النداهة
مسحوق الهمس
ما خفي أعظم
المرتبة المقعرة
معجزة العصر
النقطة
العملية الكبرى
دستور ... يا سيدة
النداهة
مسحوق الهمس
ما خفي أعظم
المرتبة المقعرة
معجزة العصر
النقطة
العملية الكبرى
دستور ... يا سيدة
النداهة
النداهة
تأليف
يوسف إدريس
النداهة
حين دفع «حامد» الباب، وفوجئ بالمشهد الهائل المروع مات، بالضبط مات؛ وجد نفسه فجأة قد سكنت فيه كل خلجة أو حركة أو فكرة، ولم يعد يرى أو يسمع أو يشعر، والدنيا من حوله هي الأخرى سكنت تماما، وماتت، وانتهى كل شيء.
كانت «فتحية» زوجته راقدة على أرض الغرفة، والولد الصغير ملتصق برأسها العاري ينتحب مرعوبا وهو يجذب شعرها بشدة، بينما هي عارية الرأس، عارية الساقين والفخذين، عارية كلها أو تكاد، وفوقها يرقد أفندي بجاكتة وبلا بنطلون أو سروال، وإنما مؤخرته العالية قد ذابت في عري «فتحية» وانتهى الأمر.
مشهد صامت، غارق في ظلام الظهر الذي اعتاد الحجرة واعتادته، لا صوت فيه ولا صراخ ولا مقاومة. الصوت التالي تماما، وكأنه جاء بعد عام، كان صوت شهقة، شهقة بشعة هائلة البشاعة، شديدة اللهفة، مشحونة بالذعر والدهشة والرعب، شهقة كأنها صادرة عن كل الجسد بأقوى ما يستطيعه من استنكار: حامد!
شهقة انتفض لها الطفل خائفا، وراح بأعلى ما يستطيعه من صراخ يبكي، ومع هذا فلم يعد أحد يسمع صراخه؛ إذ أخذ كل شيء يشحب ويصفر ويبيض، حتى الظلام، أبيض وعاد مثله مثل كل شيء في الحجرة أو البيت أو الدنيا كلها إلى مواته، وظل ميتا وكأنما لعام آخر، إلى أن عادت الحركة إلى الحجرة، وكان أول من تحرك فيها هو الأفندي، إذ في قفزة واحدة كان قد رفع بنطلونه، وأصبح خارج الحجرة، وفي القفزة التالية كان البنطلون في مكانه المعتاد، وكان هو خارج البيت!
وحينئذ فقط تحرك «حامد»؛ لأن الحياة حين عادت لم تعد لعقله، إنما عادت فقط لأقدامه، فإنه وجد نفسه يقفز هو الآخر، وقد أودع القفز كل حياته، قفزة حملته خارج الحجرة، وفي القفزة الثانية كان قد أصبح مثل الأفندي خارج البيت، ولكنه وصل متأخرا قفزة.
وهكذا حين وصل إلى الشارع كان «الأفندي» الواحد قد أصبح عشرة، أو عشرين، كلهم بجاكتات، وكلهم ذوو مؤخرات تغطيها البنطلونات، ومعظمهم يمشون بأسرع من الجري، وأوسع من القفز، وكل منهم في اتجاه!
في تلك اللحظة - فقط - كانت الحياة قد عادت لعقل «حامد» وأفكاره، وأحس - من أول وهلة - أنه لم ينطلق في أثر الأفندي إلا لأنه انطلق، ولأنه كان عليه أن يقفز خلفه؛ فمنذ الثواني الأولى وهو يعرف أن هدفه ليس الأفندي أبدا - ولا أي أفندي - ولا في الشارع كله، أو حتى المدينة بأسرها، هدفه في حجرته، في زوجته، بل يكاد يكون في ذلك الجزء منها الذي طالما عمر بيوتا وخرب بيوتا، واقتتل من أجله الناس، جنة الخلق وجحيمها ومثواها.
وهكذا استدار، هذه المرة لم يقفز فقط استدار، ورفع قدمه بادئا خطواته، وكاد يبقيها في الهواء معلقة؛ فعقله والحياة حديثة العودة إليه يأبى أن يعمل إلا كما يعمل عقل طفل صغير واجهته مشكلة، ومشكلته هذه اللحظة أنه خائف، بل مرعوب تماما. إن هدفه هو أن يعود إلى بيته - الحجرة - هذا صحيح، ولكن ليس في كيانه كله ذرة رغبة واحدة في العودة، كيف يعود ليواجه زوجة نصفها الأسفل عار؟ جسدها مبطط لا يزال يحمل آثار كتلة الأفندي وبهيميته؟ أي إنسان في الدنيا، أي زوج يمكن أن تطيعه قدمه ليخطو بها تجاه مشهد كهذا؟
ولكن، لأن رعبه هذه المرة هو الذي يحركه للعودة، لحظة فيها ألف لحظة! أقواها وأقساها جميعا لحظة غدر أحس فيها أنه أخذ غدرا. لم تغدر به «فتحية» فقط أو الأفندي، ولكن الدنيا كلها بأرضها وسمائها أخذته غدرا. وحينما تغدر بنا الدنيا ونحن صغار، فإننا نلجأ لأمهاتنا لنجد في أحضانهن ما يعيد إلينا الثقة في الوجود، وإذا غدرت بنا وكنا كبارا سارعنا إلى زوجاتنا ليؤدين لنا نفس المهمة، فإذا كان الغدر هذه المرة مصدره الأم - ذاتها - أو الزوجة، فويلك يا «حامد»! حينئذ وأنت مشدود مصلوب ممزق بين رغبتك أن تفر من «فتحية»، ومن الدنيا كلها فلا تعود تراها أبدا، ورغبتك في أن تسرع بأقصى ما تقدر وترتمي في أحضانها وتشكو إليها، حتى لو كانت هي المشكو منها، رغبتك أن تستجير بها من الدنيا لتجد أن الأولى أن تستجير بالدنيا منها، بما هو أبشع منها.
أجل! أحس «حامد» أن «فتحية» امرأته، زوجته نصفه الأنثى، تلك التي كان يعرفها كما يعرف ويضمن يده ورجولته وشهامته، «فتحية» قد تحولت، بل انتفض منها كائن غريب مرعب كأنما سخطت وحشا راوغه، ثم نهشه من ظهره وهو آمن مسلم مستسلم، وحش من فرط رعبه منه لا يجد ملجأ آخر سواه. ولو كان «حامد» قد قتلها في تلك اللحظة - وفكرة القتل نبتت منذ أول ثانية عاد إليه فيها عقله، بل ربما قبل عودة عقله، ورغم أي شيء آخر ظلت تدور في رأسه منفصلة تماما، تعمل عملها باستمرار، ولا يريد أن تفارقه أو يفارقها لحظة - لو كان قد قتلها في تلك اللحظة بالذات لكان قد فعل هذا ليس لأنها خانته أو انتقاما لشرفه المهدر، أبدا، لا بدافع الغضب أو الجنون أو الحنق، إنما ومعها جميعا - بل وفي أحيان قبلها بكثير - بدافع الرعب المروع منها، كأنما هي قد استحالت في نظره إلى غول أو حية رقطاء تقتلها قبل أن تقتلك، تقتلها ليس دفاعا عن شرفك، وإنما دفاعا عن نفسك أولا، كتما لأنفاس ذلك الوحش الذي غافلك ونهشك وخانك، ومن يخونك يقتلك، ومن يقتلك لا مأمن لك إلا بقتله، بل أحيانا ما هو أكثر! أحيانا يصبح الإحساس الممض القاتل أن شيئا في الكون قد اختل، ولا نجاة إلا بوأد الخلل في مكانه ولحظته. إن شيئا حدث لذمة الدنيا والعالم، وملكوت السماء والأرض، فخربت، ثقبت فجأة، وما لم نسارع بسد الثقوب لفغرت الأبدية فاها، وابتلعتك أنت والكون الخرب.
كان مرعوبا حقا! حتى لقد بدأ يرتجف وتصطك أسنانه، ويحس أكثر وأكثر بالطعنة القاتلة. ثمة سكين صوبت بيد تعرف تماما خباياه وأسراره، وأصابت فيه أعز ما في داخله. ألم الطعنة لا يزال لا يحسه، فالسكين ما تزال سارقاه. إن ما يحسه هو الثقب العميق الغائر الذي خلفته الطعنة، والذي كلما حدق فيه داخ وأحس أن في أعماق هذا الجرح نهايته. بغموض ودوشة وازدحام كان يحس بأن حادثا خطيرا وقع داخله، وبالضبط حين وقف على عتبة الباب المفتوح.
وكانت «فتحية» قد قفزت قفزتها الأولى، وأحست وهي تفعل وكأن آلافا من قطع الزجاج المكسور تستجمع نفسها، وتتشكل وتقفز، قفزة لم تفلح في رفع جسدها، إنما فقط استطاعت بالكاد رفع يدها، والإمساك برأس السرير الضيق المنخفض. ولقد أرادت بالقفزة الثانية أن تجري مغادرة الغرفة، أو تقف، أو حتى تجلس، أو بالقليل تجلب ثيابها وتغطي ما تعرى من جسدها، وهو كل ما استطاعت - دون ما أرادته جميعا - أن تفعله؛ إذ كان «حامد» قد وصل إلى العتبة، ووقف ممسكا بكالون الباب ينظر أول ما ينظر إلى الطفل الذي كان قد سكت، وانطرح أرضا، وبدا أنه نام، أو يغالبه النوم.
هو واقف ممسك بالكالون، وهي ممددة مفتوحة الساقين مبعثرة الجسد تستنجد برأس السرير ممسكة به، وهو ينظر إلى الطفل، وكأنما قد أصبح أهم شيء عنده، وهي تتجه بوجهها إلى السقف، ولكنها لا ترى إلا عيني «حامد». هو ليس في عقله، مشهد واحد لم ير منذ أن عادت إليه القدرة على الرؤية سواه، وكأنما انطبع في عقله، وأبى أن يزول، مشهد مؤخرة الأفندي العارية وعري «فتحية»، وقد اندمجا في كتلة بيضاء واحدة، وهي ليس في عقلها إلا نظرة «حامد» - أول وآخر نظرة تراها منه - لحظة اكتشاف حضوره، نظرة قد استحالت في رأسها إلى كابوس لا يرحم تكاد تصرخ من هوله مستنجدة، ولكن قوة قادرة قاهرة تخرس صرخاتها وتكتمها. كابوس ترى فيه عيني «حامد»، وقد استحالتا إلى سيخين من حديد محمي إلى درجة تطاير الشرر تقتربان بسرعة ثابتة مستمرة من عينيها الاثنتين، وحالا وحتما هما مخترقتاهما.
كل الفارق بينهما أن «حامد» - كما هي العادة دائما - مطالب أن يكون صاحب البادرة الأولى. أجل لا بد رغم كل الفجيعة والموت والرعب والطعنة والتأمل أن يعمل شيئا، ويعمله حالا، وفي التو ؛ إذ إن أي تأخر يفسده ويلغيه ويقضي عليه. وهي خلاص وصل كل شيء إلى منتهاه، ووقع المحظور الذي كانت تخشاه وطول عمرها تخشاه، ولم يبق سوى العقاب، ما أجمل أن يسرع به «حامد»! فكل إبطاء منه يهدد بأن يمضي بها التفكير، فتتأمل ما كان وما حدث! وأبشع عقاب في الدنيا أهون ألف مرة من أن تعود مرة أخرى لتفكر أو تتأمل أو تستعيد ما حدث.
كانت فكرة القتل قد دفعت نفسها من قاع عقله إلى سطحه، كبيرة الآن مكتملة لا يمكن تجاهلها. لو قتلها فأقصى ما سيناله من عقاب هو الحبس سنة، أو ربما أقل، أو يقولون براءة، فهل يقتلها الآن؟
هل يتناول عصاه التي كان يسميها «الزقلة» من تحت السرير، وينهال بها عليها حتى يتطاير مخها قطعا؟
هل يفعلها الآن؟ الآن؟ أو يستجوبها؟ أو لا يقتلها أبدا؟ السؤال رهيب مستمر دائر لا يتوقف في خواطره أبدا.
والشيء الذي كان يغيظه ويكاد يكتم أنفاسه حقا أن انفعالته المحيية المميتة الصاعقة الأولى قد مرت، وأنه الآن في لحظة أخرى، لحظة لا يرى فيها إلا المشهد الذي تسمر عنده بصره لا يريد أن يبرحه، بينما عقله يقلب فكرة القتل مغيظا؛ فقد كان القتل يبدو هنا شيئا لا يمت إلى اللحظة أو المشكلة أو الموضوع أو المشهد الدائر في عقله ولا علاقة له به، وليس الحل الهدف ولا ما يريده تماما، كيانه كله في واد آخر مشغول بما هو أهم وأخطر، والقتل يبدو شيئا خارج الصورة تماما كما لو كان يواجه خطر قطار السكة الحديد وهو قادم يريد أن يسحقه، وعقله مشغول بتقليب فكرة الدواء الذي وصفه له حكيم المستوصف، وهل الأجدى أن يأخذه قبل الأكل أو بعده؟ الآن لا يريد لها أن تموت، وهو قطعا لا يريد لها أن تحيا، وليست مشكلته أبدا أن تحيا أو تموت، أو حتى كل هذا الطوفان من الأحداث الذي داهمه منذ دفع الباب وفتحه، مشكلته الحادة الملحة في نفسه في هذا الجرح الغائر العميق الذي لا قاع له، في هذا النزف الهادر الذي انهمر داخله، ولا يزال متزايدا متعاظما يقربه في سرعة رهيبة من النهاية، نهايته؛ إذ ها هو ذا يراها تقترب اقترابا حثيثا مرعبا، حتى ليجعله يحس أنه في اللحظة التالية تماما سيموت، وينتهي «حامد» الذي يعرفه ينتهي تماما نهاية مفاجئة غادرة، تتربص له وراء اللحظة التالية، بينما عقله الهايف الغبي لا يريد أن يتزحزح قيد أنملة عن فكرة هل يقتلها أو يؤخر القتل إلى ما بعد الاعتراف؟ وهو يعلم تماما أنه غير قادر الآن على قتل بعوضة، وبعد غمضة عين لن يكون قادرا على أي شيء بالمرة؛ إذ سيكون بمثل هذه السرعة المروعة التي يمضي بها قد انتهى.
الغريب أن النهاية نفسها هي المسألة التي كانت مستولية على عقل «فتحية» تماما في هذا الوقت بالذات، ولكنها نهاية لا رعب فيها، ولا خوف متزايد من خطر ساحق ماحق يقترب في سرعة خرافية، نهاية لا تخاف منها وتقشعر وترتجف مثلما كان يحدث ل «حامد»، بالعكس! هي هنا تطلبها وتريدها وتتمناها، والمهم أن تأتي حالا، حتى تجهز عليها قبل أن يمتد الوقت ومضة أخرى، وتجد نفسها مضطرة أن تفكر، وبالذات أن تعود ترى نفس النظرة في عيني «حامد». وبمثل ما كان «حامد» يتشبث تشبث المستميت ليمسك بآخر أهداب الحياة، حتى لا تفلت منه قبل أن يستمر في مواجهة الموقف، فهي بكل إرادة الحياة فيها كانت تتمنى أن تنتهي هذه الحياة وتموت قبل أن يحدث أي شيء آخر.
إما الموت الداهم السريع، وإما أن تحدث المعجزة - أجل المعجزة - وتمحو كل ما حدث، وكأنما تمسحه ب «أستيكة»، وكأنه ما حدث، وتعود الحياة إلى مثل ما كانت عليه قبل ساعة، أو بالدقة قبل شهر، لا بل لا بد أن تعود كما كانت من خمسة أعوام مضت، بل حبذا لو عادت إلى العمر الذي بدأت فيه تعي وتهتف لها الهواتف. إنها على استعداد لأن تملأ بحر النيل دمعا، مستعدة أن تظل تبكي وتستغفر من يومنا هذا إلى يوم القيامة في مقابل ليس حتى أن يغفر لها الله، ولا أن يمحو تماما كل ما حدث، وإنما في مقابل أن يجعلها تعيش و«حامد» ليوم واحد، بل لساعة واحدة، بل للحظة واحدة، واحدة يا رب، وكأن شيئا مما حدث لم يحدث. ولكن المؤلم، المؤلم ألما لا يحتمله بشر أن شيئا مما تتمنى لن يكون، وأن السهم قد نفذ، وأن ما حدث كان وانتهى وقضى القضاء؛ فالمصيبة الكبرى أن هذا الذي كان ودار ليس غريبا عليها، فلقد شاهدته بعيني رأسها، كله، يحدث طوال الأعوام الخمسة الماضية، وبالذات طوال العام الكئيب الماضي، والفكرة تراودها وتطاردها، والهاتف يهتف بها، ونفس هذا المشهد الذي دار بنفس تفاصيله الدقيقة، صحيح لم يكن نفس الأفندي، ولكنه أفندي، وبنطلون مخلوع، ورقدة، والباب يدفع ويدخل «حامد»، كله بالضبط رأته، وكانت متأكدة تماما أنه سيحدث؛ ولهذا هي تعيش هذا كله كما تعيش الحادث المعاد، وكأنه جرى قبل هذا مرة، بل ربما جرى مرات، لم يحدث شيء واحد غريب عنها، أو عما كان في رأسها وما رأته لسنين، بل إن هذا الأفندي كان دائم التربص لها، وأيضا يترقبها في حقل مشغولياتها اليومية الكثيف. فجأة والطفل على صدرها ترضعه، والآخر فوق كتفها ينهش شعرها طلبا للطعام، والطعام على النار، ويداها مشغولتان بطهوه، وعقلها مشغول بتدبير كساء الشتاء ومطالب رمضان، فجأة يخرج لها الأفندي عاريا إلى منتصفه! باركا فجأة فوقها، حتى لتموت رعبا، وفي اللحظة التالية تماما يفتح الباب، ويقف «حامد» على عتبته، تماما مثلما وقف، ويتم كل شيء مثلما تم الآن كل شيء.
أتكون شيخة؟ أفي أعماقها التي أصبحت نجسة مدنسة ترقد قديسة مكشوف عنها الحجاب، ترى المستقبل؟
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تم هذا كما رأته مرارا وعاشته؟
إنه لأمر فوق قدرتها على التفكير والفهم. إنه لشيء يتوه فيه العقل، وقد تاه فيه عقلها وضل، حتى تاه عن تحديد ذنبها إن كانت مذنبة؛ فقد كانت تؤكد لنفسها إذا هتف بها الهاتف، وارتسمت الصورة أنها بجماع نفسها ستقاوم وستموت حتما قبل أن يستطيع - إنسيا كان أو أفنديا - أن يلمسها. ومع أن الهاتف نفسه كان يؤكد لها أن مقاومتها لن تفلح، وأنها حتما ولا بد في النهاية سترضى وتستسلم، بحيث تقع الكارثة ويكون المقدر، إلا أنها كانت تقاوم وسوسة الهاتف نفسها وتقسم، وتموت غيظا مؤكدة لنفسها أن شيئا مما يقوله لن يكون، ليعود الهاتف يؤكد لها أنه حتما سيكون، برضاها أو بعدم رضاها سيكون، بل هو كائن وحادث فعلا، ودائم الحدوث، إن هي إلا لحظة يغيب عقلها في أدغال مطالب حياتهم ومشاكلها لتفاجأ - كمجيء يوم القيامة - بالأفندي يخرج لها عاليا لترتجف منه وترتعش ارتعاش ستنا مريم، وتقع لها الواقعة!
إنها لم تكن معتوهة أو ذات لوثة، وليس في سيرها أو سلوكها ما يخدش. إنها بنت طيبة من بنات ريفنا ذات عقل راجح، نفس العقل الذي جعلها تفضل «حامد» على «مصطفى»، مع أن «مصطفى» خفير نظامي ماهيته مضمونة، خمسة جنيهات وتسعون قرشا، ويزرع نصف فدان أيضا، وله «عجلة»، بينما «حامد» ليس «حيلته اللضى» وأكبر من «مصطفى» في العمر بخمسة أعوام على الأقل، وأسمر غامق السمرة، ولكنها تظلم عقلها أي ظلم إذا قالت إنه هو الذي اختار، فمن وراء عقلها كان دائما أصبع يشير، أصبع ضبابي غامض يكاد يهمس لها ويصر ويطالبها أن تأخذ «حامد»، وتترك «مصطفى»؛ ف «حامد» يعمل في مصر، وهي على يقين دائم أن حياتها في بلدهم محدودة، وأنها حتما بطريقة أو بأخرى سيكتب لها أن تعيش في مصر، ذلك المكان الرائع الواسع «أم الدنيا» الفخم الفاخر الذي يجلو الصدأ عن الجلد، ويحيل من يعيشون فيه إلى «سنايير». ألم تعد منها «فاطمة» بنت خالتها التي كانت تعمل «خادمة»، وهي كالخواجات بالكاد استطاعت أن تتعرف عليها وهي هابطة من القطار بالفستان والشنطة؟ فما بالك وهي لن تكون «خادمة»، وإنما زوجة وزوجة لبواب يسكن في عمارة أعلى من السماء من عشرة طوابق؟
يا لله! إن الهاتف الذي يهتف بها، ويؤكد أن مقامها سيكون في القاهرة عنده حق، فهي - كما يؤكد لها الكل - ليست مخلوقة لتنغرز من طلعة الشمس إلى مغيبها في الطين. إن جسدها الأبيض الناصع البياض مخلوق للبندر، وحلاوتها من حلاوة مصر؛ فبمقاييس القرية كانت «فتحية» حلوة، بل من أحلى البنات؛ فقد كانت بيضاء وكأنها ابنة أحد الأغنياء؛ إذ الأغنياء وحدهم هم البيض، بيضاء طويلة نحيفة هذا صحيح، ولكنها نحافة سببها الزيت والأذرة، غدا حين تأكل العيش الخاص الغلة، وتغمس بالسمن «ستسمن». مقامها لا بد في مصر، هكذا راح يؤكد لها هاتف، والغريب أنه لم يكن من خارجها، وإنما من داخل نفسها ذاتها كان يوسوس ويهتف. هناك تقيم حيث الشوارع الواسعة الحلوة النظيفة التي تنام على أسفلتها دون أن تعلق بك ذرة تراب واحدة؛ حيث النور الكثير البراق في الليل يحيل الظلام إلى نهار ساطع، بل إلى ما هو أحلى وأروع من النهار الساطع. هناك حيث الستات حلوين وكأنهن من أوروبا، والرجال حمر الوجوه أغنياء يركبون العربات، ويصرفون بالجنيه الكامل في اليوم الواحد دون أن يحسوا والنقود تغادر جيوبهم بلذعة الحسرة. هناك حيث الطعام الكثير والكباب والروائح الحلوة واللوكاندات وبحر النيل الأعظم، حيث يبدأ النيل وينبع.
هناك في تلك الجنة سيكون مقامها، هكذا كان يؤكد لها الهاتف الخفي باستمرار، ولهذا لم تعجب أبدا والأمور ترتب نفسها و«حامد» يتقدم لها وأهلها يترددون، ولكنها هي التي تتحمس وتوافق.
وبعد أسبوع واحد تسافر، وتصبح أخيرا وكما حلمت ألف مرة ومرة في قلب مصر، وفي العمارة التي طالما حاولت تصور أدوارها العشرة، صحيح أن مقامها لم يكن في دور منها، وإنما في حجرة «حامد» التي بناها له صاحب البيت على عجل تحت «السلم»، بناها بتحريض من زوجته على أمل أن يجدوا في زوجة «حامد» حين يتزوج «خادمة» تحل لهم مشكلة الخدم.
ولكن معلهش، الحجرة فسيحة رغم كل شيء، وفيها سرير بمرتبة حقيقية، ودولاب صغير، وتضاء بالكهرباء، واللمبة لها «زر» تدوس عليه هكذا، فإذا ب «تك» ويغمر النور الوهاج الحجرة.
وصحيح أن «فتحية» الحلوة في قريتهم بدت غريبة في القاهرة، وبدت لسكان العمارة كعروس من مسرح العرائس؛ فقد كانت بيضاء طويلة، هذا حقيقي، وملامحها جميلة في حد ذاتها، عيناها جميلتان وأنفها صغير جميل، لا يمكن أن يكون أنف فلاحة، وفمها دقيق بالضبط كخاتم سليمان، ولكن المشكلة أن ملامحها تلك تبدو غير مناسبة مطلقا لقامتها ولحجمها، وكأنها وجه طفلة صغيرة ورأسها قد ركبا لامرأة، أو كأن الرأس قد صغر بطريقة ما ووضع فوق جسد عادي.
ولكن المهم أن «حامد» راق مزاجه، وانقلب من «الكلب الكشر» الذي يعوي طول النهار ويصيح، إلى إنسان مرح ضاحك كالنحلة، صاعد هابط، واقف قاعد، يحيي، ويوصل، ويلبي الطلبات.
أما «فتحية» فقد قبعت في مكانها المواجه للباب من الحجرة ترقب المدخل العريض الواسع، والباب الضخم الزجاجي، باب العمارة، ترقب مصر، أو بالضبط ذلك القطاع من الشارع المواجه الذي يكون «مصر» في نظرها.
