أما نابوليون فمنحه الهدنة بشرط أن يسلم الأعداء إلى الفرنسويين ثلاثة حصون كبيرة ومخازن المئونة، فقبل، وانتقل الجندي الفرنسوي من العسر إلى اليسر بفضل بسالته وبراعة قائده في ميدان الجدال ومجال القتال.
وفي تلك الأثناء أرسل نابوليون مورات إلى باريس ليحمل إلى حكومة الديركتوار الإحدى والعشرين الراية التي غنمها من النمسويين - والتي من أجلها لقب الجمهور الباريسي جوزفين بسيدة النصر - فعقد الديركتوار جلسة حافلة وقرر «أن جيش إيطاليا استحق شكر الوطن» ثم أقيمت «حفلة النصر» في العاصمة.
على أن نابوليون لم يكن يرى نصره وافيا بالمرام، ولم يشأ أن يغمد الحسام قبل أن يقهر الأعداء قهرا تاما فلا يبقى لهم قبل بالدفاع، وعلى هذا العزم برح نابوليون وجيشه بلاد بيومون قاصدا لومبارديا، واجتاز نهر أدا على جسر لودي حيث كان المدافعون النمسويون، وهناك أظهرت الجنود الفرنسوية بأسا عظيما وقتلت رجال المدفعية وفتكت بصفوة الألايات النمسوية، وفي الوقت نفسه عبر الفرسان الفرنسويون النهر وانقضوا على الأعداء من ورائهم فحولوا كسرتهم إلى انهزام، ودخل الجيش الفرنسوي كريمون وبافي، ولما طار الخبر إلى ميلان برحها الأرشيدوق النمسوي هاربا مدحورا، فدخلها نابوليون فاتحا منصورا، ولقي من الجمهور كل ترحاب وسرور، وضرب ضريبة حربية قدرها عشرون مليون فرنك على البلدان المفتوحة وقبل الطاعة من دوقي بارم ومودين، ثم كافأ جنوده بالكلمات الآتية:
أيها الجنود، إنكم لمستحقون شكرا جزيلا من الوطن، وإن السلالات القادمة ستتداول أخبار انتصاراتكم، وسيبقى مجدكم خالدا بما غيرتموه في أجمل شقة من أوروبا، وستمنح الأمة الفرنسوية الحرة والمحترمة في العالم كله بلاد أوروبا سلما مجيدا، وأنتم سترون مواطنيكم يشيرون إليكم بالبنان بعد رجوعكم إلى الأوطان، وسيقولون لأولادهم كلما رأوا أحدكم: «إن هذا الشجاع كان في جيش إيطاليا.»
ولكن هذا النصر الجديد لم يكن كافيا أيضا؛ فإن جمهورية جنوى وجمهورية البندقية أصرتا على المقاومة، والجيش النمسوي تلقى نجدات أخرى رجاء أن «يقهر الجيش الفرنسوي الصغير » كما وصفوه مع فشلهم الفاضح، وكانت إنكلترا من جهة أخرى ترسل المبالغ العظيمة من الذهب إلى مندوبيها السريين بقصد أن تثير الفلاحين اللومبارديين على الفرنسويين، فتمكن المندوبون من تدبير مكيدة عظيمة على جنود فرنسا، وقرروا أن يباغتوهم ويذبحوهم في اليوم الثاني لعيد الفصح، ولكن عين نابوليون كانت ساهرة على جنوده، فعرف بالمؤامرة واتخذ أشد الذرائع لإفسادها، وأحرق مدينة بافي ما عدا منازل سبالازاني وفولتا؛ لأنهم كانوا من أكابر العلماء، فكان لعمله تأثير جميل في نفوس محبي العلم والعلماء، ونقض كلمة ذاك الثائر الوحشي الذي قال للعالم لافوازييه حين ساقه إلى الإعدام: «إن الجمهورية غير محتاجة إلى علماء ...»
ومما يذكر أن البابا بيوس السادس انضم وقتئذ إلى أعداء فرنسا، فأمر نابوليون القائد أوجرو بأن يكتسح أملاكه، وتقاضى منه ضريبة حربية قدرها واحد وعشرون مليون فرنك، وفي تلك الأثناء قدم الجيش النمسوي الجديد وعاجل الفرنسويين بهجوم شديد، فأخذ منهم مانتو، وجال في ظن الأهلين أن إيطاليا تملصت من الفرنسويين، ولكن نابوليون كان وحده أعظم من جيش كبير مع ذاك الجيش الصغير، فوضع خطة أسفرت عن تغلب عشرين ألف فرنسوي على ستين ألف نمسوي، وعن سقوط عشرين ألف رجل من العدو بين قتيل وجريح، ثم زحف بأبطاله قاصدا التيرول واحتل أهم مدنها وقهر جيشا نمسويا ثالثا، ولكن النمسويين أصروا على عنادهم وأرسلوا جيشا رابعا مؤلفا من خمسين ألف رجل فانضم إلى بقايا الجيوش الثلاثة.
