واحد وعشرون مليون فرنك، وفي تلك الأثناء قدم الجيش النمسوي الجديد وعاجل الفرنسويين بهجوم شديد، فأخذ منهم مانتو، وجال في ظن الأهلين أن إيطاليا تملصت من الفرنسويين، ولكن نابوليون كان وحده أعظم من جيش كبير مع ذاك الجيش الصغير، فوضع خطة أسفرت عن تغلب عشرين ألف فرنسوي على ستين ألف نمسوي، وعن سقوط عشرين ألف رجل من العدو بين قتيل وجريح، ثم زحف بأبطاله قاصدا التيرول واحتل أهم مدنها وقهر جيشا نمسويا ثالثا، ولكن النمسويين أصروا على عنادهم وأرسلوا جيشا رابعا مؤلفا من خمسين ألف رجل فانضم إلى بقايا الجيوش الثلاثة.
وكان التعب إذ ذاك آخذا مأخذا كبيرا من الجيش الفرنسوي؛ لأن خسارته كانت عظيمة، وبعض قواده سقطوا في ساحة المجد، فلم يكن له بد من فكرة جديدة سامية تلمع له من جانب قائده الأعظم، وما لبثت تلك الفكرة أن سطعت في إبان الشدة كما يسطع البرق وسط السحاب المتلبد القاتم؛ فإن نابوليون أمر جنوده بأن تعود فتجتاز نهر أدييج وتسير نحو ميلان ليوهم الأعداء أنه عمد إلى التقهقر، فتوهم القائد النمسوي ألفنزي أن التقهقر أكيد، ورأى جيش نابوليون يحتل السدود الواقعة عند المستنقعات، فلم يدر في خلده أنه يجسر على إضرام نار القتال هناك، ولا سيما أن عدد جيشه نزل إلى ثلاثة عشر ألف رجل في حين أن النمسويين أضعاف هذا العدد، أما نابوليون فقال: «النصر أو الموت.» وقذف بجانب من جنوده إلى جسر أركول الشهير، وزحف قواده العظام لان ومسينا وأوجرو في طليعة الجنود، ولكن نيران الأعداء اشتدت إلى حد هائل ومنعت الجنود من اجتياز الجسر، فأخذ نابوليون عندئذ راية فرنسوية وصاح في الجنود: «ألستم الذين انتصروا في لودي؟ ألا فاتبعوا قائدكم»، فما أتم كلامه حتى هجم الجنود كالأسود، ولكن النيران النمسوية صدتهم مرة أخرى وسقط نابوليون نفسه في مستنقع، فأنقذه بعض جنود الغرنادييه بعد الجهد الشديد.
وقضى الفرنسويون ذاك الليل تحت السلاح، وفي اليوم التالي بذلوا جهدا عظيما فاجتازوا النهر على جسر وقتي، وبينما كان النصر يتراوح بين الفريقين بدت لنابوليون فكرة أخرى سديدة، وهي أنه أمر ضابطا في رتبة ملازم وثلاثين جنديا بأن يأخذوا 25 طبلا ويتقدموا نحو العدو ضاربين على الطبول بمنتهى الشدة، فما تعالت أصوات الطبول حتى ظن النمسويون أن نابوليون انقض عليهم بجيش آخر من ورائهم فلم يروا من وسيلة إلا طلب النجاة.
على هذا الوجه انتهت تلك المعركة التي بقي فيها نابوليون وقواده وجنوده ثلاثة أيام بلا راحة فكرية ولا جسمانية، والتي تغلب فيها ثلاثة عشر ألف فرنسوي على أربعين ألف نمسوي واضطروهم إلى التقهقر، وما اكتفى نابوليون بالفوز العسكري، بل طلب معه فوزا ديمقراطيا، فأنشأ جمهوريتين في شمالي إيطاليا وهما جمهورية سيبادان وجمهورية ترانسبادان.
وبعد أيام قليلة وصلت نجدة فرنسوية فصار عدد الجيش الفرنسوي عشرين ألفا، ولكن الأعداء ما لبثوا أن صاروا ثلاثة أضعاف هذا العدد؛ لأن النمسا أرسلت جيشا خامسا، والبابا أرسل إليها نجدة عددها ستة آلاف رجل، فزحف القائد النمسوي بمجموع تلك القوات من أنجاد ريفولي حيث كان ينتظره نابوليون، وقبل أن يتمكن ذاك القائد من إعداد بطارياته عاجله نابوليون بالهجوم، واستمر القتال دائرا نحو اثنتي عشرة ساعة، ثم أسفر عن انتصار نابوليون وفشل النمسويين وحلفائهم فشلا تاما وعن وقوع جميع مدافعهم غنيمة في أيدي الفرنسويين، وفي تلك المعركة التاريخية استهدف نابوليون للمخاطر وقتل تحته ثلاثة من الجياد، وفي ثمانية أيام خسر النمسويون 35 ألف رجل و60 مدفعا وعشرات من الرايات.
ولكن النمسا لم تكف مع ذلك كله عن حشد الجنود، فأعدت جيشا سادسا تحت إمرة الأرشيدوق شارل نفسه، ولم تعتبر بأن أولئك الفرنسويين الذين لم يجمعوا في ستة أشهر كاملة أكثر من 36 ألف رجل قهروا بهذه القوة وحدها 260 ألف رجل، منهم 200 ألف نمسوي، وقاتلوا في ستين معركة، فما وصل الجيش النمسوي الجديد حتى كسره نابوليون شر كسرة، ثم زحف إلى النمسا نفسها ليعاقبها، فدخل «فينا» واضطر الحكومة النمسوية إلى عقد الصلح والاعتراف بضم البلدان التي قرر ضمها إلى الجمهورية الفرنسوية (معاهدة كامبو فورميو 17 أكتوبر سنة 1897).
ثم عاد نابوليون إلى باريس حيث استقبل باحتفال عظيم باهر، وسلم تلك المعاهدة إلى باراس رئيس الديركتوار.
فليفكر القارئ كيف كانت حال نابوليون وكم كانت مشاغله عظيمة أيام أرسل تلك الكتب الغرامية إلى جوزفين ...
الفصل العاشر
إلى مصر
مع رجال الحرب ورجال العلم سنة 1798
لشدة ما قاسى نابوليون من مقاومة إنكلترا المعتصمة في جزرها أعد حملة مصر ليجعلها أول مرحلة في غزو الهند، ثم زاده عزما على هذا الأمر أن الاستيلاء على وادي النيل يؤيد نفوذ دولته في البحر المتوسط.
وفي أوائل مايو من تلك السنة تم استعداد الحملة، وفي الرابع منه برح نابوليون باريس ومعه جوزفين، وفي 8 إبريل وصل إلى طولون، وفي 19 منه أبحر على البارجة أوريان بعد أن ودع جوزفين وداعا مؤثرا، وقيل إن جوزفين عرضت عليه أن تسافر معه تلطفا ومجاملة فأبى أن يستصحبها في هذا السفر المحفوف بالمخاطر.
وفي 13 يونيو وصل نابوليون إلى جزيرة مالطة فأخذها عنوة، وفي 2 يوليو نزل بثغر الإسكندرية وبدأ أعماله الحربية، وكان عدد جنوده 35 ألفا ومعهم جملة من العلماء مثل شامبليون وفورييه وبرتوليه ومونج غيرهم من الذين تركوا آثارا خالدة.
وكان نابوليون مع أشغاله الكثيرة والأخطار المحدقة به يفكر على الدوام في جوزفين ويخشى طيشها وخفتها؛ بدليل ما كتبه إلى أخيه جوزيف حيث قال: «أكرم جوزفين وزرها بين حين وآخر، وارج من لويس أن يقدم لها نصائح حسنة ...»
وبينما كان نابوليون في معامع القتال وصل إليه من التقارير عن جوزفين ما هاج غيرته وزاد قلقه، فكتب إلى أخيه جوزيف كتابا قال فيه: «إن أحزانا بيتية كثيرة ترهق فؤادي، فأعد لي منزلا في ضواحي باريس أو في بورجون لأعتزل فيه مدة الشتاء، فقد مللت الطبيعة البشرية وصرت أود العزلة وأمل العظمة ...»
وقال أوجين ابن جوزفين في مذكراته: «إن الحزن كان يخامر قلب القائد العام بسبب استياء جانب من الجيش وبسبب الأخبار التي كانوا يرسلونها من فرنسا لتكدير صفائه العائلي، وكان الجنرال نابوليون يثق بي مع صغر سني ويطلعني على حزنه فأحاول تعزيته وتلطيف حزنه بقدر ما يسمح لي عمري واحترامي له.»
ولا شك في أن نابوليون لم يلق بسره إلى ابن زوجته وهو لم يكن يتجاوز الثامنة عشرة؛ إلا لأن قلبه كان طافحا بالحزن والأسى.
وحدث في شهر فبراير سنة 1799 - أي يوم كان نابوليون وأركان حربه في العريش - أن جونو أوقفه على أمور تميز منها غضبا، فقال لبوريين وكان يحسبه واقفا على أحوال جوزفين: «إنك لو كنت تحبني لأخبرتني بما أخبرني به جونو ... هذا هو الصديق ... جوزفين، جوزفين ... خانتني! ... إنها إذا كانت حقيقة مذنبة فلا بد من الطلاق، أنا لا أريد أن أكون أضحوكة العاطلين من الباريسيين، وسأكتب إلى جوزيف في طلب الطلاق.»
أما الأساس الذي بنيت عليه تلك الشبهات وأضرمت نار الغضب في قلب نابوليون في بيداء الصحراء، فهو على ما روى جوهييه أن «جوزفين لقيت لسوء طالعها الضابط هيبوليت شارل - الذي عزله نابوليون من جيش إيطاليا لشدة تزلفه إليها - وكان لا يزال شابا لطيفا قوي الجاذبية، فسعت لإدخاله في شركة لويس ليبون، وبعد حصوله على هذا المركز فرش منزلا جميلا، ثم أخذ يزور جوزفين في ماليزون، وانتهى الأمر بأن نزل بمنزلها وصار السيد الآمر»، فتواترت الإشاعات السيئة عنها في العاصمة الفرنسوية وجازت البحر المتوسط إلى أذن نابوليون ، فتولاه ذاك الغضب الشديد، ونفر قلبه منها حتى بات يتمنى الطلاق، ويمكننا أن نقول على صواب أن ضرام الغرام في صدر نابوليون خمد من ذاك الوقت، فانصرف فؤاده في مصر إلى بولين فوريس زوجة أحد الضباط، واشتهر أمر هذا الحب الجديد بين رجال الجيش حتى لقبوها ب «سيدتنا في الشرق»، وما كان نابوليون نفسه يحاول إخفاء علاقته بتلك المرأة الجميلة، بل كان يتنزه معها في مركبة واحدة، وبلغ به الأمر أن أبعد زوجها عن مصر، ولقد وصفها المؤرخون بأنها كانت شقراء حسناء لعوبا ظريفة لطيفة. •••
وبينما كان نابوليون يعزي النفس بالمحبوبة الجديدة، ويضمر الطلاق للمحبوبة القديمة، كان جوهييه رئيس الديركتوار يسبغ النصائح لجوزفين في باريس ويحاول أن يرجع بها إلى الطريق القويم أو يقنعها بوجوب الطلاق خوفا من ازدياد الفضائح، وهاك ما قاله لها يوما بتهكم لاذع: «أنت تقولين أنه ليس بينك وبين هيبوليت شارل إلا صداقة خالصة، ولكن الصداقة إذا كانت بحيث تحملكما على ترك اللائق المتبع بين الناس أصبحت كالغرام، وهي إذا كانت صداقة منزهة إلى ذاك الحد كما تقولين يمكنها أن تقوم لديك مقام كل شيء، فطلقي، وثقي بأن ما تفعلين يجلب لك الأكدار والأحزان.»
ولكن جوزفين أبت أن تسمع تلك النصيحة الحكيمة؛ لأنها كانت تريد أن تبقى زوجة الفاتح العظيم، وتحصل على جميع الحقوق المقررة لها بدون أن تؤدي جميع الواجبات، وربما كانت تعتقد أن شدة حب نابوليون لها يصرفه عن طلب فراقها.
ولما اشتدت الزوبعة حولها وتلقت بعض الكتب التي تدل على تميز نابوليون غضبا وسخطا عليها وتشير إلى قرب رجوعه من مصر إلى باريس، أخذت تكثر من الزيارات لمنزل الموسيو جوهييه وتتحبب إلى زوجته على أمل أن يكون امتزاجها بأسرة جوهييه مخففا للشكوك، ولما علمت بقرب وصول نابوليون قالت لمدام جوهييه: «إني سأذهب لملاقاته، ومتى علم أنكم عشرائي الأخصاء يصبح لكم شاكرا وبصحبتكم مفاخرا.»
ولما بلغ جوزفين نزول نابوليون وخلاصه من البوارج الإنكليزية التي كانت تسود البحر المتوسط أسرعت إلى ليون لتلاقيه، ولكن نابوليون قدم من طريق بوربونيه - اسم ولاية فرنسية قديمة معظم بلادها داخل اليوم في مقاطعة إلييه - فلما وصل نابوليون إلى منزله ورآه خاليا من زوجته تعاظم غضبه، وبعد وصوله بثمان وأربعين ساعة عادت جوزفين إلى باريس فأبى نابوليون أن يقابلها وأبلغها عزمه على الطلاق، فعندئذ خاب أمل جوزفين، ورأت الوهدة العميقة التي بينها وبين ذاك البطل الذي شرفها وأحبها إلى حد العبادة.
فيا لله! ما كان أحرج موقف نابوليون في ذاك الوقت! فقد كان يرى من جهة أن الخطر الداخلي مهددا بلاده والحالة فيها تتدرج من سيئ إلى أسوء منه، وتقضي بإسقاط الهيئة الانتخابية، ولا يخفى ما في إبدالها من المصاعب التي لا تذللها إلا همة أرسخ من الرواسي، ثم يرى من جهة أخرى عرضه مضغة في الأفواه فلا يجد سبيلا إلى صونه إلا سبيل الطلاق الأليم.
أما سياسة جوزفين في ذاك الموقف الحرج فإنها كانت سياسة التذلل والتضرع، ولقد أصابت في تفضيلها على كل سياسة أخرى؛ لأنها لو قابلت الجفاء بمثله لجزم نابوليون في الأمر، ولكن جوزفين درست جيدا ما انطوى عليه ذاك القلب الذي مال عنها، وأدركت أن الحب القديم لا يزال له طابع على صفحته فأخذت تصرف الجهد في معالجته، ولما ظهر أن نابوليون لم يدع أحد رجال القضاء لساعته، فيبرم معه أمر الطلاق ويتخذ الوسيلة الحاسمة الفاصلة، وأنه أظهر استعدادا لقبول الإيضاح ورؤية الدموع من أعين جوزفين، لما ظهر هذا كله قال العارفون أن جوزفين «ربحت قضيتها» مرة أخرى، وإن كانت على خطأ، وأول ما فعلته في هذا السبيل أنها أرسلت ابنها أوجين وابنتها أورتانس إلى نابوليون ليتوسطا لها ويستنزلا عفوه، فدخلا باكيين وانطرحا بين قدميه وتضرعا إليه أن لا يترك أمهما ويعيدهما يتيمين كما كانا، فرق قلب نابوليون لهما وتقبل أمهما من بين أيديهما، ومن ذاك الحين غيرت جوزفين سلوكها وخافت أن تقع في الوهدة التي حفرتها بيدها، وصارت تتحبب إلى نابوليون وتصنع له ما يشاء، بل صارت تفرغ جهدها في خدمته من كل الوجوه حتى الوجه السياسي، ومما يذكر أنه لما وكل إلى نابوليون قلب نظام الأحكام في تلك الأيام كان من مصلحته أن يتحول فكر جوهييه رئيس الديركتوار عما أراد اتخاذه من الوسائل لمفاجأة المجلس النيابي، فتولت جوزفين هذا الأمر، ودعت ليلة الحادث جوهييه لتناول العشاء عندها، فتم ما أراده نابوليون في غيابه.
ولقد أكد الذين وضعوا مذكرات ومؤلفات في موضوعنا أن جوزفين أخذت تحب نابوليون حبا أكيدا وتظهر غيرة شديدة من ذاك الحين، وأن حبها كان يزداد كلما شعرت أن قلب نابوليون أخذ يميل عنها وأنها أخذت تتقدم في مدارج العمر.
على أن نابوليون لم يكن يظهر لها جفاء، بل كان على العكس يحاسنها ويهتم بإراحتها، وإذا كان لم يجد بعد ما جرى لذة الزوج السعيد، فإنه كان يريد الراحة والسكون وطيب السمعة لبيته، فلا كلام عن الغرام ولا شكوى من ضرام الهيام مما كان يشرحه «للصديقة المعبودة» في سالف الأيام، بل كل ما هناك أقوال تدل على مودة وإكرام.
الفصل الحادي عشر
العاطفة الأبوية عند نابوليون
لم يكن سلوك جوزفين الماضي مؤثرا في حب نابوليون لابنها أوجين؛ فإنه كان يريد خير هذا الفتى ويعد خير أب له، بدليل ما كان يسديه من النصائح إليه، فقد كتب أيام حملة مصر يقول له: «سر دائما مع الجنود ونم تحت الخيمة، ولا تركن إلى العرب، وأكتب إلي في كل فرصة، أنا أحبك.» وكتب إليه كذلك: «لا تنم مكشوف العينين في مهب الهواء ... أقبلك.» وكان أوجين يشعر بذاك الحنو ويقابله بالإكرام والإخلاص بدليل ما قال نابوليون نفسه: «إن أوجين كان إذا سمع صوت مدفع أسرع ليرى ما جرى، وإذا كان أمامنا حفرة فهو الذي يمد يده إلي.» وكان نابوليون يقول: «إن أوجين يستحق أن يكون قدوة لجميع الشبان الذين في سنه.»
على أن هذا الحنو لم يكن يمنع نابوليون من إرشاد أوجين بكلمات شديدة إذا اقتضت الخدمة، ولكنه كان يختم كلامه على الغالب بعبارة تخفف من تلك الشدة، ولما عينه في إيطاليا كتب إليه: «إن قلبي لا يعرف أحدا أحب إليه منك»، وكتب أيضا: «يا بني إني مرسل إليك سيفا كنت أتقلده في حرب إيطاليا، فعسى أن يكون طالعه حسنا عليك.»
ولما أراد نابوليون أن يعقد قران أوجين وابنة ملك بافاريا بذل كل همة في إزالة المصاعب من سبيله وتبناه على وجه رسمي، وبعد عقد الزواج قال نابوليون للعروس: «لا شيء من المشاغل التي تحيق بي أحب إلي مما يضمن سعادة ولدي، فكوني واثقة يا أوغستا أن لك في قلبي من الحنو ما في قلب الأب لابنته، لا تغفلي مدراة صحتك في السفر؛ لأني لا أريد أن أراك مريضة، عليكما مني البركة الأبوية.»
وكتب إليها بعد أن صارت حاملا: «يا ابنتي إنك على صواب في اعتمادك على حبي وعطفي، فلا تهملي مراعاة حالتك الحاضرة، وابذلي جهدك حتى لا تأتينا ببنت، ويمكنني أن أصف لك الدواء الذي ينفعك ولكنك لا تصدقيني، إن الدواء هو أن تشربي كل يوم قليلا من الخمرة الصافية.»