قبعت منكمشة على نفسها تتفرج وهي لا تزال أسيرة الرحلة من باب الحديد إلى العمارة التي واجهت فيها لأول مرة ذلك الحلم الذي عاشت تحلم به، ويهتف بها الهاتف من أجله، مصر! مصر التي وجدتها أروع بكثير مما تخيلت أو استطاعت بنت خالتها أن تصف، أروع وأكبر وأعظم ألف مرة، مليون مرة. أيمكن أن تكون الدنيا بهذا الازدحام، أو الشوارع بذلك العرض، أو الميادين بهذا الاتساع؟
أيستطيع الناس أن يعيشوا وسط هذا الحشد الرهيب من العربات التي تمضي بسرعة البرق، بحيث تلهفك إحداها حتما إذا سهوت وتلفت خلفك مرة؟ والدكاكين، والمحلات، والصور، والنور، النور ذو الألوان السبعة الذي ينطفئ ويولع بالكهرباء وعلى «الواحدة» كالمزيكة، والهيصة، والدوشة، والمولد. لقد خيل إليها حين أفلح «حامد» بعد جهاد أن يجرها إلى وسط ميدان باب الحديد، وهي مروعة مذهولة تكاد تجن، أنه لا بد في مصر عيد أو مولد أو شيء آخر لا تعرفه يزدحم له الناس كل هذا الازدحام، وتصدر عنه كل هذه الضجة الهائلة التي ترتجف لها الأذن، فقال لها «حامد» وهو يضحك ضحكة العارف العالم: «إنها حال كل يوم.» فيا لها من مدينة تلك التي يحيا الناس فيها كل يوم في مولد وعيد!
ولكنها في منكمشها خلف باب الحجرة الموارب، وهي ترى من بعيد هذه المرة وتتأمل، بدأت ترى في مصر، تلك التي تلخصت في قطاع الشارع المقابل، أشياء لم تتصور مطلقا أن تجدها في المدينة الحلم. رأت فقراء، فقراء تماما وجوعى وشحاذين، حتى في قريتهم نفسها لا يوجد الفقر فيها على هذه الدرجة من البشاعة، وفيها كذب أيضا وشتيمة وقلة أدب وحرامية ونشالون، حرامية هم السبب في وجود أمثال زوجها الذي يحدثها عنهم وعن حوادث السرقات المجاورة والبعيدة. وستات مصر اللاتي تصورتهن أول ما رأتهن خواجات سنايير، فيهن قبيحات كثيرات، بل معظمهن قبيحات لولا الأحمر والأبيض والطلاء الذي يطلين به وجوههن، فتحمر كالأحذية اللامعة، وتترك صاحباتها أشد قبحا، سيدات بدأت «فتحية» من كثرتهن تحس بنوع من الرضا عن نفسها، تلك التي اعتقدت أول الأمر أنها لن تصلح في سوق النساء في مصر إلا خادمة لأقل سيدة من سيداتها. ووصل الغرور إلى درجة الاعتقاد أنها لو لبست مثلهن لأصبحت محط أنظار الناس جميعا، ولاعتبروها مثلما كانوا يرونها في البلدة ملكة من ملكات الجمال، حتى «حامد» نفسه وعمله ذلك الذي لم تفهمه تماما حين قالوه لها، إنها تصورته شيئا كخفير نظامي للبوابة عليه حراستها في الليل، له نفس احترام وهيبة الخفير ذي البندقية في بلدهم. ها هي تراه شيئا أقرب ما يكون إلى الخدام، ينحني لهذا، ويسرع في تلبية طلبات الست «أم فلان»، ويشخط فيه صاحب البيت ويؤنبه ويشتمه بألفاظ غريبة لعلها ألفاظ الشتيمة في مصر، ألفاظ لم تعرف لها «فتحية» مطلقا أي معنى مثل يا «أحمق» أنت «مياس»! حتى موقفه يوم ألح صاحب البيت عليه أن يجعلها تعمل عندهم، ورفض هو بإباء وشمم مقسما أنه لو حكمت ألا يعمل عندهم أو عند غيرهم، لم تستطع أن تهضم ذلك الموقف وهي ترى الحال البائس وترتيبهم في «سلم» الناس في العمارة أو خارجها لا يسمح بهذه «العنجهية» التي لا يقفها إلا إنسان على الأقل في جيبه خمسة جنيهات؛ تلك فرصة لأكل العيش ولهدمة كستور تلبسها في الشتاء، ولأكلة حلوة نظيفة من المحتمل جدا أن ينالوها بين الحين والحين، ولكن «حامد» يرفض ويركب رأسه، وحين تفتح فمها لتناقشه يصرخ فيها وكأنه صاحب البيت وهي ساكنة الدور الثامن عنده.
والحقيقة أنها في رغبتها للعمل كان أكل العيش حجة، كانت في الواقع تريد أن «تتعرف» على أهل مصر أكثر، وأن تدخل بيتا من بيوتهم، وتحادث ناسا منهم؛ إذ هي في حبستها في الحجرة هكذا لن تمكنها طبيعتها الخجول المنطوية أن تفعل شيئا من هذا، بل لا تملك إزاء نظرات سكان العمارة التي تمتد عابرة المدخل مقتحمة الباب، رامقة إياها أنى تكون، مستطلعة شكلها وجلستها وزيها باسمة أو مغمغمة أو ساخرة، لا تملك إلا أن تزداد انغلاقا وانكماشا وتزداد القيود حولها أحكم، قيود من صنعها، فليس سكان العمارة فقط، ولكن المدينة من حولها حافلة متحركة مائجة، كل شيء فيها يجري ويختلط مكهربا ويكهرب. وهي إلى درجة ما، وزوجها «حامد» لم يكن باستطاعتهما ليس فقط أن يتركا أنفسهما للمدينة وحركتها تفعل بهما ما تفعل بالآخرين، وإنما هذه الحركة الهائجة المائجة نفسها لا تفعل أكثر من أن تخيفهما وتروعهما وتدفعهما للانكماش أكثر، أو بالأصح تدفعها هي؛ «فحامد» - وبالتحديد منذ أن تزوجها وجاءت - استطاع وبطول العهد أيضا أن يتحرر بعض الشيء، ويتحرك ويذهب إلى السيدة زينب ويجوب شبرا مصر، ويعرف أن تغير إذا كنت ذاهبا إلى الحسين، وليست حركة فقط، إنما فهم أيضا ودردحة، فقد بدا ل «فتحية» وكأنه أصبح إنسانا آخر غير «حامد» الأسمر شاب بلدتهم الصامت الخجول، الذي يدير وجهه إلى الناحية الأخرى إذا قابل موكب حاملات الجرار في الصباح، الآن باستطاعته أن يهزر مع عمال الجراج، ويضحك، ويجمع إيجار العمارة كلها ويحسبه بالمليم، بل وأصبح له أصدقاء من أهل مصر نفسها ومن غير بلدياته وأقاربه. هي وحدها الباقية أسيرة الحجرة، أسيرة حتى ذلك الشرخ المحدود الذي ترى عالم مصر منه، شاعرة أنه ليس عالما أو مدينة، إنما هو بحر لا بر له ولا قرار، تسير هي على حافته إن سهت مرة، وزلت قدمها فقل عليها السلام، والمخيف أنه بحر ليس هادئا أو ساكنا أو يأخذ منها نفس موقفها منه، إنما هو بحر جبار صفيق تمتد منه آلاف الأيدي، وتطل منه آلاف الابتسامات كابتسامات الجنيات والنداهات، خادعة تدعوها وتسهل لها خوض الماء، أجل! كلها أيد ماكرة وابتسامات خبيثة، حتى نداء ذلك الساكن الملهوف والنقود في يده والبقال قريب، يد تمتد من البحر تجعل شلل الخوف يجمدها في مكانها لا تتحرك، يد تمتد في مكانها تنكمش أكثر وتزداد انكماشا، وكأنها ما رأت أو سمعت، ملتفتة إلى الناحية الأخرى، أو مخفية رأسها هربا تتمنى أن تحدث معجزة، وتنقذها من الموقف، بينما الساكن حين ييأس يصوب لها نظرة لا تراها، إنما تحسها رصاصة تخترق رأسها، كثيرا ما يتبع نظرته بغمغمة لا تخطئ أذنها فهم ما بها من سباب.
ولكن خجولا فلتكن، منغلقة منكمشة، فلتنكمش ولتنغلق، فللحياة قوانينها التي لا مناص منها ولا مهرب. وهكذا مع الحمل الأول كانت «فتحية» قد غادرت الحجرة، واتسع عالمها فاحتوى المدخل، ومع الطفل الثاني الذي أعقب الأول بأشهر كان قد اتسع حتى شمل الرصيف الملاصق، بل والمواجه، والشارع إلى ناحيته من هنا، وإلى الميدان الذي يؤدي إليه من هناك، والآن أصبحت «فتحية» ترد، بل وأحيانا تثير النقاش، وتلبي الطلبات، وتستطيع أن تفرق بين عربة المدارس القادمة تحمل ابن الدكتور، من العربة القادمة تحمل ابن الموظف في الإذاعة، وكل قصص السكان عرفتها من «حامد» ومن غيره، بل وبلغ بها الأمر أنها أصبحت هي مصدر «حامد» في معرفته لأخبار السكان وأحوالهم، وزائر منتصف الليل الذي يطرق شقة البك الموظف في الطيران، بالذات في الليالي التي يكون فيها «نوبتجيا» في المطار، بل ولم تكن هذه آخر ما بدأت «فتحية» تعرفه عن مصر السفلى وأحوالها وأخبارها، بحيث أصبحت تدرك أن تحت مصر الوجيهة الغنية المؤدبة الوقور، هناك مصر أخرى مليئة بالفضائح والمخازي والأشياء التي لا يعرفها إلا البواب، أو من هو أدهى في هذه الأمور وأمر، زوجة البواب خاصة إذا كانت رغم صغر عينيها ترى كثيرا، وبالذات في الليل، ورغم دقة رأسها تستطيع أن تعرف الفرق بين أخت الزوج الذي تصيف زوجته بأولادها في الإسكندرية، بينما هو يا عيني غرقان في الشغل في مصر، وبين إخوته الحقيقيين الذين يزورون الأسرة طول العام.
والغريب أنها كلها أشياء لم تفسد الحلم في عقل «فتحية» تماما، صحيح نالت منه كثيرا، ولكنها أبدا لم تضيعه، بقيت مصر العظيمة هي مصر العظيمة في نظرها والشر في كل مكان؛ هكذا كانت دائمة الرد على «حامد» حين يجيئها بين كل حين وحين لاعنا مصر وأبو مصر وأهل مصر، الذين فعل أحدهم به كذا أو كيت.
وإذا كان الشر والوحل والقبح في القاع، فالنجاة في العوم.
وهكذا تعلمت «فتحية» أن تفعل مثلما يفعل آلاف وملايين الناس الذين تحفل بهم مصر الكبيرة، ويكونون حركاتها الجبارة الهائلة، وتعوم مثلما يعومون. كل ما كان ينغص عليها حياتها أحيانا هي تلك الانتفاضات التي كانت تفاجئها على هيئة كمين، يخرج لها منه من بين مشاغلها التي أصبحت كثيرة وكثيفة ذلك الأفندي العاري كاليد المهولة الممتدة، مهددة أن تجذبها إلى القاع مباشرة، حيث الوحل والقبح والطين. خرج لها ذلك الهاتف اللعين الذي طالما أكد لها وصدق أن ستكون القاهرة مآلها، ليؤكد لها أنها واقعة في المحظور مع الأفندي لا محالة ومهما فعلت، مسألة تترك «فتحية»، وهي تكاد تنفجر بالغيظ والضيق والاستنكار والتصميم أيضا، تصميم قاطع مانع أن أبدا لن يكون حتى لو دفعت حياتها ثمنا، فأبدا لن يكون، وبيننا الأيام يا مصر. •••
وفي مدينة كبيرة كهذه مليئة بالذئاب، ذئاب الليل وذئاب النهار، ذئاب الأوتوبيسات وذئاب العربات، وحتى الأرصفة وطوابير الجمعيات الاستهلاكية لها ذئاب، وفي عمارة كبيرة كهذه لا يمكن أن يسلم الأمر من وجود ذئب.
والحقيقة أنه كان فيها أكثر من ذئب من العبث التصدي لهم جميعا، فيكفينا ذلك الشاب الأبيض الحليوة قاطن الشقة الوحيدة بالدور الأرضي، أخف سكان العمارة دما، وأكثرهم حيوية وتواضعا، كما أنه خدوم شهم يجيد احترام الآخرين ورفع الكلفة معهم، وكل هذا طبعا لا يعني أنه ليس بذئب؛ فالحقيقة أن هذا السطح البراق الخاطف للبصر كان يخفي ليس ذئبا فقط، إنما يخفي ضبعا شريرا لا ذمة له ولا ضمير؛ فهو مجنون بالنساء جميعا، وفي سبيل أن يظفر بالواحدة منهن مستعد أن يفعل المستحيل، مستعد أن يكذب أو ينافق أو يسرق أو يقتل أو يستعمل القنبلة الذرية لو كان يملك واحدة، والمرأة عنده ليلة واحدة يقضيها معها، وبعد هذا يبحث عن الثانية، وكأنه أخذ نساء الأرض جميعا مقاولة، وعليه أن ينتهي منهن قبل أن يفرغ عمره، وعمره الآن خمسة وثلاثون عاما، وسمعته كالذهب، أو عبقريته أنه استطاع أن يخفي حياته الأخرى هذه عن المجتمع الذي يحيا فيه، بحيث يمشي مع الشرفاء مرفوع الرأس لا يعرف ما بداخله سوى ضحاياه، وحتى ضحاياه كثيرا ما غفرن له، بل وبعضهن أحبه وتعلق به وذاق من العذاب أهوالا. بالطبع كان قد انتهى من كل من رقن في عينيه من سكان العمارة، وبالضبط وهو عائد ذات يوم من عمله، وبعدما حياه «حامد» بطريقة البوابين التي كان قد أتقنها، والتي كان يستطيع بها أن يوهمك أنه وقف بينما هو في الحقيقة لم يغادر مجلسه، و«فتحية» أمام باب الحجرة جالسة قد احتوت رضيعها تمنحه ثديها الأبيض الناصع الشديد البياض الضامر أيضا، الضامر إلى درجة لم يكن يملك معها الإنسان إذا رآه إلا أن يرثي لصاحبته!
ولكن أفندينا - الساكن - لم يرث؛ ألقى عليها نظرة، ثم بالتفاتة مقصودة أو غير مقصودة ألقى نظرة أخرى على «حامد» الذي عاد يمد ساقه النحيلة فوق الساق الأخرى، بحيث يمكنه أن يمد ذراعه، ويسند إليه يده، ويداعب مسبحة رخيصة ناقصة الحبات، بينما وجهه الأسمر الحافل بحفر تشهد أن الجديري قد زار طفولته، وجهه ذاك قد عادت تحتله ابتسامة طيبة مليئة بسعادة ساذجة البراءة، وبدا كما لو كان يعود لينهى - بحماس فاتر - ابنه الأكبر عن تخطيط رخام المدخل بقطعة طباشير عثر عليها، وكان سعيدا بابنه وشقاوة الذكورة فيه سعادة تجعل لسانه ينتقل في نشوة من تأنيب ابنه ونهره إلى مداعبة «فتحية» ومطالبتها بابن ثالث عله يطلع هادئا وديعا كأمه.
استوعب الأفندي الساكن هذا كله في الزمن القليل الذي استغرقه ليصل إلى باب شقته، ويضع مفتاحه في قفلها، وفي ومضة كان عقله المركب بطريقة لا بد غريبة بالغة التعقيد، فمشهد كهذا كان يمكن أن يهز بعضهم رأسه لرؤيته، أو يبتسم في رثاء مثلا، أو حتى إذا كان شريرا، فأقصى ما يفعله أن يسخر بينه وبين نفسه من هذه العائلة الطيبة المسكينة السعيدة. أما هو فقد كان موقفه أن اتخذ في الحال قرارا لا رجعة فيه، أن يلتهم «فتحية»، ويضمها إلى قائمة الضحايا. هو ليس إذن ذئبا عاديا، إنه ضبع، أشد ما يجذبه إلى الضحية هو بالضبط نفس الأسباب التي تدفع غيره من الذئاب لأن يبتعد. إن أسعد مغامراته تلك التي انقض فيها على أرملة في نفس ليلة وفاة زوجها العجوز، أو تلك التي بدأ بها تاريخه حين ضاجع أم زميله الذي كان يذاكر معه. أما تلك الخائفة المنكمشة على نفسها، التي ما خاطبها مرة إلا واستدارت بعيدا مبتعدة أو هاربة، ذات الثدي الأبيض الضامر وزوجة الأسمر الطويل الفلاح «حامد»، فلا علاج لانكماشها على نفسها وخوفها منه ومن مصر والمصاروة، إلا بأن يأتيها عساها تكف عن الانكماش، وتأنس إلى ناس المدينة.
وعبقريته، ولكل عبقريته الخاصة، أنه ما إن يتخذ قرارا كهذا، حتى يبدأ عقله يتفتق عن أفكار جهنمية، وعن طرق ووسائل لا يمكن أن تخطر على عقل بشر؛ فهو خامل كسول ممتعض الابتسامة إلى أن يحدث وتقع عينه على الواحدة منهن ويقر قراره، في الثانية التالية تجده قد استحال إنسانا آخر دبت فيه طاقات الحياة، وتفجرت في عقله الأفكار والخطط، وأقبل على الحياة بشهية مفتوحة، وأصبح كائنا آخر لا تكاد تعرفه.
وقبل أن يدير المفتاح كانت يده قد خبطت جبهته علامة الألم للنسيان، وكانت المحفظة قد أخرجت وخمسة جنيهات قد فردت أمام عيني «حامد»، وعلبة سجاير كليوباترا يا «حامد» نسيت شراءها، هاتها أنت من تحت الأرض بأي ثمن ولو بثلاثين قرشا، والورقة بخمسة جنيهات معك، لا تعد إلا بها يا «حامد»، حتى لو ذهبت إلى شبرا البلد.
يا لمكره وهو يفتح ل «حامد» باب الاختلاس المحدود على مصراعيه! الاختلاس المغري بالغياب وادعاء التعب. ويا لطيبة «حامد» وهو يبتلع «الطعم» في الحال! ويقرر حتى قبل أن يبرح مكانه أن ثلاثة قروش على الأقل ستدخل جيبه من هذه الصفقة، وعليه أن يبرهن أنه استحقها. أما أنت يا ست منكمشة - فبعدما تأكد من ذهاب «حامد» ها هو ذا يعود فاتحا باب شقته الذي لا يبعد عن باب حجرة «السلم» إلا بضع خطوات: مش تشرفينا؟ «فتحية» فعلا وأنت «فتحية»، وابنك الرضيع هذا؟ «سلطان؟» عاشت الأسامي، والثاني «عنتر؟» ياه! عيلة أبطال صحيح، والثالث؟ ما فيش ثالث؟
من هنا نبدأ، ونبدأ بلو كنت من «حامد» لكان الثالث على الأبواب، وعلى هذا الباب الأخير مضى الولد القاهري «المرقع» يدق دقا اكتشف أن «فتحية» بالكاد تعيه. أغباء هذا أم استغباء؟ على أي الحالين عليه أن يغير الأسلوب. المال؟ إن هذا النوع لا يقدر قيمة المال، فلا يعرف قيمة المال إلا من يعرف كيف يصرفه، إلا المتعامل بالمال. الحب؟ إن هذا الصنف أيضا لا يتطلع إلى الحب، أو بالذات حبه، هم لا يرفعون عيونهم أبدا إلى ما فوق الحواجب، ولا يتطلعون إلا لحب من في طبقتهم، أو ربما إذا تطلعوا فإلى الأعلى منها بقليل، أما هو البيه الوسيم الذي يعامل الخمسة جنيهات بهذا الاستهتار فمحال. من أين «أكلك» إذن يا «بطتي» النحيفة المعضمة؟ بخطة بعيدة المدى لا بد، خطة تجعل هذه الخائفة المنزعجة المذعورة تطمئن إليه أولا، وتكف عن الخوف منه، ثم يتقدم خطوة ويرفع الكلفة معها، ثم ينتهز الفرصة أو يخلقها خلقا، ويحاصرها حصارا لا تملك معه إلا السقوط.
وما كاد يبدأ التطبيق حتى أدرك أنه رغم كل ذكائه وفهلوته قد خانته فراسته هذه المرة؛ فهو ما كاد يبدأ الخطوة الأولى لتطمينها بالحديث معها، حتى أدرك أنه ليس أمام إنسانة، وإنما هو أمام حيوان كحيوان القواقع، ما تكاد تحس باقتراب صوت أو خيال، حتى تنكمش وتنكمش، حتى لتستحيل إلى كتلة صماء من اللحم والعظم غير قادرة على الإرسال أو الاستقبال. إنه للآن لم يرها رأي العين، إن هي إلا مرة رأى فيها وجهها، وما كادت تدرك أنه يراها، حتى كان وجهها قد اختفى، واختفى وهي أمامه لم تبرح مكانها ووسامته من أقوى أسلحته، وقد كان يريد لها أن تراه، كان متأكدا أنها إذا رأته مرة، وتطلعت إليه مليا، فإن شيئا ما سيحدث لها، تماما مثلما كان يحدث للعشرات اللاتي سبقنها، ولكن كيف تراه وهو كلما هم بالتحدث معها أحس أن شيئا في داخلها يمنعها أن تسمع، وإذا سمعت يمنعها أن تعي، وإذا وعت يمنعها أن ترد أو تجيب، أو حتى تتطلع لتعرف من الذي يتحدث؟
وقد كان من الممكن أن يحدث هذا ل «فتحية» في أول مقامها بالعمارة، أما بعد أن خرجت وجابت الشارع، وأصبحت تتعامل مع السكان وغير السكان، فهو موقف إذن من الأفندي وحده. «فتحية» في الحقيقة لم تكن تفعل معه هذا اعتباطا؛ فهي ليست غبية ولا فقدت الحذر، وحين تلا حديثهما العابر البريء الأول بحديث أحست به مصطنعا مفتعلا استيقظت فيها فجأة كل مخاوفها القديمة تجاه مصر والبحر والأيدي الممتدة، وملأها الرعب من ذلك الأفندي الذي كثيرا ما هتف به الهاتف، صحيح أن الهاتف لم يحدد شكل الأفندي، ولكنه أفندي تحس أنه عن عمد يتقرب إليها. أليس هذا كافيا لكي يجعلها تحس أنها أصبحت بين أنياب الخطر، وإن هي إلا كلمة تفلت منها أو لين تظهره تجاهه، حتى تنتهي هي وينتهي كل شيء. لقد أصبحت من فرط حذرها بالكاد تنام الليل، ووجود «حامد» نفسه لا يطمئنها، والباب الذي تغلقه وتتأكد أكثر من مرة أنه مغلق لا يفلح في كبت مخاوفها؛ فمصيبتها الكبرى أن الهاتف يؤكد لها أن ما يوسوس لها به سيقع، برضاها سيقع، برغم رضاها سيقع. إنها تكاد تجن، فلتجن أو فلتمت أو ليحدث أي شيء، ولكنها ستقاوم، ولن تسمح لصلة أو حتى كلمة أن تكون بينها وبين ذلك الأفندي، ولتدر المعركة في داخلها في صمت رهيب لا يعلم بها مخلوق، ولا تستطيع أن تبوح بها لمخلوق.
وبالوسع تصور مقدار الفجيعة التي أصابت ذئبنا الضبع وهو يرى جهوده ووسامته وذكاءه تذهب سدى أمام جبروت هذه الفلاحة البيضاء، وانطوائها على نفسها وإغلاق ذاتها دونه، حتى لقد استحالت المسألة عنده من مغامرة كان يعتقد أنها بسيطة عابرة إلى خوف من الهزيمة، واهتزاز كامل بالثقة بنفسه، حتى أصبح عليه لا أن يخوض مغامرة، وإنما أن يثبت لنفسه أنه لا يزال ذلك القادر الذي ما استعصت امرأة عليه قط، ولا فشل مرة.
الأيام تمضي بسرعة مذهلة، حتى لقد مضى على قراره شهران، وهو لا يزال قرارا لم ينجح لخطوة صغيرة واحدة في طريق تنفيذه. وتفكيره في المغامرة، وفي «فتحية» دائب صباح مساء، حتى أصبح هذا الموضوع أهم ما يشغله في حياته، بل لم يعد في حياته سواه. أحيانا كان يفيق لنفسه، ويستنكر أن تكون هذه حاله، وأن يكون هو نفسه الذي جاب مملكة النساء بسمائها وأرضها ونجومها، وجربهن جميعا من الأميرات إلى الغسالات، بل والسائلات، هو نفسه الذي يهب كل ذلك الوقت والمجهود والتفكير لامرأة ك «فتحية»! إن هناك خطأ في الموضوع لا يعرف سره، ومن المحال أن يفشل، حتى لو كلفته هذه المغامرة عمره. وأحيانا يفيق ليواجه سؤالا لم يوجهه لنفسه أبدا: أيكون قد أحب «فتحية»؟ إذا قيس الحب بمقدار الكم من الوقت الذي يقضيه المرء يفكر في حبيبه، فهو إذن ليس في حالة حب فقط، ولكن في حالة حب عظيم نادر؛ فلم يحدث من قبل أن تفرغ إنسان للتفكير في إنسانة كما يفعل هو مع «فتحية»، بل وها هو ذا حين يجد صدها له كاملا حاسما نهائيا، وليس ابن يومه فقط أو لحظته، وإنما من الواضح أنه سيظل هكذا إلى الأبد، حين أدرك هذا ويئس تماما من كل محاولاته أصبح كل همه وأمله ألا يحادثها أو تحادثه، ولا حتى أن يحلم أن يوقعها، وإنما أن يراها، مجرد أن يراها. وحتى هذا الطلب البسيط الشديد التواضع أصبح عسيرا هو الآخر صعب المنال؛ فلقد تزايد خوف «فتحية» وتزايد بالتالي حذرها إلى الدرجة التي أصبحت نادرا ما تغادر فيها الغرفة، حتى إذا غادرتها مضطرة، فلتعود إليها مسرعة لهفى، وكأنما في أثرها سرب من التماسيح. وأصبح على ساكننا لكي يراها أن يلجأ للصدف وحدها تدبر له الأمر، ولكي يزيد احتمالات الصدف كان عليه أن يمضي أطول وقت في المدخل أو في باب العمارة أو قريبا من باب شقته، وأن يفعل هذا و«حامد» موجود مسألة لا بد تدعو للشك؛ ولهذا كان عليه أن يرسله في مشاوير، ولكيلا يفعل هذا بكثرة تثير ريبته، وبحجج دائما وجيهة ومعقولة، كان عليه ألا يرسله كثيرا؛ وبالتالي يقلل من احتمال وجوده قريبا من باب حجرتهم، مشكلة عويصة كانت تستنفد من وقته وجهده الأيام الطوال لكي يتمكن فقط من أن يراها، وحتى لم يكن يراها، كان فقط يلمحها، يلمح شيئا يرتدي الجلباب الأسود الذي عادت إليه صاحبته تتحصن فيه، بعد أن كانت قد خلعته ولبست مثل أهل مصر، الملون والمشجر. •••
وفي ظهر ذلك اليوم من أيام الصيف في وقت القيلولة تماما، وقد انتظر أسبوعا بأكمله ليتمكن من إرسال «حامد» إلى مشوار في شبرا، كان الحب والوجد والقلق قد استبد به إلى درجة لم يعد يحتمل فيها الأمر لثانية أخرى. كان قد انتهى تماما وأصبح مستعدا لأي شيء من أجل أن يظفر ولو بكلمة واحدة منها، مستعدا أن يبوح لها بحبه، وأن يعرض عليها الزواج، وأن يتزوجها في الحال، وأن يقتلها إذا رفضت، وأن يقتل «حامد» إذا تعرض له، كان قد بلغ مرحلة اليأس الكامل المطبق، ولم يعد أمامه إلا أن يقتحم عليها الحجرة وليكن ما يكون.