وكان التعب إذ ذاك آخذا مأخذا كبيرا من الجيش الفرنسوي؛ لأن خسارته كانت عظيمة، وبعض قواده سقطوا في ساحة المجد، فلم يكن له بد من فكرة جديدة سامية تلمع له من جانب قائده الأعظم، وما لبثت تلك الفكرة أن سطعت في إبان الشدة كما يسطع البرق وسط السحاب المتلبد القاتم؛ فإن نابوليون أمر جنوده بأن تعود فتجتاز نهر أدييج وتسير نحو ميلان ليوهم الأعداء أنه عمد إلى التقهقر، فتوهم القائد النمسوي ألفنزي أن التقهقر أكيد، ورأى جيش نابوليون يحتل السدود الواقعة عند المستنقعات، فلم يدر في خلده أنه يجسر على إضرام نار القتال هناك، ولا سيما أن عدد جيشه نزل إلى ثلاثة عشر ألف رجل في حين أن النمسويين أضعاف هذا العدد، أما نابوليون فقال: «النصر أو الموت.» وقذف بجانب من جنوده إلى جسر أركول الشهير، وزحف قواده العظام لان ومسينا وأوجرو في طليعة الجنود، ولكن نيران الأعداء اشتدت إلى حد هائل ومنعت الجنود من اجتياز الجسر، فأخذ نابوليون عندئذ راية فرنسوية وصاح في الجنود: «ألستم الذين انتصروا في لودي؟ ألا فاتبعوا قائدكم»، فما أتم كلامه حتى هجم الجنود كالأسود، ولكن النيران النمسوية صدتهم مرة أخرى وسقط نابوليون نفسه في مستنقع، فأنقذه بعض جنود الغرنادييه بعد الجهد الشديد.
وقضى الفرنسويون ذاك الليل تحت السلاح، وفي اليوم التالي بذلوا جهدا عظيما فاجتازوا النهر على جسر وقتي، وبينما كان النصر يتراوح بين الفريقين بدت لنابوليون فكرة أخرى سديدة، وهي أنه أمر ضابطا في رتبة ملازم وثلاثين جنديا بأن يأخذوا 25 طبلا ويتقدموا نحو العدو ضاربين على الطبول بمنتهى الشدة، فما تعالت أصوات الطبول حتى ظن النمسويون أن نابوليون انقض عليهم بجيش آخر من ورائهم فلم يروا من وسيلة إلا طلب النجاة.
على هذا الوجه انتهت تلك المعركة التي بقي فيها نابوليون وقواده وجنوده ثلاثة أيام بلا راحة فكرية ولا جسمانية، والتي تغلب فيها ثلاثة عشر ألف فرنسوي على أربعين ألف نمسوي واضطروهم إلى التقهقر، وما اكتفى نابوليون بالفوز العسكري، بل طلب معه فوزا ديمقراطيا، فأنشأ جمهوريتين في شمالي إيطاليا وهما جمهورية سيبادان وجمهورية ترانسبادان.
وبعد أيام قليلة وصلت نجدة فرنسوية فصار عدد الجيش الفرنسوي عشرين ألفا، ولكن الأعداء ما لبثوا أن صاروا ثلاثة أضعاف هذا العدد؛ لأن النمسا أرسلت جيشا خامسا، والبابا أرسل إليها نجدة عددها ستة آلاف رجل، فزحف القائد النمسوي بمجموع تلك القوات من أنجاد ريفولي حيث كان ينتظره نابوليون، وقبل أن يتمكن ذاك القائد من إعداد بطارياته عاجله نابوليون بالهجوم، واستمر القتال دائرا نحو اثنتي عشرة ساعة، ثم أسفر عن انتصار نابوليون وفشل النمسويين وحلفائهم فشلا تاما وعن وقوع جميع مدافعهم غنيمة في أيدي الفرنسويين، وفي تلك المعركة التاريخية استهدف نابوليون للمخاطر وقتل تحته ثلاثة من الجياد، وفي ثمانية أيام خسر النمسويون 35 ألف رجل و60 مدفعا وعشرات من الرايات.
Página desconocida