ولما ولدت بنتا كتب إلى أوجين يقول: «إذا كانت أوغستا مكدرة الصفاء؛ لأنها ولدت بنتا، فقل لها إن التي تبدأ ببنت تلد اثني عشر ولدا.» ولو شئنا أن نذكر المكاتيب التي من هذا الطراز لاستغرقت عشرات الصفحات، فحسبنا ما تقدم دليلا على شعور نابوليون وحبه لابن جوزفين. وإن المرء ليدهش من اهتمام نابوليون بأكثر أمور أهله وذويه ومن بقاء فكره مطلقا حرا، مع أن بعض أشغاله في ذاك الوقت كان يستغرق أوقات أعلى الرجال همة وأمضاهم عزيمة وأسدهم رأيا.
وكان نابوليون في ذاك الوقت إمبراطورا للفرنسويين، ونجم سعده يتلالأ في سماء العالم، وجوزفين ممتعة بمجده على ذاك العرش الأسني، إلا أنها تجاوزت حد الصواب والحكمة في بذل المال، وكثيرا ما شكا الإمبراطور نابوليون من إسرافها.
قالت الآنسة أفريلون التي كانت في حاشيتها: «إن الإمبراطور كان ينحي باللائمة على الإمبراطورة؛ لأنها لم تكن تحسب حسابا للمال، ولم تكن تجد من الشجاعة ما يساعدها على رفض أي تاجر يعرض عليها بضاعته.»
وقال كونستان في مذكراته: «إن تبذير الإمبراطورة جوزفين كان في كل آن مدعاة لتكدير صفاء الإمبراطور.»
وحدث يوما أن الإمبراطور علم بوجود عجز مالي قدره مليون فرنك في ميزانية جوزفين فغضب قائلا: «هذا كله لقصاصات من الأقمشة! ... لتركها النصابين المحتالين يبتزون الأموال! ... إنه لمن الواجب أن أقفل بابي دون كل تاجر.»
ولقد أثرت أعمال جوزفين في أحكام نابوليون من وجه عام على السيدات بدليل قوله يوما في مجلس الدولة: «إن النساء لا يشتغلن إلا بالملاهي والملابس، أفليس من الواجب أن يضاف على القانون أن المرأة لا يحق لها أن تقابل من لا يريده زوجها؟»
وليس في وسعنا أن ننبئ بما كان ممكن الحدوث لو اجتنبت جوزفين قلة الاكتراث ثم تنزهت عن ارتكاب الهفوات والفضائح وسارت على النهج القويم في نفقتها، فقد كان من الممكن المحتمل أن تتوثق عرى الحب بينها وبين نابوليون، وألا ينقلب ذاك الحب إلى صداقة ذات شكل خاص ليس بينه وبين الحب الحقيقي مضارعة أو مشاكلة، ولكن شاء حظ جوزفين وحظ نابوليون الذي كان يحلم بالعيشة البيتية الخالصة أن يجري ما جرى، فيصبح قلب ذاك البطل هدفا لحب آخر، وإن إمبراطورا عظيما وفاتحا ملأ ذكره البلدان وسجد له أرباب التيجان لا يعدم فتيات من الحسان يتزلفن إليه ويضعن جمالهن بين يديه، ومما لا ريب فيه أنه لقي فتيات من هذا الطراز فأحبهن واتخذ بعضهن خليلات، وربما أراد - كما قال أحد المؤرخين - أن يخبر نفسه في فتح القلوب كما خبرها في فتح البلدان، ولكن هناك أمرا يدلنا على أثر تربيته في حضن أسرته، وهو أنه لم يفعل كما فعل هنري الرابع، أو فرنسوا الأول، أو لويس الرابع عشر، أو لويس الخامس عشر، الذين وضعوا الخليلات تحت أنظار الحليلات، بل كان يفرغ الجهد في إخفاء علاقته بهن عن امرأته الشرعية وحاشيته والسواد الأعظم من الفرنسويين، وكانت تتعالى نفسه عن قبول أي توسط من أية امرأة سواء كان في السياسة أو توزيع الوظائف والمكافآت.
وكانت جوزفين تشتد غيرة عليه وحبا له كلما زاد مجده وسعد جده ، فكأنما صوت سري كان يصرخ في آذانها ويحذرها نتيجة سلوكها الماضي، ولقد أظهرت أشد الغيرة على نابوليون حين رأته يوما يلاطف مغنية من الأوبرا اسمها مدام برانشو، مع أنها كانت عاطلة من الجمال ليس لها من ضروب الجاذبية إلا صوتها المطرب البديع.
وقيل إن قلبه مال إلى فتاة أخرى بارعة الجمال لطيفة الحديث كثيرة اللطائف اسمها «مدموازيل جورج»، إحدى الممثلات في مسرح «الكوميدي فرنسيز»، وأنه التفت بعدئذ إلى سيدات الشرف والقارئات الخصيصات في القصر الإمبراطوري كمدام فاندي وكانت جميلة ظريفة، على أن حب نابوليون لها كان قصير الأمد، ثم مدام جازاني ولم تستمر علاقته بها أكثر من سنة.
ولما سافر نابوليون إلى بولونيا وفتحها سنة 1807 استولى القلق الشديد على جوزفين؛ لأن شهرة الجمال البولوني كانت تملأ فرنسا في ذاك الوقت؛ ولأنها كانت تعلم أن قلب زوجها لم يكن كما عهدته في أوائل عهدهما، فأخذت تكتب إلى نابوليون وتطلب إليه بإلحاح أن يأذن لها في السفر إليه، فسبحان من يغير ولا يتغير!
إن تلك المرأة التي كانت تختلق ألف حيلة لتبقى في باريس أيام كان زوجها يحرز النصر تلو النصر في إيطاليا أصبحت تلح على ذاك الزوج وتتضرع إليه أن يسمح لها بالسفر إليه، وروت الدوقة أبرانتيز أن «جوزفين كانت تستطلع بختها في ورق اللعب لترى هل يدل الورق على السفر أو عدمه.»
أما نابوليون فقد كان في بولونيا كما خافت جوزفين يغازل البولونيات الجميلات ولا يرتاح إلى قدومها، وكان يحاول تخفيف غيرتها وإزالة قلقها بإرسال الكتب اللطيفة الدالة على الوداد والحب، ثم يقدم لها أسبابا عديدة ليحول دون قدومها إليه، ومما كتبه إليها قوله: «إنه كلما عظم المرء زال استقلال إرادته وبات أسير الحوادث والأحوال»، ومنه: «أنتن النساء لا تعرفن حواجز ولا موانع، فكل ما تتطلبنه يجب أن يتم، أما أنا فخاضع لطبيعة الأمور»، وقس على هذا القول كثيرا من طرازه.
فلو كانت جوزفين تسمع مثل هذا التعلل من نابوليون سنة 1796 لطفح قلبها سرورا وفرحا؛ لأن كل ما كانت ترجوه وتصبو إليه أن يتركها بعيدة عنه تتمتع بعظمته ومجده في محافل باريس، وتغازل من يميل إليه قلبها من الشبان، أما في سنة 1806 فإن تلك الأعذار كانت تزيد شكوكها وتضرم نار غيرتها، فتتصور نابوليون في صدور المحافل والأنظار شاخصة إليه والحسان متزلفات بين يديه. والواقع أن نابوليون لم يعرف لذة الحب الصافي المتبادل إلا في بولونيا حيث قضى مدة من أطيب أيام حياته مع مدام واليسكا، وحكايته مع هذه البولونية الجميلة أن أشراف بولونيا أقاموا له مرقصا كبيرا حضرته زهرة الشبيبة من أكابر بولونيا، فلحظ نابوليون إبان المرقص فتاة جميلة ذات قوام معتدل وبياض ناصع ووجه صبوح تظهر عليه مسحة خفيفة من الحزن الداخلي، وشعر أشقر يسترسل كخيوط من ذهب، ولقد وصفها نابوليون نفسه بعد معرفتها بأنها ملك يضارع جمال نفسها جمال جسمها.
وفي اليوم التالي لذاك المرقص الكبير كان نابوليون مضطربا - كما قال كونستان في مذكراته - تارة يقعد وتارة يمشي، ثم دعا رجلا من كبار حاشيته، ورغب إليه أن يذهب في مهمة إلى مدام واليسكا، فرفضت أولا أن تقبل ما عرضه عليها إما تكبرا وأنفة، وإما دلالا واعتزازا كما تفعل ذوات الحسن والجمال في مثل تلك الحال.
على أن نابوليون لم يقنط بل واصل الإلحاح وتمكن بعد قليل من إقناعها بالمجيء، فوعدته بالحضور فيما بين الساعة العاشرة والحادية عشرة مساء.
قال كونستان في «مذكراته»: «إن نابوليون كان قبيل تلك الساعة كتلميذ ضرب أول ميعاد لحبيبته، فأخذ قلبه يخفق وصبره ينفد، وكان يسأل دائما عن الساعة، وإنه لعلى تلك الحال إذا بالمحبوبة البولونية قادمة إليه صفراء صامتة مبللة الجفون بالدموع»، فصرفت الليلة الأولى - على رواية كونستان - في كشف أسرارها القلبية وأكدارها البيتية. ويظهر أن أهلها زفوها إلى رجل من الأشراف طاعن في السن شديد الغيرة مصر على سنة التضييق في عاداته وتقاليده، ولا ريب في أنها ما أفاضت في هذا الموضوع إلا لتظهر وجوه عذرها في طلب العزاء بين ذراعي الحبيب، ونحو الساعة الثانية بعد نصف الليل تركت نابوليون وعيناها تذرفان الدموع، ثم بقيت توالي زياراتها إلى أن سافر الإمبراطور لاحقا بجيشه وعازما على غزو روسيا.
وفي تلك الأيام تعددت مكاتيب جوزفين في طلب السماح بالسفر إلى مركز نابوليون، فكان يجيبها ناصحا بالعدول عن هذا الغرض، ويحاول إقناعها بأسباب أخصها بعد المسافة وسوء حالة الجو والمرور ببلدان معادية له وما شاكلها، ولكن تلك الأقوال لم تخفف من رغبة جوزفين في السفر، بل كانت على العكس تفطر قلبها وتحرج صدرها، وكثيرا ما كانت تردد الزفرات، وتذرف العبرات حتى بلغ نابوليون خبر حزنها فكتب إليها يقول: «أطلب منك مشددا أن تظهري القوة والحزم، لقد أخبروني أنك تبكين على الدوام فأف أف! ... ما أقبح عملك! إن الإمبراطورة يجب عليها أن تكون ذات قلب شديد ... أنا لا أريد أن تبكي أو تحزني وتقلقي، بل أود أن تكوني على الدوام لطيفة سعيدة، فعودي إلى باريس وابقي فيها طلقة المحيا باسمة الثغر.»
أما قولك: «إني اتخذت لي زوجا لأكون معه»، فقد أضحكني جدا؛ لأني أظن - على جهلي - أن المرأة لرجلها والرجل للوطن والمجد ...
تلك حالة نابوليون في عهد الهفوات الزوجية، على أنه إذا كان يحق لجوزفين أن تشكو وتتألم كزوجة، فإنها تجد كإمبراطورة ما يعزيها في تاريخ ملكات فرنسا، وحسبنا ما فعله لويس الخامس عشر من إعلاء مراتب الحظيات في القصر الملكي نفسه وما أتاه من الفضائح، أجل إن خيانة إنسان لا تسوغ خيانة آخر، ولكن للطبيعة البشرية سلطانا قويا في كثير من الأحيان، وهو يعظم ويقوى كلما شعر المرء بحاجة إلى السلوان والعزاء لهم أصابه في بيته وخيبة نالته من محبوبه، وأفضل ما قيل عن نابوليون في أمر الحب أنه أخطأ، ولكنه كان من أشد المخطئين ميلا إلى التستر والمداراة والرغبة في تخفيف ألم تلك التي جرحها هذا الخطأ.
ولقد ثبت بالبراهين الدامغة أن حب مدام واليسكا لنابوليون استمر بعد سفره إلى معسكر الجيش، وأنها لم تزعج نابوليون سحابة ملكه بشيء، بل كانت ترعى جانبه وتختار العزلة والتستر، وما كان سرور نابوليون بها من أجل جمالها فقط، بل كان هناك سبب آخر أحدث تأثيرا عظيما في الطلاق، وهو أنها حملت من نابوليون، فاقتنع حينئذ بأنه قادر على الاستيلاد بعد أن كان يشك في هذا الأمر، ولا يدري أكان سبب العقم منه أم من جوزفين.
ولما اعتزل نابوليون في جزيرة ألب ذهبت مدام واليسكا إلى الجزيرة لتعزيه وتروح قلبه، في حين أن العالم كان يعتقد أن نجم نابوليون مال إلى الأفول، فلا عجب إذا قال فيها البطل الكورسيكي أنها ملك كريم لا يشبه جمال نفسها إلا جمال جسمها.
الفصل الثاني عشر
تقرير الطلاق
رأينا فيما تقدم كيف بدت فكرة الطلاق لنابوليون في جهة العريش، بعد ورود الأخبار الفاضحة عن سلوك جوزفين، ونحن مظهرون هنا كيف قويت ونفذت تلك الفكرة بقوة الحوادث نفسها.
إن أمر الطلاق بين نابوليون وجوزفين صدر بعد إنشاء حكومة «القنصلية» وبعد تعيين نابوليون قنصلا أول سحابة العمر وبعد ارتقائه إلى العرش الإمبراطوري وسؤدده العظيم. فليفكر القارئ في إمبراطور رفع رايته فوق ثلاثين عاصمة - كما قال الشاعر - وأحرز النصر في كل قطر، ورأى ذوي التيجان يتزلفون إليه في كل مكان، وأبصر نفسه قادرا على إحداث ولي عهد! ألا يميل به الطمع الإنساني الغلاب إلى حفظ ذريته؟
وزد على ما تقدم أن السواد الأعظم من الأمة الفرنسوية كان يخاف رجوع الفظائع الداخلية والأخطار الخارجية بعد نابوليون، ويطلب دوام سلالته حتى لا يقوم النزاع على الملك يوم يلفظ تلك الروح الكبيرة، وكان جوزيف نفسه أخو نابوليون يحضه على الطلاق وعقد زواج آخر لأجل فرنسا.
ومع ذاك كله فإن نابوليون قاوم فكرة الطلاق عدة سنين، وكانت جوزفين تدس الدسائس لدى جوزيف لحمله على إقناع نابوليون بالعدول نهائيا عن الطلاق، وقد قالت له يوما: «إن تقرير نظام الإرث يحمل نابوليون على الطلاق والزواج مرة أخرى ليرزق ولدا، والطلاق لا يبقي لك أملا بالصعود إلى عرش فرنسا»، ولكن جوزيف لم يقتنع.
وفي سنة 1804 كان نابوليون نفسه لا يزال مترددا في الأمر بدليل؛ قوله حين ألحوا عليه في طلب الطلاق أنه «ليس من العدل أن أطلق، نعم لقد يكون من مصلحتي ومصلحة النظام أن أتزوج مرة أخرى، ولكن كيف تريدون أن أترك تلك المرأة - يعني جوزفين - طلبا للعظمة؟! لا لا! إن الأمر فوق طاقتي، وإن ضلوعي لتنطوي على قلب إنسان، وإن أمي ليست نمرة، فلا أريد أن أقذف بزوجتي إلى الشقاء والبؤس.»
وأظهر نابوليون هذا الشعور الشريف وأقام عليه خمس سنوات توالت فيها المؤثرات حتى اقتنع بوجوب الطلاق وقرره في 15 ديسمبر سنة 1809.
ولما صحت عزيمة نابوليون على الطلاق واقتنع بوجوبه، أراد أن يبلغ خبره الأليم إلى جوزفين على يد الكونت لافاليت زوج حفيدتها، فقال له: «أنا لا أؤمل أن أرزق ولدا منها ولم أبلغ من العمر ما يحول دون حصولي على ولد، وإن راحة فرنسا لتقتضي أن أتخذ لي زوجة أخري، فأنت زوج حفيدتها وهي تجلك وتحترمك، فهل لك أن تعد فكرها لقبول الحالة الجديدة التي أوجبتها المقادير؟»
فاعتذر الكونت والتمس من الإمبراطور أن ينيط تلك المهمة بغيره، وبعد التفكير رأى نابوليون أن يتدرج في إبلاغها الخبر الأليم بلسانه، فأخذ أولا يوضح لها الضرورات التي تحيق به، قال كونستان في «مذكراته»: «إن الإمبراطور توسل إلي غرضه بألطف الوسائل، وبالغ في مداراتها ومراعاتها حتى أفضى بها إلى قبول تلك التضحية الأليمة»، ولقد تباينت أقوال الخصوم المتحاملين على نابوليون في شأن هذا الطلاق، فقال بعضهم إن جوزفين خاصمت نابوليون عليه. ولكن الشهود العدول وواضعي المذكرات الخاصة لم يذكروا ما يدل على تفاقم النزاع بينهما في هذا الموضوع. وزعم آخرون أن نابوليون استعمل الشدة والقسوة حتى اضطرها إلى قبول الطلاق. على أن بقاء جوزفين في العاصمة والعلاقة الحسنة التي بقيت بينها وبين نابوليون تنفي هذا الزعم؛ إذ لو نال جوزفين من الإهانة والقسوة ما عزوه إلى نابوليون لابتعدت عن المكان الذي وقعت فيه إهانتها، ولسافرت على الأقل إلى روما حيث كان ابنها أوجين، أو إلى هولاندا حيث كانت بنتها هورتنس، فجل ما يقال أن الاتفاق الذي تم بين نابوليون وجوزفين كان موجعا لقلبها محرجا لصدرها، ولكنه تم أخيرا بالتراضي وبإبقاء جوزفين عزيزة مقيمة في منزل فخم وحاصلة على مودة الإمبراطور لدى الجمهور، ومما يؤيد هذا القول أن جوزفين - نعم جوزفين نفسها - أخذت بعد شهر تهتم هي وابنتها هورتنس بأمر زواج نابوليون، وفاتحت زوجة البرنس دي مترنيخ النمسوي في أمر الأرشيدوقة ابنة إمبرطور النمسا، وليس في هذا النبأ ريب ولا شبه ريب؛ لأنه مثبت في الأوراق الرسمية التي أرسلها مترنيخ من فينا إلى سفير النمسا في باريس، ومما كتبه مترنيخ إلى السفير قوله: «إن الإمبراطورة جوزفين وملكة هولندا - أي ابنة جوزفين - خاطبا مدام مترنيخ مخاطبة صريحة في الأمر، وصاحب الجلالة الإمبراطورية - يعني إمبراطور النمسا - يود أن تبقى المسألة جارية في مجرى غير رسمي، حتى يتمكن من إبلاغ مقاصده إلى الإمبراطور نابوليون بلا تزويق ولا تنميق.»
ولا نخال أحدا يعتقد أن جوزفين كانت مجبرة على القيام بمثل ذاك المسعى، وأن قيامها به لا يدل على التراضي الذي أشرنا إليه، كما يدل على اقتناعها بأن نابوليون لم يطلقها إلا رغبة منه في ولي عهد يرجوه من زواج آخر كما قال كولنكور، وهو سفير فرنسا في بطرسبورج الذي كان يسعى ليعقد زواج نابوليون مع أميرة روسية.