ولقد فعل.
ولأن الطفل الكبير كان قد فتح الباب الذي أغلقته أمه، وخرج إلى الحارة الجانبية ليلعب، فما كاد يدفع الباب حتى انفتح، وحتى وجد نفسه وجها لوجه أمامها، وكانت واقفة تحمل الرضيع بجوار رأس السرير، وبرغم كل ما كانت تحفل به نفسه من هموم وقرارات ومشاغل، برغم الكلام الذي كان قد جهزه ليحاصرها ويمطرها به، فإن كل شيء ما لبث أن تبخر من عقله تماما، لا لمرآها، وإنما لما حدث لها لحظة رؤيته؛ فالأشباح نفسها إذا ظهرت لها ما كان يمكن أن تحدث نفس الأثر، لا حتى ولا الموت نفسه لو رأته مجسدا! لكأنما رأت شيئا أعتى من الشيطان والموت والأشباح، وكل شرور الدنيا. لقد كانت مطمئنة اطمئنانا كاملا إلى كل الإجراءات التي اتخذتها لتصبح في مأمن منه. كانت شيئا فشيئا قد بدأت تثق أنها انتصرت على الهاتف والقدر والمكتوب، واثقة أنه قد أصبح مستحيلا على الواقعة أن تقع ما دامت قد أحاطت نفسها بسياج الاحتياطات تلك، حتى أصبح مستحيلا على ذلك الأفندي مجرد رؤيتها. أما أن تلتفت فجأة لتجده أمامها وجها لوجه، في حجرة خالية، بينما «حامد» بعيدا جدا في شبرا البلد. أما أن تحس أن قدمها قد زلت بغتة من مكانها الحصين المرتفع، وأنها في طريقها إلى أن تهوي إلى سابع أرض، إلى القاع. أما أن تدرك أن إرادة الهاتف انتصرت على إرادتها، وأن الأفندي ها هو، كأنه القدر، كأنه المقدر، كأنه النداهة من دم ولحم ووجود، فهي الصاعقة التي انقضت على عقلها فصعقته. لا، لم تكن إنسانة مرعوبة تلك الواقفة، إنما هي إنسانة مصعوقة، مشلولة، منتهية، في ومضة واحدة انتقل لونها من البياض إلى الصفرة الرمادية الكاملة، صفرة الموت الرمادية، ومن إنسانة ترى وتسمع وتشعر إلى إنسانة أصابها الصمم، وتوقف اللسان في حلقها وتضخم حتى كاد يملؤه. صاعقة بترت تماما صلتها بالحياة، كأنها الصاعقة التي انقضت على «حامد» حين رآها، والموت الذي تلا كان كالموت الذي داهمه، وبتلقائية غريزة البقاء وحدها مدت يدا قد بدأت ترتعش ارتعاشا ظاهرا يرعب مشاهده، تمسك برأس السرير تتشبث بها، بينما الطفل من فوق صدرها ينزلق، وبالغريزة وحدها تحميه بيدها من السقوط المفاجئ، فيصل إلى الأرض سالما قد بدأ يبكي وينتحب. وما كاد هذا يحدث وتطمئن الأمومة، حتى لم يعد للحياة نفسها أو التماسك قيمة، فبدأ الجسد يتمايل ويدوخ، وينزلق مهددا بالسقوط، بل سقط سقطة لم تتم؛ إذ في الحال وبجهد خارق كان ذئبنا الضبع هناك يتلقاها بيديه الاثنتين، وقد فغر فاه بالدهشة؛ فآخر ما كان يتصوره أن يحدث هذا، وأن تسقط الثمرة من تلقاء نفسها بين يديه دون مشقة أو تعب، دون كلمة، دون حتى حركة واحدة أقدم عليها أو جهد ولو ضئيلا بذله. لقد جاء وفي نيته أن يحارب معركته الأخيرة بكل قواه، واستعد ليواجه ليس فقط «فتحية» أو «حامد»، وإنما العالم كله، استعد لأي شيء، للفضيحة أو القبض أو القتل، جاء وهو يائس تماما أن يظفر منها بشيء؛ فالتي تضن عليه بمجرد أن يلمسها أو يراها، هل من المعقول أن تنيله مهما فعل شيئا أكثر من هذا؟ أكثر من أن تتاح له فرصة أن يراها، مجرد أن يراها، ولو كان ثمنها فضيحته أو مصرعه، فإذا بها بين يديه طرية كالخرقة، مستسلمة تماما، متاحا له منها كل ما يمكن أن يحلم به، إذا بها أقرب ما تكون إلى جثة، جثة لم تفعل أكثر من أنها أيقظت فيه ذلك الضبع القديم الذي يسيل لعابه لمرأى الجثث. الضبع الذي كان قد اختفى في أعماق شخص بلغ به الحب والوجد والشوق إلى «فتحية»، مستوى رفعه إلى مرتبة المحبين الكبار، محب مدله جرب السهد والسهر والغيرة والشك والعذاب، العذاب الذي نال منه وأوهن جسده، حتى رق ودق وارتقى بمشاعره، حتى أصبح يحس ويفكر ويتصرف كشاعر! فجأة نفض الضبع الكامن الذي يكاد يختبئ ويموت تحت ما ترسب فوقه من مشاعر وطبقات، نفض عن نفسه هذا كله، وانتصب تلمع عيناه ببريق الفوز، ويرتجف جسده ترقبا لمائدة المتعة الأكيدة المرتقبة، لا يفصله عنها إلا لحظة زمن يريد بكل ما يملك من شر وجشع أن يختصره حتى ليلغيه تماما، ويبدأ يلتهمها ويتلمظ.
وهكذا، ومنتهزا فرصة الغيبوبة الكاملة العابرة كان قد أرقدها على الأرض، ودفع الطفل بغل فأبعده، وأطلق الطفل صراخه مذعورا عاليا لا يأبه له، بل إنه ليضيف كثيرا من البهار إلى المائدة الجثة. وبيد حديدية مدربة طوقها، وبيد مرتعشة بالرغبة مبهورة بالانتصار الساحق السريع تكاد لا تصدق نفسها أو ما يحدث، دفع بنطلونه دفعة واحدة تعرى على أثرها تماما، وبنفس اليد مزق ملابسها وهو يحس بالصوت الصادر عن التمزيق بنشوة دونها أي نشوة أخرى على وجه الأرض، وحتى لو كانت في طريقها إلى الموت على أثر نزيف مثلا أو سكتة لكانت من غيبوبة الموت الحقيقي قد استيقظت، فللغريزة الحارسة للغريزة سلطان على الجسد أقوى من أي سلطان آخر.
وهكذا ما كاد يحاول أن يصل بانفعاله إلى آخر مدى، حتى كانت وكأنما مسها تيار مكهرب موقظ قد صحت، ومع أن الصحوة كانت صحوة عقل وإدراك إلا أنها بجماع ما تملك من طاقة وقدرة، بآخر رمق، بذلك الكم الضئيل من القوة التي يدخرها الجسد ليقول بها آخر «لا» في حياته، قاومت. تململ جسدها يقاوم مقاومة لم تفعل أكثر من أنها استدعت إلى الوجود كل قوى الذئب الضبع الكامن وحشدها في ساقيه وذراعيه، حتى التفت حولها كقيود من فولاذ لا يرحم، وبآخر ما تملك أيضا تململت، وبكل ما يملك أطبق. وكان ممكنا أن تصرخ تستنجد بالناس أن يقاوموا لها، ولكنها رفضت وأبت؛ فالمعركة معركتها وحدها، ولن يفعل إدخال الناس أكثر من فضحها؛ إذ السهم الآن نافذ فعلا، والمكتوب قد حدث، وقد يمنع الناس استمرار حدوثه، ولكنهم أيضا سيكونون شهود حدوثه، وتلك هي الكارثة التي تواجه الموت أو السقوط الخاص الذي لا يعرفه أحد، ولا تواجهها.
وحين فتحت عينيها - وقد ذهب الرعب وحل الغضب - تريد التفرس في قاهرها، واتسعت عيناها دهشة وحقدا وخوفا؛ فعلى بعد قراريط من وجهها كانت ترى وجهه لأول مرة وتتفرس فيه؛ فهي أبدا لم تر وجها مثل وجهه حليقا ناعما أحمر وسيما، وعيناه خضراوان لهما رموش طويلة، ورائحة حلوة، وأسنان بيضاء مرصوصة بدقة، وفمه حلو يتمنى أي فم أنثى أن يقبله، وابتسامة كبيرة، ابتسامة فوز وفرح تحتل الوجه كله، وتظهر له غمازتين عميقتين على جانبي الوجه وطابع حسن، ابتسامة داعية ناعمة كأنها واحدة من آلاف الابتسامات التي كثيرا ما حلمت بها هي والأيدي الممدودة تدعوها في لطف وإصرار إلى ترك بر الأمان والغوص إلى القاع، حيث الأشباح والطين، ابتسامة ما إن رأتها حتى بدأت تتململ مقاومة من جديد إذ أحست وكأنها ابتسامة القاع نفسه، يدعوها وبخبث ونعومة ودهاء يريد التغرير بها، مقاومة لم تفعل أكثر من أنها مكنته تماما منها، حتى أصبح كل جزء فيها ملتصقا وملتحما بكل جزء فيه. لقد ظلت تخاف من العفريت، حتى طلع لها، ومن وسوسة الهاتف حتى تحققت. ظلت تصمم وتصر وتحتاط حتى نفذ السهم، ووقع المحظور وانتهى كل شيء، والخوف المستمر الدائم والهاتف والحلم والحقيقة كلها قد التقت الآن في لحظة واحدة، لحظة غريبة مفعمة مليئة محشودة بآلاف اللحظات والخلجات، لحظة أخطر ما فيها أنها تدرك أنه لم تعد هناك فائدة، حتى الرعب والخوف أصبح لا فائدة منهما، والمقاومة لم يعد لها داع بالمرة؛ فالسهم نفذ.
ولم يعد أمامها إلا أن ترجوه وتستعطفه، لم يعد أمامها إلا وسيلة العاجز، أن تبكي، ولقد بكت، وأن تتذلل، وأنا في عرضك، أنا صاحبة عيال، جموع وكلمات لم تكن تفعل إلا أن تضيف إلى الأكلة كل ما يتمنى الضبع العجوز إضافته من شطة وسلطة وعصير ليمون وخل، وحين استمرت تبكي وقد ازدادت حرقة البكاء ولوعته لم تكن تريد به مزيدا من رجائه واستعطافه، إنما كانت في الحقيقة تبكي من أعمق أعماق قلبها على نفسها وعلى عجزها، بكاء يا للعجب! لم يستمر طويلا.
فقد بدأت تحس بأشياء غريبة عجيبة تنفذ إلى ذاتها وجسدها، أشياء جديدة مذهلة كبريق مصر الخاطف، أشياء أحست معها كما لو أن كل النيون الأحمر والأزرق والبنفسجي ومهرجان الأضواء والألوان، كل الوجوه الحلوة الحليقة والملابس الغالية الأنيقة، كل الروائح العطرة المنعشة المخدرة، والشوارع الواسعة المزدحمة النظيفة، والمتنزهات، والأشجار، حتى الأشجار مجففة الأوراق مقصوصة كتسريحات السيدات، كل الترمايات والعربات الفارهة، والسينمات والوجوه الخارجة من السينمات، والكباريهات والراقصات، كل الأطفال الأصحاء النظيفين والأمهات والأجزخانات والأرتستات، كلها تتجمع وتتسرب إليها، إلى داخلها المرتعش الخائف المهزوم المبهور، وهي حتى في عجزها وإدراكها ويقينها بالهزيمة التامة الساحقة بكل ما أوتيت من قدرة تقاوم ولا تكف عن المقاومة، والأشياء الغربية الكثيرة لا تكف عن التسرب، فتعود تقاوم مستميتة أكثر، تقاوم مدينة بأكملها تتسرب إليها، ورغما عنها تتسلل إلى كل خاف فيها ومستتر، وكان لا بد في النهاية أن تكف عن المقاومة تعبا ويأسا، ثم يقينا تاما من اليأس، ويأسا تاما من أن معجزة ما لم تحدث وتنقذها في نهاية الأمر، وإن بإرادتها وبغير إرادتها، تماما كما كان الهاتف يؤكد، قد حدث كل شيء. أما ما لم يذكره الهاتف، ولا كانت تتصور للحظة أن من الممكن أن يحدث، أما أن تبدأ تتحول من استسلام مغلوب إلى استسلام مستمتع، فهو رغم حدوثه الشيء الذي كان لا يمكن حتى وهو حادث أن تصدقه، فالمشكلة أنها ما كادت تبدأ تحس بهذا، حتى كان الباب قد فتح، وعلى عتبته وقف «حامد» طويلا رفيعا، مصعوقا أسمر غامق السمرة. •••
طالت وقفة «حامد» عند الباب الذي كان بلا وعي قد أغلقه، و«فتحية» مستلقية لا تزال يدها متشبثة برأس السرير، وجسدها مفتوح الساقين مغطى، وليس في عقلها سوى رغبة ملحة لا تنتهي أو تتزحزح، أن يصنعها «حامد» وينتهي. إنه الطريق الوحيد الذي لا بد يمتد إليه المقدر والمكتوب؛ فبعد كل ما حدث كيف يمكن للحياة أن تستمر؟ وكيف باستطاعة أي شيء أن يعود كما كان؟ إن الأمور لا يمكن أن تستقيم، ومستحيل أن يهجع أي منهما أو يرتاح راحته الكبرى إلا بأن تموت «فتحية»، وبيد «حامد» لا أقل.
لا حل للموقف كله إلا بأن يقتلها «حامد» ويستريح، وتستريح، ولكن الغريب أن الهاتف كلما وصل إلى هذا الحد كان يعود يطل برأسه، ويؤكد لها أن «حامد» لن يقتلها، وأنها لن تموت، وأنها سيكون لها مصير آخر.
وتعب «حامد» من الوقوف الطويل المتفرس وجلس، وجاء الولد من الخارج «بزيطة» وطلب ملح للطعام، وحين أحس بالصمت الملغم المستمر انتابه غير قليل من الخوف فسكت، وما لبث أن نام.
وأظلمت الدنيا وأصبح ظلام الحجرة تاما شاملا.
ولم يجسر أحد أن يضيء النور.
بقي «حامد» على جلسته عند الباب يدخن من علبة السجاير الصغيرة التي اشتراها بما توفر له من نقود الأفندي.
و«فتحية» بهدوء شديد تجلس، ثم ترقد، ثم تعود إلى الجلوس، وتنتظر من «حامد» أن يفعلها وينتهي. كل ما كانت ترجوه بينها وبين نفسها ألا يأخذها على سهوة، إنما بطريقة أو بأخرى يرحمها، ينذرها، فلم يعد في جسدها ذرة واحدة قادرة على تحمل المفاجأة، أية مفاجأة، ويكفيها ما رأت من مفاجآت.
حاولت مرة أن تتكلم فأسكتها «بزومة» منه، «زومة» حيوان جريح.
وحين غفت عيناها لبرهة وصحت على نهنهة رجالية منخفضة مكتومة كادت تجن، غير مصدقة أخيلتها. هل هو «حامد» الذي يشهق ويبكي؟ أيبكي؟
أكان صنع هذا لو كانوا في بلدهم؟ أأصيب هو الآخر باللعنة وهزمته مصر ورخرخت إرادته وطبيعته، حتى لم يعد قادرا على قتل زوجته وهو يضبطها متلبسة مأخوذة؟ أصحيح لزلتها يبكي؟
كادت تزحف إليه راجية أن يكف، مطالبة إياه أن ينتهي فورا عن بكاء النساء، ويعود رجل القرية الذي عرفته، ويريحها، ويقتلها. كادت؛ لأنها حين فتحت فمها ترجوه تصاعدت صرخة كزئير أسد غاضب، سمرتها مكانها بلا حراك.
وفعلا لم يقتلها «حامد»، وإنما في الفجر كانت العائلة الصغيرة تغادر باب العمارة الضخمة المهيب، وكان «حامد» يحمل عزالهم كله، وقد لفه في ملاءة سرير صفراء حملها ب «الزقلة» على كتفه، وباليد الأخرى كان يسحب الطفل الكبير نصف النائم، بينما «فتحية» في المقدمة تحمل الطفل الآخر. وبرغم أنهم خارجون إلى مصير مجهول لا تعرفه، فقد كان ما تخافه في تلك اللحظة هو أن يبرد الولد، فراحت تحوطه بذيل ثوبها الذي رفعته، ومضت تلفه به وتشتد في ضمه، بينما نداء أخرس يرتفع منها، ويهيب ب «حامد» أن يخرج البطانية من اللفة، ويحيط بها الطفل الآخر، نداء أبدا لم يغادر فاها؛ إذ هما لم يتبادلا منذ الأمس كلمة.
وسيرا على الأقدام مضت القافلة الصغيرة تحتمي من برد الصباح الباكر بالجدران، ويتركها ظلام عمارة لتتسلمها ظلال عمارة أخرى؛ إذ كان قمر الفجر قد طلع.
قافلة صغيرة تتسلل منسحبة من المدينة الكبيرة الراقدة في صمت ولا مبالاة، لا تحس بهم ولا بما تحفل به صدورهم من أهوال، نائمة تشخر في براءة وضمير مستريح، وكأنها ما فعلت شيئا، حتى لقد بلغ الغيظ ب «حامد» إلى حد التفكير في أن يلقي «بصرة» العزال جانبا، وينهال ب «زقلته» ضربا ودشدشة وتكسيرا على فتارينها المضيئة، وعرباتها اللامعة المستكنة، وحتى أسفلت شوارعها المغسول. كان من جماع قلبه قد أصبح لا يطيق حتى مشيه في شوارعها وهو يغادرها، لم تعد في نظره مدينة، لقد أصبحت كابوسا خانقا بشعا!
وفي أول قطار قطع لهم «حامد» التذاكر.
لكنه عاد لبلدتهم وحده.
فقد غافلته «فتحية» في ازدحام القادمين والراحلين في باب الحديد وهربت.
عادت إلى مصر، بإرادتها هذه المرة، وليس أبدا تلبية لهتاف هاتف أو نداء نداهة.
مسحوق الهمس
حين هدأت أتأمل الروعة في المسألة، وجدت نفسي أمامها كالطفل الصغير الأبله، الذي وقف يحدق في الجسد العاري تماما لسيدة ناضجة الأنوثة، وهو غير قادر على الربط بين ما يراه وبين ذاته، أو حتى بين رغباته ومشتهياته الخاصة وبين هذا الجسد المستسلم العاري، الذي أصبح فجأة أمامه، وملك ناظريه، ويديه، وحواسه.
كنت باندفاع وتهور وجنون فرحا، ولكنه فرح لا أدري ماذا أفعل به أو لماذا اعتراني أصلا؟ كاد اليوم يمر مروره الأزلي الخالد لولا أنه قبل «التمام» ربما بساعة، «ترت ترت» فوجئت ببابي يفتح، وعبد الفتاح الطويل الرفيع الأسمر يظهر، وقبل أن ينطق كانت عصاه الخيزران التي تفتتت نهايتها على ظهور «النبطشية» تدق كعصا «النقرزان» على باب الزنزانة، دقات كمزاج صاحبها في النهار عصبية متعجلة ملحة: يالله! لم عزالك يالله! بسرعة يالله! شيل نزامك (نظامك)، برشك وبطانيتك وتعال بسرعة! «النزام» بسرعة بسرعة! يالله بسرعة!
كلماته الخارجة كتكتكة مفرقعة متلاحقة لمسدس أطفال، ودقات العصا «النقرزانية» وازدياد تفتتها، والإلحاح المزعج واللهفة والسرعة، وفي ومضة كنت أحمل كل ما يخصني في الزنزانة، حتى «جردل» البول حملته؛ فقد كان جديدا يوفر علي مئونة الحبس مع «جردل» قذر، وتبعته واضطراب الفرحة يبعثر خطاي. أعرف أنه مجرد «عزال» لا أفراح فيه ولا زيادة، أو حتى أمل في أي منهما، ولكنه حدث هائل يقع؛ إذ هو جديد لم يحدث بالأمس، ولن يتكرر غدا. إلى أين؟ لم يكن مهما، حتى لو كان مع «الإخوان». لم أستطع ملاحقة خطوات «الأومباشي» عبد الفتاح السريع المضحك، الذي يبدو به وكأنه يخوض سباقا للأرجل الخشبية، وبدأت المسافة بيني وبينه تتسع، وأنا أجاهد ولا أستطيع، وكأنني من طول الجلوس نسيت المشي. بعد بضع خطوات بدأت ألهث وأتساءل جادا هذه المرة عن وجهتنا؛ إذ كنا قد غادرنا السلم الهابط إلى أسفل، والثاني الصاعد إلى أعلى، وتركنا منطقة «الإخوان» والمحبوسين احتياطيا وتحت التحقيق، ولم تعد سوى أمتار قليلة وينتهي «العنبر». أتكون وجهتنا نهاية «العنبر»؟
بالضبط عند باب آخر زنزانة وجدت «الأومباشي عبد الفتاح» يتوقف، ويستدير بسرعة إنسان انفلت عياره، ويمضي جسده يتململ ويتشنج ضيقا بتخلفي وراءه: بسرعة! بسرعة بسرعة! النزام، نزامك بسرعة! - يا أومباشي أنا مش ... - من فدلك! من فدلك! ما فيش كلام! ما فيش كلام النزام! بسرعة خش أودتك، بسرعة بسرعة!
وبسرعة بسرعة دخلت، و«ترت ترت» انغلق الباب ورائي بالمفتاح، ووجدت نفسي جالسا فوق «النظام» مسند الظهر إلى الحائط، نفس جلستي من دقيقتين، دقيقتان هذا صحيح، ونفس الجلسة، ولكن يا له من فارق! فارق جعلني أخبط جبهتي بيدي خبطة ارتج لها عقلي. إن الزنزانة الجديدة التي انتقلت إليها، وإن كانت تقع في نهاية «العنبر»، لكن «العنبر» لا ينتهي بها؛ إذ هي في الحقيقة تقع في منتصفه، فالنصف الثاني كله مخصص لسجن النساء.
النساء!
من قال إن السجن هو فقط مصادرة حرية الإنسان؟ إن فقدان الحرية ليس سوى الإحساس السطحي الأول؛ فالإنسان يظل يفقد أشياء كثيرة جدا، كل ما يملكه أو باستطاعته امتلاكه، كل قدراته ومكتسباته، كل صلاته وقراباته وأحلامه وطموحه، كل ما ينفرد به كشخص، وكل ما يتساوى به مع المجموع، كلها بعد معارك استماتة وتشبث طاحنة، لا يلبث أن يجدها رغما عنه وأمام ناظريه وبقوة الحبس والعزل القاهرة، تتسرب واحدة وراء الأخرى، هو لا يملك لها ردا ولا منعا، حتى الأمل في خروجه من ذلك «الليمان» والإفراج عنه بعد أيام طويلة من المراودة والمطاردة والإلحاح، إلى درجة أن يفسر كل فتحة باب على أن الشاويش قادم بأمر الإفراج، وكل حذاء ثقيل يدق أرض «العنبر» على أنه حذاء المأمور أو المدير جاء يحمل قرارا خاصا بالإفراج، كل شعاع شمس يدخل على أنه آخر صباح، كل غروب أحمر مخنوق شنقت نافذة زنزانته شعاعاته وخنقتها على أنه آخر غروب، حتى تصل الأزمة أحيانا حد تهديد العقل، وفي مرات تطيح به، ثم يصحو الإنسان ذات يوم وهو يحس بالراحة الكبرى، وقد انتهت الأزمة، ومات الأمل تماما، وحل اليأس الكامل. حين ذاك فقط تبدأ حياة السجن الحقيقية، حياة أخرى مختلفة عن حياة الناس، حياة لا أمس لها ولا غد، وإنما طولها يوم واحد بالتحديد، ذلك اليوم الذي تحياه، يولد المسجون مع صاحبه ويحيا أحداثه، وكأنها أحداث حياة بأكملها عريضة وافرة الغنى. إن مد فترة الذهاب إلى دورة المياه من 10 دقائق إلى ربع ساعة تعادل في الفرحة بها قرارا يصدر بمنحه إجازة ثلاثة أشهر يقضيها على حساب المصلحة في أجمل مصايف أوروبا. إن تغيير «الحلاوة الطحينية» في العشاء بالعسل الأسود يتجاوز في أثره، واحتفال المسجون به، قرارا استثنائيا بمضاعفة مرتبه إلى حد ينقله من طبقة تتعشى بالعسل الأسود إلى الطبقة التي تتعشى ب «الكافيار والرومي». إن العثور على قطعة ورق من جريدة قديمة، حتى لو كان تاريخها يرجع إلى أعوام مضت وقراءة أي خبر فيها عن أي شيء، ولو كان العثور على لقيط بجوار مستشفى «أبو الريش»، يعادل الدهشة والذهول الذي ينتاب إنسان الحياة العادية حين يفاجأ بالجرائد تنشر على صدرها بالبنط العريض نبأ اكتشاف سر الحياة، بل كانوا يحضرون لنا الطعمية في الصباح ملفوفة - زيادة في تعذيبنا بمنع أي متعة عنا، ولو كانت قراءة الأخبار القديمة في الصحف العربية - في جرائد ألمانية، لا أعرف من أين استطاع المتعهد الهمام أن يعثر على كل تلك الكميات منها.
