الدم المندفع المفاجئ معناه غلطة، وغلطة لا يرتكبها طبيب امتياز أو حتى طالب طب، فكيف ومرتكبها هو كبير أساتذة الجراحة؟ كان واضحا أن هناك سرا، وأن شيئا غير عادي لا بد يحدث. ولأنها ليست على ما يبدو غلطة، ولأنه حقا كبير أساتذة الجراحة، فلم يستغرق الانفجار سوى ومضة؛ إذ في ومضة كانت يده قد امتدت وانتزعت قطعة كبيرة من الشاش المطبق، وبدقة شديدة كتم بها مصدر الانفجار، وكف الدم عن التسرب تماما.
وصحيح أنه لم يقل في لحظتها السبب، ولا أحد استطاع التخمين، ولكن لم يكن من الممكن أن يستمر الغموض طويلا؛ فقد اتضح أن الورم قد أحاط بالأورطي، وابتلعه داخله، وأنه في محاولته فصل الورم جرح الأورطي.
والتفت إليهم بعد لحظة هدوء، وقد عادت شخصية الأستاذ الكبير تسيطر: الجراح الناجح هو اللي ما تهزوش أي مفاجأة تحصل، حتى لو انجرح الأورطي. الجراحة أعصاب، واللي ما عندوش أعصاب يدور له على شغلة تانية يا أسطوات. المسألة حلها بسيط زي ما شفتم، وقفنا النزيف، بعد كده نخيط الجرح.
ولرأب الجرح الذي حدث للوعاء الدموي الكبير، فلا بد من إحاطته بغرز يضمها خيط واحد تجذب طرفيه وتعقده فتتعلق الفتحة كما تتعلق فتحة كيس النقود.
ولقد تولى الأستاذ المساعد مهمة كتم الجرح ريثما ينتهي الأستاذ من إحاطته بالغرز بإبر خاصة، وبخيط خاص، ولكنه ما كاد يجذب طرفي الخيط ليعلق الفتحة، حتى تفتت الجدار من حول الجرح وتفجر الدم في نافورة غزيرة مروعة. هذه المرة كانت قد اتضحت الحقيقة المرة، جدار الأورطي قد تهرأ حين ابتلعه الورم، ولم يعد يحتمل غرزة، وقد حاول ربطه كلية، وإذا به ينقطع تماما، ويتفجر بحر من الدماء اندفع هذه المرة في كل اتجاه يغرق أنحاء الغرفة، ويلطخ الوجوه، ويملأ العيون، ويعمي لابسي النظارات، ويحيل الأقنعة البيضاء إلى حمراء قانية. دم كثير وكأن عشرة رجال ينزفون معا، تعجب كيف أن مصدره الوحيد هو هذه السيدة النحيلة الغائبة عن الوعي!
وكما أصاب الدم الموجود فسوى بين ملامحهما تكفلت الفوضى والارتباك بإحالة الحجرة إلى مكان انتهى منه النظام تماما، مليء بالصرخات العصبية والتخبط والجري في كل اتجاه والتعثر في كل خطوة، تلمع الكلمات كالشهب بلا صدى، نقل الدم، رباط ضاغط، ضاغط، يا ابن الكلب، يا بهايم، امسحوا الدم اللي في عيني، يا غجر امسحوا الدم.
وامتدت كل يد تستطيع الامتداد إلى بطن المريضة، وليذهب التعقيم إلى الجحيم. وأخيرا وبلفة قطن بالغة الضخامة وتحت ضغط ثماني أيد أمكن سد فيضان البحر المكتسح سدا مؤقتا؛ فالنزيف كان لا يزال مستمرا، وبمعدل أسرع من زجاجات نقل الدم الأربع المفتوحة صماماتها إلى آخرها، والجميع وقد أطار عقولهم ما حدث لا يرجون إلا فرصة واحدة - ثانية - لالتقاط الأنفاس.
وحين جاءت الفرصة وأحكم الضغط على الأورطي تماما، بحيث كفت الدماء عن التسرب، كان الخاطر الذي هبط بثقله على الجميع هو أن السيدة قد حكم عليها - هكذا - بالموت، وأن العملية التي بدأت لعبة واستكشافا قد انقلبت إلى مأساة، وأن لا حل. - أظن ما فيش فايدة.
قالها الأستاذ المساعد باستسلام.
والمفاجأة كانت حين ارتفع صوت الأستاذ: ما فيش فايدة إزاي؟ الكلام ده يحصل مع واحد تاني غير أدهم شفيق، مش أدهم شفيق اللي تموت منه عملية، الأورطي انقطع حانشيله كله ونشيل الورم كمان، ونحط بداله وصلة من شريان الفخذ. اطلبوا كل الدم اللي في المستشفى، وهاتوا اللي في الإسعاف السريع كمان. «تيريزا» إبر خياطة الشرايين وحرير ثلاثة زيرو، وشغلوا الشفاط وامسحوا الدم ده كله، ولا نقطة أشوفها.
Página desconocida