على أن اقتناع جوزفين وموافقتها على الطلاق لم تحل دون اضطرابها الشديد وتشنج أعصابها ساعة أبلغها نابوليون - بعد ذاك الاتفاق - أن توقيع عقد الطلاق الرسمي يتم في 15 ديسمبر سنة 1809؛ قال دي بوسيه الذي حضر ذاك المشهد: «تناول الإمبراطور فنجان القهوة بعد العشاء وأبدى لنا إشارة تفيد أنه يريد البقاء وحده مع الإمبراطورة، فخرجنا ثم سمعنا الإمبراطورة تصرخ صرخات شديدة في الردهة، فظن الحاجب أنها أصيبت بضر وحاول أن يفتح الباب، فمنعته وقلت له: إن الإمبراطور لا يلبث أن يدعونا إذا رأى حاجة، وكنت ساعتئذ عند الباب، فتقدم نابوليون وفتحه بيده وقال لي: «ادخل يا بوسيه وأقفل الباب»، فدخلت فإذا الإمبراطورة منطرحة على السجادة وهي تشكو وتقول: «لا، لا يمكنني أن أعيش بعد هذا»، فقال لي نابوليون: «أعندك قوة تمكنك من نقل الإمبراطورة إلى طبقتها الخاصة من طريق السلم الداخلي لنبذل لها ما تقتضيه حالتها من العناية والاهتمام؟» فحملت الإمبراطورة بمساعدة الإمبراطور بين ذراعي وحمل هو مصباحا وفتح الباب بيده، ولما وصلت إلى أوائل درجات السلم قلت للإمبراطور: «إنها ضيقة، فلا يمكنني أن أنزل بلا خطر من الوقوع»، فدعا الإمبراطور أحد الخدم ودفع إليه المصباح وحمل معي الإمبراطورة من ساقيها بكل عناية ومداراة، وحدث أني خفت تلك الساعة من السقوط، فشددت بيدي على الإمبراطورة، فقالت لي بصوت خفيف: «أنت تضغطني كثيرا ...» فأدركت حينئذ ألا خوف على صحتها وأنها لم تفقد رشدها دقيقة واحدة. ا.ه.»
أما الإمبراطور فقد كان اضطرابه وقلقه عظيمين، وكلماته متقطعة، وعيناه مغرورقتين بالدموع، على أن هذا المشهد لم يبق أكثر من ثماني دقائق، وقد أرسل الإمبراطور يدعو طبيب القصر والملكة هورتنس - ابنة جوزفين - وكامباسريس مستشار الإمبراطورية، ثم ذهب بنفسه ليرى حالتها فوجدها مائلة إلى الهدوء والتجلد، وما جاء يوم 21 ديسمبر حتى عادت جوزفين إلى حالتها المألوفة ورأست ناديها في قصر التويليري، وبعد ثلاثة أيام كانت تحمل الخطاب الذي طلبوا إليها تلاوته أمام الإمبراطور ساعة التوقيع الرسمي، وفي مساء 15 ديسمبر سنة 1809 اجتمع أعضاء الأسرة الإمبراطورية وعظماء الدولة، فوقع نابوليون وجوزفين أمامهم العقد الذي ألغى زواجهما، وروى موليين أن «الدموع كانت ظاهرة في جفون نابوليون.»
الفصل الثالث عشر
زواج نابوليون وماري لويز
عرف القراء أن غرض نابوليون من زواجه الثاني هو حصوله على سلالة إمبراطورية، فكان من الواجب الأول أن تكون زوجته الجديدة من خيرة الأسر المالكة وأعرقها مجدا في أوروبا، وقبل أن يختار الإمبراطورة الجديدة جمع مجلس الوزراء وشاورهم في الأمر، ورغب إليهم أن يختاروا أميرة روسية أو نمسوية أو سكسونية، فأظهر معظم الوزراء ارتياحا إلى تزوجه أميرة روسية، فكتب نابوليون إلى كولنكور سفيره في بطرسبرج يقول: «يلزمك في مفاوضة كهذه أن تظهر كل ما عندك من فطنة واحتراس وبراعة، فلا تجازف بكلمة ولا تبد حركة تدل على خفة، وفكر مليا في الأمر، أنا لا أريد أن أظهر في مظهر من يعرض نفسه، ولا أود أن أسمع رفضا، فأبق كرامتي في مرتبة عالية؛ لأنها كرامة فرنسا نفسها.»
ولما اجتمع مجلس الشيوخ لسماع إعلان الطلاق ألقى أوجين - ابن جوزفين - خطبة قال فيها: «يهمنا لسعادة فرنسا أن يبلغ مؤسس الأسرة الرابعة سن الشيخوخة ولديه سلالة تنزل منه مباشرة؛ لأن فيها ضمانا للجميع ... أما والدتي فحسبها مجدا ما سكبه الإمبراطور من الدموع.»
ولبث نابوليون بعد الطلاق يظهر لجوزفين عطفا وحنوا، وروى موليين أن نابوليون سافر يوم الطلاق إلى تريانون وحده، كأنما هو لم يستطع احتمال الوحدة في تلك الليلة بالتويلري، وبقي ثلاثة أيام لم يقابل فيها الوزراء والكبراء، وقيل إن العواطف لم تتغلب على الأشغال في حياة نابوليون إلا في تلك الأيام الثلاثة. وذكر مينفال أن الإمبراطور كتب ليلة وصوله إلى تريانون كتابا رقيقا إلى جوزفين، ثم زارها فيما بين 15 و19 ديسمبر أي بعد الفراق بثلاثة أيام، وكتب إليها بعد الزيارة: «أيتها الصديقة، رأيتك أضعف مما يجب أن تكوني، ولقد أظهرت شجاعة فيما مضى، وما زال الواجب عليك أن تظهري مساحة من الشجاعة والحول ما يأخذ بيدك، فلا تسترسلي إلى الحزن المشئوم، بل كوني منشرحة الصدر واعتني بصحتك الثمينة، وإذا كنت تحبينني حقيقة يجب عليك أن تتذرعي بالقوة والحزم وتكوني قريرة العين ...»
وبلغ عدد المكاتيب التي أرسلها نابوليون إلى جوزفين خمسة في عشرة أيام، وفي 15 ديسمبر دعاها وابنتها هورتنس إلى تناول العشاء على مائدته، وروت «مدموازيل أرفيللون» أن جوزفين أبدت تلك الليلة من الارتياح والانبساط ما يوهم الناظر أن الإمبراطور والإمبراطورة لم يفترقا.
وبناء على قرار رسمي أبقى نابوليون لجوزفين رتبة إمبراطورة متوجة، وعين لها راتبا قدره مليونا فرنك في العام وجعل دفعه إجباريا على خلفائه، ثم زيد هذا المرتب إلى ثلاثة ملايين فرنك، ما عدا المبالغ الإضافية التي كان يحبوها بها نابوليون. •••
تقدم أن نابوليون أمر سفيره في العاصمة الروسية باستطلاع رأي البلاط الروسي في مسألة زواجه، فلما فاتح القيصر آنس منه ارتياحا إلى مصاهرة أعظم قائد وأكبر إمبراطور ، ولكن القيصر رأى من الحكمة وأصالة الرأي أن يؤخر الجزم في الأمر، وكان رأس الأسباب في هذا التأخير أن والدة القيصر كانت مترددة وناظرة بعين الحذر إلى اقتران ابنتها بإمبراطور الفرنسويين، وقيل إن المسألة الدينية كان لها شأن في ترددها.
وليس بصعب على القارئ أن يدرك بالبداهة ما كان لتردد والدة القيصر من الأثر السيئ في نفس الصنديد العنيد، الذي كانت أوروبا تهتز لخطواته وترقب الدنيا لحظاته ولفتاته، فإن عزيمته صحت بلا إبطاء على ترك السعي في بطرسبرج وعلى تحويل فكره إلى «فينا»، ورأى أن خير الطرق ما ينطبق على قول الشاعر العربي:
ما حك جلدك مثل ظفرك
فتول أنت جميع أمرك
فأخذ يرقب الفرصة حتى عرضت له، وقيل بل هو الذي خلقها ومهد طريقها في مرقص أقيم بمنزل المستشار الإمبراطوري الأكبر، وبينما كانت الخدود تنافس الورود، والحبور يميل بالخصور، تقدم نابوليون نحو مدام مترنيخ وقال لها بلا مقدمة ولا توطئة: «أتظنين أن الأرشيدوقة تقبلني زوجا، وأن أباها الإمبراطور يوافق على الأمر؟»
فدهشت مدام مترنيخ لتلك المفاجأة وأجابت جوابا مبهما لأنها لم تكن تستطيع الجواب الشافي، فقال لها عندئذ نابوليون: «اكتبي إلى زوجك واستطلعي رأيه.» ثم تركها مبهوتة ومدهوشة.
وفي اليوم التالي بدئ بالمفاوضات، وما لبثت أن صارت رسمية بين الفريقين، وأخذت جوزفين نفسها وابنتها هورتنس تشتركان فيها كما قدمنا، وكان في طليعة الأسباب التي أفضت إلى النجاح أن البلاط الإمبراطوري في «فينا» كان شاعرا بما جرى من المفاوضات الأولية في بطرسبرج، فخاف أن تؤدي إلى نتيجة وأن يعقد نابوليون محالفة مع قيصر الروس، فيصبح موقف النمسا حرجا من الوجهة السياسية.
ولما تم الرضى اتفق الإمبراطوران والحكومتان على أن يوفد نابوليون المارشال برتييه إلى «فينا» ويفوض إليه قبول عقد الزواج بالنيابة عنه، فسافر برتييه في 4 مارس سنة 1810 حاملا الهدايا النفيسة الثمينة للعروس، وكانت على رواية البارون بيروس مؤلفة من عقد لا يقل ثمنه عن 900000 فرنك، وقرطين قيمتهما 400000 فرنك، ورسم لنابوليون مرصع بحجارة من الألماس لا يقل ثمنها عن 600000 فرنك، مع أن ثروة العروس كلها لم تكن تتجاوز 500000 فرنك.
وليس من عادة نابوليون أن يسلك سبيل الإسراف، ولكنه نظر إلى الأمر بعين الراغب في تعظيم زواجه والمبالغ في إكرام الإمبراطورة الجديدة أمام العالم.
وفي 11 مارس سنة 1810 أقيمت حفلة الزفاف في «فينا» بين مظاهر العظمة والأبهة، وفي 14 منه برحت الإمبراطورة ماري لويز بلاط أبيها في موكب فخم تحت إمرة البرنس دي نوشاتيل، ورافقتها اثنتا عشرة سيدة من سيدات القصر إلى برونو حيث كانت تنتظرها ملكة نابولي - أخت نابوليون - وأهل البلاط الإمبراطوري الجديد، ولما وصل موكب ماري لويز إلى برونو حل الفرنسويون محل النمسويين في خدمتها.
وقيل إن نابوليون شمخ واعتز يوم الزواج، وشعر بما لم يشعر به يوم إحرازه أعظم فوز. ولا بدع؛ فإن عصاميا يخرج من أصل وضيع، ثم يبلغ ذاك المقام الرفيع ويقترن بابنة بيت من أقدم البيوت المالكة في العالم، لخليق به أن يشعر بتلك العزة والرفعة في مثل ذاك اليوم التاريخي.
على أن العوامل القلبية ما لبثت أن تغلبت على تلك العوامل الفكرية، فعاد نابوليون كما عرفناه؛ أي ذاك الرجل الملتهب شوقا إلى وصال تلك الفتاة الشريفة التي انصرفت عواطفه إليها، والتي تجتاز الفراسخ والأميال قادمة إليه لتضع نضارتها وجمالها بين يديه، وليس يدلنا على قوة ذاك الشعور مثل ما كتبته الملكة كاترينا من باريس إلى أبيها ملك ورتمبورج، قالت في أحد مكاتيبها: «لا يمكنك أن تتصور مبلغ اهتمام الإمبراطور بزوجته المقبلة، وحسبي أن أخبرك بأنه دعا إليه الخياط وأمره بأن يتقن له صنع الملابس، وأخذ من جهة أخرى يتعلم الرقص، أمر لم يكن يخطر ببالك ولا ببالي.»
وكتبت أيضا: «لا يمكنني أيها الأب العزيز أن أخبرك عن مبلغ حب الإمبراطور لزوجته، فإنه متشوق ومتحمس إلى حد لم أكن أتصوره ولا أستطيع وصفه ...»
وكان من هم نابوليون أن يؤتى فتحا جديدا في الحب، كما أوتي في ميادين الحرب، فأخذ يبذل الجهد في استنباط ما يجعل ماري لويز تقتنع بحبه لها وما يجعلها تحبه.
أما كيفية تلاقيهما فقد كان موضوع جدال طويل وبحث ضاف بين نابوليون وسفير النمسا؛ لأن البلاط النمسوي معروف بإصراره على التقاليد الإمبراطورية، ولا يعرف مبلغ التعب الذي يلاقيه واضع مثل ذاك الترتيب إلا من يعرف شدة حرص البيوت المالكة القديمة على تقاليدها، وحسبنا أن نذكر للقارئ هنا أنهم اضطروا إلى مة الكتب القديمة الهاجعة في مكتبة البلاط النمسوي، وإلى درس كل ما يتعلق بالحفلات السالفة، وبعد أن أخذوا منها ما يجب أخذه بدأ السفير النمسوي يباحث الإمبراطور نابوليون ويتفق معه على كل نقطة وكل وجه، وكان من جملة ما تم الاتفاق عليه يوم التلاقي أن يقام سرادقان كبيران أحدهما للإمبراطور، والثاني للإمبراطورة ثم يقام سرداق ثالث بينهما، فيتقدم كل من الإمبراطور والإمبراطورة إليه، ثم تقف الإمبراطورة في مربع وتنحني أمام نابوليون، فيتقدم وينهض بها ثم يقبلها، ويذهب معها إلى مركبة فاخرة ذات ستة مقاعد فيصعدان إليها، ثم تجلس الأميرات معهما. وكل من علم باهتمام نابوليون وسفير النمسا بوضع تلك الخطة لم يبق عنده ريب في أن نابوليون كان عازما على التدقيق في اتباعها كما دقق في وضعها، وأن القبلة الأولى التي كان إمبراطور الفرنسويين ينتظرها من كريمة إمبراطور النمسويين لا تؤخذ إلا بعد شيء من العناء.
على أن طبيعة نابوليون التي عرفناها لم تكن مما يقف أمامها تقاليد ونظامات من ذاك الطراز، فإنه ما علم بسفر عروسه من فيتري إلى سواسون حتى ركب هو وملك نابولي مركبة واحدة وسافر متسترا بلا خدم ولا حاشية، وما وصل إلى كورسيل حتى رأى موكب الإمبراطورة قادما، فصعد إلى مركبتها دون أن يعرفه أحد سوى خادم الشرف فصاح: «الإمبراطور ...»
بيد أن نابوليون كان مشغولا في تلك الساعة بمعانقة ماري لويز، وبعد أن تم هذا المشهد الذي دهش الإمبراطورة، أمر نابوليون بالإسراع نحو كومبيين، فوصل إليها الساعة العاشرة مساء، وما أشد عجب الموكلين بتنفيذ النظام حين مرت المركبة الإمبراطورية مر النسيم أمام المضارب الثلاثة التي كانت معدة لهما ...
وبينما كان الإمبراطور والإمبراطورة وأهل القصر الإمبراطوري يتناولون العشاء في ردهة الملك فرنسوا الأول في كومبيين - وكأني بنابوليون أراد أن يكون تلك الليلة تحت رعاية روح ذاك الملك الذي اشتهر بحب الغواني - أخذت عينا نابوليون تنظران إلى ماري لويز نظرة المتوسل المتضرع، وقال للكاردينال فيش: «أليس بصحيح أننا متزوجان الآن؟» فأجاب الكردينال من غير أن يفكر في نتيجة جوابه: «نعم إنكما متزوجان زواجا مدنيا.» أما ماري لويز فقد أصبح وجهها كالوردة الزاهية عند هذا الكلام، وزاد عجبها لما أظهره نابوليون من قلة الاهتمام بما وضع من الترتيب والنظام، على أنها لم تستطع أن تخالف نابوليون فبقي القصر الذي كان معدا لمنامها تلك الليلة خاليا من ضيفته الكريمة.
أليس هذا التسرع دليلا كافيا على أن طبيعة نابوليون في سنة 1810 هي تلك الطبيعة التي بدت لجوزفين سنة 1789؟
إن نابوليون كما تقدم عقد زواجه لأجل الذرية، وقام في ذهنه على ما قيل أن ماري لويز قدمت نفسها ضحية لسياسة دولتها، فأراد أن يطيب نفسها ويعزي قلبها بكل ما وجد إليه سبيلا، وأخذ يظهر لها ما تحلم به وتؤمله الفتيات العذارى قبل زواجهن، ولما كانت طبيعته على وصفنا لم يلبث أن صار محبا بالمعنى الصحيح، عندما رأى تلك الأميرة السنية لينة العريكة نضيرة الشباب مجردة من الإرادة بين يديه.
ولقد كان المظنون أن حماسة نابوليون تنطفئ بعد حين، فيعود إلى اختيار العلاقات المعتادة بين ذوي التيجان وحليلاتهم، وهي على وجه عام لا تخلو من التحفظ والتكلف في معظم الأسر المالكة، على أن نابوليون لم يكن من تلك الطينة، بل كان يرمي قبل كل شيء إلى تأسيس بيت يسود فيه الحب وتعم الراحة، ولقد ساعدته ماري لويز بما أظهرت من سلاسة المقادة وسهولة الخلق، فكانت عيشتها راضية رغيدة، وليس ما قاله خصوم نابوليون عن «سوء معاملتها» إلا ضربا من الاختلاق قصدوا به أن ينتحلوا لها عذرا عن خيانتها لذاك الرجل العظيم بعد ما أصابه من الفشل في معركة واترلو بسبب تقصير أحد قواده، ولا يدلنا على حالة ماري لويز مع نابوليون مثل الكتب التي بعثت بها إلى اثنتين من أحب الناس إليها وأصدقهم ولاء لها، وهما الكونتس كولوريد والكونتس كرينفيل، وإليك شيئا مما ذكرته لهما بعد وصولها إلى كومبيين بشهر: «إن الله استجاب دعاءكما يوم زواجي، فعسى أن تنالا من السعادة ما أشعر به.»
ثم كتبت في يناير سنة 1811: «لا يسعني أن أتمنى لك شيئا أفضل من السعادة التي أتمتع بها ... يمكنك أن تتصوري أننا لا نعدم ملاهي وملذات في مدينة عظيمة كباريس، ولكن الساعات التي أقضيها مع الإمبراطور هي أحب الأوقات إلي وأطيبها لدي.»
ثم كتبت في مايو سنة 1811: «أرجو أن يصنع ابني - ملك روما - صنيع أبيه، فيسعد كل من يعرفه ويقترب منه ...»
ثم كتبت في 11 يونيو من تلك السنة: «إن حزني لمفارقة نابوليون يكدر صفاء السعادة التي أتمتع بها في عيلتي، فأنا لا أستطيع أن أكون مسرورة سعيدة إلا إذا كنت على مقربة منه ...»
وكتبت بعد أيام: «لا يسعني أن أكون قريرة العين مستريحة البال إلا حين أرى الإمبراطور، فالله أسأل أن يقيك مثل هذا الفراق، فإنه شديد أليم على القلب المحب ...»
وقالت في أكتوبر من السنة نفسها: «إن اليأس ينزل بقلبي إذا مر يوم واحد ولم يرد علي كتاب من الإمبراطور، وكلما وصل منه كتاب شعرت ببعض التعزية ولكن إلى حين ...»
وكتبت في 2 أكتوبر: «لي أمنية واحدة أسأل الله تحقيقها في وقت قريب هي عودة الإمبراطور، فإن وجود ابني نفسه لا يسليني ساعة واحدة عن أبيه ...»
وكتبت في 23 يوليو سنة 1813: «إني مسافرة إلى مايانس لأرى الإمبراطور، وإنه لمن السهل عليك أن تدركي مبلغ فرحي بدون أن أشرحه لك ...»