وكانت جرائدي اليومية هي تلك القطع المشبعة بالزيت من أوراق الصحيفة الألمانية، التي لم أعرف لها اسما. أما وقد انقطعت عنا تماما أخبار العالم الخارجي، فقد كانت أخبار الصباح بالنسبة لي ليست أحداثا أو «مانشتات» أو حروبا وثورات واكتشافات، كانت أخباري أن أنجح رغم بقع الزيت في قراءة كلمة ألمانية كاملة ونطقها. كل صباح كنت لا أترك الورقة، حتى أنجح في قراءة كلمة، وحينئذ أضع الورقة جانبا، وأتنهد بأعظم وأعمق ارتياح. أقسم أنه كان أعظم وأعمق من ارتياح قد يحسه إنسان قرأ مع إفطاره كل جرائد العالم وعرف أخباره واطمأن أن كل شيء فيه على ما يرام. أما المتعة الكبرى، المتعة التي لم يظفر بها إنسان، فهي تلك التي أحسها حين أنجح مستعينا باللاتينية التي أعرف بعضها، وبالإنجليزية والفرنسية وبالفهلوة المصرية أن أعرف معنى كلمة نجحت في قراءتها. وأبدا أبدا لا يمكن للزمن أن ينال من فرحتي ذلك الصباح الذي نجحت فيه في معرفة معنى كلمة «فريدان»، وخمنت أنها «الحرية».
النساء!
تلك الحياة المسجونة الثانية التي تجد نفسك تحياها، وتخضع لقوانينها، حياة كحياة المشلول، أو من أصيب بالعمى، أو فقد بعض عقله - أضيق قليلا من حياة الناس - ولكنها أيضا مزدحمة، بل حتى أناسها ليست لهم شخصيات جديدة لا بد تختلف بدرجة أو بأخرى عن شخصياتهم التي يعرفهم بها الناس في دنياهم العادية. تفاجأ أحيانا بمن كان طبعه الضجر والملل والتكشير، وقد تحول إلى «بلياتشو»، وأصبحت شهرته أنه «ابن نكتة»، ومجلسه «مجلس أنس»، والمخيف المرعب، وقد تحول إلى فأر مذعور، والمتواضع الغلبان وقد انتصب من داخله شجاع عنيد. وأحيانا يضاف إلى كل منهم «لحسته الخاصة»، إطلاق الذقن مرة، أو الإغراق في الصلاة، أو موهبة قول الشعر، وكتابة القصص، وقد نمت فجأة وبلا سابق إنذار، وتتجمع فئات تلك الحياة الموازية الخاصة، وتستدير كي تصنع حياة تكاد تكون كاملة، أقول تكاد؛ لأن أمرا حيويا واحدا يظل ينقصها.
النساء!
بعدما تنتهي من إعادة تذكر كل قصص الحب والعلاقات بالنساء في حياتك وتجترها مرارا، بعدما ترتوي ما شئت من أحلام يقظتك، ومن تصورك لكل ما استحال عليك بلوغه ممكنا، وكل وقائع فشلك، وقد انقلبت إلى معارك فوز وانتصار، بعدما تستميت دفاعا عن كنوز ذكرياتك تلك ضد العدو الأوحد، السجن وعمله في النفوس، تبدأ تحس أنها رغم استماتتك تتسرب من قبضتك المطبقة عليها، وتتركك وقد بدأت تنسى أنك رجل؛ إذ قد تلاشى من وعيك كل ما كان يذكرك برجولتك، واختفت من عالمك الجديد كل لمحة أو بادرة تعيد لك الذكرى، وهكذا تحيا ونفسك الجديدة تعمر بكل شيء من آيات الحياة إلا منطقة منها مجددة مجدبة قفراء لا أمل لها في ماء أو نماء.
هكذا جلست أحدق في الحادث المروع الذي وقع، والذي نقلني فجأة من عالم اندثرت فيه الذكورة والأنوثة من زمان وانمحت، إلى وضع أنا فيه أرتكن إلى حائط ليس وراءه إلا نساء في نساء، كبيرات وصغيرات، وسمينات ورفيعات، وبيضاوات وسمراوات، وعلى كل لون وبأي شكل تشتهي وتريد، أحدق مروعا مشتتا، عاجزا عن أن أصنع أي شيء بالمرة.
إني في الزنزانة التي يتقاتل المساجين عليها ويقدمون الرشاوي ل «شاويشية» الأدوار كي يمنحوهم إياها. في الزنزانة الشهيرة التي لا يزال السجن يتناقل جيلا بعد جيل قصة الواقعة التي جرت فيها يوم أن احتلها أحد «اللومانجية» الذي قضى عشر سنوات في «الليمان»، وكان لا يزال أمامه على الإفراج عنه عشر سنوات أخرى، وكان مارا على السجن في «ترحيلة»، واكتشفوا في الصباح أنه استطاع بجبروته والاستعانة ب «مطواته» التي مهما فتشته لا تعثر لها على أثر، أن «يثقب» الحائط المبني من «الدبش»، والكائن بين زنزانته والزنزانة المجاورة في سجن النساء، بحيث أمكنه أن يصنع «ثغرة» نفذ منها بجسده إلى جاراته المسجونات الثلاث اللاتي تقبلن الحفر والثقب واللومانجي دون استغاثة، بل يقال إنه «ضاجع» حارسة الليل نفسها، حين جذبت انتباهها أصوات عدم الاستغاثة . منذ ذلك اليوم أقامت إدارة السجن حائطا ثانيا سميكا جعلت مونته من الأسمنت هذه المرة، من المحال أن ينجح أحد في ثقبه، حتى لو كان قادما من حرمان مؤبد.
أذكر الحادثة؛ لأنها بعد مدة وعقلي أبيض منتفخ بفكرة حظي الهائل، ساكن لا يملك حراكا، حين بدأ يتحرك كانت حركته الأولى هوجاء مجنونة على هيئة فكرة أن أثقب الحائط، وحيث إن المونة من الأسمنت فلا بد من استعمال أصبع من الديناميت أكلف أحد العساكر بشرائه، وما داموا يهربون كل شيء إلى السجن، حتى المخدرات، فلماذا يستعصي الديناميت؟ ويصنع لي فتحة أدخل بها إلى بيت اللحم المجاور، اللحم الشهي الحي الذي لم أذق طعمه من سنوات!
ومع أني رحت أخرف وأبذر في تخريفي على تلك الصورة، وأنا أحس بنفسي سعيدا منتشيا سكران بالنشوة، إلا أنه عاجلا أو آجلا كان لا بد أن أبدأ أتبين الوضع على حقيقته، وأدرك بجلاء ووضوح وثبات أني أصبحت في مكان ليس بيني وبين ما لا يقل عن أربعمائة امرأة فيه إلا خطوة - حتى لو كانت على هيئة حائط، فهي لا تعدو كونها خطوة - تأملا بدأ مخي معه يسخن وترتفع حرارته، حتى يبدأ يفرز عرقا داخليا غزيرا على هيئة رذاذ من الأفكار المتلاحقة. وكنت أعرف أنه مهما تنوعت أفكاري وتشتتت فلا بد أن أبدأ بعد «التمام» في الخامسة، أدق. •••
إن الحياة الحقيقية للمساجين لا تبدأ إلا بعد أن يزول إرهاب العيون الآمرة الناهية التي لا عمل لها إلا أن تمنعك من كل ما تملك حق منعه، وكأن السجن في الحقيقة ليس إلا كلمة «ممنوع» كبيرة وشاملة، ممنوع كل شيء إلا ما يبقي عليك الحد الأدنى اللازم كي لا تموت، لا لأنهم يريدون - لا سمح الله - لك البقاء، ولكنهم يريدون لك أن تحيا حياة الموت معها أرحم؛ إذ ممنوع عليك فيها كل ما يجعل من الحياة متعة، والمباح فقط هو كل ما يجعلها عبئا وعذابا وقيدا ثقيلا تتمنى لو تخلصت منه واسترحت بالموت، ولكن الغريب أنهم لم يستطيعوا، وأعتقد أنهم أو غيرهم لن يستطيعوا - مهما اتخذوا من احتياطات وبالغوا في قائمة الممنوعات - أن يخلقوا ذلك السجن الكامل الذي يحلمون به؛ فقد استطاع الإنسان دائما أن يجد حرية داخل كل قيد على الحرية، وأن يخلق داخل كل ممنوع ما هو مباح؛ ولهذا لا تبدأ الحياة الحقيقية إلا بعد زوال حراس المنع من ضباط وشاويشية، والعهدة بالرقابة إلى حرس الليل العزل، وهؤلاء كالمساجين تماما ما إن تزول عنهم الرقابة حتى - في معظم الحالات - ينطلقوا على سجيتهم. ما إن يدق جرس «التمام»، ويطمئن المأمور أن العدد مضبوط ولم ينقص واحد أو يهرب واحد، حتى يفرج كل مسجون عن نفسه، فيبدأ يتكلم مع من يشاء من جيرانه، ويسكت حين يشاء، ويزعق إذا عن له، ويغني متى أراد، ويقول رأيه في أحداث اليوم، ويشتم ويسب، أجل ويسب، وما أكثر كمية السباب التي تغادر الأفواه بعد «التمام»! وكأن السباب غريزة، ومزاولته ركن من أركان الحرية. وهكذا لا يبقى من السجن الكامل الذي أرادوه إلا جدرانا صماء هي الوحيدة المحبوسة داخل مساجين يشبعونها دقا وضغطا واختراقا بأحاديثهم وصراخهم، دون أن تجسر على منع أو اعتراض.
وكانت حريتي وما هو أكثر من الإفراج في رأيي، أن تأتي الخامسة وتقوم الضجة لأستطيع محتميا بها أن أبدأ أدق وأعلم الجارات بوجودي؛ إذ من لحظة الوعي فقط سيبدأ أروع وأهم حدث في حياتي تلك!
وقلت وأنا أدلل الاحتمالات تدليلا لا يحدث إلا والهدف العظيم في جيبك تداعبه متلذذا مستثيرا لشهيتك: ربما هن لم يعدن بعد، ربما هن في الحمام أو في المنسج. ولكن أشعة الشمس أصبح بينها وبين السقف في زنزانتي ما لا يزيد عن العشرة السنتيمترات بما معناه تعديها الخامسة والنصف، وأنا أدق ولا أحد يجيب. ربما سمك الحائط؟ بقوة أكبر ب «الجردل» نفسه، بقدمي وقوة الساق الهائلة رحت أدق، وفي الحقيقة لم أكن أدق بقدر ما كنت أطرد بشدة احتمال أن تكون نتيجة هذا الاحتشاد والفرحة إلى درجة الوصول إلى تدليل الاحتمالات أن الزنزانة المجاورة خالية تلك الليلة ، ومن يدري؟ ربما غدا أيضا ولليال كثيرة مقبلة. كنت أطرده بشدة لعلمي أن البله الذي قابلت به المسألة أول الأمر كان راجعا إلى أنها من الضخامة بحيث لا تصدق، وأني حين صدقتها فعلا، وبدأت أتصرف كانت قد غورت في كياني وعقلي وأحلامي إلى درجة أصبحت معها خيبة الأمل إذا حدثت شيئا بشعا شريرا لا يتحمله بشر.
في السادسة توقفت عن الدق. لم تكن أول مرة أقرر فيها التوقف، ولكنها كانت المرة التي قررت فيها التوقف بلا عودة. لم يعد لدي أدنى أمل في استجابة أو رد، بل حتى الأمل في ذلك، الأمل كان قد انتهى، وأصبح علي أن أعتبر الموضوع كأن لم يكن، وأن أجهز نفسي لقضاء الليلة في زنزانتي الجديدة تلك مثلما كنت أقضي الليالي في الزنازن القديمة، أفكر بلا هدف في لا شيء، حتى تتزغلل قوى عقلي وتنهار فأنام.
إنها لكارثة محققة.
فصحيح أنه لم يكن قد مر أكثر من ساعتين منذ عرفت الخبر، لكن المشكلة ليست أنه استثارني أو هيج كامن أشجاني، المشكلة أني لم أعد أنا، أني فجأة وجدت نفسي أمام إنسان آخر انتفض من داخلي ماردا عملاقا رهيبا، لا علاقة بينه وبين الإنسان الذي كنته طوال ذلك اليوم والأيام الكثيرة التي قبله، الإنسان الذي كنت قد اعتدته وعرفت حدوده وخصاله ومزاياه. لم أدرك أنه كان على تلك الدرجة من الموت إلا حين انبثق ذلك الآخر، إلا حين أحسست وكأنما أرى بعيني الحياة تتدفق - لدى ذكر النساء وعالمهن واستحضار المرأة في ذهني - غريزة وحشية مكتسحة كأمطار الصيف فوق خط الاستواء، تنهال على سطح البحيرة الآسن الراكد البليد، الذي ألت إليه بجسدي وأفكاري وأحلامي وانفعالاتي. مجرد وقع الكلمة على الأذن «النساء» بذلك التضاد القاهر المكهرب معك، المناقض تماما لك، الذي تحن إليه وترغبه وتريده كما تريد الحياة نفسها، مجرد تصورك لأجسادهن المختلفة، لانبعاجاتها المثيرة، لملابسهن حتى ملابس السجن الواسعة، لروائحهن الخاصة، دائما خاصة كبصمات الأصابع، لأصابع أقدامهن الصغيرة كالجرذان الوليدة المنكمشة على نفسها، لأياديهن النحيفة زرقاء العروق ، للعيون، عيونهن وإحساسك أنها عيون امرأة ورموش أنثى، ترسل نظرات تدرك أنها نظرات أنثوية منتزعة من أعماق امرأة، ومرسلة إليك مضمخة بأنوثة تلون حتى شعاعات البصر. المرأة، الصدر الحنون والقلب الرحيم، والكلمة الحلوة الرقيقة، والأفخاذ التي يفقد بينها الرجل صوابه. بركان تفجر لا سبيل إلى إيقافه، قوى وافدة، غريبة، ملايين من شحنات كهربية حية أحسست بها من منبع خفي في جسدي تتفجر كالنهر الغاضب في فيضانه يكتسح. جن وعفاريت وأفكار مجنونة حافلة بذكاء لامع براق، وطموح هائل، وأحلام شهية تتولد وتتكاثر وتغمر الدنيا بأسرها. هكذا لا بد فتك ذلك اللومانجي بالحائط، فقد كان باستطاعتي ساعتها أن أثقب الجدران أو أهدها أو أحطم المعبد. قوى لم أعد أقوى على السيطرة عليها، فأصبحت حرة تستطيع أن تفعل ما تشاء، تقدم على الفرار أو تقتل حارس الليل، أو تضاجع الحجر. العشاء التهمته في غمضة عين، ودار حارس الليل على الزنازن يلم لي ما بقي من طعام، وبنهم جشع رحت أدخن، حتى أتيت على نصيب الأيام القادمة الذي قسمته بعناية وادخرته. أحيانا كنت أمسك رأسي بيدي، وأضغط عليه بشدة مخافة أن ينفجر، وكل أملي أن تأتي ساعة النوم وأهدأ، ولكني كنت متفائلا جدا؛ فها هو برد الزنزانة يشتد، والظلام يقل علامة طلوع الفجر، وليس في عيني أو كياني كله لمحة نوم واحدة. •••
في اليوم التالي لم أنتظر «التمام» النهائي في الخامسة، في ساعة القيلولة دققت دقات عنيفة مختلسة يائسة، وفي نهاية اليوم دققت، وكثيرا ما منعت نفسي أن أدق الحائط برأسي غيظا، غير متصور أبدا أن يكون حظي بهذه التعاسة، وأن تظل الزنزانة خالية أيضا لليوم الثاني. والمضحك أن أسبوعا بأكمله مضى وأنا كل يوم أدق، وأفعل هذا مع أن حريتي في الدق كانت محدودة بتلك الدقائق التي تعقب «التمام» مباشرة؛ حيث بعد السكون الشامل المفعم تنطلق في أنحاء العنبر ثمانمائة حنجرة تصرخ كلها في وقت واحد، ويزاول أصحابها متعة الكلام بعد إجبار طويل على السكوت. ومع انتهاء الضجة تنتهي محاولاتي وفرحتي، ومع هذا فما أكثر ما غامرت ودققت في ساعات الصمت! وأنا أحاول بكل قواي أن أكتم الصوت، بل أحيانا كنت أستيقظ من النوم لأجد نفسي قبل أن أفيق تماما أدق!
ولا أذكر كيف فقدت الأمل؛ فقد كان لا بد طال الوقت أم قصر أن أفقده. كان واضحا أن «عنبر» الحريم يشكو قلة الزبائن، وأنهم يؤثرون هناك أن يجعلوا المنطقة القريبة من «عنبر» الرجال آخر ما يستعمل. وعلى غير ما كانت البداية حادة ومتفجرة وعنيفة كانت النهاية بطيئة طويلة ممتدة، وكأنما عن عمد، وكأنما رفضا للفقدان التام للأمل، والتلكؤ لعل وعسى تحدث المعجزة.
وحتى تلك النهاية التي بدت كالحدث الفاجع أول الأمر، انتهت هي الأخرى كنهاية، ومع الأيام ذابت كي يعود الموات إلى كل شيء، وتصبح البحيرة الراكدة أهدأ ما تكون وآسن ما تكون. كل ما في الأمر أن طعما مريرا ممتدا، طعم الفشل، كان قد أضيف إليها، طعما كنت متأكدا أنه هو الآخر لا يلبث أن يزول، ولا تلبث الحياة أن تعود بي إلى ذلك الإنسان الآخر الذي كنته.
بالاستطاعة إذن إدراك هول الزلزال المفاجئ الذي هز أركان نفسي، حين سمعت - أجل سمعت - بأذني هذه دقات تأتيني عبر الحائط السميك، في ضجة ذات «تمام».
وشكرا للسجن الانفرادي أن أحدا لم يرني ساعتها، وأنا أقفز في الهواء، وأدق الحائط من أعلى ومن أسفل، ثم أستجمع كل قواي، وأثب وثبة هائلة أتعلق بها في حديد النافذة، وأصرخ وأغني وأقلد طرزان وأتشقلب، رأسي إلى الأرض، وساقاي في الهواء، وأعوي، بأعلى صوتي أنادي جاراتي جميعهن ناعتهن بألفاظ لا تخطر على بال سكران، وأعود أدق وأدق فقط كي أدق، وأنا فرح فرحا حقيقيا أحس به. ونحن في الحياة العادية التي نتعامل فيها مع الفرح والحزن والاكتئاب والتفاؤل نفقد الإحساس بهذه الانفعالات بكثرة المزاولة، «نعرفها» بحيث لا نعود نتوقف عندها أو نكتفي بها. إذا نجح فينا أحد يجد نفسه يكاد لا يحس بالنجاح ساعة وقوعه؛ إذ هو على الفور يبدأ يتساءل عما بعده، عما يفرح أكثر، فالنتيجة أننا لا نفرح في السجن حين يحدث ما يفرح من طول افتقادنا للفرحة، نحس بها، نلمسها وتضطرب بها أجسادنا، وتحفل بطاقات من نشاط الفرحة الغامر، ونرى أبواب أمل واسعة في صدورنا تتفتح، وتنبهر بالنور الكثير يكتسح أمام أعيننا الظلام الكثيف الرابض داخلنا، فعلا نفرح، لا يهمنا كثيرا ما بعده بقدر ما يهمنا أنه جاء وأننا نحياه. لكأن كلما ضيقت علينا الحياة اتسع إحساسنا بها، وكلما قلت كميتها أصبح لكل دقيقة من دقائقها وقع أروع وأثمن.
ولم أفطن إلى زوال ما بعد «التمام» إلا حينما بدأت أعي أني الوحيد الذي يحدث ضجة، وكما كان على «العنبر» أن يئوب إلى هدوئه الليلي كان علي أن أبدأ بروية أكثر. ها بعد طول صبر ويأس وانتظار قد غمزت السنارة، وها أنا ذا متأكد أن صيدا سمينا كبيرا على الناحية الأخرى، صيدا قادما من تلقاء نفسه، وهو الذي بدأ، وعلي بكل ما أوتيت من قدرة وحذق أن أظفر به كاملا. وبانتظام بدأت أدق وأرهف أذني - وهذا هو الأهم - كي أتسمع الرد. كانت تأتيني أصوات خافتة بعيدة كالقادمة من أعماق بئر، وكانت أذناي تلتقطها وتترجمها وتنقيها وتحولها من دقات إلى لغة، ومن لغة تتكلمها اليد إلى لغة يحسها الشعور ويدركها العقل. إنها مثلي بمفردها، وهاتان الدقتان السريعتان المتصلتان معناهما أنها قلقة هي الأخرى، خائفة مثلي أن يحدث ما يقطع الاتصال؛ تلك الدقة الوحيدة التي لم ترفع اليدين عن الحائط بعد دقها، إنها ابتسامة اطمئنان، ألمحها؛ فمثلما يطمئنني قلقها لا بد أن قلقي يطمئنها، ما أعذب هذا! ما أروع أن أعثر في وسط صحراء مترامية الأطراف، في آخر الدنيا هنا، حيث لا حضارة ولا أنس ولا بشر، حيث انتهى العالم من زمن، أعثر على أنثى! أدق لها فتدق لي، وأضطرب خوفا من فقدانها، فتبتسم لي في حنان واطمئنان. لقد عرفت الحب أكثر من مرة، الحب المحموم المجنون الذي ينهش الصدر ويعتصر الروح، الحب الذي ينسيك من تكون، وما كنته، وما يجيء به الغد، الحب الذي من طينته خرجت قصص الغرام الكبرى، وجن قيس وانتحر فرتر وماتت جولييت. بعد الحديث القصير الذي تم بالأيدي أحسست وكأنني عثرت على سيدة عمري، أحسست أن حبي الثالث ذلك الذي لا يقاس بجواره أول أو ثان، ذلك الذي طالما حلمت به وخشيته، وطالما هفوت إليه وأرعبني مجرد التفكير فيه، عرفت أنه هكذا ودون كلمة أخرى قد بدأ. إن قصتي مع المرأة حرب دامية طويلة، بدأت من يوم مولدي، ومع أول امرأة عرفتها، أمي! حرب انتهت بخوفي من المرأة إلى درجة عبادتها، والحقد عليها إلى درجة الرعب المقيم أن يتحول الحقد إلى حب، فأودعه كل شوقي المريض إلى المرأة منذ أن كانت أمي إلى أن أصبحت غريمتي وعشيقتي، وأفقد في تلك المعركة، في الحب، نفسي تماما. وهكذا بمقدار تعطشي للحب كانت محاولاتي للهرب، ولكني هذه المرة بإرادتي المدلهة أختاره، حتى لو كان فيه - وحتما فيه - هلاكي، هذه المرة لا صراع ولا محاولات مستمرة للتراجع. إني أدفع بكل قواي وأدق وأكاد أموت متعة وتلذذا، والرد يأتيني دقا أنثويا واهنا مبحوحا، أرى اليد التي ترسله بيضاء صغيرة ذات شعر ميكروسكوبي أصفر، وأظافر بلون دم الغزال الشاحب، يد أعرفها وأقبلها وأقبل كل أصبع فيها، وبلساني ألثم ما بين الأصابع.
وأصبح واضحا من دقاتنا المتتالية المتشنجة أننا في حاجة لاقتراب أكثر. لم تعد لغة الأيدي القاصرة قادرة على ترجمة ما يغلي داخلنا من انفعالات، كان لا بد أن نتكلم! وللمساجين طريقتهم الشهيرة في التخاطب عبر الجدران هي وضع «كسرولة» الطعام الفارغة من ناحية فتحتها على الحائط، وتقريب الفم من قاعها للتكلم، أو إلصاق الأذن به للاستماع. ورحت من خلال «الكسرولة» أتحدث وأحاول الإنصات، ولم أعجب حين بدا وكأن لا صوت هناك، كنت أعرف أن الجدار سميك، وهكذا رحت بأعلى وأحد ما أستطيع أهمس محاذرا أن يسمع الحارس همسي، والوقت يمضي ومحاولاتي لا تكف، وحنقي وضيقي قد بلغا درجة أصبحت معها لا أحفل، حتى أن يسمع الحارس. كانت تعاستي تكاد تذهب بعقلي، وأنا أرى نفسي لا يفصلني عن الأنثى التي استجابت لي، وبدأت معها مغامرة العمر الثالثة إلا جدار عمره ما وقف حائلا بين مسجونين، أقرب ما تكون مني، أبعد ما تكون عني، وأنا بين النقيضين مشدود أتمزق غيظا وألما.
