ومما يلاحظ هنا أن تجديد هؤلاء الأعضاء كان يخلص نابوليون من أوبري وزير الحربية الذي أظهر له منتهى العدوان كما تقدم.
وكتب في جواب: «إن حالتي حسنة، وكل ما يعوزني هو حضور إحدى المعارك؛ لأن الواجب على الرجل الحربي أن ينتزع من عدوه رايات النصر أو يموت على مهد المجد.» «إن باريس هي هي، فكل الأفكار منصرفة إلى المسارح والمراقص والمتنزهات والأشياء النفيسة الجميلة ... أما أنا فلا أتشبث بالحياة ولا أرمقها بعين الارتياح ... وسينتهي بي الأمر إلى حد أن أصرف النظر عن أية مركبة تمر ...»
وقال في كتاب آخر: «أنا ملحق اليوم بمكتب الطوبوغرافيا (رسم الأرض) المختص بإدارة الجيش في «لجنة الخلاص العام»، ولو أني أشاء السفر إلى تركيا برتبة جنرال لتنظيم مدفعيات السلطان من قبل الحكومة الفرنسوية لتمكنت من الحصول على مرتب وافر ولقب أعتز به ...» •••
رأينا أن قلب نابوليون كان يخفق أحيانا للنساء الجميلات كما يقع لكل شاب في ربيع الحياة، ثم رأيناه مسترسلا إلى الحزن والأسى، وربما كان ضغط الحوادث والمصاعب على نفسه مولدا عنده ضربا من اليأس، وكان نابوليون كما قال بوريين في مذكراته يميل إلى الزواج ويغبط أخاه جوزيف الذي تزوج الآنسة كلاري ابنة تاجر شهير، ويفكر في الاقتران بالآنسة دزيريه كلاري أخت زوجة أخيه، على أنه لم يكن واثقا بأنها تحبه كما كان يحبها؛ بدليل ما كتبه إلى أخيه وهو أن «دزيريه طلبت رسمي وسأرسله إليها إن كانت لا تزال راغبة فيه، وإلا فأبقه عندك.»
وكتب إلى أخيه يوم كانت دزيريه معه في جنوى: «إن دزيريه لا تكتب إلي منذ سفرها إلى جنوى»، ثم كتب إليه ليعلم أخبارها من غيرها: «أظن أنك اجتنبت الكلام عن دزيريه عمدا، فأنا لا أدري هل هي في قيد الحياة أم لا؟ ...»
وبعد خمسة أيام أمل أن يسافر إلى مدينة نيس فكتب إلى أخيه يقول: «إذا سافرت إلى نيس فإني أراك وأرى دزيريه أيضا ...» وفي التاسع من أغسطس كتب إلى أخيه - بعد أن جاءه كتاب من دزيريه - فأظهر رغبته الشديدة في الاقتران بها، ثم توالت رسائله إلى أخيه في هذا الموضوع، ولكن قلب دزيريه - التي اقترنت أخيرا ببرنادوت ووضعت على رأسها تاج أسوج بدلا من تاج فرنسا - لم تكن تشاطر نابوليون ذاك الحب.
وهنا يجمل بنا أن نشير إلى رأي بسطه بعض المؤرخين المحققين، وهو أن نابوليون لم يكن ينوي أو يؤمل أن يقوم بالمهمة العظمى ويعمل عمله التاريخي الكبير حين أراد الاقتران بتلك الفتاة؛ لأنه لو كان يضمر شيئا مثل ذاك العمل العظيم لأجل اقترانه إلى فرصة أخرى، والواقع أن نابوليون كان في ذاك الوقت حزين النفس، ضعيف الجسم، يطوف في شوارع باريس بقدم متزعزعة وهمة فاترة، ويضع على هامته برنيطة واسعة تنزل إلى عينيه ، ويلبس ذاك «الردنجوت» الرمادي الشهير، ويرسل يدين ضئيلتين طويلتين ويأبى أن يشتري قفازا؛ لأنه يقتضي نفقة زائدة لا حاجة إليها، ويحتذي حذاء ثقيلا متشبعا من الغبار، ولولا نظرته وابتسامته لما كان في مظهره شيء مستحب، وكان يفكر على الدوام في مورد رزق مخافة أن يدهمه أمر العزل في ساعة لا يتوقعها.
قالت السيدة بوريين: «إنه على أثر رجوعنا من ألمانيا سنة 1795 وجدنا نابوليون في «القصر الملكي»، فتقدم وعانق بوريين كما يعانق رفيقا وصديقا محبوبا يتوق إلى رؤيته ويسر بقربه، ثم ذهبنا إلى «المسرح الفرنسوي»، فحضرنا رواية «الأصم أو الفندق الممتلئ»، فكان جميع الحاضرين يقهقهون ويبتهجون ما عدا نابوليون، فإنه كان صامتا واجما، فأثر منظره في نفسي تأثيرا كبيرا، إن فكر نابوليون كان سارحا مشغولا بأمور أخرى، وقلبه بات خائفا أن يأتيه خبر يقضي على أمله، وكان من جملة الأشغال التي فكر في اتخاذها موردا للرزق إذا جاءه أمر العزل تجارة تصدير الكتب إلى الخارج، وقد بدأ فعلا بإرسال صندوق مملوء من الكتب إلى مدينة بال فكان نصيبه الخسارة، وبعد هذا الفشل عاد إلى مشروعه القديم؛ أي السفر إلى تركيا لتعليم فرقة المدفعية هناك.» •••
رأينا أن نابوليون لم يكن يلقى من كل مسعى إلا خيبة الأمل، وأشد ما فت في عضده وأدمى قلبه أن اضطهاد وزير الحربية «أوبري» أودى بثمرة جده وخدمته في إيطاليا وغيرها، وأن أصدقاءه أو حماته - كما يقول - مثل باراس وفييرون لم يقوموا بكل ما رجاه منهم، وزد على كل ما تقدم أن الفتاة دزيريه لم تشاطره الحب ولم ترغب فيه زوجا.
وإنه لعلى تلك الحال إذا بنور الفرج يبدو له من حيث لا يؤمل ولا يرجو؛ ذلك أن الموسيو بونتيكولان - العضو في لجنة الخلاص العام - عين في اللجنة الحربية ونيطت به إدارة الأعمال العسكرية، على أن الفوضى كانت تضرب أطنابها في ديوان الحربية، حتى إنهم فقدوا خطة حرب البيرنيه كما قال سيجور، وبعد البحث الطويل وجدوها في قمطر مستخدم صغير، ثم اتفق ذات يوم أن الموسيو بونتيكولان حدث الموسيو بواسي دانجلاس عما رآه من الخلل والعلل، فقال له الموسيو بواسي: «إني لقيت أمس جنرالا معتزلا يتكلم عن معرفة وعلم في أمر الجيش الفرنسوي الذي حارب في إيطاليا وهو يستطيع أن يقدم لك نصائح نافعة»، فطلب إليه الموسيو بونتيكولان أن يرسل إليه هذا الجنرال، فأبلغ الموسيو بواسي طلبه إلى نابوليون.
Página desconocida