فأي منصف يطلع على تلك المكاتيب التي أرسلتها ماري لويز في تواريخ متباينة لاثنتين من رفيقات الصبا والصديقات الحميمات، ثم يسعه أن يأخذ أقوال أولئك الخصوم على علاتها؟
إن ماري لويز لو كانت سيئة الطالع متحرجة الصدر متشوقة إلى الخلاص من نابوليون وكانت تحذر مغبة التأفف والطعن عليه، لو كانت في مثل هذا المأزق الأليم لاختارت طريق الصبر الجميل وامتنعت عن المبالغة في شرح الأشواق.
ولما شاع خبر وفاة نابوليون وانتهى إلى مسامع ماري لويز قالت: «إن الإمبراطور نابوليون لم يكن يسيء معاملتي، بل كان على العكس يظهر لي كل إكرام وإعزاز ...» قالت ماري لويز هذا القول الحق بعد أن عشقت الجنرال أدام أدالبير، ذياك الجنرال النمسوي الأعور الذي لم يتفوق بشيء من أعمال الرجال في ميادين القتال، وبعد أن رزقت منه ولدا قبل وفاة بطل أوسترليتز، فلو كان نابوليون شريرا في سلوكه معها كما قيل لما شهدت له تلك الشهادة المأثورة، ولا سيما أن مصلحتها كانت تدعوها إلى قلب الحقيقة لتخفف من شناعة الخيانة التي اقترفتها بعد فشل نابوليون.
وإذا صح أن ماري لويز قالت بعد زواجها الثاني: «إني لم أكن أشعر بحب شديد لنابوليون.» فإن هذا القول لا يكفي لتكذيب الرسائل التي ذكرنا بعض فقراتها، ولا يحمل إلا على محمل واحد هو رغبة ماري لويز في مدارة الجنرال الوضيع الذي اتخذته حبيبا ثم زوجا.
وإذا رجعنا إلى المذكرات التي وضعها الأحباء والأعداء وجدنا فيها دليلا على مبالغة نابوليون في إكرام ماري لويز، قال كونكور - الذي كان سفيرا في بطرسبرج: «إن نابوليون كان يعنى عناية شديدة بزوجته الشابة القليلة الشأن «الإمبراطورة ماري لويز» وكان يشملها بنظرات الحب والسرور ويفاخر بإظهارها لكل إنسان في كل مكان.»
وذكرت قرينة الجنرال دوران كبيرة سيدات الشرف لدى الإمبراطورة أن «الإمبراطور نابوليون قضى الأشهر الثلاثة الأولى لزواجه ملازما للإمبراطورة لا يفارقها ليلا ولا نهارا، وإذا تركها سويعات قليلة فللقيام بأشغال مستعجلة»، وقال شامباني: «إن نابوليون كان أفضل زوج في العالم، وليس في وسع أحد أن يظهر من العناية ورقة المعاملة وكرم النفس أكثر مما أظهره نابوليون ...»
وكان ذلك الرجل الشديد الفخور يتوسل بكل وسيلة ليعرف هل كانت ماري لويز سعيدة حقيقة أو كان لديها ما تشكو منه، وبلغ منه حب الاستطلاع مرة أن قال للبرنس مترنيخ وهو عند ماري لويز: «أريد أن تحدثك الإمبراطورة بحرية تامة، وأن تطلعك على فكرها الخاص في شأن مركزها الجديد ... أنت صديق لها، فالواجب أن لا تخفي عنك شيئا .»
وفي اليوم التالي لقي البرنس وسأله: «ماذا قالت لك الإمبراطورة أمس؟» ثم عاجله قبل أن يجيب بقوله: «قالت لك أنها سعيدة معي وأنها لا تشكو شيئا، فآمل أن تخبر إمبراطورك بذلك ...»
الفصل الرابع عشر
ولادة ملك روما
وليس في وسع قلم أن يصف ما داخل نابوليون من السرور حين علم بعد ثلاثة أشهر لزواجه أن الإمبراطورة تشعر بدلائل الحمل، ولقد طفحت كأس حبوره وابتهاجه حين ولدت له ولدا ذكرا.
فيا لله! ما أعظم ذاك الحلم وما أجمل تحقيقه! إن ذاك الطالب الذي تعلم على نفقة الحكومة وذاك الضابط الذي كان يحرم نفسه من الجلوس في القهوة ليساعد أمه وإخوته، سيكون له سلالة لحكم أعظم إمبراطورية!
ولكن يد الدهر ظهرت كأنها تنازع نابوليون السعادة في تلك الساعة؛ لأن ولادة ابنه كانت صعبة أليمة حتى خاف الدكتور ديبوا «الطبيب المولد» على حياة الأم أو حياة الولد، وسأل حينئذ نابوليون: «بحياة أيهما نضحي إذا قضت الضرورة؟» فأجابه نابوليون بلا تردد: «لا تفكر إلا في الأم.»
فلو كان الطمع الأشعبي يضرب على قلب نابوليون غشاوة كثيفة - كما قال بعض خصومه - لفضل حياة ابنه وولي عهده على حياة ماري لويز، ولكن قلب الزوج تغلب على قلب الإمبراطور في ذاك الموقف الحرج، فوضع حياة زوجته فوق حياة ابنه وفلذة كبده.
ولما ذهب نابوليون إلى غرفة التوليد ورأى عذاب الإمبراطورة أخذ بيدها وصار يشجعها، ولكن ظهور الطفل معترضا اقتضى عملية صعبة، ولشدة التأثر الذي أصاب نابوليون ساعة العملية ترك يد الإمبراطورة ودخل غرفة أخرى ووجهه ممتقع أصفر وفكره حائر مضطرب، ونحو الساعة الثامنة صباحا من 20 مارس سنة 1811 طارت البشرى إلى نابوليون بنجاة الأم، فأسرع يقبلها ويضمها إلى قلبه، ثم التفت إلى الولد فإذا هو جامد لا يبدي حراكا، فألقى عليه نظرة الآسف الكاسف وعاد يهتم بصحة الإمبراطورة، ولكن الطفل ما لبث أن صرخ صرخة اهتز لها قلب أبيه فأسرع إليه وأخذ يقبل خديه وعينيه، وكان جمهور عظيم من الباريسيين مجتمعا في حديقة التويلري ينتظر خبر نجاة الإمبراطورة ، وصدر الأمر بإطلاق واحد وعشرين مدفعا إذا رزق نابوليون بنتا ومائة مدفع إذا رزق ولدا، فما دوى المدفع الثاني والعشرين حتى هتف الجمهور هتافا شق عنان السماء، فوقف نابوليون وراء ستار وأخذ يمتع نظره برؤية ذاك الجمع السكران بخمرة الطرب، وسالت دموع الفرح على خديه وهو لا يدري أن الدهر نوى أن لا يسمح له بعد ذاك اليوم أن يذرف دموع الفرح، وأنه قام يريه مقدمات الزوبعة الهائلة التي قذفت به إلى ما وراء الأوقيانس، حيث لفظ الروح في جزيرة جرداء محروما من رؤية زوجه وابنه ومن السلطة والحرية.
أما تأثير ولادة «ملك روما» في سائر أنحاء أوروبا فقد كان عظيما جدا، وأخذ الشعراء على اختلاف الطبقات يتغنون بوصف ذاك الحادث الخطير ويهنئون نابوليون، فكانت القصائد تنشر بكل لغة حتى اللغة اليونانية واللاتينية.
أما حياة نابوليون في بيته بعد ولادة ابنه فقد زادت رونقا وسناء، قال منيفال في «مذكراته»: «إن نابوليون أصدر أمرا مطلقا بمنع الدخول إلى مكتبه، ورجا من الإمبراطورة نفسها أن تدخل عليه بابنه بدلا من المرضع، وكان ينتظرها عند الباب فيتناول منها ابنه وينهال عليه بالقبلات ... وإذا أراد أن يوقع تلغرافا هاما مما يجب عليه أن يزن كل كلمة من كلماته، وضع ابنه على ركبتيه أو ضمه إلى صدره، وكان يتفق له أن يدع التفكير في الأمور الخطيرة وينطرح على الأرض بجانب ابنه العزيز يعمل ما يسره ويجتنب ما يعاكسه ويلعب معه ...»
وقال كونستان في «مذكراته»: «إن الإمبراطور نابوليون كان يحب ابنه أشد حب، فلا يراه مرة حتى يأخذه بين ذراعيه أو ينهض به من الأرض ثم يعيده إليها، وكان يسر أبلغ سرور حين يراه ضاحكا مبتهجا، وكثيرا ما كان يعاكسه ويقف به أمام مرآة ثم يكشر له ويبدي من الإشارات والحركات ما كان يجعل الطفل يغرب في الضحك حتى يذرف دموع السرور، وإذا جلس لتناول الطعام أجلسه على ركبتيه وغمس أصبعه بالمرق ولطخ به وجهه.»
وكان إذا سافر كتب إلى مربيته مدام مونتسكيو يسألها عنه ويبدي لها ما يخطر له، ولما كان زاحفا إلى روسيا سنة 1912 كتب إليها يقول:
آمل أن تخبريني في وقت قريب بظهور أسنانه الأربع الأخيرة، أما المرضع فقد منحتها كل ما طلبت ...
ولما تلقى رسم ابنه قبيل معركة موسكوفا أظهر ارتياحا كبيرا إلى وصوله وشكر للإمبراطورة إرساله، ثم وقف به عند باب سرادقه، فأخذ يتأمله والجنود تهتف له، ولكن غيمة من القلق ما لبثت أن بدت في سماء فكره، فدفع الرسم إلى سكرتيره قائلا: «اذهب به فإنه يرى ميدان القتال قبل الأوان ...»
فأنت ترى أن قيادة الجيش الأكبر الذي كان تحت إمرته في تلك الحملة التاريخية على روسيا، ومشاغل الخطة الصعبة التي كان يضعها، والمفاوضات السياسية التي كانت جارية، كل ذلك لم يكن يصرف فكره عن ابنه الحبيب وعزيزته «لويز».
ولعل القارئ يقول مسائلا: إن نابوليون كان يهتم بملك روما وماري لويز وهو في شرفة العز والمجد، فكيف صارت حاله عندما بدت دلائل الشؤم إبان تلك الحملة؟
إن حاله مع ابنه وزوجته لم تتغير؛ فقد بقي يفكر فيهما وينتبه لأصغر شئونهما ويعنى براحتهما مع كل المصائب الفادحة التي كانت تدور به من كل صوب، وهاك بعض ما كتبه لكامباسريس المستشار الإمبراطوري الأكبر سنة 1913؛ أي بعد نزول نازلة روسيا على رأسه: «يجب على الوزراء ألا يخبروا الإمبراطورة بما يحدث لها قلقا أو حزنا.»
وكتب إلى مربية ابنه بعد معركة درسد: «يسرني أن ابني ما برح يزداد نموا فيزيدنا آمالا، ولا يسعني إلا إظهار الرضى والارتياح إلى عنايتك به.»
وكان شوق نابوليون إلى رؤية زوجته أيام تلك الحرب الهائلة شديدا حارا، فرغب إليها أن تلاقيه في مدينة مايانس، فسافرت إليها في 26 يوليو من ذاك العام، وذكر كولنكور تلاقيهما فقال: «إن نابوليون حدثني عن هذا التلاقي، فاظهر تحمس الشباب، وبرقت أسرته فلم أعد أرى عليه ما ظهر لي في أوائل الحديث من دلائل الهم والقلق والتأثر.»
ولما خاب أمل نابوليون بالسلام، وعقدت دول أوروبا العظمى تحالفا آخر لمقاتلته بعد الحرب الروسية بقي يهتم بأقل الأشياء المتعلقة بماري لويز، ومما كتبه يوما: «لقد ساءنى أن ترتيب حفلة 15 أغسطس كان مختلا، وأن الإمبراطورة بقيت حينا طويلا وهي تسمع موسيقى تمجها الآذان.»
ولما قامت بعدئذ المعارك الشهيرة المعروفة ب «حرب فرنسا» وظهر نبوغ نابوليون في أعظم مظاهره فقاوم أوروبا كلها بثلاثين ألف رجل، كان نابوليون مع ذاك الموقف الهائل يفكر في عزيزته «لويز» فقد كتب يقول: «نزهوا خاطر الإمبراطورة فهي تذوب كمدا ...»
ثم كتب بعد أن ساء طالعه: «لا تدعوا الإمبراطورة وملك روما يقعان في قبضة العدو، فأنا أفضل أن يذبح ابني على أن يربى في بلاط النمسا كأمير نمسوي، وأظن أن الإمبراطورة على هذا الرأي.»
وكان نابوليون يضع راحته البيتية وكرامته الشخصية فوق كل شيء، بدليل ما كتبه في إبان تلك الحوادث الجلى قال: «إياكم والأقوال التي يؤخذ منها أني أطلب حماية الإمبراطورة أو حماية أبيها، فإنها تكدر صفاء راحتها وتفسد جميل خلقها ...»
وبعد أن استنفذ نابوليون كل مواهبه ومعارفه الحربية في قتال عدو كان أضعاف أضعاف رجاله، وبعد أن خذله جماعة من كبار قواده فاضطر إلى التنازل في مونتبلو، لم يبق له من تعزية إلا التفكير في زوجته وابنه، وعند سفره إلى جزيرة ألب قال لأمينه: «يمكنني أن أعيش سعيدا مع ابني وزوجتي في تلك الجزيرة.» وعلى أثر توديعه للحرس ذاك التوديع المشهور الخالد، كتب إلى ماري لويز يقول: «أيتها الصديقة، إني سأقضي الليل في بريار ثم أسافر غدا إلى سان تروبيز، فآمل أن تساعدك صحتك على الصبر والتجلد وأن تتمكني من المجيء إلي ... أودعك أيتها العزيزة ويمكنك أن تعتمدي دائما على زوجك وشجاعته وسكون جأشه وصداقته لك.»
الفصل الخامس عشر
خيانة ماري لويز
على أنه مضى زمن بعد وصوله إلى تلك الجزيرة ولم يتلق خبرا من ماري لويز فداخله القلق والعجب، ولكن مظنة الخيانة لم تخطر بباله، وفي 20 أغسطس كتب إلى الجنرال برتران يقول: «إني أنتظر وصول الإمبراطورة في شهر سبتمبر.» ثم كتب إلى آخرين وتوسل بجملة من الوسائل ليحمل ماري لويز على مراسلته والحضور إليه فلم يفلح، وكان من جملة تلك الوسائل أنه كتب في أكتوبر من ذاك العام إلى دوق توسكانا خال ماري لويز يسأله أن يكون واسطة في إيصال رسائله إلى ماري لويز.
فيا لله من كيد الزمان! إن الإمبراطور العظيم الذي كانت الملوك والأباطرة تتزلف إليه، والشعوب تهتف له وتحني الرءوس بين يديه، بات يرجو من دوق صغير أن يكون واسطة بينه وبين زوجته!
وبينما كانت عوامل القلق والشوق تتنازع نابوليون إلى ذاك الحد، كانت ماري لويز تظهر قلة الاكتراث لمصابه، وتجتنب كل ما تظنه مخالفا لميل أبيها، وكان من جهة أخرى الجنرال نيبرج الأعور يشاغلها ويحاول القبض على مفتاح قلبها، وقيل إنها أخذت تنقاد إليه منذ 17 يوليو سنة 1814.
وكان الحزن يساور قلب نابوليون كلما طال الزمن على انقطاع المراسلة بينه وبين تلك المرأة التي ظنها حليلة أمينة، وإنه لعلى تلك الحال إذا بالبولونية الحسناء قادمة إلى الجزيرة تحمل إليه حبها وعطفها الصادق فكان سناؤها نورا بين ظلمات الأحزان التي كانت تحيق بالأسد المعتزل، إلا أنها لما تقم أكثر من ثلاثة أيام في الجزيرة، ولم يلبث نابوليون أن عاد إلى ظلمة العزلة.
ولما ترك نابوليون الجزيرة وعاد إلى وطنه على الرغم من خصومه واسترجع سدته العالية، كتب إلى إمبراطور النمسا يطنب في حبه لأسرته، ويلتمس منه أن يسارع إلى إعادة زوجته وابنه إليه.
ولكن فساد قلب تلك الزوجة بلغ حدا قصيا، فباتت لا تعبأ بالألسنة اللاذعة التي تناولت عرضها، وإذا استطلعنا أعماق قلبها بما كتبته إلى أخصائها أيام كان الحلفاء يزحفون على فرنسا والفوز معقود بلوائهم، رأيناها لا تشعر شعور إمبراطورة الفرنسويين، بل تحس إحساس أميرة نمسوية عدوة لفرنسا. قالت في كتاب خاص يوم تقدمت جنود المتحالفين في بلاد فرنسا: «مضى ثمانية عشر يوما ولم يرد على خبر من الجنرال نيبرج، ولم أعرف إلا ما تضمنته النشرة الرسمية من التفصيل، على أني مبتهجة مع الجميع بالأخبار الحسنة التي تتضمنها (كذا).»
فليفكر القارئ في تلك الإمبراطورة التي «ابتهجت بالأخبار الحسنة» أي أخبار تفوق الأعداء بكثرة عددهم وعددهم، على ذاك البطل التي نعمت بنعمائه، وعزت بعزه وحسدتها إمبراطورات الخافقين على مكانتها لديه، ولا نظن أن أهل المروءة يخففون جريمة تلك المرأة بزعم أن الغرام ضرب على قلبها غشاوة منذ أحبت ذاك الجنرال الأعور؛ لأن الحب لا ينفي عاطفة الشفقة والأنفة، وأقل ما يدل عليه تمنيها لكسر نابوليون هو أنها جمعت بين الخيانة والنذالة والخباثة. •••
رأينا أن دور نابوليون بوصفه زوجا وربا لعيلة ابتدأ أيام نصره الباهر في إيطاليا وانتهى يوم كسره القاهر في واترلو، ورأينا أنه تزوج امرأتين وأن الاثنتين خانتاه، ولكن الفرق بين جوزفين وماري لويز أن الأولى خانته بعد زواجه بقليل والثانية كانت تعرف كيف تخفي لؤمها ونذالتها، ومالت إليه حينا من الزمن لفرط اهتمامه بإراحتها وإسعادها، ثم استرسلت إلى سجيتها الطبيعية حين فشل زوجها وأمنت هيبته وسطوته، ثم رأينا أن نابوليون كان مع هذا كله لا يستسهل تصديق ما قيل له عن جوزفين أو ماري لويز، بل كان يحسب مظاهر الخيانة التي بدت من جوزفين خفة مجردة، ويظن أن ماري لويز كانت ضحية أيام غيابه في جزيرة ألب، ويجتنب كل أمر يكدر صفاء راحته البيتية، وما كانت عظمة النجاح وعزة الملك تؤثران في مهمته الزوجية والأبوية، وتصرفانه عن القواعد التي تلقاها في عهد تربيته الأولى.
على أن نكد الدنيا شاء له ألا يستريح في بيته إلا أحيانا متقطعة، وأن يأتيه الحب الصادق من قلب شريفة بولونية كانت محرومة من لذة الحب الصحيح في بيتها.
الفصل السادس عشر
أخلاق نابوليون
اتضح لنا فيما تقدم جانب من أخلاق نابوليون، فرأينا ما كان من حبه لأمه وإخوته، ومن ضعف إرادته وتسامحه وخوفه من الحقيقة أيام حبه لجوزفين، ومن تفانيه في إرضاء ماري لويز لحملها على حبه، كما رأيناه تنزه نفسه عن الضغينة والحقد على أناس من الذين أساءوا إليه قبل صعوده إلى قمة شاهقة من العز والمجد، ونحن ناظرون في الجانب الآخر من تلك الأخلاق.