ولم يكن لي من منقذ إلا أن تحدث معجزة، فيتفق وضعي لل «كسرولة» مع وضعها، بحيث تلتقيان عند نفس النقطة من الحائط، فيمر الكلام مباشرة من إنائها لإنائي، وكيف لي أن أعلم أنها هي الأخرى وصلت إلى نفس استنتاجي، وبدأت تبحث عن مكاني مثلما بدأت أبحث عن مكانها؟ ويا له من مشهد ذلك الذي كان مقدرا أن يراه الرائي لو أتيح له أن يشاهد كلينا في نفس الوقت، بحيث يتابع تلك اللعبة الخالدة الدائرة ربما منذ بدايات الخليقة، ذلك البحث الدائب عن ملتقى بين اثنين أقرب ما يكونان وأبعد ما يكونان، لا يفصلهما سوى بضعة سنتيمترات من حجر أو طبقة أو جنس أو لون!
أناديها بأعلى وأقوى ما أستطيع من همس: سامعاني؟
وتناديني دون أن أسمع لها صوتا: أنت فين؟
وكلانا أعمى محموم بالرغبة، يتحسس بالغريزة وحدها والسليقة طريقه إلى الآخر، وأبدا أبدا لا يفقد الأمل. وكم بدت المهمة سهلة أول الأمر! إن هي إلا بضعة أمتار مربعة باستطاعتي أن أمسحها طولا وعرضا وحتما سأنتهي بالعثور عليها. ويمضي الوقت بطيئا، قاتل البطء، وتستحيل الأمتار القليلة إلى غابة مترامية الأطراف من المحال أن تلتقي برفيقك أو يلتقي بك بمجرد بحثك عنه وبحثه عنك.
ولكن، حتى بقانون الصدفة المحضة كان محتما أن نلتقي، فما بالك وثمة قانون مقدس أعلى كان يحكمنا في ذلك الوقت، قانون الأنثى والذكر. ولم أكن في تصوري أطلب المستحيل، وأعتقد أني سأستطيع التحدث إليها عبر الإناءين، بحيث تسمعني وأسمعها في وضوح. كان يكفيني مجرد أن أسمع صوتها الأنثوي، مجرد أن أستطيع تمييز نطقها المخالف، وأطمئن بالدليل المادي إلى أنني لا أحلم ولا أتصور ولا أبني انفعالاتي على وهم، وإنما هناك وراء هذا الحائط أنثى حقيقية من دم ولحم. وحين حدث اللقاء وبدأت أذني المنتبهة أدق انتباه تلتقط ما يأتيني عبر الحائط، كدت أصاب بخيبة الأمل، فقد جاء الصوت وكأنه ليس نافذا من خلال الحائط، وإنما كأن الحائط، أو ما هو أثقل بكثير من الحائط، كأن جبلا بأكمله قد مر على كلماته وحروفه، فسحقها كما كان القطار يسحق ما نضعه فوق قضيبه من مسامير ونحن صغار، فيحيلها إلى رقائق معدنية كحد الموسى. لم تكن كلمات أو حروف، وإنما مسحوق همس لا تستطيع تمييز جمله، تهشمت ودكت بحيث استحالت إلى أصوات متصلة أو متقطعة، كالأنين مرة وكالصفير مرة أخرى، كسين طويلة بطول السطر، أو كمائة دال متتابعة، وأيضا لا تعرف حتى نوع الصوت الآتية به؛ فهو أحيانا غليظ كأصوات الرجال، وأحيانا دقيق رقيق كأن مصدره عصفور كناريا. ولا بد أن صوتي هو الآخر كان يصلها على نفس الصورة، ولكن كما لم تستطع الجدران أن تحول بين قانون الذكر والأنثى، وبين أن يأخذ مجراه، فكذلك لم تقف اللغة المهشمة والهمس المسحوق حائلا، بل مثلما أحلنا الجدار الذي كان مفروضا أن يفصل بيننا إلى وسيلة اتصال، فكذلك أحلنا اللغة المهشمة إلى أداة تفاهم.
وبالهمس المسحوق رحنا نتحدث، حديث المحبين الخجول المتعثر المفضي دائما إلى الحديث عن النفس، والاعتراف، وكان كل منا قد وجد القلب الحنون الذي يهدهد على كلماته، ويغفر أخطاءه، ويجد المبرر لذنوبه وعثراته.
ومن همسها المسحوق راحت تتجسد لي، وكما يستطيعون في الطب الشرعي أن يعيدوا صنع الإنسان بأكمله إذا عثروا على أصبع من أصابعه مثلا، أو جزء من أعضائه؛ إذ لا بد لكل أصبع من اليد التي تناسبه، ولا بد لليد من الذراع والجسد والأقدام التي تناسبها، وكل أنف له الأذن والعين والوجه الخاص به، وهكذا يعيدون تركيب الإنسان ليصبح صورة طبق الأصل للضحية. واستطعت من همسها المسحوق أن أراها كاملة، وأقربها، وأضمها، وأعانقها، وتصل منابت شعرها إلى أنفي؛ إذ هي أقل مني طولا، وعيناها سوداوان غامقتا السواد، وعلى جانبي وجهها المستطيل ينهدل شعرها الأسود الناعم، ومن خلال جلباب السجن الأزرق ينفر ثدياها متباعدين بلا «سوتيان» كثديي بكر ، ولا بد بإزميل فنان صنع فخذيها؛ فهما طويلتان ممتلئتان، تتوجهما تلك الاستدارة الطرية الملساء الكاملة. اسمها حتما فردوس وفي عروقها دم بدوي، وعلى ذقنها بالضبط فوق الغمازة وشم لا يتعدى ثلاث نقاط رمادية باهتة، وفمها ليس صغيرا كفم البنات، ولكنه ممتلئ مقلوب الشفة العليا لا تملك لحافتها المشرعة إلى أعلى، مقاومة، لها في السجن ثلاث سنوات، كان زوجها يستخدمها في تهريب المخدرات، وضبطت بالبضاعة في ديزل الإسكندرية.
وككل إنسان، كثيرة هي المرات التي يخوض فيها تجربة الجسد مع النساء، حتى لو كان الجسد لحبيبة، ولكني ما حييت لن أنسى كيف استطاع الحديث بيننا أن يرتفع بدفئه درجات مقربا ما بيننا، حتى بدأت أحس بأجسادنا تتلاصق وتتداخل صانعة البداية لأروع متعة ظفرت بها في حياتي. وأنا من خلال ذلك التيار الصوتي الدائر بيننا أحيل جسدي كله وذكورتي كلها إلى أصوات أنفثها عبر الوعاء الألومنيوم ويسحقها الحائط، ولكني أحس بها تغادره أكثر حدة والتهابا، تخترق وعاءها المعدني وجسدها، وتصل إلى مكمن الحياة فيها. وبدوري أتلقف أنوثتها الذائبة في الصوت المطحون المبحوح القادم يئن عبر الحائط، أجذبه وأمتصه، وأجذبها هي نفسها وأمتصها، حتى منديل رأسها، وبعنف أكبر تغيبني هي في نفسها حتى أظافر القدم.
ولم ننم ليلتها.
ولم أتحرك من زنزانتي طوال اليوم التالي ممددا فوق «البرش» أجتر سعادتي، وأحس وأنا في أقبح مكان في الكون بجمال للعالم، وطعم للدنيا لم يذقه بشر، أشعر أني أصبحت أقوى من سجني وسجانتي ومن سجنوني. كل لحظات الضعف واهتزاز الثقة راحت وتبخرت، والرجل في قد عاد للحياة تماما، فعاد للحياة سحرها ومعناها. والرجل في حالة حب، حب لم يذقه في كل ما سبق من قصصه؛ فقد كانت تجارب للصراع المحموم وكبح النفس والإحساس بالخجل وتأنيب الضمير، ولا أدرك أنه كان حبا إلا هناك حين ينتهي كل شيء، وتعود الحياة إلى بلادتها. الآن ومنذ اللحظة الأولى أعترف وأستمتع وأعيش للحب وسعادتي الكبرى أن فردوس تحبني. قد تكون غير متعلمة أو مثقفة أو تجيد استعمال الماكياج، وأخذ المواعيد من الترزي. قد لا تستطيع أن تدرك معنى أنني شاعر، أو تفهم تماما سبب سجني، ولكن حسبي أني رجلها، وأنها أنثاي، وأن كل ما حدث لي أو حدث لها قبل لقائنا، وبالذات قبل ليلتنا الماضية، كان سرابا وخداعا، وأننا منذ الأمس فقط بدأنا لأول مرة في حياتنا نعيش.
وجاء المساء.
هذه المرة لا جنون ولا استعجال إنما هو الاطمئنان العظيم يغلف كل شيء، وبمثل ما كان للقلق والخوف والترقب من متعة، فللاطمئنان متعة أكبر وأشهى وأعمق.
قبل أن يحل «التمام» وجدت أني لا أستطيع الانتظار، وقررت ما دام الكلام مستحيلا أن أكتفي بالإنصات لعلي أسمعها تكح أو تغني، أو حتى تستعمل «الجردل». ودهشتي كانت أني سمعتها تتحدث، عبر الحائط أتتني أصوات استطعت تمييزها وإدراك أنها لأكثر من شخص، وفي الحال أحسست بغصة حادة، وكأنما حدثت كارثة. إنها ليست بمفردها إذن، هناك مسجونات معها يتحدثن ويضحكن ولا بد أنهن ينمن بجوارها. وأحسست بالغصة تندك في أعماقي أكثر، مجرد أن يزاملها أحد، حتى ولو كن نساء مسجونات متاحا لهن ما ليس متاحا لي، نساء يستطعن أن يرينها رأي العين أو يعانقنها ولو أردن احتمال لا أستطيع قبوله، يخنقني ويلهب غيظي. وما يغضبني أكثر أنها بدورها تحادثهن، فلا بد أنهن يحتللن من تفكيرها جزءا، بأي حق تسمح لنفسها بهذا، وأنا بكل جزء من عقلي ونفسي وجسدي لها وحدها؟ بلغ غيظي مداه. وحين حل «التمام» ودققت، ومضت لحظة قبل أن ترد، لم أعد أستطيع الصبر، وانهلت على الحائط لكما وكأنما لتدرك أني إنما أوجه لها هي اللكمات.
ثم جلست في الركن البعيد غاضبا أنفس عن غيظي بإشعال نصف السيجارة من نصف السيجارة متجاهلا تماما دقاتها، وهي تستحيل من العنف إلى الإلحاح، إلى السكون لحظة، إلى الغضب القصير إلى العودة مرة أخرى بلين ورقة، وكأنما ترجو وتلح في الرجاء، رجاء لم أستطع معه المقاومة، فعدت إلى الجدار أدق أنا الآخر دقات الصفح والصلح، ومن خلال الوعاء أهمس همس العتب، وتتعانق الهمسات وتتعانق أجسادنا خلال الهمسات ، وأقبلها في فمها الكبير ذي الشفة المقلوبة إلى أعلى، أقبلها قبلة لا نفيق منها إلا على دقات تنهال على الحائط في احتجاج، وكأن زميلاتها يطالبن باحترام وجودهن.
ولكننا رغم هذا لم نستطع أن نحترم ذلك الوجود، وفي حضورهن ورغم كل شيء قضينا ليلة غرام أخرى.
وعدت إلى نفسي ذات لحظة بعد الأيام القليلة التي تلت لأجد أنني لم أفعل شيئا طوال تلك الأيام إلا التفكير فيها. لم يدر بعقلي خاطر واحد أو أحلم بشيء آخر خارج نطاقها ونطاق علاقتي بها، إنه الحب إذن بأكمل صوره. وإذا كان الحب في الخارج يستولي على المحب تماما ويعزله عن الحياة وينفرد به، فما بالك وأنا هنا منعزل ومعزول ولا عمل لي سواه! إن الحدث الصغير التافه الذي قد لا يعلق بالذهن مطلقا في الخارج، حتى لو كان ذهن محب، يبدو هنا مهما خطيرا لا بد من الوقوف عنده طويلا، والعودة إليه مرارا، والتفكير فيه وربطه بغيره، والخروج باستنتاج، بل باستنتاجات قد تؤدي إلى افتراضات ونتائج لا بد أن تؤدي بدورها إلى عودة للتفكير والتأمل.
وهكذا عرفت عنها - من تلقاء نفسي وتأملاتي لهمسها المسحوق - في أيام قليلة ما لم يكن باستطاعتي أن أعرفه في الخارج بمعاشرتها واحتكامي المباشر بها في شهور، كل شيء عنها، بطفولتها بأجدادها وعرق البداوة فيها، بالأغاني التي كانت «تدندن» لها جدتها بها قبل أن تنام، بتفاصيل ما دار لها ليلة دخلتها، بالجهود التي بذلتها أمها كي تنزف دماء يسلم لها الشرف الرفيع، ويزف على رءوس الأشهاد.
وقد يستنكر البعض أن يحدث هذا كله دون أن نتبادل كلمة سليمة واحدة، وأن أستطيع أن أدرك كل هذا من خلال همس مسحوق، ولكن فليسأل المستنكر كل من أحب إن كان قد أخطأ مرة في تفسير مواء الحبيبة، أو إن كان قد عجز - أقل العجز - عن الإحاطة بكل ما يقوله أنينها مهما تشعب ما تقول. ما حاجة المحبين إلى لغة إذا كان الصوت وحده مهما كان مسحوقا ومن خلال جدار يكفي؟
حتى فعل الزمن في الحب بدأت أستعذبه، وأستمتع بحدث الغرام الهائل، وقد تحول إلى عادة، وتحولنا من غريبين محبين إلى قريبين، بل ما هو أكثر من زوجين محبين، هذا الإحساس بأنها لي وبأني لها طول الوقت، بالأمس واليوم وغدا أيضا ستكون لي. هذا الضيق الشديد بالساعات التي تباعد بيننا، هذا القلق المفزع للدقائق التي تفصلنا عن اللقاء، اليقين الذي أصبحت معه أستطيع أن أحدد دون بحث بالضبط أين ستضع وعاءها لأضع وعائي، وأين ستتحدث لأصغي، ومتى تنضج رغبتها للإصغاء كي أتحدث. هذا الهاتف الذي يوقظنا معا لأدق دقة وتدق دقة، ونقول بهما: صباح الخير. أو بالضبط متى تبدأ تتثاءب لأقول بعدها: يالله ننام! تصبحي على خير!
غير أني وأنا أحيا أطوار الحب كلها وأنعم بها لم يخطر ببالي طور آخر ما أعددت له في نفسي أبدا، وما تصورت إمكان وجوده أو حدوثه؛ فهو في الغالب كالعدو الغادر يداهم فجأة، ومن أول دقة دققتها، ولم يأتني الرد في الحال قال هاتف في نفسي: انتهت علاقتنا إذن ولن أسمع عنها بعد الآن أو تسمع عني. حدث هذا مع أن تأخرها أو تأخري في الرد كان مسألة عادية تحدث في اليوم عدة مرات.
في الحال أيضا أخرست الخاطر؛ إذ إني أعرف ذلك الهاتف المتشائم أبدا، الرابض خلف كل انعطافة حدث يبشر بالفاجعة والنهاية. ولم تكن تلك أول مرة يجأر بهتافه؛ فمنذ قصتنا معا وكلما واتته الفرصة هتف، ولكن علامات التفاؤل لا تلبث دائما أن تظهر وتفحمه. هذه المرة مثلما خمنت لم تأت العلامات، وبينما علا عواء الهاتف سعيدا بتحقق فأله، بكل ما أملك من قدرة رحت أكافح، وأستدعي إلى الذاكرة أسبابا وتعللات تبرر تأخر الرد، أو حتى غيابه كلية ليلتها لو حدث، ربما هي في التأديب، ربما في المستشفى، إن هي إلا ليلة أو على أسوأ الفروض ليلتان وتعود.
ولكنه كان تمسكا بأهداب وهم أوهى من نسيج العنكبوت، كانت حقيقة قد ذهبت تماما، هكذا أكدت الأيام والليالي الطويلة التالية، حتى حين - بعد أكثر من أسبوع - جاءني رد على دقي، أشحت عنه في اشمئزاز وضيق؛ فقد عرفت على الفور أنه ليس دقها، ليس لها، ليس صادرا عن يدها البيضاء الطويلة الأصابع ذات الشعر الميكروسكوبي الأصفر.
وفي كل مرة انتهت لي فيها قصة حب كنت - حين أتأكد من النهاية، وبرغم إطباق المأساة - أحس بنوع من الراحة، وكأن حملا ثقيلا انزاح عن كاهلي، ولكن حتى ذلك الشعور لم يعترني أو يخفف عني، بل ليت ما اعتراني أخذ شكل الحزن القاهر الواضح الحاد! إن هو إلا ذهول مستمر ذو نوبات. فجأة تتوقف اللقمة في حلقي، وأنا - وكأنما لأول مرة - أدرك أن ما حدث لن يعود، وأني أبدا لن أسمع مرة أخرى ذلك الحفيف الواهن الداق يأتيني صادرا تماما عن القلب إذ أحس به تماما في قلبي. انتهى وجودنا معا، وأصبحت وحدي نصف شيء لا يصلح للبقاء، ألم مستمر متصل لا ينقطع ولا يزول.
المؤلم أكثر أني كنت متأكدا أنه حتى ذلك الألم وتلك النوبات مصيرها إلى زوال، ومصيري إلى العودة إلى حياة السجن ذات اليوم المستمر الواحد، ولن أعود أنعم بالتذكر، حتى لو جاء على هيئة غصة أو ألم.
المؤلم أني مستمر، والحياة مستمرة، والكون كله قائم وموجود ومستمر، وما أبشع أن يستمر هذا كله بغيرها، بغير وجودها وحديثها وروحها وظلها!
بعد مرور تلك الفترة من أيام الحدة الأولى، كان شغلي الشاغل هو تلك الرغبة العارمة التي لم أكن أستطيع مقاومتها، الرغبة في الحديث عنها لإنسان، لأي إنسان، وإن لم يكن بالذات عنها، فعلى الأقل عنهن جميعا، عن المسجونات النساء، أو حتى عن النساء بشكل عام.
وجاءت مرة فرصة حين انتهت النوبة، وجاءت نوبة جديدة، وأصبح «الأومباشي عبد الفتاح» العصبي الرفيع ذو العصا حارسا لليل في الدور الذي أحتل إحدى زنازينه.
جاءت الفرصة لأني أعرف أن عبد الفتاح العصبي المتعجل في النهار غيره عبد الفتاح حارس الليل، حيث لا توجد عيون الشاويشية والضباط، وحيث لا عصا، وحيث يعود إلى طبيعته الصعيدية البسيطة، ويصبح الطريق إلى قلبه كوب شاي مصنوع على السبرتو المهرب، والطريق إلى لسانه سيجارة بلمونت.
وعبر باب زنزانتي المصنوع من عمدان حديدية متينة وقفنا بعد العشاء ندردش ونتحدث، وبمهارة قدت الحديث إلى قصة اللومنجي الذي ثقب الحائط ضاحكا، قائلا إني أنا نفسي طالما فكرت أن أصنع مثله، وشخشخ صدر عبد الفتاح وهو يضحك ويقول: بس المرة دي ح يطلع نقبك على شونة. أمال، على شونة.
وسألته: كيف؟
فقال: دول خلاص عزلوا، كل الحريم راح القناطر، كله كله عزل، كله، كله.
ودق الخاطر في رأسي، إذن هذا هو السبب في رحيلها المفاجئ لا بد.
وقلت لأتأكد: أظنهم نقلوهم بقى من حوالي عشرة أيام كده؟
فعادت إليه العصبية وهو يقول: لا لا لا، عشرة أيام إيه؟ أنت نايم حضرتك؟ دول من زمان، زمان خالص، من ثلاثة أشهر، لا لا لا، ييجي من أربعة أشهر!
وكدت أتوقف عن التنفس.
وكالتائه سألت: الله! بس ده فيه ناس في «العنبر»؟
فقال: آه! فيه ناس أيوه، بس دول تراحيل، مرة رجالة مرة ستات. تراحيل، يومين، أسبوع، أسبوعين وأنت وحظك.
وكدت أقهقه قهقهة من فقد العقل، وفي ألف ناحية جرى عقلي يفكر: أليس من الجائز رغم آلام الحب المروعة ألا تكون هناك فردوس بالمرة، بل من يدري؟ أليس من الجائز أن الهمس المسحوق كان همس رجل، ربما كان يعتقد أنه يخاطب به أنثى؟ أو ربما فعلها أو فعلتها للتسلية وكسر الملل في وقت طويل، طويل متشابه؟
ليلتها، قبل أن أنام قلت لنفسي: أليس هذا أروع ختام لقصة ذلك الحب؟ إنه على الأقل سيعفيني من آلام النهاية ومرارتها.
غير أن الشيء المذهل الغريب، الشيء الذي لم أتوقعه أبدا، ولا يمكن أن يصدقه إنسان، حتى أنا نفسي لا أكاد أصدقه، أن الغصة ظلت تعتريني وظل الألم ممدودا طويلا يعكر طعم الحياة في نفسي، وظلت «فردوس» حية في خاطري أكثر حياة من كل من عرفت من النساء.
ما خفي أعظم
لم يكن أحد قد رأى وجه امرأته رأي العين. كانت إذا خرجت ترتدي فستانا لامعا أسود، طويلا إلى حد يجرجر خلفها على الأرض، وطرحة سوداء ملتفة حول الرأس والوجه، ومن نسيج ضيق لا يظهر أبدا ما وراءه، وإذا خرجا سويا لا يسير بجوارها إنما أمامها بمشوار يسير، وبعد أمتار كثيرة تجدها وراءه كظله الأسود الذي انفصل وتجسد ودبت فيه الحياة، ولكنها لم تكن تماما كظله، فقد كانت سمينة تخينة مدكوكة، وكأنها أربع نساء أدمجن معا. وكان الشيخ «فقر» بعد فصله من الأزهر لرفعه الكرسي على أستاذه، وبعد صرمحته زمنا وإدمانه ل «دومينو والكوتشينة» إلى آخر مليم ورثه عن أبيه، وبقائه في البلدة يقتات من النفحات، حتى ضاق به الكرام قبل اللئام، قد أخذ في وجهه وصمم على أن يذهب للعمل في الإسكندرية. وقد ظل أسبوعا يجمع في أجرة السفر، ثم ذهب، ولكن أخباره لم تنقطع كلية عن مواطنيه، بين كل حين وحين يفد إلى البلدة عنه خبر، مرة أنه عمل كاتبا في الميناء، ومرة فتح «كشكا» للسجاير، ومرة ربح ورقة يانصيب بعشرين جنيها. ومضت سنوات وأخيرا فوجئوا به وقد عاد، ولكنه لم يكن وحده. لقد تزوج وجاءت معه زوجته، وما كاد يهبط من المحطة وهي خلفه ويراها الناس، حتى كتموا الضحكات؛ فرغم لثامها الشامل التام الذي أحالها إلى شبح أسود، فاللثام والسواد لم يستطيعا أن يخفيا تخنها، بل ربما أسهما في فضحه أكثر، تخنا لم يره أحد من قبل أو من بعد؛ فنساء القرية عجفاوات كعيدان القطن الجافة، وهذه «باسم الله ما شاء الله» ككيس القطن، أقصر منه قليلا إنما في تخنه بل ربما أتخن. ولا يدري أحد سر هذا الأمر بتاتا؛ فما يكاد الإنسان يراها إلا ويتصور الشيخ «فقر» معها في فراش واحد، بعصبيته التي لا حد لها، وعصاه الغليظة التي يسميها «الحكمدار»، وغضبه الذي ينشأ كالظواهر الكونية بلا سبب، وينفثئ كالظواهر أيضا بلا سبب، ووجهه المملوء بحفر قديمة نصف مردومة من آثار هجوم جدري قديم فاشل، تنبت بينها شعرات ذقن قليلة متباعدة، ولكنها كأشجار السنط البرية ناشزة مسنونة. وما يكاد الناظر يتصورهما معا في فراش واحد على هذا النحو، هي بتخنها وهو بحدته وعصبيته، حتى يظل يضحك ربما إلى أن يصاب بالمغص. والشيخ «فقر» لم يكن طبعا اسمه الشيخ «فقر» إنما كان اسمه الشيخ رابح، وحتى لقب الشيخ كان تجاوزا؛ فهو لم يكن يرتدي عمامة، إنما كان يمنحه الناس له، أو بالأصح يصر هو على أن ينادى به، وكأنما إمعانا في انتصاره على مدرسه السابق بالأزهر، ذلك الذي أكد له أنه أبدا لن ينجح في حياته أو يربح أو يحمل لقب شيخ من هنا إلى يوم الدين.
وإذا كانت حياة الشيخ رابح معروف أمرها للناس جميعا، فقد كانت النساء هي علامة الاستفهام الكبرى في حياته؛ إذ كان دائما يذكرهن بحقد خفي غير معروف المصدر، وإذا مرت من أمامه امرأة نقرها - أول ما ينقرها - من نهاية سمانة ساقها عند اتصالها بالقدم، ثم يصدر عليها بكل قسوة وبلا تردد حكما جائرا بأنها «...» غير قابل لأي نقض أو تعديل؛ ولهذا كانت المفاجأة الكبرى أن يتزوج الشيخ «فقر»، ويتزوج من تلك الكتلة اللحمية الكيسية القطنية الإسكندرانية التي ما أفلح السواد أو اللثام المضروب بعناية حولها أن يخفي أنها امرأة، وامرأة من نوع يصدر عليها أي إنسان حكمه دون حاجة إلى نظرة يلقيها على «سمانة الرجل» عند اتصالها بالقدم.
