أما نابوليون فقد كان في بولونيا كما خافت جوزفين يغازل البولونيات الجميلات ولا يرتاح إلى قدومها، وكان يحاول تخفيف غيرتها وإزالة قلقها بإرسال الكتب اللطيفة الدالة على الوداد والحب، ثم يقدم لها أسبابا عديدة ليحول دون قدومها إليه، ومما كتبه إليها قوله: «إنه كلما عظم المرء زال استقلال إرادته وبات أسير الحوادث والأحوال»، ومنه: «أنتن النساء لا تعرفن حواجز ولا موانع، فكل ما تتطلبنه يجب أن يتم، أما أنا فخاضع لطبيعة الأمور»، وقس على هذا القول كثيرا من طرازه.
فلو كانت جوزفين تسمع مثل هذا التعلل من نابوليون سنة 1796 لطفح قلبها سرورا وفرحا؛ لأن كل ما كانت ترجوه وتصبو إليه أن يتركها بعيدة عنه تتمتع بعظمته ومجده في محافل باريس، وتغازل من يميل إليه قلبها من الشبان، أما في سنة 1806 فإن تلك الأعذار كانت تزيد شكوكها وتضرم نار غيرتها، فتتصور نابوليون في صدور المحافل والأنظار شاخصة إليه والحسان متزلفات بين يديه. والواقع أن نابوليون لم يعرف لذة الحب الصافي المتبادل إلا في بولونيا حيث قضى مدة من أطيب أيام حياته مع مدام واليسكا، وحكايته مع هذه البولونية الجميلة أن أشراف بولونيا أقاموا له مرقصا كبيرا حضرته زهرة الشبيبة من أكابر بولونيا، فلحظ نابوليون إبان المرقص فتاة جميلة ذات قوام معتدل وبياض ناصع ووجه صبوح تظهر عليه مسحة خفيفة من الحزن الداخلي، وشعر أشقر يسترسل كخيوط من ذهب، ولقد وصفها نابوليون نفسه بعد معرفتها بأنها ملك يضارع جمال نفسها جمال جسمها.
وفي اليوم التالي لذاك المرقص الكبير كان نابوليون مضطربا - كما قال كونستان في مذكراته - تارة يقعد وتارة يمشي، ثم دعا رجلا من كبار حاشيته، ورغب إليه أن يذهب في مهمة إلى مدام واليسكا، فرفضت أولا أن تقبل ما عرضه عليها إما تكبرا وأنفة، وإما دلالا واعتزازا كما تفعل ذوات الحسن والجمال في مثل تلك الحال.
على أن نابوليون لم يقنط بل واصل الإلحاح وتمكن بعد قليل من إقناعها بالمجيء، فوعدته بالحضور فيما بين الساعة العاشرة والحادية عشرة مساء.
قال كونستان في «مذكراته»: «إن نابوليون كان قبيل تلك الساعة كتلميذ ضرب أول ميعاد لحبيبته، فأخذ قلبه يخفق وصبره ينفد، وكان يسأل دائما عن الساعة، وإنه لعلى تلك الحال إذا بالمحبوبة البولونية قادمة إليه صفراء صامتة مبللة الجفون بالدموع»، فصرفت الليلة الأولى - على رواية كونستان - في كشف أسرارها القلبية وأكدارها البيتية. ويظهر أن أهلها زفوها إلى رجل من الأشراف طاعن في السن شديد الغيرة مصر على سنة التضييق في عاداته وتقاليده، ولا ريب في أنها ما أفاضت في هذا الموضوع إلا لتظهر وجوه عذرها في طلب العزاء بين ذراعي الحبيب، ونحو الساعة الثانية بعد نصف الليل تركت نابوليون وعيناها تذرفان الدموع، ثم بقيت توالي زياراتها إلى أن سافر الإمبراطور لاحقا بجيشه وعازما على غزو روسيا.
وفي تلك الأيام تعددت مكاتيب جوزفين في طلب السماح بالسفر إلى مركز نابوليون، فكان يجيبها ناصحا بالعدول عن هذا الغرض، ويحاول إقناعها بأسباب أخصها بعد المسافة وسوء حالة الجو والمرور ببلدان معادية له وما شاكلها، ولكن تلك الأقوال لم تخفف من رغبة جوزفين في السفر، بل كانت على العكس تفطر قلبها وتحرج صدرها، وكثيرا ما كانت تردد الزفرات، وتذرف العبرات حتى بلغ نابوليون خبر حزنها فكتب إليها يقول: «أطلب منك مشددا أن تظهري القوة والحزم، لقد أخبروني أنك تبكين على الدوام فأف أف! ... ما أقبح عملك! إن الإمبراطورة يجب عليها أن تكون ذات قلب شديد ... أنا لا أريد أن تبكي أو تحزني وتقلقي، بل أود أن تكوني على الدوام لطيفة سعيدة، فعودي إلى باريس وابقي فيها طلقة المحيا باسمة الثغر.»
أما قولك: «إني اتخذت لي زوجا لأكون معه»، فقد أضحكني جدا؛ لأني أظن - على جهلي - أن المرأة لرجلها والرجل للوطن والمجد ...
تلك حالة نابوليون في عهد الهفوات الزوجية، على أنه إذا كان يحق لجوزفين أن تشكو وتتألم كزوجة، فإنها تجد كإمبراطورة ما يعزيها في تاريخ ملكات فرنسا، وحسبنا ما فعله لويس الخامس عشر من إعلاء مراتب الحظيات في القصر الملكي نفسه وما أتاه من الفضائح، أجل إن خيانة إنسان لا تسوغ خيانة آخر، ولكن للطبيعة البشرية سلطانا قويا في كثير من الأحيان، وهو يعظم ويقوى كلما شعر المرء بحاجة إلى السلوان والعزاء لهم أصابه في بيته وخيبة نالته من محبوبه، وأفضل ما قيل عن نابوليون في أمر الحب أنه أخطأ، ولكنه كان من أشد المخطئين ميلا إلى التستر والمداراة والرغبة في تخفيف ألم تلك التي جرحها هذا الخطأ.
ولقد ثبت بالبراهين الدامغة أن حب مدام واليسكا لنابوليون استمر بعد سفره إلى معسكر الجيش، وأنها لم تزعج نابوليون سحابة ملكه بشيء، بل كانت ترعى جانبه وتختار العزلة والتستر، وما كان سرور نابوليون بها من أجل جمالها فقط، بل كان هناك سبب آخر أحدث تأثيرا عظيما في الطلاق، وهو أنها حملت من نابوليون، فاقتنع حينئذ بأنه قادر على الاستيلاد بعد أن كان يشك في هذا الأمر، ولا يدري أكان سبب العقم منه أم من جوزفين.
ولما اعتزل نابوليون في جزيرة ألب ذهبت مدام واليسكا إلى الجزيرة لتعزيه وتروح قلبه، في حين أن العالم كان يعتقد أن نجم نابوليون مال إلى الأفول، فلا عجب إذا قال فيها البطل الكورسيكي أنها ملك كريم لا يشبه جمال نفسها إلا جمال جسمها.
Página desconocida