قال كثيرون من المتحاملين على نابوليون وفي جملتهم الكاتب العالم تين: «إن نابوليون كان خشن الطبع فظ الخلق، لم يذق المقربون إليه شيئا من حلاوة اللسان وطيب المعاشرة»، وقال أليزون في تاريخ أوروبا: «إنه لما أبلغ اللورد ويتورث سفير إنكلترا نابوليون أن حكومته تعد معاهدة أميان باطلة، غضب غضبا شديدا وخرج عن صوابه إلى حد أن رفع يده ليضرب السفير.» ثم تناول الناس هذا الخبر دليلا على شراسة نابوليون، وتلقفه الخلف عن السلف من المؤرخين، وبعد تسعين سنة خطر للمستر أوسكار برونن أن يراجع مستندات الحكومة البريطانية وينظر في قيمة تلك التهمة، فانتهى به البحث والتدقيق إلى تقرير الحقيقة الآتية وهي أن «ما قيل عار عن الصحة ... وأن تلغرافات السفير الإنكليزي نفسه تدل على بطلانه.» فسقط من ذلك الحين كل ما بناه خصوم نابوليون من المطاعن والمثالب على ذاك الخبر الملفق.
أجل إن نابوليون كان مثل الذين كثرت شواغلهم وهمومهم ينفر من الإبطاء المضر والتثاقل المبرم في بعض الأوقات، ولكن بين قلة الجلد في بعض المواقف وشراسة الطبع التي تحول دون كل معاشرة شقة واسعة من الفرق.
وليس هناك ريب في أن شراسة الطبع بالمعنى الصحيح تحول دون الخلق الكريم والوداد المقيم وتنكص بالمرء عن احترام النواميس الاجتماعية، والواقع أن معاملة نابوليون لأمه وإخوته حتى كان يحرم نفسه من الجلوس في القهوة ليتمكن من إعانتهم، ثم احتفاظه بصداقة الذين عرفهم في عهد الصبا مثل بوريين وجونو ومارمون وغيرهم من الذين عينهم في وظائف مختلفة ونهض بهم في مدارج الرقي، كل ذلك يبطل ما زعمه الخصوم.
وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى وزرائه وجدنا مدة أكثرهم أطول من مدة الوزراء الذين استوزرهم أي ملك أو إمبراطور آخر، ولقد دلنا التاريخ على أن معظمهم كانوا من الأكفاء وليسوا من الذين فنيت عزة نفوسهم وألفوا اللطم كما زعم بعض الكتاب.
ولو كان نابوليون متصفا بطبع وحشي كما زعم خصومه، ومشهورا بمثل هذا العيب الفاضح لما رضي إمبراطور النمسا أن يزف إليه ابنته، فإن الغرض السياسي الذي كان يرمي إليه الإمبراطور فرنسوا لم يكن وحده كافيا للتضحية بابنته. وما كان العيب الأكبر الذي رمي به هذا الإمبراطور التجرد من العواطف البشرية والوالدية، بل كان الضعف السياسي الذي جعله آلة بين يدي وزيره مترنيخ، ومهما يكن من أمر ضعفه فهو لا يذهب بالحنان الأبوي، وزد على هذا كله أن الرسائل التي بعثت بها ابنته ماري لويز - وذكرنا بعض فقراتها فيما تقدم - تكفي للدلالة على أنها كانت بين يدي إنسان لا بين مخالب حيوان.
وكان نابوليون يعد الحسنات من الأعمال الخالدة كالانتصارات، بدليل ما قاله عن الملوك وذوي التيجان الذين سموه مغتصبا بعد اعتزاله في جزيرة ألب: «إن هؤلاء الملوك يلقبونني اليوم بالمغتصب بعد أن أرسلوا إلي السفراء الرسميين مع الإجلال والاحترام، وبعد أن وضعوا في سريري ابنة منهم، وبعد أن دعوني أخا لهم، فهم أرادوا أن يبصقوا علي فبصقوا على وجوههم وحقروا «جلالتهم»، ألا ما هي قيمة لقب «إمبراطور»؟ إنه إذا لم يكن لي غير هذا اللقب لدى الذرية لهزأت بي، ولكن لي النظامات التي وضعتها والحسنات التي صنعتها، والمعاهد التي شيدتها، والانتصارات التي أحرزتها، تلك هي ألقاب المجد.»
وإذا رجعنا إلى أقوال المعاصرين له وجدنا براهين دامغة على تحامل خصومه؛ قال شاتوبريان: «غشيني بونابارت بمظهر بسيط ثم أخذ بلا توطئة ولا أسئلة عقيمة يحدثني عن مصر والعرب كأنني صديق حميم، وكأنما حديثنا كان تتمة لحديث سابق.»
وقال كوتزبو في «مذكرات باريس»: «إن نابوليون كان يبتسم لمحدثيه ابتسامة لطيفة تجعل ثغره مستحبا جدا وتبعث الثقة في نفس السامع، فقد اقترب مني يوما بمنتهى اللطف وأخذ يحدثني عن مسارح التمثيل بلا تكلف، وهو يفضل من الروايات المأساة «التراجيديا» ... ثم ختم حديثه بأن جميع أنواع الروايات حسنة مقبولة بشرط أن لا تورث الملل.»
وقال لومبار الذي كان مستشارا خاصا لملك بروسيا سنة 1803: «إن الأجانب مخطئون بقولهم أن طبع نابوليون شديد فظ وأنه متسرع في أحكامه، فالواقع أنه يبدو هادئا ساكن الجأش عند المناقشة ويعير محدثيه أذنا صاغية ونفسا واعية كأنه يريد أن يتعلم منهم، ولا يسؤه أن يسمع معارضة.»
وكتب أجنبي آخر وهو المسيو جان دي مولر: «إني كنت أعارض نابوليون فيعمد إلى مناقشتي، وأرى من الواجب علي أن أقول بكل إخلاص وبلا تحزب كما لو قمت أشهد لدى الله تعالى: إن أسلوب حديثه كان يملأ نفسي إعجابا به وحبا له، وإن ذاك اليوم الذي قابلت فيه نابوليون كان أفضل أيام حياتي، فقد تملكني بنبوغه وطيبة نفسه.»
وكان من أخلاق نابوليون ما ذكره المسيو دي سيجو الذي عاش على مقربة منه وعرف كنه حياته، قال: «إنه كان يصنع الخير مع الأفراد الذين أخنى عليهم الدهر، ويظهر اللطف والرقة، ويتبع سبيل الاقتصاد والبساطة في بيته، ولا يحرم الذين كانوا حوله من وده وحبه.»
وقال الجنرال راب: «إني لم أر أحدا أرق شعورا وأثبت على الحب والوداد من نابوليون.»
وإذا أراد القارئ شهادات أخرى من هذا الطراز، فليراجع كتاب الموسيو أرتور ليفي الذي أشرنا إليه في المقدمة.
فحسبنا ما تقدم من شهادات الفرنسويين والأجانب لتظهر أن الذين أسعدهم الحظ بمعاشرة نابوليون، أو الاقتراب منه، أو التناقش معه، لم يكونوا يرون أمامهم وحشا من ضواري الحيوان في صورة إنسان كما زعم الذين أعماهم الحقد والعدوان.
الفصل السابع عشر
نابوليون وجنوده
وكان نابوليون شديد الانتباه إلى أصاغر جنوده لاعتقاده أن الجندي الصغير قد يكون ذا قلب كبير، وأن حسن المعاملة مدعاة لزيادة الإخلاص، قال دوق فيسانس: «إن تلك الشوارب القديمة - يعني رجال الحرس - لم يكونوا يجسرون على مخاطبة أصغر ملازم في الجيش بمثل ما كانوا يخاطبون ذاك القائد الأكبر الذي كانت هيبته تملأ نفس الجيش كله.»
وقال دون باساتو: «إني رأيت الإمبراطور مائة مرة ينتقل ليلا من معسكر إلى آخر، ويقف هنا وهناك لدى النيران ويسأل عما يغلي في القدر ثم يقهقه من الأجوبة المضحكة التي كان يسمعها من الجنود.»
وقال القومندان كلود برجيه في «تاريخه»: «يا لله! ما أعرف نابوليون بالجندي الفرنسوي، وما أقدره في مخاطبته والضرب على أشد الأوتار تأثرا في قلبه - أعني وتر الشرف - ولقد وصف نابوليون نفسه الجندي الفرنسي في صفحة جميلة قال فيها: إن الجندي الفرنسوي رجل مفكر قاسي الحكم فيما يتعلق بشجاعة ضباطه ومواهب رؤسائه، وهو يجادل رفيقه في شأن الخطط والأساليب الحربية، ويستطيع القيام بأي عمل من الأعمال إذا كان لرؤسائه حرمة في نفسه، وإذا كان هو يستحسن مجرى الأحوال الحربية، أما إذا كان الأمر على العكس فلا يمكن الاعتماد على الفوز، وابن فرنسا هو الجندي الوحيد بين جنود أوروبا الذي يستطيع القتال ويقوم بجليل الأعمال وهو ضامر البطن مطوي الأحشاء على الطوى، ومهما طال زمن المعركة، فإنه ينسى الأكل في سبيل الفوز، حتى إذا انتهى القتال صارت مطالبه أكثر من مطالب غيره، والجندي الصغير من الفرنسويين أشد اهتماما بإحراز النصر من ضابط بروسي وهو يدعي أن الفضل الأكبر في كل نصر يرجع إلى فيلقه، وجملة القول أن جنود الأمم الأخرى تصبر يوم الوغى بحكم الواجب، والجندي الفرنسوي يحارب إجابة لصوت الشرف، فإذا أصابه فشل شعر بأن نفسه ذليلة، وإذا فشلت الجنود الأخرى عادت غير مكترثة.»
وربما كان رأس الأمور التي حملت نابوليون على تسمية الوسام الذي أحدثه ب «وسام جوقة الشرف» ما كان يعرفه من رسوخ ذاك الشعور في نفس الفرنسوي. وإذا رجعت إلى الأوامر العسكرية وخطب التحريض التي كان يلقيها عليهم أبصرته يحاول فيها كلها أو جلها أن يظهر للجندي ما يحرزه من الشرف والفخر هو وآله إذا عاد وإكليل النصر يزين جبينه، ولقد كان الأعداء أنفسهم يعرفون أن قوة الجندي الفرنسوي إنما هي بعواطفه وشواعره لا بقوة ساعديه وعرض كتفيه. قال أحد القواد البروسيين بعد معركة يانا: «لو كان علينا أن نقاتل الفرنسويين بسواعدنا فقط لأدركنا النصر في وقت قريب؛ لأن الجندي الفرنسوي صغير ضئيل، يستطيع ألماني واحد أن يتغلب على أربعة مثله، ولكن هؤلاء الجنود الصغار ينقلبون إلى طبقة فوق طبقة البشر تحت النيران، ويندفعون بنخوة لا نستطيع إيضاحها ولا نرى لها مثيلا في جنودنا.» ولا شك في أن هذا الإقرار من ضابط بروسي كان من أجمل الشهادات التي تسطر للجنود الفرنسوية.
وكان نابوليون لا يكتفي بإظهار الاحترام والميل إليهم من أجل تلك الفضيلة، بل كان يحبهم حبا صادقا، قال المؤرخ الذي ننقل عنه: «إن جنوده كانوا أولادا له بالمعنى الصحيح يشرف على أمورهم ويسهر عليهم كما يسهر الأب على بنيه، ويحضر توزيع المآكل عليهم ويتناول الحساء «الشوربا» معهم.»
وكان نابوليون يضع اللين في محله والقسوة في موضعها، فيعفو عن الجندي المذنب إذا رأى وجها لعذره أو ما يخفف ذنبه، ولا يتسامح إذا وجد التسامح مضرا بالمصلحة الحيوية، وإليك حكاية تدلك على شيء من خلقه: حدث أيام معارك بروسيا أن الجنود الفرنسوية ضربت مضاربها لتستريح بعد السهر المضني ثلاث ليال متوالية، ولما جاءت العتمة خرج نابوليون يتفقد أحوال الحراس في أطراف المعسكر جريا على عادته في كثير من الأحيان ولا سيما في الأوقات العصيبة، فاتفق أنه رأى حارسا برح به الوصب وتسلط عليه النوم بعد السهر الطويل، فهوى إلى الأرض ونام تاركا بندقيته إلى جانبه، فأراد نابوليون أن يوقظه، ولكنه أبصر في تلك الدقيقة طوافة من الضباط قادمة نحوه، فأخذ بندقية الحارس النائم ووقف مكانه حتى لا يدع الضباط يبصرون به ويعاقبونه، ولما طلبت الطوافة سر الليل أجابها نابوليون فسارت في طريقها لإتمام التفتيش، وفي تلك الأثناء استيقظ الحارس النائم فوجد بندقيته بيد رجل غيره، فأسرع نحوه فإذا هو قائده ومولاه، ولكن نابوليون سرى عنه قائلا: «لا تخف»، ثم سأله: «كم مضى عليك من الزمن بلا نوم؟» فقال: «ثلاثة أيام، ومع ذلك فإني ما كنت لأنام لولا ما أصابني من الجروح»، ثم أبصر نابوليون أن الجندي كان مصابا بجرحين، فأعجب به ومنحه وساما، ثم قال وهو يبتعد عن ذاك البطل: «لا ريب أني أستطيع فتح العالم بهؤلاء الرجال ...»
وكان نابوليون يعرف وجه الضعف في رجاله فيأخذهم به، ويضرب على الوتر الحساس من أوتار قلوبهم، فمن شأنه المعروف أنه كان مع شدته في المحافظة على النظام العسكري يسمح لرجال الحرس القدماء الذين حضروا المعارك وأبلوا البلاء الحسن بأن يخاطبوه بصيغة المخاطب المفرد بعكس ما يقضي به أدب الحديث في اللغة الفرنسوية، ولا سيما إذا كان المخاطب كبيرا والمخاطب صغيرا، فإن استعمال صيغة الجمع في الكلام واجب لا يصح إغفاله، على أن نابوليون كان يعلم أن عادة أولئك الأبطال التي تدل على انتفاء الكلفة صارت إليهم من روح الجمهورية وأنها تنطوي على همة واحترام يسهل في سبيلها بذل المهج الغالية.
وكان نابوليون قبيل عرض الجنود يدعو الكولونل ويسأله عن أسماء الذين امتازوا في المعارك الماضية ويطلب بعض أخبار عن أهله، ثم يمر وقت العرض بأولئك الجنود الممتازين، فيذكر لكل منهم اسم المعركة التي امتاز فيها والمكافأة التي أخذها ويسأله عن أمه العجوز إن كانت حية أو عن غيرها من آله الأقربين، فيطير الجندي منهم فرحا وطربا حين يرى قائده الأعظم يتذكر خدمته ويعنى بأمره، ثم يصبح نابوليون حديث النهار وسمر الليل بين الجنود كلهم، فيأخذ كل منهم يحكي حكاية عن ذاكرته العجيبة ومعظم تلك الحكايات من بنات المخيلات.
وكان من أكبر العوامل في تفاني الجنود أن كل واحد منهم بات يحسب نابوليون منصفا للشجعان وذوي الكفاءة الحربية، وكان كبار القواد أقوى البراهين الحية لديهم على صحة ذاك الاعتقاد، فإنهم خرجوا من قلب الجيش، وبعضهم استوى على العروش مثل المارشال مورات الذي عين ملكا لنابولي، وبرنادوت الذي استوى على سدة أسوج، ومعظم الجنود كانوا يرون الرقي إلى أحد العروش رتبة عالية من الرتب التي كان نابوليون يمنحها لرجاله، فيقولون مثلا: «فلان صار ملكا.» كما يقولون: «فلان رقي إلى رتبة كولونل.» مع مراعاة النسبة بين الرتبتين.
وهناك أمر آخر كان نابوليون يعنى به عناية خاصة، وهو تعزيز ما يسمونة «روح الفيلق» في الجيش، ومعناه بعبارة أخرى أن يفرغ القائد جهده في زيادة التنافس الشريف بين فيالق جيشه، فتتسابق في مضمار الشجاعة والبأس، ولقد نجح نابوليون نجاحا باهرا في هذا السبيل حتى صار كل فيلق من فيالقه، بل كل ألاي من ألاياته، يعد نفسه في مقدمة الجيش، ومما يذكر عن سمو الأساليب التي كان يتبعها نابوليون لبلوغ المرام أنه كان إذا رأى التعب والجوع والبرد تنهك تلك الجنود الفولاذية كما كانوا يلقبونها، نزل هو وسار مع الجنود، فأخذ كل واحد من هؤلاء يقول: «الإمبراطور ... الإمبراطور»، وتغيرت مشية الفيلق كله كأنما تيار كهربائي سرى إليه من أوله إلى آخره.
هكذا كان نابوليون، وهكذا كانت جنوده، وكل فريق منهم خليق بالآخر.
الفصل الثامن عشر
نابوليون وقواده
كان نابوليون ينظر إلى الجيش كما ينظر الصانع العالم إلى آلة عظيمة يقتضي تركيبها تدقيقا شديدا وفكرا سديدا، ولذلك كان يفكر في كل ما قل وجل من أموره، حتى انتقاء الخيل وشراء المئونة اللازمة لها كما تدلنا رسائله المدهشة، وليس بنا حاجة إلى القول أن اختيار قواده كان له الشأن الأكبر؛ لأنهم القطع الرئيسية التي تتركب منها تلك الآلة العظيمة.
ولم يكن في وسع نابوليون منذ مائة وعشرين سنة أن يختار قواده من الضباط الذين قضوا سنوات عديدة في درس القواعد العسكرية؛ لأن التعليم العسكري لم يكن شيئا مذكورا في ذاك الوقت، والفضل في كثير من القواعد الحربية الباقية حتى اليوم يرجع إلى نابوليون نفسه، وما كانت عظمة هذا البطل الذي لم تحط مثله أصلاب البشر قائمة ببسالته وانتصاراته فقط، بل كانت تقوم بها وبنظاماته ومبتكراته وعبقريته العجيبة الشاملة، وعليه فإن نابوليون لم يكن له مندوحة - وتلك حالة التعليم العسكري في زمانه - من أخذ أولئك القواد الذين خلد التاريخ ذكرهم من صميم جيشه، أي أفراد الشعب الذين قاتلوا في سبيل الدفاع عن حريتهم وحرية وطنهم وصدوا دول أوروبا التي هبت لإذلالهم. وكان نابوليون قوي الفراسة صادق النظر في الرجال، فاستطاع أن يقدر قدر كل واحد من الذين خدموا تحت إمرته، وعرف نوع الخدمة التي كان يمكنه أن يتفوق فيها، مثلا أنه رأى مورات فأدرك أنه خير رجل يقود كوكبات الفرسان ويقدم لها المثل الأعلى بنخوته وحميته وشجاعته، وقرأ على جبين ناي أنه الرجل الذي يطير إلى الحمام في صدر المشاة، وما أخطأ ظنه، فإن ناي كان يسحر رجاله بالقدوة الجميلة وهو الذي أخذ بندقية في معركة واترلو وصاح: «تعالوا انظروا كيف يموت مارشال من مارشالية فرنسا ...» وهو الذي قال فيه نابوليون: «ما هذا رجل، إن هو إلا أسد من الأسود.»
وليس لدينا مجال كاف لنذكر ما أبداه كل قائد من القواد العظام، فحسبنا أن نذكر مع مورات وناي بسيير وسول ولان وسوشيه وبرتييه ودافو وجوفيون سان سير وأوجيرو وجونو وماكدونالد ومسينا ولازال وكولنكور، فهؤلاء وعدة من الأبطال كانوا أسودا لا تقهر، ولكن نابوليون كان يخضعهم بنظرة وهو في ذروة مجده الحربي.