وكأنما كانت عودة الشيخ رابح وزوجته على هذه الصورة إيذانا باندلاع حرب خفية بينه وبين بلدياته حول رؤية وجه امرأته؛ إذ كان يبدو وكأنما أصدر لها أوامر حازمة باترة مصحوبة بتلويحة مروعة من عصاه «الحكمدار» بأن معنى أن يرى أحد - سواء كان رجلا أم امرأة في الطريق - وجهها الهلاك المحتم لها، وإذا كان قد قدر لك أن ترى الشيخ «فقر»، وهو يهدد، وقد انقبض وجهه واحتقن واسود، وتدببت أشجار السنط في ذقنه وتقنفذت، والتقى الخطان العميقان في جبهته على هيئة عقدة دون حلها رابع المستحيل، لآثرت السلامة حتما، وفضلت أن تطيع أوامره، ولكن أوامره مهما بلغت من قسوتها، فلم تكن لتحول بين الناس وبين رغبتهم التي تتزايد يوما بعد يوم لرؤية وجه امرأته المخفي دائما وراء الطرحة، ولا محاولاتهم المستميتة للعثور على ثغرة في النقاب، أو حتى لضبطها مرة واقفة في حوش منزلهم القديم الواسع أو فوق سطحه الآيل للسقوط، سافرة. ذلك أمر لم يحدث أبدا، وبدا مصرا على عدم الحدوث إلى درجة أيأست الناس تماما، فسلموا أمرهم وحب استطلاعهم إلى الله، ونفضوا أيديهم. أما الذي لم ييأس أبدا، ومضر مصرا وبكل ما يملكه من تزمت فهو الشيخ رابح، ليس فقط على إخفاء وجه امرأته، بل بعد هذا على إخفائها نفسها عن أعين الجميع، وكأنها «بضاعة ... والناس جواعة»، بل على أن يمضي في هذا الطريق إلى آخر المدى؛ فالشيخ «فقر» رغم غضبه السريع والعنجهية التي تستبد به في أحيان، إلا أنه كان دائما وأبدا قبل ذهابه إلى الإسكندرية إنسانا مرحا ذا ضحكة، وإن كانت أقبح ضحكة ممكن أن تسمعها إلا أنها دائمة الحدوث، وبسبب وبلا أي سبب، ودائما تغري على الضحك، بحبوحا لا تفوته النكتة، وإن فاتته انقلب على نفسه وفقره وحياته وأسرته الكبيرة يسخر منها - ويحتد في سخريته - حتى إنه هو الذي أطلق على نفسه الشيخ «فقر»، ولكنه حين عاد بهذه الزوجة عاد إنسانا آخر، ضاق خلقه إلى أبعد مدى، وحول ضحكاته إلى نظرات نارية جادة يخوف بها القريب والبعيد، وكأنما كان يتصور أنه لو فرط لحظة واحدة في حديثه لاستهان الناس به، ومن ثم بامرأته وكشفوا عنها النقاب والغطاء. كان بمثل ما يرهبها ويفرض عليها الحجاب فرض عزيز مقتدر يريد أن يرهب الآخرين، ويفرض عليهم غض النظر، حتى لو كان النظر إليه، وكأنما التحديق فيه مقدمة مستترة للتحديق فيها. أصحابه القدامى هجرهم ولم يعد يجلس إلا مع الكبار الوقورين ذوي الدم الثقيل، حتى هو نفسه أصبح «كقرد قطع» وحيدا صامتا معقود الجبهة لا يطيق الناس - من تلقاء أنفسهم - رؤيته.
إلى أن كان يوم لا يزال الرواة يتذاكرونه؛ فقد كان يوم شتاء والمطر قد أحال البلدة إلى برك وطين ومستنقعات، وكان الوقت منتصف الليل أو بعده بقليل، وكانت «طوبة» وبردها القارس . وكان صراخ إلى عنان السماء تصاعد في الليل من بيت الشيخ رابح، وظن الناس أول الأمر أنه يضربها، ولكنه أبدا ومنذ قدومه إلى البلدة لم يسمع أحد أنه ضربها، وما حاجته إلى الضرب إذا كانت سحنته تكفي؟ فقط حين طال الصراخ وتزايد، أدرك الناس أنها لا بد تلد. وكانت مفاجأة؛ فأمر حملها كان كالسر لا يعرفه إلا أقرب المقربين من الجارات؛ فتخنها كان كفيلا بأن يختفي في طياته عشرة أطفال دون أن يبدو لهم أثر؛ ولهذا كان طبيعيا جدا أن يكون معرفة الناس بالحمل ساعة الولادة معرفة لم تفعل إلا إطلاق الألسن المكتومة التي تتربص بالفرص للضحك، وإشفاء الغليل. وهكذا ظل أناس كثيرون ساهرين يسمعون الصراخ ويتضاحكون تارة على عملية ولادتها نفسها؛ فداية القرية كانت مريضة، والمرأة غريبة لا أم لها ولا قريبة، والشيخ رابح رأسه وألف سيف إلا أن تلد في بيتها، وبمساعدة «أم الخير» الجارة العجوز. مضى بنفسه يشرف على عملية الولادة مزمجرا في كل من تحدثها نفسها من النساء بأن تقترب أو تدق الباب عارضة المساعدة، خالعا جلبابه، باقيا في عز «طوبة» بالفانلة والسروال الطويل، يتفصد العرق الغزير من وجهه وكل مكان في جسده، مشغولا مشغولية عظمى، وكأنه يشرف بمفرده على معركة حربية ليس لها نظير، وتارة تنطلق الألسن منددة - قبل مجيئه - بالجنين المقبل، معترضة أن الحمل لم يحدث من الشيخ رابح، وإنما تم على أثر وصفة اشترتها المرأة من قرداتي تحتوي على نطفة قرد؛ فليس من المعقول أن يخلف الشيخ رابح، وقد بلغ من العمر أرذله! وما يبدو مستحيلا أكثر أن تخلف هي! وتارة تركن الألسن إلى قليل من الجد، وتتساءل عن أخبار عملية الولادة، تلك التي طالت على غير العادة، حتى أصبحت صرخات الإسكندرانية تتلاحق وتشق كالسكين الحامية سكون الليل. مسألة لا بد أنها كانت تدفع الشيخ رابح إلى ما يقرب من الجنون، فإذا كان يرى في وجه امرأته عورة، فلا بد أن صوتها لديه عورة أخطر، وتصاعده في الليل على هذه الصورة جريمة أكثر ، فلا بد أن القاصي والداني الآن يسمعه، وكيف يمكن أن يقبل الشيخ رابح أن تتسمع الآذان، آذان كل من هب ودب صوت امرأته، ذلك الحرم المقدس الخاص به وحده، الذي لا يصح أن تتسمعه آذان أحد سواه؟ لو كان الود وده لخنقها حتى يسكتها، أو للف في القرية يسد آذان أهلها بالطين.
المهم أنه قرابة الفجر، روعت القرية حقيقة حين انفتح باب الشيخ رابح بقوة، وخرج منه الرجل حاسر الرأس بالفانلة والسروال، يتصبب عرقا، ويجري كالمجنون يدق أبواب الجيران طالبا الغوث والعون، باكيا، هذا الجبار، مستحلفا طين الأرض - إذ كان طوبها كله قد تحول إلى طين - طالبا من الجميع مساعدته؛ فالجنين قد خرج نصفه وانحشر نصفه الأعلى لا يريد الخروج، وأمنية حياته الكبرى - تلك التي أخفاها عن الجميع إلى تلك اللحظة - كانت أن يخلف ولدا، والجنين ولد رآه بنفسه وتأكد منه، ولكنه محشور، ولا بد ما لم تتداركه العناية أنه مخنوق ومقتول، وأنا في عرضكم يا ناس، في عرض الصغير فيكم قبل الكبير، والحافي قبل اللابس، أنقذوا الولد وسأعيش عمري عبدكم الذليل.
يا لله! لم يصدق أحد عينيه أبدا ولا أذنيه؛ فلا يمكن أن يكون المتذلل الباكي هذا هو نفسه الشيخ رابح صاحب «الحكمدار» والنظرات المقطرة سما، مستحيل أن يكون، ولكنها دهشة لم تدم طويلا فسرعان ما اختفى الاستغراب، وكتمت الضحكات لتحل محلها الشهامة المعتادة.
وكانت المشكلة أنه لا بد من نقل الوالدة فورا إلى المستشفى، وطلب الإسعاف وانتظاره مسألة لا يمكن أن يفكر فيها عاقل بالمرة، أي إسعاف هذا سيأتي في الفجر والأرض موحلة؟ إنه في أثناء النهار وفي الطرق المرصوفة نفسها لا يأتي إلا بعد ساعات، فما بالك في ليلة كهذه وفي ظرف كهذا، الدقيقة فيه - كل دقيقة - لها ثمنها الفادح؟ وبينما الشيخ رابح قد تهاوى إلى جوار الحائط غير عابئ بالوحل والطين، تاركا أمر التصرف في الموقف لأولاد الحلال الذين تجمعوا بالعشرات والمئات داخل بيته وخارجه، كان الناس قد قرروا أن يتولوا بأنفسهم نقل الوالدة إلى المستشفى ، وبدلا من النقالة قرروا أن يستعينوا بسلم يضعون عليه مرتبة ويرقدونها فوقه، ويحملونها - جرى من جرى - إلى المستشفى الذي لا يبعد عن البلدة إلا بكيلومترين، وانتشرت موجة الشهامة، وعمت القرية كلها حتى استيقظت عن بكرة أبيها؛ فالقرية ليس فيها إلا شيخ رابح واحد، ورغم كل شيء فالشيخ قضى عمره كله يسلي بغضبه الناس ويضحكهم، ومن المحال أن يتخلوا عنه في ورطة كهذه. أكثر من «كلوب» أشعل وجيء به إلى البيت والساحة التي أمامه، وفتشت القرية كلها بحثا عن سلم متين ورجال أقوياء؛ فالحمل الذي سيحمل حمل غير عادي، والسرعة المطلوبة سرعة غير عادية أيضا. وأخيرا تم في دقائق قليلة إعداد كل شيء، وبقي أصعب شيء؛ فالوالدة جاءها المخاض وهي نائمة في «المقعد» فوق السلم، والسلم المؤدي إلى السطح سلم عادي كالسلم الذي ستحمل عليه، ولا بد لكي تهبط سليمة من حملها في وضع أفقي، وإنزالها على هذه الصورة سلمة سلمة، وبحرص شديد، والدنيا وحل، والأقدام والسلالم زلقة، وهي تخينة سمينة في ثقل حجر الطاحونة وربما أثقل، ومشاكل كثيرة وعويصة هندسية وميكانيكية وعضلية كان عليهم أن يحلوها قبل أن تهبط حرم الشيخ رابح إلى الأرض سالمة. أما الشيخ رابح نفسه فما كادت إجراءات الحمل تبدأ حتى انتفض من انهياره واقفا وليس أمامه سوى مشكلة واحدة قاهرة ملحة، أن يفرد فوق امرأته الملاءة السوداء التي أحضروها من بيت العمدة، بحيث تغطيها تماما، وبحيث تحدث عملية الهبوط كلها، والحمل إلى المستشفى دون أن يبدو من جيدها قلامة ظفر. وفعلا كان الرجال جميعا مشغولين بحملها بالمرتبة التي ترقد عليها ووضعها فوق السلم، ثم حمل السلم والهبوط به من فوق السلالم الناقصة أكثر من سلمة، وكان هو مشغولا تماما بضبط الملاءة فوق كل بقعة من جسدها، ولقد نجح في هذا إلى أن وصل جسدها المحمول إلى رأس السلم، حيث بدأ الارتباك الأعظم؛ فالحمل ثقيل جدا والأقدام تتزحلق، والمسافات بين خشب السلم متباعدة، ولولا لطف الله لكانت قد تهاوت بمن حملوها أكثر من مرة، وصرخاتها أقوى من صفارات قطار أي بضاعة أو اكسبريس تنطلق بمعدل عشر مرات في الدقيقة، وتولول مستغيثة مربكة حامليها. وبمحاولاته المستميتة لتغطيتها كاد يؤدي الشيخ رابح إلى سقوطها أكثر من مرة، حتى بدا واضحا استحالة أن تهبط مغطاة، أو على الأقل وثمة أحد - حتى لو كان زوجها - يمسك بأطراف الملاءة، ولم يكن أمامه إلا أن يستسلم في النهاية، ويفرد عليها الملاءة، تاركا أمر بقائها أو انحسارها للحظ والقدر. وكان أهل البلدة في الحوش يتطلعون بقلق إلى محاولات الإنزال، ويرى كل منهم في المشهد عشرات التفاصيل التي تضحك وتميت من الضحك، فينجح في كتم بعضها، وفي أغلب الأحوال يفشل. وعلى أضواء خمسة «كلوبات» من كل الماركات قوية مسلطة على السلم المستعمل كنقالة وسلم الهبوط، بحيث تحيل البقعة إلى ما يشبه المسرح المضاء بشدة، وتحت وقع الرذاذ الخفيف الذي بدأ يتساقط منذرا بقرب عروق مطر سخية بدأت عملية الإنزال، أو بالأصح الارتباك المهول في الإنزال، والأوامر الكثيرة التي يصدرها الجميع إلى الجميع، وصرخات الاستغاثة، وآهات الألم حين ينزلق أصبع أو يدوس أحد على قدم أحد، والهرولة تكثر، والسلم المهدد الذي حفل بعشرات المتسابقين إلى حمل السلم الآخر وإبقائه أفقيا، وعشرات الأيدي تمتد لتحفظ الوالدة فوق محفتها، والملاءة لم تنزلق فقط عن جزء من جسدها، ولكنها سقطت تماما من فوقها ولاكتها الأرجل والأقدام في الطين، بحيث إن الشيخ رابح ذلك الذي كان خوفه الأكبر أن يرى أحد وجه امرأته، قدر له أن يرى بنفسه الناس - مئات الناس - كل أهل القرية وهم يشاهدون، ليس وجهها المكشوف أو ذراعها أو جزءا من ساقها، وإنما جسدها كله بكل ما هو ظاهر فيه أو مستتر، وبالجنين يطل منه، والأضواء قوية مسلطة تتيح للأعمى نفسه أن يرى ما شاء لأي وقت يشاء؛ فالمسرح بلا ستارة، والزوجة بلا غطاء ليس فقط كما ولدتها أمها، ولكنها عارية عري أمها نفسها وهي تلدها، والأعين كلها مجبرة على تصويب نظراتها لكي يمكن إنزال المرأة وإنقاذها، والغريب أن هذا كله حين وقع لم يكن يحتل من تفكير الشيخ رابح واهتمامه إلا أقل القليل؛ فجزعه الحقيقي كان خوفا من أن يموت الجنين، وجزعه الثاني من أن تموت الوالدة، جزع كاد يذهب بعقله، جزع كان يدفعه لأن يصرخ بأعلى صوته في الرجال طالبا من هذا أن يمسكها من فخذها حتى لا تسقط، ومن الآخر أن يحتضنها من أعلى حتى لا تتهاوى، ومن ثالث أن يمد يده بين فخذيها ليباعد بينهما حتى لا تهشما الجنين بضغطهما. مرة واحدة فقط أفاق ورمق الجمع الحاشد الذي تنصب نظراته كلها على جسد زوجته، فأحس بالأرض تميد به، ولكنه في الحال طرد الخاطر؛ فمن أعمق أعماق نفسه كانت تتصاعد خواطر أكثر قوة وحدة، وأمان كثيرة غير محددة، فهو مستعد والله أن يحدث ما هو أكثر، بشرط أن تكون النتيجة أن ينقذ المولود وتنقذ الوالدة.
وبين عشرات الأشياء التي كانت تدفع الرجال ليسقطوا من أطوالهم ضحكا، وعشرات الأشياء التي كانت تتطلب منهم العزم والقوة والجدية، وعشرات المربكات والمثبطات والمشجعات، والوحل والمستنقعات والمطر الشديد الذي بدأ يهطل، من خضم هذا كله هبطت الوالدة وكأنما بمعجزة إلى الأرض، وانطلق بها الموكب الجاري الحافل إلى المستشفى، عشرة يتكاتفون في حمل السلم يسقط منهم تعبا وإنهاكا من يسقط، ويتهاوى من يتهاوى، ويلعن في سره بأعلى صوته الليلة والشيخ والوالدة والمولود من يلعن؛ إذ كانوا وكأنما يحملون جاموسة سمينة ومعلوفة أصابها «عرق الأنس» وليس امرأة مثل غيرها من النساء.
ولكن الموكب وصل والطبيب جيء به من حيث يقطن، والعملية أجريت، وحين صدر عن الولد أول صراخ، بنفسه زغرد الشيخ رابح، وطبلوا له ورقص، وارتفعت من صدر طال عليه الإغلاق قهقهات عمرها أعوام وأعوام.
وحين عادت الزوجة إلى البلدة لم يكن قد تبقى للشيخ «فقر» ما يخفيه عن الناس، وقد رأوا جميعا ما رأوا. ودون حاجة إلى أوامر أو إلقاء تعاليم أو تهديدات أصبحت الإسكندرانية تمشي في طرقات البلدة وشوارعها بوجه سافر مكشوف، وأصبح الشيخ «فقر» لا يسبقها أو يتخلف عنها إنما إلى جوارها تماما يمشي. كل ما في الأمر أن أحدا لم تواته الجرأة يوما على التطلع في وجهها - ليس تعففا أو تأدبا وإنما خجلا - إذ ليتها ظلت مستترة خلف اللثام والطرحة والنقاب؛ فالناظر إليهما معا كان يفضل دائما أن ينظر إلى وجه الشيخ رابح ذي الحفر القديمة نصف المردومة، واللحية النابتة كالسنط؛ فالنظر إلى وجه كوجهه كان - والله - أرحم.
المرتبة المقعرة
في ليلة «الدخلة» و«المرتبة» جديدة وعالية ومنفوشة، رقد فوقها بجسده الفارغ الضخم، واستراح إلى نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التي كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
ونظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم يوما إذن.
ونام أسبوعا، وحين صحا كان جسده قد غور قليلا في المرتبة.
فرمق زوجته وقال: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم أسبوعا إذن.
ونام عاما، وحين صحا كانت الحفرة التي حفرها جسده في المرتبة قد عمقت أكثر، فقال لزوجته: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم شهرا إذن.
ونام خمس سنوات، وحين صحا كان جسده قد غور في المرتبة أكثر، وقال كالعادة لزوجته: انظري، هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا، لم تتغير. - فلأنم عاما إذن.
ونام عشرة أعوام، كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدودا عميقا، وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه، فاستوى سطحها بلا أي انبعاج، وحملوه بالمرتبة التي تحولت إلى لحد، وألقوه من النافذة إلى أرض الشارع الصلبة.
حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد، حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة، وأدارت بصرها في الفضاء وقالت: يا إلهي! لقد تغيرت الدنيا.
معجزة العصر
قال لي صديقي الذي لم أره من عشر سنوات، والذي كان مقدرا أن أنقذه:
هذه المرة، هل رأيت معجزة العصر؟
بلا دهشة سألته: أية معجزة؟
لم يجب، ولم نضيع الوقت في التخمين، وكأن اتفاقا بيننا. لف ذراعه حول ذراعي وجذبني وتبعته صامتا، حاولت أن أعرف إن كانت المعجزة هي الوصول إلى القمر، أو ظهور المهدي المنتظر، فكاد يغلق فمه تساؤلا، قائلا: لا تخمن فلن تستطيع أبدا إدراكها، ولو عرفتها من تلقاء نفسك لكانت معجزة العصر أنك عرفتها.
وبحماس جذبني بقوة أكبر، وبعد خطوات كنا على البلاج. كانت الدنيا شتاء، والشمس صفراء تسقط شعاعاتها المريضة على الرمل، فيبدو مجرد لون أنيمي شاحب، جو تتوقع أن يكون البلاج معه فارغا غير أنك تفاجأ به عامرا مزدحما، وكأننا في أغسطس، الناس مكدسون على الرمال بالأكوام، والباعة ينادون على جيلاتي طوبة، وسحلب بئونة بدندرمة أغسطس. ولو أغلقت العين لحسبته مجرد خطأ في ورقة النتيجة؛ فأصوات الصيف هي هي، وصخب الأطفال هو هو، حتى ذلك الإحساس الخاص بالصيف، ذلك الذي تحس وكأن الحياة به أكثر حلاوة كان موجودا. إذا غضب الله على قوم أمطرهم صيفا، فماذا يكون موقفه تجاههم إذا جعلهم يصيفون في الشتاء؟ من الممتع أن تشحذ عواطفنا مشاكل الظواهر الكونية، فحين أسخط على الدنيا تهطل الأمطار، وحين أحظى برضاء حبيبي تشقشق في الكون ملايين من عصافير الكناريا، وإذا كرهت جاري أطبق على المدينة ضباب، حتى لا تكاد ترى - وأنت واقف على بابك - باب جارك. والجار أولى بالشفعة، إلا جاري الذي لم أره من يوم أن قطنت عمارتنا؛ فكلانا وحيد، وكلانا في المدينة المزدحمة قد فقد الونس، حتى أصبح الازدحام مجرد حبل معقود يهدد احتواء رقبتك، فأنت مرعوب منه، وخائف حتى النخاع. نفس الإحساس الذي شعرت به، وازدحام البلاج يحويني، كتل من اللحم البشري مقسمة إلى أذرع مختلطة وسيقان. ويا لمشهد الجسد البشري بعد العشرين حين يكتنز بالشحم، وتبرز له الكروش ويبدأ التفكير في صبغ الشعر أو توزيعه ليغطي الصلعة! حتى الجسد يهجرك ويهرب منك. وفي هذه الوحدة المزدوجة لا بد أن يهزم الإنسان سريعا؛ فنحن كائنات أرضية لا تنمو بصحة إلا معا، إلا كمحصول واحد، فإذا ما زرع كل نبات منا بمفرده أكله «الفلت» وخنقته الطفيليات.
أتكون المعجزة هي الحصول على دواء يشفي الغربة ويعيد جمع الناس؟ باء تخميني أيضا بالفشل، وفقدت عين الحكمة مع أن الحكمة ثرثرة، لا بد حسب قوانين التباديل والتوافيق أن ينتظم بعضها على هيئة أقوال رائعة النضج، ولكني سعيد وكأن مجرد رؤيتي الموشكة للمعجزة سيسلحني بطاقية إخفاء أو بخاتم سليمان قادر على تحقيق المطالب. الغريب أن الزحام لم يكن ازدحاما للتجمع، كان تجمعات للتفرق؛ فكل مجموعة مكدسة بكليتها إلى شيء مشترك يخصها وحدها، أو ربما تبحث لنفسها هي الأخرى مثلما نبحث عن معجزة عصر، فأنت تقبل على تجمع يشبه من بعيد شكل الكازينو الذي أقيم على عجل، ولكنك حين تقترب لا تجد كازينو أو حتى مكانا للجلوس؛ فالناس إما وقف منحنون أو في حالة رقاد، والكل في شغل عنك بما يبدو وكأنه مأساة داخلية طاحنة. لا أحد يلتفت إليك، الأيدي تلوح في عصبية، والنقاش حاد كطلقات الرصاص، وبعضهم بمجهود عظيم يضع يديه الاثنتين معا على فمه محاولا أن يكتم الضحك فلا يستطيع، وتكون النتيجة أن تفلت الضحكة رغما عنه. حسبت الصديق يضحك، ولكنه كان يتوقف ويتطلع حوله، ثم يحاول أن يخفي نفاد صبره، والعرق رغم الهواء الساقع قد نبت على جبينه، والحيرة الكبرى تتملكه، ويأسه شامل، يكاد لولا الحياء أن يستنجد بالناس، ويسألهم أين الطريق لمعجزة العصر!
حسبته يضحك، ولكنه كان، فجأة يلكزني ويشير إلى كازينو قريب قائلا وقد تهللت ملامحه، وكاد يقفز منها الأمل: وصلنا.
ولم تكن فرحتي هذه المرة لأننا نوشك أن نصل، فرحتي كانت لأننا نوشك أن نصل إلى كازينو، حيث نستطيع الجلوس وشرب الماء المثلج والشاي بعد هذا الكدح الطويل من الشاطبي إلى سيدي بشر والمنتزه.
ولكن ما أبشع ما خاب أملي حين لم ينكشف الكازينو إلا عن ازدحام آخر، واحد من عشرات الازدحامات التي كان يحفل بها البلاج! نظرت بحدة إلى الصديق وإلى عينيه اللتين كانتا قد احمرتا تعبا، أو من يدري؟ ربما غيظا، وربما لهذا انطبقت شفتاه في حدة راسمتين في خطوط قاطعة شكل فمه.
أين رأيت ملامح كهذه مرسومة بحدة كتلك الحدة يا ربي؟ أين؟ والهمهمة الصادرة عن هذا الازدحام نفس هذه الهمهمة وثيقة بنفس الملامح، وأيضا بشيء يشبه المعجزة، أين ومتى حدث لي هذا يا ربي؟ لا أعرف، هذه اللحظة عشتها قبلا، بالتأكيد حدث هذا، ولا بد أنه ذلك الشعور الذي دأب على زيارتي في الفترة الأخيرة، الشعور بأن الكون يكاد ينتهي، والصمت المطبق بدأ يحل، صمت سيمتد إلى آلاف وملايين السنين المقبلة، آخر علامات الحياة تختنق، الحركة الهائلة التي حفل بها الكون طوال وجود الإنسان قد انقرضت، وسيعود السكون الأبدي ولا يبقى إلا الشمس والقمر، والليل والنهار، والريح والرمال. الأجساد متراصة موزعة مختلطة لا تكاد تستطيع تمييز ساق الرجل من ساق المرأة، تبدو في أحيان كثيرة خالية من الشعر، والجميع كأنهم يبحثون عن إبرة سقطت في قلب الرمل، ليسوا منحنين فقط، ولكنهم ممددون تماما، وقد استندوا بأذرعتهم إلى الأرض، وانكفئوا على الرمال عيونهم تكاد تخرج من محاجرها بحثا عن شيء لا بد أنه مخبأ بطريقة ما في الرمل.
