وهنالك عامل ثان يحمل أم مي على التمسك بتلك الطفولية كما بسعادة قريبة الزوال ... نظرت يوما إلى ثوب مي القصير فقالت ضاحكة: كبرت يا ولدي! أجابت: لا أريد أن أكبر. - ولماذا لا تريدين أن تكبري؟ - ذلك لأنني عندما أكبر لا أعود أجلس على ركبتيك.
ومنذ، زادت أم مي تعلقا بالأيام المسرعة في المسير، وأخذت تنظر بخوف إلى الأثواب الآخذة بالقصر شهرا فشهرا ... وتفكر بذعر باليوم القريب «يوم تكف مي عن الجلوس على ركبتيها».
وربما نظلم أم مي إذا قلنا: إنها مسيرة بالأنانية؛ فهنالك عامل ثالث يحملها على إبقاء ابنتها طفلة، ذلك أن دماغ مي أكبر من سنها، فلو أنها سلمت إلى المعلمين والمعلمات كباقي الأولاد لكانت اليوم تقرأ شكسبير وسبنسر، ولكانت قليلة النوم، صفراء نحيلة، غائرة العينين، مقوسة الظهر ، بطيئة الحركة، ولكن أم مي تكره بكل قلبها الأطفال الهرمين، فمي تدخل سريرها الساعة السابعة، وكثيرا ما يقهرها سلطان النوم قبل أن تنتهي من صلاتها الصغيرة، وهي طروبة ترن ضحكتها العالية في جوانب الدار كأجراس العيد، لعوبة لا تعرف الراحة إلى أن يجيء أوان النوم. هي لا تقرأ شوقي ولا حافظ، ولكنها تعرف أسماء شواهق وينابيع لبنان، فتصف رأس العين ونبع العسل ووادي العرائش، وكأكابر الشعراء تتغزل بألوان الشروق والغروب، وقصف العاصفة، وهدير البحر، وهديل الحمام ... •••
قصدت أن أصف مي وهي تتنهد، فما لي أسترسل وأسترسل إلى أن يمل المطالع؟
أيها الكتاب! ما بالكم تكلمونا عن الأطفال؟ تقول الشبيبة: كلمونا عن مسرات الحياة، عن الحور المسترسلات الشعور المتجردات كتماثيل أفروديت وعشتروت.
ولكن الأطفال، أيها الناس، هم نصف الوجود، هم هذه التماثيل التي تعبدون فيها الشباب، فإذا بان لكم الهرم الباكر انقلبتم يائسين.
أيها الناس، من منكم يدخل إلى نفسية الأطفال فيعيش عمره مرتين؟ من منكم يصور لنا حزن الأطفال، وحب الأطفال، وغيرة الأطفال؟ تهملونهم فيشبون كما يشاءون، وعندما يأتي زمن الحصاد تجدون أمامكم شبيبة هرمة، متجعدة، ذاوية كأوراق الخريف، ونخرة كأخشاب أكلها السوس.
كان لوالدة مي صديقة لها ابنة تدعى هند، فانتقلت محبة الأمهات إلى البنات، وصارت هند تبكي لبكاء مي، ومي تضحك لضحك هند، وكان في بيت مي خادمة تدعى مريم، جاءتها أمها يوما زائرة، فدهشت مي الصغيرة، وأخذت تدور حول الزائرة تتفحص أسنانها، وضفائرها الصناعية، وثوبها الواسع، واستأنست فأصغت إلى عبارات الحنان بين مريم وأمها، ولم تتمالك أن سألت هل «للكبار» أمهات؟ فأجيبت أن لكل الناس أمهات.
ولم يأت المساء إلا وفكرة الأمومة تملأ دماغ مي الصغير، فأتت وجلست على ركبتي أمها وسألت: يا أمي، أين أمك؟ - ليس لي أم. - لي أم، ولهند أم، ولمريم أم، ولكل الناس أمهات، وأنت أين أمك؟ - في السماء يا ولدي.
فحزنت مي الصغيرة، ولمع في عينيها بريق ألم عميق، فتنهدت وصرخت بصوت مرتجف: آه ... يا أمي، لماذا أنت بدون أم؟! وللمرة الأولى بكت مي على أمها ووحدة أمها! •••
Página desconocida