وذكر نابوليون خطة سلوكه مع قواده قال: «كنت أحر الرأس البارد وأبرد الرأس الحار»، أو بعبارة أخرى أنه كان يكسر من حدة الحديد ويثيرها حماسة البليد مراعاة لمقتضى الحال، وهي خطة بسيطة في ذاتها، ولكن تنفيذها مع قواد نابوليون كان يقتضي عقلا كعقل نابوليون.
وكان من مزايا الرجل أن يزن حسنات كل قائد، فإذا رجحت سيئاته حاول أن يصلحه بحذق وبراعة. فمن الحوادث المعدودة من هذا الطراز أنه شرع يوما في تعنيف ضابط في رتبة كولونل؛ لأن جنوده أضروا بمصالح إحدى الدساكر، فشق على الضابط أن يسمع الكلام المر من قائده وأراد أن يتنصل، فقال له نابوليون همسا: «أنا صدقتك فاسكت»، وفي اليوم التالي دعا نابوليون الكولونل وقال له: «كن مستريح الفكر؛ فقد كنت أعنف في شخصك بعض الجنرالية الذين كانوا بجانبك، ولو وجهت إليهم التعنيف مباشرة لأوقفتهم في موقف يستحقون فيه التحقير أو ما هو أبلغ منه ...»
وإذا اتفق أنه جرح في حديثه قائدا كبيرا، حاول بعد الحديث أن يضمد جرحه، فمن ذلك أنه انتقد انتقادا شديدا على الجنرال مارمون بعض الأعمال الحربية في معركة واجرام، فسخط مارمون من هذا الكلام وعاد إلى منزله كسير القلب شديد الكرب، فما وصل حتى جاءه رسول إمبراطوري يحمل إليه البشرى بترقيته إلى رتبة مارشال.
ولما أخذ العدو بلدة مونترو سنة 1814 رأى نابوليون أن تأخر المارشال فيكتور كان السبب في ضياعها وأصدر إليه إذنا في ترك الجيش ، ومعلوم أن هذا الإذن لم يكن له من معنى إلا سخط الإمبراطور عليه، فجاء المارشال فيكتور وعيناه مغرورقتان بالدموع، فقابله نابوليون وهو يتميز من الغيظ وعيره بالخطأ الذي ارتكبه واستحق من أجله الإبعاد عن الجيش، فلم يتمالك المارشال أن رفع صوته وأكد إخلاصه وذكر خدماته في إيطاليا، فسكن غضب نابوليون لذكر تلك الخدمات ثم صافحه قائلا: «لا بأس، ابق في الجيش يا فيكتور، ولكني لا أستطيع أن أعيد إليك فيلقك بعد أن عقدت لواءه لجيرار، وإنما يمكنني أن أوليك قيادة فرقتين من الحرس، فاذهب واستلم قيادتهما ولا تذكر بعد اليوم شيئا مما جرى.»
ولو شئنا أن نذكر ما لدينا من هذا الطراز لاستغرق مجالا واسعا وتجاوز بنا الغاية المقصودة في هذا الكتاب، فحسبنا أن نقول - ومذكرات مارمون (الذي خان نابوليون في أواخر عهده) خير شاهد - إن نابوليون كان في معظم الأوقات يجرح باليمين ويداوي بالشمال. ومما قاله الخصوم في تفسير هذا السلوك الحميد: «إن مصلحته الخاصة وقلة الرجال الأكفاء حملتا نابوليون على مداراة رجاله»، وهو تفسير لا يذهب بفضل نابوليون ولا يحط في قدر سلوكه، بل هو يدل على حسن سياسته وأصالة رأيه، وليس بمنكر على الرجل أن يفعل الخير ويحسن الصنع؛ لأنه يتفق مع مصلحته أو لأن مصلحته كانت تدفعه إليه، فإنما الأمور بنتائجها لا بأسبابها، وكل من يقبح مثل هذا المنهج يكون مثله مثل من يطعن على رجل ينقذ آخر من الغرق؛ لأنه أراد الحصول على وسام الإنقاذ أو مكافأة أخرى.
وإذا طالعنا المذكرات الخاصة وجدنا فيها ما يدل على شدة حبه لقواده، قال كونستان بعد النصر الباهر الذي أحرزه نابوليون في مارنجو أنه «مع النصر الفاصل الذي أوتيه القنصل الأكبر - أي نابوليون - كنت أرى الحزن يملأ نفسه وأسمعه يردد أن فرنسا فقدت بفقد دسكيس فتى من خيرة أبنائها، وفقدت أنا صديقا من أفضل الأصدقاء.»
ولما استوى نابوليون على العرش الإمبراطوري لم يتغير شيء من عواطفه نحو قواده، بل لبث يسمح للمارشال «لان» بأن يخاطبه بصيغة المفرد، وما بلغ نابوليون خبر إصابته بجرح مميت حتى تولاه حزن عظيم وأخذ يزوره صباحا ومساءا، واتفق أنه وصل في عيادته الأخيرة بعد أن لفظ المارشال روحه الطيبة، فتقدم نابوليون وقبله وبكى، ثم أخذ يقول: «يا لخسارة فرنسا! يا لخسارتي!» ولما حاول برتييه أن يذهب به ويكفيه مئونة ذاك المنظر الأليم قاومه نابوليون نحوا من ساعة.
وفي اليوم التالي كتب نابوليون إلى أرملته يقول: «أيتها النسيبة، مات المارشال على أثر الجروح التي أصابته في ساحة الشرف، فخلف لي من الحزن ما يضارع حزنك، ولا غرو فإني فقدت بفقده أفضل قائد للجيش، وخير رفيق وصديق لزمني منذ ست عشرة سنة، إن أسرته وأولاده لهم كل حق في طلب حمايتي ورعايتي.»
ثم كتب إلى الإمبراطورة: «إذا أمكنك أن تساعدي في تعزية أرملة المارشال فافعلي ...»
وروت دوقة أربانتيز أنه لما فقد جونو أمه كتب إليه الإمبراطور نابوليون كتابا لطيفا خاطبه فيه بلهجة كالتي كان يخاطبه بها أيام معركة طولون أو أيام حرب إيطاليا، وهي لهجة الصداقة والألفة الخالية من كل كلفة.
ولما أصيب ديروك بقنبلة عند درسد ذهب إليه الإمبراطور نابوليون وضمه إلى قلبه مرارا، ثم عاد خائر القوى لفرط الأسى وهو يقول: «يا للهول، يا للهول! أيها العزيز ديروك ... ما أعظم خسارتي فيك!» وكانت دموعه تسيل على خديه وتسقط على ملابسه.
ثم أمر الإمبراطور بشراء أرض وبإقامة تمثال لذاك القائد العظيم وبكتابة العبارة الآتية تحت التمثال: «هنا الجنرال ديروك دوق فريول وأحد مارشالية نابوليون العظام، أصابته قنبلة فمات موتا مجيدا بين ذراعي الإمبراطور.»
وما اكتفى نابوليون بإكرام هذا الفقيد، بل صرف عناية كبيرة إلى عيلة ديروك ومنح أرملته وابنته دوقية فريول، وكان ريعها وقتئذ لا يقل عن مائتي ألف فرنك في العام. •••
على أن هذا الشعور الجميل الذي كان بيديه نابوليون في مثل تلك الأحوال لم يكن يحول دون استقلال فكره وإرادته، فقد كان عند الضرورة شديدا قاسيا، وثبت أنه كان في إيطاليا ومصر حين كان جنرالا كبير المطامع، أشد وأقسى في معاملة القواد والجنود مما كان عليه بعد استوائه على السدة الإمبراطورية، واستلامه مقاليد الحكم المطلق واتساع شهرته وسطوته في العالمين. قال خصوم نابوليون أنفسهم في مذكراتهم: «إن هذا الجنرال الصغير كان يخيف قوادا مثل أوجيرو وماسينا وغيرهما سنة 1796، ولما جاءه الجنرال ديينوا سنة 1797 بقصد التملق والتزلف قال له نابوليون: عرفتك لما كنت قائدا في لومبارديا وعرفت أنك قليل النزاهة عاشق للمال، على أني كنت أجهل أنك جبان، فاخرج من الجيش ولا تظهر أمامي مرة أخرى.»
وكتب نابوليون إلى برتييه يقول: «اكتب إلى الجنرال جاردان أن شكاوى عديدة انتهت إلي من إحراجه لأهل البلاد وأن الواجب عليه أن يسلك سلوكا يتفق مع كرامة الجيش، فلا يسمعني بعد اليوم شكوى واحدة من تصرفه.»
وكتب إلى الأميرال تروجيه: «لا يسعني إلا الاستياء من الأسطول الذي تحت إمرتك، وأنا يحق لي أن أنتظر محاسن الأفعال بدلا من المواعيد والأقوال.»
وكان نابوليون لا يحابي الوزراء ولا الكبراء حتى في سنة 1814؛ أي بعد أن مال نجمه إلى الأفول، وهذا يدلنا على صحة ما قاله أحد المؤرخين وهو أن نابوليون لم يكن ذئبا ولا خروفا ...
الفصل التاسع عشر
نابوليون وأهوال الحرب
يحق للقارئ أن يسأل هنا: إذا كان نابوليون رقيق الشعور طيب القلب، فلماذا جدد معامع الحروب العديدة ولم يفرغ جهده في سبيل تعزيز السلم بين فرنسا وسائر الدول؟
إن الجواب الوافي على هذا السؤال يقتضي تفصيل ما جرى من المفاوضات في عهد نابوليون، فحسبنا أن نقول بشهادة المجموعات الرسمية أن نابوليون نوى يوما نية صادقة أن يسالم النمسا، ونوى مرة أخرى أن يسالم روسيا، ومرة ثالثة أن يصالح إنكلترا، ولكن الوزير الإنكليزي ويليام بت والوزير النمسوي مترنيخ كانا يضمران عداوة راسخة كالرواسي لنابوليون، وأقنعا الحكومات الأوروبية بأن العالم لا يستريح ما دام نابوليون جالسا على عرش فرنسا، ولما عظمت ديون إنكلترا لكثرة ما أرسلته من الأموال إلى النمسا وروسيا لتساعدهما على قتال نابوليون، مالت حكومتها إلى الصلح، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى سياسة الوزير ويليام بت، وجددت التحالف على نابوليون.
وإذا أراد القارئ برهانا على حقيقة شعور نابوليون وهو بين أهوال الحروب، فليطالع ما كتبه بعد معركة أوسترليتز الشهيرة في نشرة الجيش الأعظم «لقب لجيشه» قال: «إني لم أر ساحة من ساحات القتال أشد هولا وفظاعة من أوسترليتز، فنحن نسمع من وسط البحيرات الواسعة صراخ ألوف من الرجال ولا نستطيع مساعدتهم ... آه إن قلبي يقطر دما!»
وكتب إلى الإمبراطورة بعد معركة إيلو: «إن الأرض مملوءة بالقتلى والجرحى، وإني أتألم وأشعر بانقباض في صدري لرؤية تلك الضحايا.»
وروى دوق روفيجو أن «الإمبراطور نابوليون امتطى جواده بعد معركة وجرام وأخذ يتفقد ساحة القتال جريا على عادته، وكانت سنابل القمح عالية جدا، فلم يكن في وسع الباحثين عن الجرحى أن يروا الجندي الطريح، فأخذ كثيرون من الجرحى المساكين يربطون مناديلهم برءوس البنادق ليدلوا الباحثين على مواضعهم، وكان الإمبراطور يذهب بنفسه إلى حيث كانت المناديل ويحادث الجرحى ويطيب نفوسهم، ولم يعد من ساحة القتال إلا بعد أن نقلوا آخر جريح.»
وقال ولتر سكوت، وهو من أعداء نابوليون أنه - يعني نابوليون - «كان يمر في ساحة الحرب ويظهر شعورا رقيقا وعطفا شديدا عند رؤيته للجرحى، وما كان هذا بالأمر الغريب؛ لأن نابوليون لم يكن يستطيع النظر إلى إنسان يتألم بدون أن يظهر عطفا عليه.»
فنابوليون إذن كان ينظر إلى أهوال الحروب بالعين التي ينظر بها كل قائد يشعر ويتألم، ولكن عقله لم يكن تحت سلطان قلبه، والعوامل المتباينة كانت تدفعه إلى معامع الحروب، ولولا خوف أوروبا منه لتمكن في أواخر عهده من البقاء مخلدا إلى السكون، وليس يدلنا على رغبته في الهدوء بعد أن اتسع سلطانه وشبع من ثمار المجد الطيبة التي جناها في الشرق والغرب مثل الرسائل التي كتبها وأشرنا إلى بعضها.
الفصل العشرون
تأييد نابوليون للعلوم والفنون
لما كان نابوليون من ذوي العقول الراجحة والقلوب السامية، حق عليه أن يؤيد كل شريف وعظيم، وأي شيء أعظم وأشرف من العلوم والفنون؟!
والحق أن النهضة العلمية التي حدثت في عهده خلدت له فضلا كبيرا، وجاءت طليعة جميلة للاكتشافات التي ميزت القرن التاسع عشر، وما كان نابوليون يجتزئ باحترامه للعلماء، بل كان يحميهم ويؤيدهم ويستصحبهم، كما فعل في حملة مصر، حتى اجتمع لديه نخبة العلماء الذين حق لفرنسا أن تفاخر بهم.
ولما سلم إليه الشعب الفرنسوي مقاليد الإمبراطورية أغدق عليهم النعم ومنحهم الألقاب، وكان يرى أنه لا شيء أدعى إلى تشريف ملك أو إمبراطور من تشجيع الألى ينهضون بالعلوم وينفعون الإنسانية.
وكان العلماء الذين قربهم وأكرمهم بطل أوسترليتز منقطعين إلى فروع مختلفة من العلوم؛ فمنهم الرياضي الكبير مثل مونج، والكيماوي المدقق مثل برتوليه، والعالم الفلكي مثل لالاند، والمتبحر في علم الحياة مثل بيشا، وغيرهم من علماء الطبيعة والهندسة. ومما يستحق الذكر من أعمال أولئك العلماء أنهم لم يكتفوا بتوسيع نطاق التعليم بجهدهم العظيم، بل كانوا يأتون بمستحدثات خطيرة، ولقد فتح كل منهم بابا من الأبواب التي دخلها بعدهم العلماء الآخرون ووصلوا منها إلى بعض الاكتشافات الخطيرة.
وكان الإمبراطور نابوليون يرى أن تلقيبه ب «عضو المجمع العلمي» لا يعلوه إلا اللقب الإمبراطوري، ولما كان قنصلا أول وشغله أقل من مشاغله الكثيرة بعد ارتقائه إلى العرش، كان يحضر معظم جلسات المجمع العلمي ويفخر بكونه عضوا في الفرع الميكانيكي منه، ثم انتخبه الأعضاء رئيسا للندوة العلمية كلها ورأس جلستها العامة، وكان العلماء مونج وبرتوليه ولابلاس من أحب الأصدقاء إليه، وكثيرا ما كان يتأخر ليلا لاستيفاء المناقشات الطويلة التي كانت تدور بينه وبينهم.
وكان يطيب له في كثير من الأحيان أن يوقع هذا التوقيع وهو في مصر: «بونابارت القائد الأكبر والعضو في المجمع العلمي».
أما الفنون فلم تكن عناية نابوليون بها أقل من عنايته بالعلوم، وكان فن التمثيل من جملة ما أحبه وحماه وأيده، على أنه كان يفضل منه نوع المأساة المعروفة بالتراجيديا، وكان «ألما» الممثل الشهير أحد أصدقائه المقربين، وربما كان ميله إلى التراجيديا القديمة ناشئا عن وجود القدوة والمثال فيها، ولما اجتمع لديه الملوك وأرباب التيجان في أرفور دعا إليه الممثل «ألما» وزملاءه في مسرح «الكوميدي فرنسيز»، وعند وصولهم التفت إلى صديقه «ألما» وقال: «أيها الصديق العزيز، لا يحق لك أن تشكو؛ فإني جمعت الملوك اليوم ليسمعوك.»
وكان نابوليون يميل إلى مطالعة هوميروس ويعجب بروايات كورنيل، ومما يؤثر قوله في درسد: «لو كان كورنيل حيا لجعلته ملكا.»
على أنه كان يكره فولتير وجان جاك روسو؛ لأن الأول أراد أن يهدم كل شيء، والثاني استحق الكره من أجل حياته الخاصة.
أما الشعراء فقد كان نابوليون يؤيد جماعة منهم مثل رينوار وأندريو وميلفوا وميشو.
وقيل إن نابوليون ساعد لوس دي لانسيفال في تأليف رواية هيكتور.
وما يقال عن تشجيعه للمؤلفين والممثلين يقال عن اهتمامه بالتصوير والموسيقى، فقد بلغ هذان الفنان في عهده درجة راقية، وكان بتهوفن الموسيقي الألماني الكبير في طليعة الذين ألفوا ألحانا موسيقية «للجنرال المنصور»؛ أي نابوليون.
الفصل الحادي والعشرون
نابوليون في شاهق العظمة
بلغ نابوليون شاهق العظمة ومنتهى الحول والسلطان سنة 1810، فإن الإمبراطورية الفرنسوية في ذاك العهد كادت تضارع إمبراطورية شارلمان من حيث الهيبة وبسطة الملك، وكان نابوليون يلتفت وراءه فيرى أوسترليتز حيث صرع النمسا، وإيلو وفريدلاند حيث قهر روسيا، ويجد بولونيا خاضعة تحت جناح نسره، وإسبانيا مترعرعة تحت يده الفولاذية، ثم يرى وجرام حيث ضرب النمسا مرة أخرى، ويتمثل دخوله ميلان وما تقدمها من الانتصارات الباهرة كما يتمثل دخوله مدريد وبرلين وفرسوفيا وفينا (مرتين)، وإجهازه على السلطة البابوية الزمنية مع احترام سلطته الدينية، ومرور جملة من ملوك أوروبا بين يديه في أرفور كأنهم يمرون أمام فاتح العالم، وكان إذا خرج في باريس وجد حديد المدافع التي غنمها يقوم عمودا عظيما في إحدى ساحاتها، وكانت البلدان الموضوعة تحت سلطان فرنسا مباشرة في تلك السنة مقسومة إلى 140 ولاية، وجعلت جنيف وأنفرس وأكس لاشابيل وفلورانس وجنوى وأمستردام تحت إمرة مديرين من الفرنسويين، وهناك الممالك التي كانت تحت إشراف فرنسا أو منتمية إليها إما لأن نابوليون كان واضع أساسها أو نظامها، وإما لأن ملوكها من صنائعه وأقاربه مثل إيطاليا ومملكة نابولي وإسبانيا ووستفاليا، فإن ملوكها كانوا من إخوة نابوليون وأصهاره، ومثل بافاريا وورتمبرج وسكسونيا، فإن نابوليون هو الذي رفعها إلى رتب الممالك المستقلة. كل ذلك من ثمار الانتصارات اللامعة الساطعة التي أدهشت العالم وغيرت خريطته.
أما تأثير تلك الانتصارات والانقلابات في الشعوب من الوجهة الفكرية فلم يكن أقل من تأثيرها في الوجهة المادية، وكل من يعلم أن نابوليون هو ابن الثورة الفرنسوية، وأن أفكاره هي أفكار الذين قاموا بها سنة 1789 وقواعده هي قواعدهم، وأن ارتقاءه إلى عرش الإمبراطورية كان طبقا لإرادة الأمة وضربا من ضروب المبايعة - لا يعجب من وجود الآثار الديمقراطية في نفس تلك الإمبراطورية، ومن كونها تختلف اختلافا كبيرا من هذا الوجه عن الإمبراطورية الروسية أو النمسوية في ذاك الوقت.