الأطراف كثيرة، كل حركة منها تثير ثائرة الرمل، فيملأ العيون ويسد الأنوف، وتتصاعد صرخات الاحتجاج؛ لأن شخصا وقف أو سار أو تحرك، وأثار بحركته زوبعة صغيرة في ساكن الرمال. المعجزة، معجزة العصر، الشي الصغير الكائن والموجود في حياتنا منذ وجودها الأول، إنما لكونه صغيرا، فالجميع يعبرون به دون أن يحسوا له بأي انفعال أو احتفال، أقدامهم تدميه أو تصطدم به دون أن تشعر أو تحس أنها صدمت شيئا أو تعثرت بشيء، والشي دائم الصراخ والعويل، إنه كائن وموجود، دائم الرجاء أن يحظى منها بالتفاتة، أن يتلقى إشارة واحدة من طفل أبله تفيد أنه رآه أو سمعه أو أحس به بلا فائدة. الناس انغماسهم في مشاكلهم أقوى وأكبر من أن يدعهم ولو للحظة يفيقون إلى ما حولهم، ويتأملونه بنظرة خالي البال. إننا لم نعد أحرارا في رؤيتنا، أصبحت أنظارنا قصيرة موجهة إلى ما تعرفه أو إلى ما تود معرفته؛ أي إننا لم نعد نرى ما ينعكس من داخلنا إلا ما يعكس اهتماماتنا وتفكيرنا وأحلامنا، فقدنا تلك القدرة البكر على تلقي ما هو خارج النفس كما هو، بروعته وتلقائيته وعمقه وبساطته والانفعال له أو عليه، وبناء آرائنا ومعتقداتنا من خلاله، لا نرى إلا لكي نثبت أو نبرهن به أننا على صواب، ولكن في العادة دائما ما يحدث شيء، حدث يعرض مصادفة، شيء لا بد رغم إرادتنا يرغمنا على أن نلوي أعناقنا، وننظر فنفاجأ أننا أمام حدث خارق للعادة، أننا أمام شيء، وإن يكن صغيرا إلا أنه بالغ الدلالة، وحينئذ تفلت من أحدنا صرخة الإدراك الأولى، ومعها تجر الانتباهات إلى انتباهات ليصبح ذلك الشيء بعد يوم وليلة محور اهتمامنا الأول، ونكتشف وندرك كم نحن بحاجة إليه، وكم كانت تفتقده حياتنا، وكم هو لازم حيوي لها، ونندفع حينئذ اندفاع من فقدوا العقول نهتم به اهتماما مبالغا فيه، ويصبح أمل الإنسان منا أن يحظى منه بنظرة، أو نراه رأي العين. هل أصبتم بخيبة أمل؟ أنا نفسي حدث لي ما حدث لكم، ولدى الإدراكة الأولى كدت أهيم على وجهي يائسا خائب الأمل. لنحاول إذن ألا نخطئ خطأنا الشهير الأول، الشيء خارج ذواتنا، الشيء لا كما نريده وإنما كما هو موجود وقائم، وكما كان يمضي الناس عنه غير مهتمين أو مدركين، إنه ليس حشرة غريبة أو قطعة من معدن نادر، كان في الحقيقة بشرا مثلي ومثلك له أذنان وعينان وأنف وفم وأسنان ولد بها جميعا، والمفروض أنه لا يزال إلى لحظتنا هذه يمتلكها. أنا لا أهزل أو أقول غير الحق؛ فآلاف المواليد تخرج كل عام على هيئة مواليد شاذة، بعضها ملتصق ببعض في أحيان، وأحيانا بطن واحد بصدرين ورأسين من أعلى، ومن أسفل بحوضين وأربع سيقان وأرجل. كل الاختلاف أن الشيء في حالتنا هذه كان جنينا صغير الحجم، وهذا كل ما هنالك، لا، لم يكن في حجم كرة القدم ولا حتى في حجم البرتقالة، إن شئتم الدقة كان في حجم نصف عقلة الأصبع، ومع هذا فهو كامل الأعضاء متناسبها باستطاعته أن يصرخ ويرقص ويرضع، كل ما هنالك أنه يصرخ بصوت لا تستطيع سماعه، عليك لكي تسمعه أن تقربه كثيرا من أذنك، وحبذا لو وضعته كله داخل أذنك؛ لكي تسمع صراخه أوضح ما يكون، صراخ عصبي متشنج يحاول النص نص «هكذا سوف نسميه» أن يفرض إرادته علينا وعلى الحياة. كان صغيرا إلى درجة أن أمه لم تلحظ أنها ولدته، انزلق منها مع الماء الذي كان يملأ الرحم دون أن تحس به، وحسبته الداية قطعة من المشيمة، ولكنها حين تناولته وتأملته صرخت صرخة أرعبت سكان المنزل جميعا، ولم تسقط فاقدة النطق، وإنما إلى الأبد فقدت النطق. •••
وما أتعس الأم! كانت قد حملت به بعد أربعة عشر عاما من العقم، وطوال حمله كادت تجن وهي تصلي إلى الله أن يجعله ولدا يقر به عين أبيه، وعلى هذا لم تجرؤ على إطلاعه عما أتت به، وزعمت له أن الحمل كان كاذبا، وبعد أن كانت قد قررت أن تلقي بالجنين مع الماء القذر صعب عليها الضنى، وأخفته تحت الوسادة، وبالحقنة الرفيعة كانت تستطيع العثور على فمه وتغذيته، وضبطها الزوج ذات يوم وهي ترضعه، وانهارت واعترفت، وبعد أن ثاب الأب إلى رشده، وأيقن أن الخطأ - إن كان هناك خطأ - ليس منه أو منها، وأنه يجب أن يرضى بما قسمه الله، رضي وسكن. تلك كانت ظروف ولادته، أما كيف تربى وتعلم؟ فتلك قصة أخرى؛ فلقد سمع الأب ذات يوم أن السلطان يهوى جمع التحف النادرة، وأنه يدفع مكافأة سخية لكل من يحضر له تحفة أصيلة ما امتلكها أحد قبله.
ولم يكن في قلب الرجل لل «نص نص» حب أي حب، فحب الابن مسألة يتعلمها الوالد، ويكتسبها مثلما يتعلم الولد المشي أو النطق، وكما يعلم الأب ابنه كيف ينطق فالابن يعلم أباه كيف يحبه، فكيف يستطيع «النص نص» أن يعلم أباه، وأبوه يحتاج إلى عدسة كي يرى وجهه، أو يعرف بطنه من رأسه؟ الأم وحدها هي التي كانت تحبه، ولهذا كان على الأب أن يساهيها ويأخذه، وأن ينفق جزءا من المبلغ الذي أعطاه له السلطان في شراء ملابس لها ومصاغ. أما السلطان الذي كان يعاني من الفراغ الممتد في حياته وأمور بلاده يسيرها وزيره ورعيته هادئة سلسة، فقد وجد في «النص نص» غايته ومبتغاه، والشيء الذي يستطيع أن يكرس له كل نفسه ووقته، ويجد في هذا كل المتعة.
كان عليه أن يعلمه كيف يتكلم وينطق، ثم بعد هذا كيف يقرأ ويكتب، واعتبر أنه لو حقق هذا لأصبح يمتلك تحفة معجزة يستطيع أن يفرج عليها خلانه وأصدقاءه، وأن يمنحهم ويمنح نفسه بهذا متعة دونها أي متعة أخرى.
كل خوفه كان أن يكبر «النص نص» بمضي الزمن، ويصبح عند البلوغ مثلا أو إذا أصبح رجلا مجرد قزم ضئيل الحجم، ربما يكون أقصر الأقزام وأقلهم حجما، ولكنه حتما سيفقد أهم ميزاته. غير أن «النص نص» كفاه مئونة القلق، فلم يكن ينمو مع الأيام، أو يزداد حجمه، أو حتى تتغير ملامحه، بل إنه حين قارب سن الرجولة لم يحدث له أدنى تغيير سوى أن لحية نبتت له فجأة، لحية فيها بالضبط عشر شعرات ما كان أسعد السلطان وهو يحلقها له بنفسه، أو وهو يجتث منها خمس شعرات، ويترك خمسا لتنمو وتكون ذقنا بديعة صغيرة كذقون العلماء.
وتعلم «النص نص» النطق، فأصبح يحسن استخدام الجهاز الترانزستور، الذي كان يضخم صوته، ويجعله مسموعا، وفي نفس الوقت يقوم بمهمة الأذن له، بحيث يخفف من موجات الصوت ويهذبها كي تصل إلى أذنه الدقيقة، وتصبح في متناول سمعه.
بهذا الاتصال الذي تم مع «النص نص» أمكن للسلطان أن يعلمه القراءة والكتابة، وأن يبدأ معه سلم المعرفة الطويل. وفيما عدا ساعتين كان يقضيهما «النص نص» في تناول الإفطار والتريض رياضة عنيفة، يسير في أثنائهما فوق المسطرة القدم من أولها إلى آخرها، ويقطعها في رقم قياسي لا يتعدى نصف ساعة، أو يزاول العوم لمدة ساعة وأكثر في كوب الماء، ويستطيع أن يدور حول محيطه ثلاث مرات، وأحيانا أربع مرات.
فيما عدا هذا كان كل وقت «النص نص» متروكا للدراسة والتحصيل، وقد أتاح له السلطان أساتذة كبارا مما جعله ينتهي من المرحلة الابتدائية، وهو لم يبلغ الخامسة، وفي العاشرة انتهى من الدراسة الثانوية، واستعد لدخول الجامعة. هنا فقط بدأت إمكانيات «النص نص» المعجزة تظهر؛ فقد وجد أن منهج كلية العلوم التي اختارها ليدرسها أقل بكثير من أن يستغرق كل وقته، بل إن الطب والعلوم والزراعة معا كانت أقل من وقته، فأخذ بجوارها الآداب والقانون والفنون. وفي السنة الثانية مثلا نجح في تشريح ثانية طب وميكانيكا، ثانية ميكانيكا وكهرباء ومدني، ثانية كهرباء ومدني، وكل القوانين المقررة على ثانية حقوق، وفي البكالوريوس قدم في جميع بكالوريوسات الجامعة وليسانساتها، وبتفوق نجح فيها جميعا، حتى إن خطابات التعيين جاءته ليعين معيدا في أربع عشرة كلية في وقت واحد. وحين ذهب فرحا ليتسلم مهام أول مناصبه بدأت أشباح مأساته تتراءى؛ إذ لم يجد أحدا يأبه له أو يعيره اهتماما، أو حين ينجح في إثارة اهتمامه والحديث معه ينجح في إقناعه بجدية طلبه، كان الجميع ينظرون إليه نظرتهم لا إلى إنسان دفعه حظه السيئ إلى أن يكون صغير الحجم ليس إلا، وإنما باعتباره ظاهرة شاذة، وكأنه حشرة قد نجحت في النطق كالآدميين.
ظاهرة تدفع إلى الاستنكار والاشمئزاز مثلما نستنكر جميعا أن تقوم الحشرة بدور الإنسان في الوقت الذي لا نستنكر فيه مطلقا من أي إنسان أن يقوم بدور الحشرة. وعاد مهموما إلى ولي أمره السلطان الذي أدرك كل شيء بنظرة، والذي كان قد رتب للأمر، ومن اليوم التالي كان «النص نص» يحضر لدراسة الدكتوراه، كان قد انتوى أمرا خطيرا، أن يدرس أربع عشرة دكتوراه في نفس الوقت. وبينما كان زملاؤه يؤدون أعمالا روتينية، ويبدءون في لعن الروتين والسخط على قوانين الاستخدام، وفي الوقت الذي كان بعض آخر منهم قد يئس من كل شيء، ووهب نفسه كلية للتهليس وعب ملذات الحياة عبا، نذر نفسه هو للدراسة، وفي ثلاث سنوات كان قد أكمل استعداده، ولأول مرة في تاريخ الجامعة - بل في تاريخ الجنس البشري كله - تجتمع أربع عشرة لجنة لأربع عشرة مادة مختلفة، من الرياضة العليا إلى هندسة الإنتاج إلى الجراحة الخاصة لتمتحن «النص نص» في نفس الوقت؛ ومن أجل هذا الحدث غير العادي غيرت الجامعة من نظام المناقشة، وأجلست «النص نص» في منتصف الحجرة، وحوله تناثرت مقاعد الممتحنين الذين لم يبد عليهم أي استنكار لحجم «النص نص» أو شكله؛ فالمجتمع لا يهمه شكلك وأنت تدرس أو وأنت تمتحن، إنه فقط يبدأ يدقق ويفحص ويختار حين تتقدم إليه تطلب العمل!
ولأربع عشرة ساعة راح الممتحنون وأعضاء اللجان يناقشونه، ولم يكتشفوا لدهشتهم أنه قد هضم واستوعب تماما كل مادة من مواد الامتحان، إنما اكتشفوا أكثر أنه بلغ من استيعابه للمواد أنه وصل إلى نظريات عامة جديدة تماما في علاقة ألوان العلوم والمعارف بعضها ببعض، نظريات أوصلته إلى قوانين خطيرة تكشف شيئا فشيئا عن جذور المعرفة البشرية والقوانين الموضوعية للمادة وأشكالها المختلفة، بحيث إنه كان يتوصل معهم إلى القانون الأول الذي يحكم علاقات الكون كله. وتحول النقاش حينئذ من لجان تمتحن «النص نص»، إلى تلامذة يخرج لهم «النص نص» كنوزه ويحدثهم عما وصل إليه وهم حيارى مذهولون، قد أدركوا فجأة ليس فقط أنهم أمام عبقري من طراز نادر، ولكنهم اكتشفوا أنهم قضوا حياتهم عبثا، وأن دراسة الكون كأجزاء منفصلة، والإغراق في التخصص قد سلبهم القدرة على النظرة الكلية، وأن خير وسيلة للدراسة والمعرفة هو ما فعله «النص نص»، هو أن يعود العالم مرة أخرى مثلما كان الحال أيام ابن سينا وابن رشد عالما في كل شيء ليستطيع أن يصل إلى المفتاح السحري للعلم، ذلك الذي يفتح كل باب مغلق، وأيضا كان لا بد أن يحدث ما حدث؛ فرغم ما كانوا غارقين فيه من ذهول، ورغم أفواههم الفاغرة تتلقى من «النص نص»، وكأنها تتلقى درس الحياة الأول، ما كادوا ينتهون من نقاشه أو بالأحرى ينتهي هو من إلقاء الدرس عليهم، حتى عادوا يغرقون في المناقشات الحامية حول ما أسموه «الظاهرة النص نصية»، وهل هي معجزة فردية لا سبيل إلى الوصول إليها، أو هي أسلوب وطريقة باستطاعة أي إنسان أن يستعملها ويصل بها إلى نفس النتائج. ولما بح صوت «النص نص » وهو يحاول استخراجهم من النقاش ولفت أنظارهم مرة أخرى إليه، وهم مستغرقون في عملية انقسموا تجاهها أيضا هل يمنحونه أربع عشرة دكتوراه منفصلة، أو يمنحونه درجة علمية جديدة يسمونها دكتوراه الدكتوراهات؟ انسل «النص نص» من وسط الجمع لا يشعر به أحد، أو ينتبه إليه أحد، أو يوليه اهتمامه، انسل وحيدا، مهموم القلب، وقد عاد مرة أخرى إلى مواجهة واقعه الحزين وحظه السيئ، وعاد إلى بيته ليفاجأ بالمأتم قائما ومنصوبا. كان ولي أمره السلطان قد مات، وكان منذ الغد عليه أن يرحل، ورحل لا يمت إلى أحد، ولا يستطيع حتى أن يمت إلى مكان، فلا صاحب بيت يرضى أن يؤجر له بيتا، ولا مدير فندق يرضى أن ينزله بفندقه، نفس الاندهاش والتقزز تمتلئ به نفس من يخاطبه ويتفرج عليه برهة، ثم لا يلبث - كالطفل حين ينتهي من لعبته - أن ينفض منه يده، ولا يعود يأبه له أو لتوسلاته.
نفس الأساتذة الذين كانوا يشيدون بعبقريته حين كان يلقاهم منفردين في مكاتبهم، كانوا لا يملكون له سوى هز الأكتاف، وإلا تبصيره بالعقبات التي تشل أيديهم، وتمنع الواحد منهم أن يعهد إليه بعمل - أي عمل - لا كدكتور حتى أو كعالم، وإنما كإنسان تجارب عرض نفسه على أستاذ علم الأمراض كي يبقيه في قسمه، مجرد عينة علمية وظاهرة ممكن دراستها للكشف عن هرمونات النمو وأمراضه، اعتذر له الرجل قائلا: إن قانون الجامعة لا يبيح الاحتفاظ إلا بحيوانات التجارب فقط من أمثال الفيران، والخنزير الغيني، والأرانب، ولكن القانون لا يوجد به مادة تبيح الاحتفاظ بإنسان تجارب. لو فعلها لحاسبه ديوان المحاسبة حسابا عسيرا، ولعاقبته الجامعة، حتى الصحف والتليفزيون والإذاعة حين شاعت قصته في الأوساط العليا جرى مندوبو الصحف يبحثون عنه، حتى وجدوه عند أستاذ من أساتذة الجامعة، وأخذوا له عشرات الصور الفوتوغرافية، وأعطى عشرات الأحاديث، وعملوا معه أكثر من لقاء. في التليفزيون، وأمامه وعيني عينك كانوا يحضرون بعض أساتذة الطب ليقولوا رأيهم فيه، وفي الاستوديو كان حين يتكلم يحس بالدنيا كلها منصتة إليه، ويبدأ يتفاعل، ويفتح لهم صدره، ويطلب منهم أن يجدوا له عملا يتناسب مع مركزه العلمي ومؤهلاته، وكان ما كان يذكر حكاية العمل وحاجته إليه، ويطلبون منه أن يقترح عليهم نوع العمل الذي يريده، وما يكاد يذكر كلمة مدرس أو معيد، أو حتى محضر في معمل، حتى ينفجروا ضاحكين مقهقهين، مشيرين إليه وإلى حجمه، وسادرين في الضحك عليه لا بد. وكالعادة لم تستمر موجة الاهتمام به كثيرا، بعد أسبوع أو أقل فتر الحديث عنه، ولم يعد ظهوره في التليفزيون حادثا كبيرا كما كان الأمر في أوله، إلى درجة أن أحد منتجي القطاع الخاص كان أثناء موجة ازدهاره قد فكر أن ينتج عن حياته فيلما. خبر أسعد «النص نص» وأفرحه؛ فهو على الأقل سيأخذ ما لا يقل عن شهرين أو ثلاثة من العمل والاستعداد، غير أن هذا الأمل نفسه ما لبث أن خاب حين وجد نفس المنتج أن فكرة الفيلم ممتازة هذا صحيح، ولكن المستحسن أن يقوم إسماعيل يس ببطولتها، ويسموه إسماعيل يس في الجامعة!
وبالعدول عن فكرة الفيلم، وانتهاء الحديث عنه في وسائل الإعلام وجد «النص نص» نفسه بين يوم وليلة يحيا في فراغ كامل تام. وجد كل الأبواب التي كان يتخيل أنها مفتوحة على مصاريعها في انتظاره تغلق دونه الواحد وراء الآخر بلا سبب معلوم، وكأن هناك مؤامرة خفية هدفها أن يفقد عقله، أو يرتكب عملا أحمق. وكان قرر أن يرتكب هذا العمل وينتحر؛ فقد ضاقت به الدنيا، حتى أصبحت أضيق من «خي» حبل المشنقة.
ولم يتطلب منه الأمر تفكيرا كثيرا، وعلى الفور شرع في اتخاذ طريقه إلى مبنى المجمع في ميدان التحرير، وعلى قدميه صعد الطوابق الكثيرة؛ إذ هو لم يكن يستطيع أخذ الأسانسيرات أو ركوب الأوتوبيسات مخافة أن يفعصه أحدهم دون أن يحس أو يشعر. خرج إلى سطح المبنى، وأشرف على حركة المرور الهائلة في الميدان، وراجع حياته وما ينتظره عله يجد قشة أمل يتعلق بها في لحظاته الأخيرة، ولكن كان واضحا تماما أن قصته مع الناس قد انتهت، وأنه لم يعد بإمكانه أن يعيش بالطريقة التي يريدها، كان يستطيع أن يعيش على هامش الحياة مثلما يحيا الآلاف والملايين غيره، يأكل كيفما اتفق، ويسكن كيفما اتفق، ويوجد كيفما اتفق، ولكن كنوز المعرفة التي نهل منها جعلته يرفض أي حياة أخرى إلا الحياة التي يريدها هو، إلا أن يفرض على الحياة حياته، فإذا فشل في هذا الفرض كان عليه في صمت وبطولة أن يموت. وأغلق عينيه وقفز من حافة السور الصغير المقام فوق السطح، وأحس بنفسه يهوي ويهوي، وبوعيه يبهت ويبهت كأنه الشمعة تتعرض لتيار هواء قوي. حالا ستنطفئ الشمعة، ويفقد الوعي تماما وإلى الأبد، غير أن اللحظات طالت حتى جرؤ على فتح عينيه، فوجد نفسه يقترب من الأرض بسرعة، فعاد يغمض عينيه، وفي اللحظات التالية بدلا من فقدان الوعي اصطدم بالأرض، ولم يتحرك من مكانه منتظرا الموت، غير أن الموت لم يأت، كل ما في الأمر أحس بآلام هائلة. آه! كيف فاته وهو العالم الكبير أن سقوط من في وزنه لا يمكن أن يؤدي إلى وفاته أو حتى كسر عظامه؟ هذه المرة غضب، وفي غضبته راح يبحث بسرعة عن وسيلة أخرى يقضي بها على نفسه. لم يكن أمامه إلا أن ينام فوق قضيب السكة الحديد، وينتظر القضاء تحت عجلات القطار، ولكن القضاء لم يحل؛ فالهواء الناتج عن القطار القادم تكفل بنفخه، حتى طار من فوق القضيب، واستقر كالريشة على الزلط. حتى الغرق في النيل جربه، فوجد نفسه وفقط بحجم ما يرتديه من ملابس يطفو على سطح الماء، ولم يفكر في خلع ملابسه مخافة أن تفشل الوسيلة، فيضطر إلى أن يعيش عاريا وهو مصير لم يكن يتصوره.
تكفل فشل هذه الوسائل جميعها برد بعض التعقل إليه، وكأن نية الموت لها حد محدود، بحيث بعد محاولة أو محاولتين لا يصبح الإنسان قادرا على أن يظل منتويا الموت. وهكذا وهو طاف على سطح ماء النيل بعد فشله الثالث قرر أن يحيا، أن يكافح ليحيا كما يريد، وينتزع الحياة بأظافره وأسنانه ما دام الناس لا يستطيعون أن يقدموها إليه على طبق من الفضة، ولكي تقرر أن تحيا عليك أن تقرر أيضا ماذا تفعل بحياتك. وهكذا في نفس اللحظة كان «النص نص» قد قرر أن يحل بحياته القادمة المقبلة كل ما استعصى على البشرية حتى ذلك اليوم حله.
ونفس الشيء الذي كان يقف حائلا بينه وبين حقه في الحياة كالآخرين، نفس صغر حجمه توسل به كي يحيا كما يريد. الآن باستطاعته أن يختار أفخر مكان يريد الإقامة فيه وأحسن مكان يعمل فيه ويجرب. واختار هيلتون ليقيم فيه، أما رقم حجرته فهو رقم أي حجرة لا يشغلها قاطن، وإن كان الفندق كله مشغولا فهو رقم حجرة أجمل قاطنة من قاطنيه على شرط أن يصحو قبلها، مخافة أن ترفع البطانية، وتكتشف شريكها في الفراش، ويغمى عليها من الرعب. أما العمل فقد اختار معامل الكليات جميعها بعد انتهاء اليوم الدراسي، حيث تصبح كلها تحت أمره. والآن وقد توفر له السكن والمعمل والأدوات لم يعد أمامه إلا أن يستغل ما يحفل به عقله من كنوز المعرفة ويعمل. وكان أول موضوع اختاره، وأراد أن يلقي به درسا على كل هؤلاء الذي تجاهلوه وازوروا عنه، كان الوصول إلى القمر. وبعد أبحاث لم تستغرق سوى بضعة أسابيع كان قد اكتشف الطريقة، لا لم يستعمل الصواريخ ولا الوقود، استعمل طريقة أبسط من هذا بكثير؛ فقد اكتشف كنه الجاذبية، وأدرك أنها شحنة نوعية؛ بمعنى أنك إذا استطعت أن تشحن مادة بنفس شحنة الجاذبية الأرضية، فإنها تتنافس مع الأرض وتصعد إلى أعلى. وهكذا استطاع أن يشحن مركبة الفضاء الصغيرة التي صنعها في معمل الميكانيكا بكلية الهندسة بواسطة جهاز صغير مركب داخل السفينة، وبتشغيل الجهاز تنافرت المركبة مع الأرض، وبتقوية الشحنة أمكن أن يسرع بها إلى درجة أنها قطعت المسافة بين الأرض والقمر فيما لا يزيد عن الساعة، وحين اقترب من القمر أعاد شحن السفينة بنفس جاذبية القمر. وهكذا تعادلت قوة تنافرها مع القمر مع قوة اندفاعها الأولى، وهبطت على سطح القمر بسلام. وطور بعد هذا اختراعه ؛ ليستطيع أن يسافر إلى الكواكب الأخرى. وهكذا كان يكفيه أن يشغل الجهاز، بحيث يمنع عن السفينة الجاذبية الأرضية، وفي نفس الوقت يشحنها بجاذبية مضادة لجاذبية المريخ أو الزهرة أو أي كوكب يختاره، فإذا بجاذبية ذلك الكوكب تتفاعل مع جاذبية السفينة، ودون حاجة إلى بوصلة أو ملاحة فضائية أو مرشد كانت السفينة تنجذب تلقائيا إلى الكوكب بقوة عظمى، حتى لقد استطاع أن يصل بالسرعة إلى مليون كيلومتر في الثانية، وهي أضعاف سرعة الضوء. وهكذا كان يستطيع الوصول إلى القمر في نصف ثانية، وإلى المريخ في 250 ثانية. •••
وهكذا وضع قدمه على الطريق للسفر إلى العوالم الأخرى التي تفصلها عنا مئات السنوات الضوئية؛ إذ هو لم يجد حياة على المريخ كما كان يتوقع. وبدراساته وتلسكوباته الرادارية أمكنه أن يكتشف أن هناك قانونا أساسيا من قوانين الكون، قانون التماثل؛ بمعنى أن كل مجموعة نجمية توجد فيها الشموس والأقمار بنظام واحد، بمعنى أن المجموعة الشمسية المقابلة لمجموعتنا في الكون الآخر لها هي الأخرى شمس مثل شمسنا، وعلى نفس البعد منها يوجد مريخها وزهرتها، وأيضا على بعد 53 مليون ميل منها توجد كرتها الأرضية، وهكذا، فالحياة لا توجد إلا في الكرة الأرضية الموجودة في المجرة المقابلة لمجرتنا، وهي كرة تبعد عنا بحوالي 525600000000000000000 ميل، ويستغرق الإنسان في قطعها ثمانين مليون سنة ضوئية، فإذا عرفنا أن المسافة بين الشمس والأرض 93 مليون ميل يقطعها الضوء في ثماني دقائق ونصف دقيقة، لأمكن أن نتصور المسافة الهائلة التي لا بد تفصلنا عن زميلتنا الكرة الأرضية الأخرى، والتي من أجل الوصول إليها كان على «النص نص» أن يصل إلى جهاز يستطيع أن يولد قوة جاذبية تصل بسفينة الفضاء إلى سرعة أسرع بكثير من سرعة الضوء، وإلا لاستغرق ثلاثين مليون سنة ضوئية للوصول إليها، ونفس المدة في العودة منها. وهكذا أمكن أن يصل بجهازه إلى سرعة توازي مليون مليون مرة سرعة الضوء، وبهذا أمكنه أن يذهب إلى الكرة الأرضية المقابلة ويعود منها في بحر 74 يوما فقط، وهو شيء خارق للعادة كما ترى.