إن الملوك المستبدين كانوا يخافون من الآراء الحرة في عهد نابوليون بقدر ما كانوا يخافون سيفه البتار، أليس نابوليون هو الذي جعل موارت ابن الشعب صاحب تاج؟ أليس نابوليون الذي كان يقول: إن قوتي هي من قوة الشعب، ويهز كتفيه لكل ملك أو سلطان كان يدعي أنه وكيل الله أو ظله على الأرض؟ أوليس نابوليون الذي كان يقول: «إن الشعب هو الذي يهمني لا أرباب الأموال ولا أصحاب القصور.»
وإليك حادثا يدلك على شدة عنايته بعامة الأمة وطبقات العمال: حدث سنة 1811 أن طلائع موسم القمح كانت سيئة، فأخذ نابوليون يشتغل آناء الليل وأطراف النهار ليهيئ غذاء الشعب، ثم جرى حديث بينه وبين الموسيو مونتاليفيه الذي كان يشتغل معه، فقال مونتاليفيه: «سيكون الخبز موجودا ولكنه سيكون غاليا.» فما سمع نابوليون هذا الكلام حتى قفز من كرسيه سخطا وحنقا وقال له: «ماذا تقول؟ أتقول إن الخبز سيكون غاليا؟ لمن نشتغل وبمن نهتم منذ شهرين؟ أتظن أنا نهتم بالأغنياء؟ هؤلاء لا يهمونني؛ لأن من يملك مالا يملك على الدوام خبزا، فإنما همي أن يحصل الشعب على الخبز الرخيص الجيد الوافي، وأن يتمكن العامل من العيش هو وعيلته بأجرة يومه ...»
وما انحصر تأثير الإمبراطورية البونابارتية، «إمبراطورية الثورة الفرنسية» كما لقبها أحد المؤرخين في الشئون السياسية، بل تناول مبدأ الحرية الدينية أحد مبادئ تلك الثورة ، فإن الكاثوليك الألمانيين لم يكونوا قبل عهده متمتعين بحريتهم المذهبية التامة؛ لأن الحكومة الألمانية وسائر أهل النفوذ من البروتستان كانوا يحرجونهم وينظرون إليهم بعين حمراء.
وصفوة القول أن تأثير حكم نابوليون في العالم كان عظيما من الوجوه الحربية والسياسية والأدبية والدينية، وأن الثورة الفرنسوية تمثلت في رجل بدل تمثلها في مئات من النواب، ولا شك في أن مبادئها الدستورية السامية لم تكن بمأمن دائم؛ لأن نابوليون كان إنسانا قابلا للموت، فلما رحل عاد الدستور إلى نظامه الطبيعي بعد التقلب والتراوح.
الفصل الثاني والعشرون
كيف كان مع أعدائه؟
لم يكن نابوليون يحمل الحقد ولا يود الانتقام، وحسبنا دليلا سلوكه مع أعدائه المجاهرين والمتنكرين، ونحن نضرب للقارئ هنا بعض الأمثال: ما ارتقى نابوليون إلى عرش الإمبراطورية حتى وقف كارنو أحد رجال الديركتوار في صفوف الحزب المعارض، فلو كان نابوليون إمبراطورا غشوما كما زعم بعض خصومه لقذف به إلى وهدة العدم، ولكن نابوليون كان إمبراطورا ذا طابع خاص، فصبر عليه، ثم اتفق يوما أن كارنو وقع في ضائقة مالية وأبلغ أمره إلى نابوليون - كما جاء في كتاب لنابوليون نفسه مؤرخ في 17 يونيو سنة 1809 - فاهتم به وأبى مراعاة لكرامته أن ينفحه بشيء على سبيل التعطف والتكرم، بل أمر بأن يدفع له متأخر راتبه كجنرال في الجيش، ثم عين له مرتبا قدره عشرة آلاف فرنك بحجة أنه كان وزيرا قديما.
ولما كان نابوليون قائدا أكبر لجيش إيطاليا في عهد حكومة الديركتوار، أرسلت هذه الحكومة الجنرال كلارك إلى ساحة القتال ليراقب سلوك نابوليون سرا ويتجسس عليه - كما ذكر أرنول في «مذكراته» - فعلم نابوليون بأمره ساعة وصوله ولكنه تعالى عن الإضرار به، ولما غضب ولاة الأمور في باريس على هذا الجنرال، هب نابوليون للدفاع عنه، وكتب إلى وزير الخارجية يقول: «لا أريد أن أبحث لأعلم هل أرسل هذا الجنرال في البدء ليكون جاسوسا علي أو لا، وهب أن هذا الخبر صحيح، فأنا وحدي يحق لي أن أستاء منه، وأنا أجاهر بأني أسامحه.» وبعد مدة أعاد نابوليون هذا الجنرال إلى وظيفته السابقة، ثم عينه سفيرا ثم حاكما لفينا فبرلين، ثم وزيرا للحربية، ولما تزوجت ابنته حباها الإمبراطور بمبلغ من المال.
ولما كان نابوليون بمصر اتضح له أن القائد الشهير دافو كان مواليا لخصومه، فأبى نابوليون أن يلحق به ضررا، ثم أغدق عليه الألقاب والمواهب.
ولما أعلن ارتقاء نابوليون إلى عرش الإمبراطورية أرادت جنود الكولونل موتون أن تهتف للإمبراطور فصاح فيهم الكولونل: «اصمتوا!» فعلم نابوليون وغفر له.
وكان الكولونل «فوا» في مقدمة الذين أبوا الموافقة على الإمبراطورية ومن المتهمين في بعض المؤامرات، ولكن هذا كله لم يحل دون العفو عنه وترقيته بعد مدة إلى رتبة جنرال، وإعطائه عشرين ألف فرنك مكافأة على خدمته في البورتغال.
وكان جوزيف شانيه يسلق نابوليون بألسنة حداد في مقالاته، فعف نابوليون عن ضربه حتى رجع إلى نفسه، فعينه مفتشا عاما في الجامعة الإمبراطورية ودفع عنه ديونه وعين له مرتبا.
وروى كثيرون من المعاصرين لنابوليون في مذكراتهم كشاتوبريان وفوشيه وتيبودو أن برنادوت اشترك في جميع المؤامرات والمكايد على نابوليون، ومع ذاك كله فإن نابوليون جعله مرشالا أكبر ولقبه بأمير بونت كورفو وحباه بمواهب جمة، وانتهى الأمر بأن جلس برنادوت على عرش أسوج، فلو كان نابوليون لم ينظر إلا مصلحته الخاصة ولم يشأ أن يبعد عنه قائدا بارعا كما قيل، لاكتفى بأن يبقى برنادوت في درجة لا يتعداها، وربما كان الأولى به وبمصلحة فرنسا أن ينهج مثل هذا النهج، فإنه لو فعل لكفى أمته عار زحفه مع أعداء فرنسا بعد مدة.
وقس على من ذكرنا كثيرين ممن لم نذكر، أما قول بعض النقاد أن نابوليون كان يخشى عاقبة التشديد على خصومه، فهو قول واهن؛ لأن نابوليون رأى أوقاتا كان فيها التخلص من أعدائه أسهل عليه من قتل الذبابة، وما كان بالرجل الرعديد ليخشى الفتك، فإن تعنيفه لبعض القواد وطرده لبعضهم وضربه على أيدي أناس من أهل السطوة، كل ذلك دليل كاف على أنه كان قديرا على فعل ما شاء، ولكن طبعه كان يصرفه عن ارتكاب الفظائع في رجاله ويحمله على إصلاحهم حيث كان يرجو الإصلاح والصلاح، ولقد ذهب بعض المؤرخين المدققين إلى أن تطرفه في التسامح وتماديه في الصفح كانا أحد أسباب فشله. وقال أرتور ليفي بعد أن طالع مذكرات أصدقاء نابوليون ومذكرات خصومه أن «العيب الأكبر في خلق نابوليون والسبب التالي إن لم نقل الأول لأكبر فشل أصابه هو أنه لم يظهر إرادة راسخة للمقربين إليه، ولم يضرب بكف من حديد، فيبيد كل مقاومة ظاهرة أو خفية أبداها أولئك الذين أغدق عليهم الثروة وأسبغ عليهم ألقاب الشرف، ولكن نابوليون سلك مع قواده السبيل الذي اتبعه مع إخوته، فكان يضحي بأعلى المصالح شأنا وخطورة على مذبح المبدأ الأدبي ... والواقع أن ذكر خدمة في إيطاليا أو غيرها كان يكفي ليصرف نابوليون عن القسوة، كما جرى للقائد فيكتور حين أراد إبعاده عن الجيش.»
الفصل الثالث والعشرون
هل كان نابوليون شجاعا بالمعنى الصحيح؟
بلغت الجرأة ببعض خصوم نابوليون أن طرح هذا السؤال، وكان السبب في وضعه على بساط البحث حكايتان هاك تفصيل الأولى منهما: لما تنازل نابوليون عن العرش في فونتباو وخرج قاصدا جزيرة ألب التي نوى الاعتزال فيها رأى من عامة الشعب في طريقه عداء شديدا، واجتمع كثيرون من الرعاع حول المركبة التي كانت تقله مع المندوبين الأجانب وأخذوا يسبونه ويلقبونه بالغول الكورسيكي وبالجائر الغشوم، واندفع بعضهم إلى المركبة، فتشبث بدواليبها بينما كان الجبناء لا يجسرون على الاقتراب منها ويكتفون برجمها، وذكر الكونت والدبور أن الخطر أصبح شديدا هائلا، حتى إن حاشية الإمبراطور نابوليون ألحت عليه في وجوب تغيير زيه اتقاء لجناية قبيحة، فوافقها نابوليون ولبس ملابس أحد الخدام الذين كانوا يسيرون أمامه، ثم أخذ يعدو أمام المركبة، فأي إنسان تحت السماء رأى هذا التناقض العجيب في حياته؟ إن الذي قاد الجيوش في أوروبا وآسيا وأفريقيا، ودخل مئات البلدان ظافرا منصورا، وقهر من الأعداء أضعاف أضعاف جيشه، وكانت الملوك تلتف حوله كالأتباع وتعد كل لحظة من لحظاته، اضطر إلى التنكر بزي خادم وإلى الركض أمام مركبة حراسه ليأمن شر الزمر الهائجة من شعبه! ...
هذا هو الحادث الذي أسال المداد على بعض الطروس، فبقي أن ننظر هل تنكر نابوليون عن جبن ونذالة؟
كلا! إن العاطفة التي مالت به إلى التنكر هي التي تميل بكل إنسان إلى التستر أو الاختفاء حين يرى ذئابا أو كلابا هائجة تريد عضه ونهشه. وليست الشجاعة أن يقذف المرء بنفسه إلى الإهانة والتهلكة بلا نفع ولا جدوى، وإن رجلا قاد الجيوش بنفسه واستهدف للقنابل والرصاص في ستمائة وقعة وخمس وتسعين معركة كبيرة، والإمبراطور الذي فضل المعسكر على قصر التويلري، وفتح صدره بعد رجوعه من جزيرة ألب للجنود الذين أرسلوا لمنعه من دخول باريس وقال لهم: «من منكم يريد إطلاق الرصاص على إمبراطوره فليفعل.» لا يصح أن توضع شجاعته موضع البحث، وجل ما يقال فيها أنها الشجاعة المقرونة بالرأي والعرفان، والبسالة اللائقة بعقل الإنسان، وربما صح أن يقال فوق ما تقدم أن ضغط الحوادث الأليمة حال بين نابوليون وبين استنباط طريقة أخرى أفضل من التنكر في زي خادم والسير أمام المركبة، ولكن هذا النقد الوجيه لا يكفي لجعل بسالة ذاك البطل الخالد محلا للمظنة ومدعاة للريبة. •••
أما الحكاية الثانية فهي أن نابوليون فكر بعد معركة واترلو في الانتحار تخلصا من إهانة النفي والأسر، ثم عدل عن هذا الرأي ورضي بالعيش في جزيرة قاحلة، واحتمل فظاظة رئيس حراسه وحرمانه من رؤية ابنه وفلذة كبده، فأجاز بعضهم لنفسه أن يحسب تفضيل هذا العيش المر على الانتحار ضربا من ضعف القلب، ولكن نابوليون قال شيئا يوضح لنا سر نكوصه «وهو أن كل إنسان في هذا المعمور خلق لأمر يقوم به، فيجب أن يبقى حيا ليتمه إلى آخره»، ثم إن نابوليون كان على رأي العلماء البسيكولوجيين الذين يقولون إن إقدام المرء على الانتحار خوفا من ضيق العيش أو احتمال التعب هو ضعف في النفس وجبن في القلب، والرجل الحزوم هو الذي تكون همته أقوى من كل المصاعب والمتاعب التي تحيق به.
وزد على ما تقدم أن نابوليون فكر في الانتحار يوم كان مبحرا إلى جزيرة القديسة هيلانة، وفي ذاك اليوم كان أمله بحسن المعاملة لم ينقطع، وبقي على هذا الأمل إلى ما قبل موته بمدة.
أجل، إن نابوليون عمد إلى الانتحار بعد ما رآه من خيانة المارشال مارمون ونفور القواد الذين أسبغ عليهم النعم، ولكن إقدامه على الانتحار في ذاك الوقت كان ضربا من كره الحياة لما رآه من الانحطاط الإنساني، لا جبنا ولا خوفا من مصاعب شامخة، وسيرى القارئ خلاصة ما جرى وقتئذ.
الفصل الرابع والعشرون
طالع النحس
أفل نجم السعد وطلع طالع النحس على نابوليون منذ أخذ قواده الذين أسبغ عليهم العطاء ونهض بهم إلى أوج الشرف والعلاء يعارضونه في أوامره، ولقد بدأ نابوليون يشعر بتقاعد أولئك القواد منذ سنة 1809 ويخشى مغبته، وروى الجنرال راب أن نابوليون قال في مأدبة أقيمت سنة 1812 أمام مورات وبرتييه وغيرهما: «إن ملك نابولي - أي مورات - لا يريد الخروج من قصره الجميل، وبرتييه يريد الصيد والقنص في جروبوا، وراب لا يروق له إلا البقاء في منزله البديع في باريس.» وقال مرة أخرى أمام برتييه: «أنتم رؤساء أركان الحرب تعدون نفوسكم أرباب شأن وأهمية ... إني جعلتكم سادة عظماء فأخذتم تتملقون بلاط النمسا.» ثم قال لكولنكور دوق دي فيسانس: «ألا ترى يا كولنكور ما يجري؟ إن الذين غمرتهم بالنعم يريدون أن يتنعموا ويأبون أن يقاتلوا، إلا أن هؤلاء المساكين لا يشعرون بأنهم ما زالوا في حاجة إلى القتال للحصول على الراحة الأكيدة التي يتوقون إليها، أفلا يرون أني أملك مثلهم قصرا وأن عندي زوجة وولدا؟ أو لا يرون أني أنهك صحتي بضروب المتاعب وأستهدف للخطر من أجل الوطن؟ يا لنكران الجميل!»
وكان نابوليون يعرف أن الدواء الوحيد لذاك الداء إنما هو إبعاد الذين وهنت عزائمهم وأبوا إلا التمتع في بحبوحة النعماء، ولكنه لم يكن يرغب في إلحاق العار بهم بعد ما شاركوه في النصر، وكانوا ساعده الأيمن في نيل الفخر.
وليس هناك ريب في أن رغبة أولئك القواد العظام في الراحة والسلام حملتهم مرارا على مقاومة نابوليون وبلغت بأحدهم أن أفهم العدو ميله إلى الصلح، ومما يذكر في هذا الصدد أنه لما اجتمع نابوليون والوزير مترنيخ في درسد للنظر في أمر الصلح قال المارشال برتييه لمترنيخ نفسه: «لا تنس أن الجيش بل فرنسا كلها تريد السلم»، في حين أن مصلحة نابوليون وفرنسا كانت تقضي بأن يخفي هذا الشعور أمام عدوه، ولما أخذ نابوليون يظهر القوات التي كان في وسعه أن يحشدها، وبدأ يطنب في أمرها جريا على عادته، التفت إليه مترنيخ وقال: «إن الجيش نفسه يريد الصلح»، فجرح هذا الجواب فؤاد نابوليون وقال: «كلا ... إن الجيش لا يريد الصلح، ولكن قواد الجيش يريدونه.»
وكان أولئك القواد كلما آنسوا ضعفا في معاملة نابوليون لهم، ازدادوا جسارة ووقاحة عليه، ومع هذا كله فإن تذكار الماضي أبى عليه أن يترك طريق التساهل والتسامح، فصار يشاورهم في الأمور الحربية ويضيع شيئا فشيئا ثمرة عبقريته السامية، ولما زحف نابوليون إلى روسيا سنة 1812 كان أولئك القواد يناقشونه الآراء والمسائل ويضطرونه في كثير من الأحيان إلى التسليم بآرائهم، وفي سنة 1813 عدل عن الزحف إلى برلين استسلاما إليهم واشتبك في معركة ليبزيك التي كانت شؤما ووبالا عليه، وانتهت به الحال إلى أن قال للمارشال ماكدونالد: «إني أصدرت الأوامر فلم يسمعوها، وأردت أن أجمع البحارة مع حرس من الفرسان فلم يأت أحد.» ولذلك قال البارون «فين» معتمدا على أقوال الجنرال جورو: «إنه لو اعتمد نابوليون على نفسه وحدها لاتقى فشلا كبيرا.»
ولما رأى نابوليون أن جنود التحالف الأوروبي أخذوا يهددون فرنسا، قرر أن يسترجع سلطته وهيبته لدى قواده، قرر أن لا يسمح لهم بتعديل آرائه الحربية، وكان من مزاياه أن حزمه يتعاظم بتعاظم الخطوب والكروب، وهاك ما كتبه إلى القائد أوجيرو:
إذا كنت أوجيرو الذي عرفناه في كاستيليوني فلتبق القيادة لك، أما إذا كانت الستون سنة تثقل عاتقك وتضعف من همتك فاترك القيادة لأقدم جنرال من ضباطك، فإن الوطن مهدد ومحفوف بالمخاطر لا ينقذه إلا الجسارة والإرادة الحسنة ... قم إذن وافتح صدرك للرصاص في الطليعة.
وكتب أيضا: «أبلغوا الجنرال ديجون أني مستاء أشد الاستياء من طريقة استخدامه للبطاريات، وأن جميع المدافع كانت في حاجة إلى القنابل الساعة الثالثة بعد ظهر أمس؛ لأنه أبقى الذخيرة بعيدة عن البطاريات، وأخبروه أن ضابط المدفعية يستحق الموت إذا ترك مدافعه بلا ذخائر.» وقس على ما تقدم كثيرا من الملحوظات الشديدة.
ولقد أحدث هذا الحزم في المعارك المعروفة بمعارك فرنسا ما كان يحدثه في أوائل عهده، فتعالت همة جنوده، وفعل في تلك المعارك بجيش صغير ما أدهش أوروبا كلها التي كانت متحالفة عليه.
على أن كثرة الأعداء وقلة إخلاص الرؤساء اضطره إلى التقهقر بعد أعمال لا يزال النقاد الحربيون يعدونها أسطع دليل على مواهبه العقلية السامية وعبقريته الحربية العظيمة، وعلى أثر هذا الفشل قرر أن يتنازل، وجمع قواده في فونتنبلو حيث جرى الوداع التاريخي الشهير قبل سفره إلى جزيرة ألب واعتزاله فيها، وقد رأى نابوليون الخيانة ممثلة في شخص المارشال مارمون الذي اتفق مع أعدائه، كما رأى الوقاحة ونكران الجميل ممثلين في جملة من قواده الذين غمرهم بنعمائه، فإن هؤلاء القواد الذين رفعهم نابوليون من الحضيض إلى أسمى المناصب لم ينبسوا بكلمة تدل على عطف أو أسف، بل قالوا له بلسان المارشال ماكدونالد الذي أنابوه عنهم في الكلام: «كفانا ما جرى ...» وقال له المارشال ناي: «يجب أن تكتب وصيتك فقد خسرت ثقة الجيش ...» ولما غضب نابوليون من هذا الكلام وقال له: «إن الجيش لا يأبى الطاعة في عقابك». أجابه ناي بوقاحة: «لو كان لك سلطان لما كنت أمامك الآن.»
وبعد أن مر المارشالية كلهم، استولى على نابوليون سخط شديد من تلك الإهانة وصاح قائلا: «إن هؤلاء الناس ليس لهم قلوب ... إن ما أظهره رفاقي في الجيش من حب الذات ونكران الجميل بلغ مني ما لم يبلغه سوء الطالع.» ثم تعاظم في نظره هذا الانحطاط الإنساني وكره الدنيا وما فيها، وأراد أن يسم نفسه، فأخذ برشامة مملوءة من السم كان يعلقها في رقبته منذ سنة 1808 حتى إذا وقع في أيدي أعدائه وعمدوا إلى تعذيبه أخذها وودع الدنيا، ولكن الطبيب ما لبث أن جاء مسرعا عند ظهور أعراض السم فأنقذه، ولما أفاق قال لكولنكور: «لم يشأ الله أن أموت! ... وليس فقدي للعرش بالسبب الذي جعل حياتي لا تطاق، فإن أعمالي الحربية تكفي لمجدي، أتدري أي شيء أصعب على النفس من سوء الطالع؟ أتدري أي شيء يفطر القلب؟ هو الانحطاط الإنساني ونكران الجميل إلى حد هائل ... هو الذي جعلني أكره الحياة وأنفر منها.» •••
ثم سافر نابوليون إلى جزيرة ألب بين مظاهر العداء التي قام بها العامة، وفي 3 مايو من تلك السنة أي سنة 1814 ارتقى إلى العرش لويس الثامن عشر البوربوني، وفي 4 يونيو أعلن دستوره، على أن ارتقاء هذا الملك على أيدي الأعداء الذين غزوا فرنسا، لم يلبث أن صار موضوع الكره والانقباض، ولا سيما أن المهاجرين عادوا مع الملك الجديد، وأخذوا يحاولون تقويض ما صرفت فرنسا في سبيله خمسا وعشرين سنة، وما قاتلت من أجله أوروبا كلها، وبلغت الوقاحة بجماعة منهم أن حطوا من شأن الانتصارات العظيمة التي كللت جبين فرنسا على يد نابوليون، وكأنما الدهر أبى إلا أن يعاقب أولئك القواد العظام على سوء سلوكهم مع نابوليون في أواخر عهده، فقرر الملك الجديد إبعادهم، وتعيين شبان ليس لهم إلا شرف المحتد بدلا منهم، وأشد ما أدمى عيون أولئك الأبطال أنهم أخذوا يرون «وسام الشجعان» يعطى يمينا وشمالا مع إنهم لم ينالوه إلا بعد ما استهدفوا ألف مرة للموت، وأشد من كل ما تقدم أن جماعة من الذين حاربوا تحت رايات الأعداء نالوا حسن الجزاء، وأن الحكومة الملكية الجديدة تنازلت للمتحالفين عن 58 موقعا حصينا و1200 مدفع و42 سفينة لا يقل ثمنها عن مليار ونصف، وما انقضى العام على الملك الجديد حتى ظهر الاستياء العام في مظهر شديد.
وفي تلك الأثناء كان نابوليون مستلما إدارة الجزيرة، فما مضت بضعة أشهر حتى ظهرت آثار الإصلاح في أبهى مظاهرها، وشعر أهل الجزيرة بأن يدا جديدة مصلحة أخذت تعمل وفكرا سديدا أخذ ينتج، فمن إصلاح الطرق إلى إصلاح التعليم إلى إنهاض التجارة والصناعة وغيرها حتى عمت تلك الروح جميع أنحاء الجزيرة.
وكان نابوليون في الوقت ذاته يستطلع طلع فرنسا، ويتنسم أخبارها من وراء البحر، فعلم أن سخط الأمة من الحكم الملكي الجديد أخذ يشتد ويتفاقم؛ لأن الحكومة عمدت إلى الإرهاب فنشرت الجواسيس في كل جهة وصوب لاكتشاف الذين أقاموا على حبهم للعهد البونابارتي، أو على كرههم للأعداء الذين دخلوا فرنسا وأجلسوا الملك البوربوني على العرش.
فلما رأى نابوليون تلك الحال قرر ترك الاعتزال، وفي 26 فبراير سنة 1815 أبحر من الجزيرة مع جملة من رجاله القدماء على المركب «أنكونستان» عائدا إلى فرنسا، وبينما كان مبحرا أبصرته البارجة زفير، فتقدمت نحوه للاستيضاح، ولما أبصرت راية جزيرة ألب سألت عن نابوليون فأجاب نابوليون نفسه: «إنه على ما يرام.»
وفي أول مارس سنة 1815 نزل نابوليون إلى الأرض الفرنسوية من جهة خليج دون جوان وأصدر إلى فرنسا منشورا قال فيه:
أيها الفرنسويون، إن ما تقرر بلا رضاكم لا يعد شرعيا، ويا أيها الجنود، أترضون أن تقيد نسورنا بأيدي الذين قضوا خمسة وعشرين عاما وهم يطوفون في أنحاء أوروبا؛ ليثيروا علينا الأعداء، والذين حاربوا الفرنسويين تحت الرايات الأجنبية؟ فهيا إذن إلى رئيسكم واجتمعوا تحت لوائه، فإن وجوده من وجودكم، وحقوقه ليست إلا من حقوق الأمة وحقوقكم، ومصلحته وشرفه ومجده ليست إلا مصلحتكم وشرفكم ومجدكم، إن النصر سيأتي على جناح السرعة، والنسر الإمبراطوري بألوانه الوطنية سيطير من قبة جرس إلى أخرى حتى يبلغ نوتردام.
ثم واصل نابوليون السير بعد هذا المنشور، فلم ير حائلا يحول دون تقدمه حتى صار على مقربة من مدينة جرينوبل، فوجد هناك ألايا من الجند أمرته الحكومة بأن يسد الطريق عليه، فما كان من بطل أوسترليتز إلا أن نزل عن جواده وتقدم نحو الجنود فاتحا صدره وقال لهم: «أبينكم من يريد قتل إمبراطوره؟» فحولت الجنود سلاحها وصاحت بصوت طبق عنان السماء: «ليحي الإمبراطور»، ثم أخرجت الشارات المثلثة الألوان التي كانت تخفيها في جيوبها وسارت مع نابوليون ، ولما وصل إلى جرينوبل أخذ أهلها يفتحون الأبواب بأيديهم، ثم تقدم نابوليون إلى ليون واستولى فيها على السلطة الفعلية، فلما طار الخبر إلى الملك انخلع قلبه رعبا ودعا إليه المارشال ناي وكلفه أن يذهب بقوة كافية لصد نابوليون، فوعد المارشال «بأن يأسر المغتصب» كما قالوا، ثم زحف بالجند إليه فما أبصره ونظر إلى قبعات حرسه التي ذكرته بألف نصر حتى اغرورقت عيناه بالدموع وتهافت بين ذراعي نابوليون فضمه إلى قلبه، وعاد الجيش الذي أرسله الملك البوربوني لأسر نابوليون حرسا فخما له، واضطر لويس الثامن عشر إلى الهرب خوفا على عنقه، وفي 20 مارس دخل نابوليون قصر التويلري بدون أن يطلق رصاصة واحدة على فرنسوي.
ولما استوى على سدته العالية حل القيود التي قيد بها لويس الثامن عشر أرباب الأقلام، وأعاد للأمة برلمانها الذي كان مؤلفا من مجلسين أحدهما انتخابي والثاني إرثي، وأقام حفلة عظيمة للدستور حضرها الشعب الباريسي كله ووافق على ما تم بغالبية 1500000 صوت ضد 4300 صوت.
أما أوروبا فقد اهتزت من أقصائها إلى أقصائها لذاك الحادث الخطير؛ لأن ملوكها كانوا يرون رجوع نابوليون بمثابة رجوع المبادئ التي قررتها الثورة، والتي حاولوا إلغاءها في فرنسا نفسها بعد اعتزال نابوليون في جزيرة ألب، ويعتقدون أن السلم العام سيبقى مضطرب الحبل مع وجود ذاك القسور المغوار.
أما نابوليون فلم يضع وقته بين مظاهر الاحتفاء والاحتفال، بل أخذ ينظم جيشه بهمة شماء، وما ظهر التحالف الأوروبي الجديد حتى كان لديه 160 ألف رجل فسيرهم للقاء جنود المتحالفين ليقاتل فريقا بعد فريق، فيتمكن من قهر كل قسم منهم على حدة، ولقد كانت الدلائل كلها تعزز أمله، فإن جيشه قهر أولا البروسيين في 16 يونيو سنة 1815 عند فلوريس وليني، ثم التفت إلى مقاتلة الإنكليز بعد أن وكل إلى القائد جروشي أن يواصل مطاردة البروسيين، ثم ينضم إليه للإجهاز على الجيش الإنكليزي، ولقد تغلب نابوليون على الإنكليز من جهة الميمنة، وأمر أخاه جيروم بأن يأخذ عنوة غابة هوجومون، فاستولى عليها، ثم أخرج المارشال ناي الإنكليز من سان جان بعد استيلائهم عليها، واخترق الفرسان الفرنسويون المربع الإنكليزي، فخيل إلى الجنرال ولنجتون الإنكليزي أن جناح النصر خفق مع جناح النسر الفرنسوي، وإنهم لعلى تلك الحال إذا بغبار يملأ الفضاء ورصاص يصفر في الهواء فقال الفرنسويون: «جروشي ... جروشي» ثم اتضح لسوء طالعهم أنه بلوخر البروسي، فأخذت الجنود الفرنسوية تقول: «إن جروشي خائن.» وتزعزعت قوتها المعنوية، فعندئذ استل نابوليون سيفه وتقدم إلى صفوف الأعداء وتبعه أخوه جيروم، ولكن قواده أحاطوا به وأجبروه على الذهاب من طريق جيناب.
وفي تلك الساعة؛ أي الساعة الثامنة مساء، وقع الحادث الحربي العظيم وهو دخول الحرس الإمبراطوري قلب المعمعان، فإن أربع أورط منه ألفت مربعا وأخذت تقاوم جيوش الأعداء فكان كل جندي منها يقاتل ثلاثين، حتى فنيت ولم يبق منها إلا واحد مع القائد كامبرون، فأوعز إليه القائد الإنكليزي بأن يسلم فأجاب كامبرون ذاك الجواب التاريخي: «إن الحرس يموت ولا يسلم.» وأكد بعض المؤرخين أن جماعة منهم انتحروا حتى لا يعيشوا بعد هذا الفشل.
أما بقية الحرس الذي كان تحت إمرة المارشال لوبو، فاستمرت تقاتل من جهة أخرى حتى مكنت بقية الجيش الفرنسوي من التقهقر، ومما يذكر هنا أن البروسيين أظهروا فظاعة لطخت شرفهم العسكري بالعار، عندما أسروا بقية أولئك الأبطال، فإنهم أهانوا المارشال لوبو أبلغ إهانة، وذبحوا الجنرال فاندام وجملة من الضباط.
ولقد أجمع النقاد الحربيون على أن الخطة الحربية التي وضعها نابوليون في تلك المعركة المعروفة بمعركة واترلو - لحدوثها عند قرية واترلو - كانت أقوى دليل على سمو فكره وصدق نظره وأصالة رأيه، ولكن سوء الطالع الذي تمثل في خطأ جروشي أجهز عليه وذهب بحظه الأسعد. •••
ولما عاد نابوليون إلى باريس رأى من النواب عداء ونفورا، فقرر أن يتنازل لابنه ولقبه بنابوليون الثاني، ولكن مجلس النواب أبى أن يعترف به، فقرر عندئذ أن يترك فرنسا ويسافر إلى أمريكا، فلم يسمح له المتحالفون بالمرور، ولما سد أمامه كل طريق ذهب إلى البارجة الإنكليزية بياورفون وسلم إلى ربانها، وكتب إلى الوكيل الملكي يخبره بالعدول عن السياسة ويطلب البقاء تحت رعاية القوانين الإنكليزية.
ولكن الحكومة الإنكليزية أبت مع حلفائها إلا نفي نابوليون إلى جزيرة القديسة هيلانة، حيث قضى بقية حياته بعيدا عن ابنه ووحيده، «فرخ النسر» الذي نشرنا حكايته الأليمة في «الهلال».
وفي 15 ديسمبر سنة 1840 دوت المدافع في باريس على مسمع من الملايين المحتشدة، وظهر موكب فخم لم تر العيون أعظم منه هيبة وجلالا، وما وصل هذا الموكب تحت قوس النصر حتى سمعت الملايين بكاء هو أقرب إلى زئير الأسود المتألمة منه إلى النوح والإعوال، أولئك هم بقية الجيش الأعظم يبكون ويستبكون عند رؤية قائدهم وإمبراطورهم راجعا على آلة حدباء إلى عاصمته، حيث يرقد الرقدة الأبدية وبجانبه السيف الذي كان يتقلده في معركة مارنجو.
أسرة بونابارت
في سنة 1764 تزوج شارل بونابارت - والد نابوليون - المولود في أجاكسيو سنة 1746، والمتوفى في مونبليه سنة 1785، لتيتيا رامولينو المولودة في أجاكسيو سنة 1750، والمتوفاة في روما سنة 1836، فرزق الزوجان ثلاثة عشر ولدا، بقي ثمانية منهم أحياء؛ خمسة فتيان وثلاث بنات، وهم: (1)
جوزيف، بكر العائلة: ولد في كورتي سنة 1768 وتوفي في فلورنسا سنة 1844، وقد عين ملكا على نابولي 1806-1808، وعلى إسبانيا 1808-1813، وتزوج جوليت كلاري في 17 أغسطس سنة 1794، ومن زواجه هذا رزق ابنتين: (أ)
زينايد شارلوت جولي: ولدت في باريس سنة 1801 وتوفيت في نابولي سنة 1854، تزوجت سنة 1832 بشارل ابن لوسيان بونابارت. (ب)
شارلوت: ولدت في باريس سنة 1802 وتوفيت في سارزان سنة 1839، تزوجت سنة 1831 نابوليون لويس ابن لويس بونابارت. (2)
نابوليون، إمبراطور الفرنسويين: ولد في أجاكسيو في 15 أغسطس سنة 1769، وتزوج سنة 1795 جوزفين تاشر دي لاباجري أرملة الجنرال دي بوهارنيه، وقد كان لجوزفين من زوجها الأول ولدان هما: (أ)
أوجين: ولد في باريس سنة 1781، وتوفي في مونيخ سنة 1824، وكان نائب الملك في إيطاليا. (ب)
هورتنس: تزوجت سنة 1802 لويس بونابارت شقيق نابوليون.
وتزوج نابوليون مرة ثانية سنة 1810، بالأرشيدوقة ماري لويز ابنة إمبراطور النمسا المولودة في «فينا» سنة 1791 والمتوفاة سنة 1847، ومن هذا الزواج ولد ابن واحد هو: فرنسوا شارل جوزيف نابوليون ملك روما، ولد في باريس في 20 مارس سنة 1811، وتوفي في «فينا» في 22 يوليو سنة 1832. (3)
لوسيان: ولد في أجاكسيو سنة 1775، وتوفي في فيترب سنة 1840، تزوج أولا كريستين بوايه ورزق ابنتين هما: كريستين وشارلوت.
وفي سنة 1800 تزوج ثانيا ألكسندرين دي بليشان ورزق منها تسعة أولاد وهم: شارل، ولتيتيا، وجان، وبول ماري، ولويس لوسيان، وبيار، وأنطوان، وألكسندرين، وكونستانس.
ورزق بيار ولدين: جان ماركيزة فيلنوف 1861-1911، ورولان المولود سنة 1858، وهو عالم وعضو في المعهد الفرنسي، ويعرف باسم البرنس رولان بونابارت، ولا يزال حيا. (4)
لويس: ولد في أجاكسيو سنة 1778، وتوفي في ليفورن سنة 1848، تزوج سنة 1802 هورتنس ابنة جوزفين ورزق منها ثلاثة أولاد وهم: (أ)
نابوليون شارل 1802-1807. (ب)
نابوليون لويس 1804-1831، تزوج سنة 1827 شارلوت ابنة عمه جوزيف. (ج)
لويس نابوليون المولود سنة 1808، وهو الذي أصبح إمبراطور الفرنسويين وعرف بنابوليون الثالث، توفي في شيزلهرست سنة 1873.
وتزوج الإمبراطور نابوليون الثالث في سنة 1855، أوجيني دي مونتيجو كونتس تيبا فرزق ولدا واحدا هو: نابوليون أوجين لويس جان جوزيف الملقب بالبرنس الإمبراطوري، ولد في باريس سنة 1856، وقتل في زولولند سنة 1879 متطوعا في الجيش الإنكليزي. (5)
جيروم: ولد في أجاكسيو سنة 1784، وتوفي في فيليجنيس سنة 1860 وهو ملك وستفاليا.
تزوج أولا إليزا باترسن سنة 1803، فرزق ولدا سمي جيروم 1805-1870.
وتزوج ثانيا بعد طلاق امرأته الأولى كاترين أميرة ورتمبرج سنة 1807، فرزق ثلاثة أولاد وهم: جيروم نابوليون، وماتيلد، ونابوليون «المعروف باسم البرنس نابوليون».
وتزوج البرنس نابوليون سنة 1859، كلوتيلد ابنة ملك إيطاليا فيكتور عمانوئيل الأول فرزق ثلاثة أولاد وهم:
لتيتيا المولودة سنة 1866، امرأة دوق أوستة.
نابوليون لويس المولود سنة 1864، وهو جنرال في الجيش الروسي.
ونابوليون فيكتور المولود سنة 1862، وهو البكر، وقد نفي من فرنسا سنة 1886، وهو الآن رئيس أسرة بونابارت، ويعرف باسم البرنس فيكتور، وقد تزوج سنة 1910 البرنسس كليمنتين ابنة ملك البلجيك السابق. (6)
إليزا: ولدت في أجاكسيو سنة 1877 وتوفيت في تريستة سنة 1820، تزوجت ضابطا كورسيكيا اسمه فليكس باكيوتشي سنة 1797، وفي سنة 1809 لقبت بغراندوقة توسكانا، ولها ولدان:
نابوليون إليزا 1806-1869.
شارل جيروم 1810-1830. (7)
بولين: ولدت في أجاكسيو سنة 1780 توفيت في فلورنسا سنة 1825، تزوجت أولا الجنرال لكلرك سنة 1801، وبعد أن ترملت تزوجت سنة 1803 البرنس بورجيز ولقبت دوقة جواستالا. (8)
كارولين: ولدت في أجاكسيو سنة 1782 توفيت في فلورنسا سنة 1839، تزوجت الجنرال مورات سنة 1800 وأصبحت معه ملكة نابولي، وقد رزقت منه ولدين:
نابوليون أشيل 1801-1841، وكان كاتبا.
ونابوليون لوسيان شارل 1803-1878، وكان عضوا في مجلس الشيوخ في عهد الإمبراطورية الثانية، وقد رزق ثلاثة أولاد وهم: جواشيم نابوليون مورات 1834-1901، وأشيل نابوليون مورات 1847-1895، ولويس نابوليون مورات المولود في باريس سنة 1851، وقد رزق جواشيم نابوليون ابنتين وابنا هو البرنس جواشيم مورات المولود سنة 1856.
Página desconocida