غير أن بناء هذا الجهاز كان يستغرق وقتا إذ هو يقوم به بمفرده دون مساعدة من أحد، ولا بد أن يصنعه متينا قويا مزودا بكميات من الأكسجين والوقود تكفي لهذه الرحلة الطويلة؛ ولهذا وفي انتظار أن يتم صنع مركبة فضائية واصل العمل في بحوثه الأخرى، فاكتشف «كورس» الأربعة عشر يوما للوصول إلى درجة العبقرية؛ ذلك أنه بدراسته للإنسان وللحيوان اتضح أن الذكاء والقدرة العقلية مبعثها هرمون خاص مسئول عن تغذية وتشغيل خلايا المخ. ومع أن طاقة المخ البشري طاقة جبارة إلا أن الجزء المستخدم منها قليل جدا؛ ذلك أن هذا الهرمون يفرز بكمية قليلة، في حين أننا لو زدنا من كميته لاستطاع العقل البشري أن يعمل أضعاف أضعاف ما يعمله الآن، ودون جهد يذكر. وهكذا بواسطة الأربع عشرة حقنة تؤخذ على مدى أربعة عشر يوما أمكنه أن يصل بالعقل البشري إلى أن يصبح له قدرة شكسبير الشعرية والمسرحية وذكاء أينشتين وحساسية بتهوفن الموسيقية. إنه يضع الإنسان بواسطة هذا «الكورس» على أعتاب العبقرية، ولكنه لا يستطيع أن يصنع له شيئا آخر؛ إذ الباقي عليه هو وحده أن يقوم به وينتجه، بل إن بحوثه في هذا الاتجاه أوصلته إلى طريقة تركيب الخلية العصبية، وبالذات طريقة تركيب الأحماض الأمينية التي تكون الكروموسومات داخل نواة هذه الخلية، وهي الأحماض الأمينية المسئولة عن صنع الحياة؛ إذ هي تستطيع أن تحيل المواد العضوية وغير العضوية إلى مواد حية قادرة على الانقسام الذاتي والحركة. كل المشكلة أن العلماء الذين سبقوه لم يستطيعوا الوصول إلى هذا التركيب؛ لأنهم كانوا يدرسون على خلايا الجسم الإنساني والحيواني، في حين أن خلايا الإنسان والحيوان مهما كثر عددها ليست سوى أجزاء من الكائن الحي؛ ولذلك اتخذ هو حيوانا ذا خلية واحدة، ولكنها كبيرة الحجم جدا، بحيث تسهل دراستها، اتخذ البيضة، بيضة الدجاج باعتبارها وحدة حية قائمة بذاتها، وبواسطة الميكروسكوب فوق الإلكتروني الذي ابتكره - وهو ميكروسكوب قادر على التكبير إلى مليون ضعف - أمكنه أن يرى جزيئات الحمض الأميني، بل أمكنه أن يرى هذه الجزيئات، وهي تتكون من تلقاء نفسها وتتركب، ولم يكن عليه بعد هذا إلا أن يقلد العملية. وهكذا استطاع بواسطة محاليل من الكربوهيدرات والمواد النيتروجينية والكبريتية، وبإمرار تيار منشط عبارة عن سيل متدفق من الأشعة فوق البنفسجية، أمكن لهذه المواد أن تختار النسب التي تتحد بها مكونة البروتوبلازم الحي؛ ولأنها مواد معلومة الوزن، وقد أمكنه أن يعرف نسب هذه المواد التي دخلت في تركيب البروتوبلازم، أمكنه أن يصل إلى هذا اللغز المعقد، ويعرف سر تركيب المادة الحية، بل أمكنه أن يخلق خلايات حية في كأس زجاجية، الخلية منها في حجم البيضة، تتفاعل بالضوء وتنجذب أو تنكمش لدى اقتراب الخطر، وقادرة على تغذية نفسها، بل وأن تنقسم في النهاية إلى خليتين. وكان يعتقد قبلا أنه لو وصل إلى هذا الحد لتكشف له سر الحياة، ولأمكنه أن يصل إلى تركيب كائنات أرقى بكثير من كائنات الخلية الواحدة، ولكن المشكلة التي واجهته جعلته يكتشف أن هناك لا بد سرا آخر غير مجرد التركيب الكيميائي، ذلك السر الذي يبدو وكأنه كامن في الخلية الحقيقية يجعلها لا تنقسم ولا تتكاثر وتتحرك فقط، ولكن يجعلها - وهذا هو أهم شيء - تتطور لتأخذ باستمرار أشكالا أخرى. الخلايا التي أوجدها لها نفس تركيب الخلية الحية الكيميائي، فماذا إذن يجعل الخلية الحية قابلة للتطور بينما خلاياه هو خاملة لا تتطور؟ ذلك هو السؤال، سؤال كان يبدو عويصا إلى الدرجة التي جعلته يؤجل الإجابة عنه ليبتكر للبشرية بعض الأشياء التي تحتاج إليها بشدة مثل السرطان وعلاجه؛ ولكي يعالجه كان عليه أن يعرف سببه. وقد اكتشف السبب من نفس تجربته السابقة؛ إذ هناك خميرة معينة داخل الخلايا الحية مسئولة عن انقسام تلك الخلية وتكاثرها. حين يصل الحجم بالخلية إلى درجة معينة، أو يصل بها العمر إلى زمن معين محدد، تعطي الخميرة الإشارة، وتبدأ الخلية تنقسم. هذه الخميرة ليست مستقلة في عملها، ولكنها خاضعة لاحتياجات الكائن الحي ككل، بحيث حين لا تستدعي الحاجة يستطيع الجسم أن يؤجل التكاثر والانقسام، أو يشرع به إذا استدعت الضرورة، وذلك بواسطة هرمون معين، والسرطان ليس سوى تحرر خمائر الانقسام الموجودة داخل الخلايا من أثر هذا الهرمون، بحيث تبدأ تتكاثر أوتوماتيكيا دون هرمون يزجرها أو يوقفها عند حدها؟ وعلاجه لا يتعدى تزويد الإنسان بجرعات من هذا الهرمون تعيد إخضاع الخلية للمراكز العليا، واحتياطات الجسم.
وهكذا حل «النص نص» مشكلة السرطان. أما السل وبقية الأمراض فلم ينفق وقته في إيجاد علاج لها كل على حدة، وإنما توصل إلى معرفة نوع من المنشطات الحيوية، تلك التي تفرزها الخلية الحية إذا أشرفت على الموت قبل موتها بثوان، وكآخر سلاح لديها تطلق الخلية خميرة سماها العلماء المنشط الحيوي تقضي على كافة أعداء الجسم من ميكروبات، وتنقذ المريض في آخر لحظة. استطاع «النص نص» أن يتوصل لمعرفة نوع منها قادر على الفتك بأية ميكروبات مهما بلغت قوتها، بل وبواسطة قرص واحد منها يأخذه الإنسان كل أسبوع يستطيع أن يضمن الإنسان بقاءه سليما معافى من كل الأمراض، حتى الأمراض الاجتماعية. وبواسطة لتر من الأنتي كابيتال يوضع في كل مليون متر مكعب من ماء الشرب، يستطيع هذا العقار أن يغير من أفكار الناس، بحيث لا يعودون يطيقون الجشع الرأسمالي، ويصبحون أكثر حساسية في كل ما يتصل بالغير، بحيث لا يرضون ظلمه أو الجور عليه، حتى روح الحرب والعدوان يستأصلها؛ إذ هو يضخم مركز الغيرية في المخ، ذلك المركز الذي تصدر منه كافة الأفعال والتصرفات الإنسانية، وتهدف إلى المحافظة على النوع من خلال المحافظة على المجموع، عكس المركز الآخر الذي يضمر بأنتي كابيتال ويذوي، مركز المحافظة على النوع من خلال الذات. حتى السينما والتليفزيون استطاع «النص نص» أن يبتكر عدسة التصوير وعدسة العرض التي تجعل الفيلم يبدو حيا بنفس أضواء الحياة وطعمها وتجسيماتها.
وأخيرا توج «النص نص» أبحاثه في خلال بضعة شهور، بأن استطاع اكتشاف نظرية جديدة لتركيب الكون؛ إذ كان الناس يتصورون الكون من خلال تصورهم للجزء الذي يستطيعون رؤيته منه، أو حتى من خلال الجزء القادرين على تصور مقياسه، والتصور البشري يبدأ من تصور جزء على عشرة مليون جزء من الملليمتر إلى ألف مليون سنة ضوئية، تلك هي المسطرة التي كنا نقيس بها الكون، في حين أن هذه المسطرة لو وضعت على المقاييس الحقيقية للكون لبدت وكأنك تضع مسطرة طولها قدم واحدة على المسافة بين الأرض والشمس؛ فهناك مقاييس نسميها أصغر بكثير من الجزء على مليون جزء من الملليمتر، ومقاييس أكبر بكثير من الألف مليون سنة ضوئية، أصغر إلى ما نسميه المالانهاية وأكبر من المالانهاية المزعومة، في حين لا توجد المالانهاية. والذرة ليست سوى كون كامل يشبه مجرتنا، والإلكترون الموجود في الذرة ليست سوى كرة أرضية بأكملها، وداخل هذا الإلكترون توجد مجموعة إلكترونية عبارة عن نواة وحولها أجسام تدور وكل جسم منها عبارة عن فلك كامل، وهكذا إلى أن تصل إلى دقائق تنجذب إلى بعضها البعض بسرعة فائقة، حتى تصل إلى الحد الأدنى من القرب، وحينئذ تبدأ تتنافر وتتباعد. وهذا هو نبض الكون؛ إذ نفس هذا النبض يحدث وبنفس السرعة للأكوان الكبيرة التي تتجاذب إلى الحد الأدنى من المسافة، لتعود تتنافر وتفقد تكوينها مكونة السديم، الذي يبدأ يصنع منه التجاذب الأصغر فالأكبر فالأكبر، حتى تتكون المجرات والأفلاك، ويحدث التجاذب من جديد. سرعة نبض الكون ثابتة، ولا يوجد أكبر أو أصغر؛ فطريق التقائه ليس سوى تجمع لذرات نراها نحن من داخلها في حين أنها من الخارج قد تكون جزءا من مادة، أو حتى جزءا من جزيء داخل في تكوين كائن حي من الصعب تصور حجمه. القانون الواحد الذي يحكم هذا الكون كله هو قانون التجاذب للتنافر أو التنافر للتجاذب، على أساسه يمكن تفسير كل شيء، حتى تفسير نشأة الحياة وتعدد الأنواع؛ فالجزيئات تظل تتجمع وتكبر إلى أن تصل إلى الحد الأعلى، فتتنافر وتنقسم وتتحدد مكوناتها الجديدة مكونة أنواعا أخرى من الجزيئات حتى يؤدي التجميع إلى الانقسام، وإعادة التكوين إلى جزيء الحمض الأميني الذي يتجمع على هيئة خلية واحدة تظل تنمو إلى الحد الأعلى، ثم تنقسم ليحدث بين مكوناتها المنقسمة وبين مكونات خلية أخرى مختلفة معها قليلا نوع من التزاوج، يؤدي إلى ظهور الحيوان عديد الخلايا. وبتكرر العملية تتعدد الأنواع، حتى تصل إلى القرود والإنسان الذي يتطور بعد هذا بسبب تطور العلاقات الاجتماعية، التي تحكم الصلة بين أفراده.
وعشرات غيرها من الاكتشافات والاختراعات، حتى إنه اكتشف فيما اكتشف دواء لمعالجة الذمم الخربة لأصحاب البيوت، بحيث إن ملعقة منه قبل توقيع العقد تستطيع أن تجعل صاحب البيت يتنازل بمطلق إرادته عن جميع الشروط الواردة بالعقد، وكلها للأسف حقوق لصاحب البيت لدى المستأجر.
وأن يعمل ويكتشف كان مسألة سهلة، كان باستطاعته أن يصل إلى ما هو أخطر، وأن يكتشف أشياء أهم بكثير من تلك، ولكن المشكلة التي كانت تؤرقه أنه لم يكن يستطيع أن يفعل بهذه الاكتشافات شيئا، كان يحملها ويذهب بها إلى أصحاب الشركات وأساتذة الجامعة والمسئولين، فينظرون إليه نفس نظرتهم إلى حيوان غريب ويضحكون، وأحيانا يقبضون عليه، ويحملونه في جيوبهم ليفرجوا عليه زوجاتهم، ويجعلوا الأولاد يلهون به بعض الوقت، وذات يوم ضاق به أحدهم إلى الدرجة التي أمسكه وقذف به من النافذة فسقط فوق رأس فلاح ما كاد يراه حتى استبشر، وقال: ياما أنت كريم يا رب! وأخذه إلى بيته في القرية وأبقاه محبوسا ستة أشهر، حتى يحين موعد القطن كفأل حسن، وحين لم يزد المحصول كما كان يتوقع أقسم أن يطعمه لحماره، ولم ينقذه في اللحظة الأخيرة إلا زوجته حين راحت تستحلفه أن يبقيه لكي يجلب لأختها العاقر الحمل. وبالتأكيد لم يستطع أن يجلب شيئا، ولكنه أفلح في الهرب، ووصل إلى حيث المعمل ومركبة الفضاء التي كانت قد تمت، وبغيظ أدار الجهاز، وبعد سبعة وثلاثين يوما كان في الكرة الأرضية المقابلة. وحين هبط فوجئ بأعظم وأروع فرحة في حياته؛ فقد وجد الناس هناك في مثل حجمه، ورحبوا به وطافوا به أنحاء الكرة وممالكها باعتباره «إنسان الأرض» الذي ترقبوه طويلا، ولأنهم كانوا يمرون بنفس الطور الحضاري الذي تمر به كرتنا الأرضية، فقد زودهم باكتشافاته التي طبقوها في الحال، وجعلت من حياتهم جنة، فأقاموا له التماثيل، وكاد قسم كبير من سكان تلك الأرض يقدسونه ويعبدونه من دون الله سبحانه، ولكنه كان في شغل عن التكريم والتقديس والعبادة بالشوق الغريزي الشديد، الذي كان يحسه لكرتنا الأرضية وقاهرته، ومصر، شوق جعله يكتشف قانونا آخر من قوانين الكون، وهو أن المادة الحية تحن إلى المواد الخام المخلوقة منها، وهكذا يحن الإنسان إلى مسقط رأسه، ويحن الجزء من الشيء إذا انفصل عنه للجزء الأكبر، حتى سفينة الفضاء تحن إلى المعمل، الذي صنعت فيه. وهكذا جاء عليه اليوم الذي لم يعد يطيق وتحايل، حتى وصل إلى سفينة الفضاء، وبكل ما يهزه من شوق شغل الجهاز، وما أروعها من أرض كروية وما يغطيها من سحابات تلك التي طالعته في صباح اليوم السابع والثلاثين! ما أروعه من شريط رفيع ينحني ويتهادى وبرفق يصب في بحره الأبيض! ما أروع مصر التي هبط في صحرائها، حيث غادر المركبة قرب أهراماتها! وما لبث أن ضاع في زحمة مدينتها يقيم حيثما اتفق ويأكل وينام كيفما اتفق، وسعادته كلها أنه يحيا على الأرض، أرضه حتى لو كان قد تخلى عن كل طموحه.
الشيء الذي لم يحسب له «النص نص» حسابا قط هو أن يستخدم أهل الأرض المقابلة معلوماته التي أعطاها لهم إلى درجة أن يصنعوا مراكب فضاء مثل مركبة فضائه، وأن يفاجأ أهل الأرض ذات يوم بسرب من هذه المركبات، وقد ظهر يحوم حول مدن الكرة الأرضية الكبرى، ويرقب الحياة التي تموج فيها. ولا تحدث عن الحمى التي اجتاحت الدنيا لهذا الحادث الخطير، ولا عن الصحافة والإذاعة والتليفزيون - خاصة في أمريكا - وقد خرجت تتحدث عن غزو الأرض، وتطلب من حكوماتها إخراج ما لديها من قنابل ذرية وأيدروجينية لاستعمالها ضد الغزاة (تماما نفس العقلية التي كانت تصنع أفلام الفضاء)، ولكن قبل أن يحدث شيء من هذا كان سرب المركبات قد هبط فوق جبال سويسرا، وخرج منه سكان الأرض الثانية في حجم عقلة الأصبع، يستعملون أجهزة الترانزستور في تضخيم أصواتهم إلى الآخرين، وفي استقبال أصوات الآخرين، واندفعت إلى سويسرا جموع هائلة من الصحفيين والمخبرين ومحبي الاستطلاع يريدون الوقوف على أسرار تلك الحضارة الراقية التي غزت الفضاء بمثل ذلك الإعجاز وغزت الأرض. وكانت المفاجأة المذهلة حين ذكر رجال الفضاء هؤلاء أن سفن الفضاء تلك ليست من ابتكارهم، إنما هي من ابتكار واحد من أهل الأرض اسمه «النص نص» من بلد اسمها مصر، كان قد زارهم في مركبة مماثلة منذ عام مضى، وزودهم بمعلومات هائلة عن المادة والحياة والأحياء، من ضمنها هذا الجهاز الذي أمكنهم به أن يتغلبوا على جاذبية أرضهم، وأن يسافروا بتلك السرعة الخارقة في الفضاء، حتى يتمكنوا من الوصول إلى بنت عمتهم الأرض.
وهكذا في أقل من ساعة كان الناس قد فقدوا الاهتمام بأهل الكوكب الآخر كلية حتى لم ينتظر أحدهم ليودعهم وهم في الطريق مرة أخرى إلى كرتهم، واندفعوا في أعداد هائلة يحجزون الأمكنة في الطائرات إلى القاهرة، حتى اضطرت شركات الطيران إلى تحويل خطوطها جميعا إلى القاهرة.
ولم ينتظر المصريون وصولهم؛ فهم منذ إعلان تلك الأنباء وجموعهم في حالة بحث دائب عن «النص نص». ولأول مرة يعترف أساتذة الجامعة الذين امتحنوه، ولأول مرة يذكره أولئك الذين ذهب يطلب منهم العمل وهزءوا به، والجميع من سائل إلى مسئول قد ركبته حمى البحث، والكل يحاول أن يتتبع الخيط، وكل خيط ما يكاد ينمو وينمو معه الأمل، حتى ينقطع فجأة، وعلى غير انتظار - حتى الفلاح الذي احتفظ به كفأل حسن وقصته معه - ثبت خيط تتبعه الناس إلى أخت زوجته العاقر، ثم انقطع تماما، ولكن كان لا بد أن تنتهي مرحلة الفوضى التلقائية تلك؛ فالأمر جد خطير للعالم كله، ولا بد من العثور على «النص نص»، ومن الشرق والغرب جاء خبراء البحث والتقصي، وأعيد استجواب كل من سبق، وكان له ب «النص نص» أي اتصال لمعرفة الأماكن التي يحبها، أو أين كان يمضي وقته، حتى خدم السلطان الذين أصبحوا مرشدين سياحيين في قصره، الذي تحول إلى متحف استجوبوهم بدقة، وكانت النتائج دائما مخيبة للآمال؛ فقد بدا أن باستطاعته أن يوجد ويعيش في أي مكان بالقاهرة أو بغيرها من المدن، في أي اثني سنتيمتر مكعب يمكنه أن يبقى إلى الأبد مختفيا. النتيجة الإيجابية الوحيدة التي خرج بها الخبراء المحليون والعالميون من بحثهم واستقصائهم أنه قال ذات مرة: إنه يجب أن يمشي على بلاج الإسكندرية، خاصة في الشتاء. وإلى هذا البلاج تحول البحث كله، ليس فقط بحث الأجهزة والإخصائيين، وإنما بحث الناس العاديين. ناس، آلاف الناس المزدحمة صيفا وشتاء لا يطلبون أسرار قوانين الكون والحركة والجاذبية، وإنما يطلبون أشياء تبدو أسهل بكثير، الأصلع يريد دواء ينبت له الشعر، والآخر الذي يريد القضاء على الشيب، والسيدة العاقر التي تنام وتحلم بالولد، والمقطوع الساق والأعمى والأعور، والأبرص، والذي به داء استعصى على الشفاء، جيوش لمرضى من أيام موسى وعيسى، ومحصول النوايا، القاهرة التي تفيض بها أضرحة المشايخ وأهل البيت، ورسائل المحبين إليهم بعدد سكان الأرض وسكان مصر، لكل كونه المفقود الذي يبغي العثور عليه، عالمه الطلسمي، الذي يود لو عرف قوانينه، والجماعات - جماعات وأفرادا - في حالة بحث دائب، في الصيف وفي الشتاء، في الربيع وفي الخريف، إلى أقصى ما يستطيع أن يصعر كل منهم خده ويكبش من الرمال ويغربل، عله هذه الكتلة، عله تحت هذه المحارة، عله في كومة حشائش البحر تلك، عله من تلقاء نفسه يظهر غدا، ومن كل صوب تنهال الاتهامات: السبب أساتذة الجامعة الذين لم يعيروه اهتماما، السبب البيروقراطية والبيروقراطيون الجالسون فوق المكاتب يمنعون العبقريات عن الظهور، بل كلنا مسئولون، هكذا كتب صحفي كبير عن الجريمة، كلنا أهملناه واحتقرنا شأنه، وها نحن اليوم نقلب الأرض بحثا عنه، كلنا مسئولون. •••
وعن الجماعة التي اتجهنا إليها صدرت صيحة، وكأنها صيحة رعب، تلتها اندفاعات وصرخات واستغاثات كأصوات الهنود الحمر حين تهجم أو فرق الصاعقة، وفجأة أيضا وجدنا المجموعة وقد استحالت إلى كتلة بشرية متكورة، كتل متضاربة متصارعة صارخة مولولة ممزقة ممزقة. لا تحسبن أنهم عثروا عليه، فهكذا الحال دائما، إنه واحد منهم خيل إليه أن قطعة الطين التي اصطدمت بها يده هي «النص نص»، وتسابق الآخرون ينتزعونه منه. تلك كانت آخر كلمات صديقي، ليس في ذلك اليوم فقط، وإنما في كل الأيام؛ إذ ما لبثت الكتلة البشرية أن راحت تتضخم وقد فقد الكل عقله، ولم يكن هناك أحد ليتابع؛ فمنذ اللحظة الأولى يتحدد الوقت وقد كتب عليك الصراع: إما صراع من أجل الحصول على «النص نص» المزعوم، أو صراع من أجل استخراج نفسك من كثرة البشر المتزايدة المتضخمة المهددة بفعص كل من يقربها أو تقربه. وفجأة تطلعت فلم أجد صديقي، كانت الكرة قد ابتلعته ولم أره إلا في اليوم التالي بين عشرات الجثث الممدة فوق رمال الشاطئ.
لم تكن آخر كرة بشرية تتكون أو أول كرة؛ فهكذا الحال دائما وكل بضع ساعات أو أيام تحدث الصرخة التي يعقبها التدافع والتكور والفعص.
أما «النص نص» فمنذ أن عاد إلى الكرة الأرضية ووطئ بقدميه القاهرة، فلم يعرف له أحد مكانا، البحث قاد حقيقة إلى مركبة فضائه التي استعملها، أما أين وكيف يعيش الآن؟ فذلك لغز لم يستطع أحد ولن يستطيع حله، من يدري ربما يكون هذه الكتلة البارزة من الرمل أو من التراب، ربما تحت هذه المحارة أو أسفل كومة الحشائش، ربما في جيبك أنت، وأنت لا تدري.
النقطة
القضبان الحديدية غير شاهقة العلو، كقبة عالية من الرمل والزلط والأخشاب والحديد. الشريط الحديدي طويل طويل موغل في الطول، ينتهي وراء الأفق إلى رمادية صفراء، لا تلبث أن تدكن وتدكن، بحيث لو أمعنت النظر فيها وأصررت على المضي في الرؤية لاستحالت إلى سواد. شريط حديدي طويل يدخل المشهد منحنيا انحناءة قوس عظيم، وكأنه القوس الذي تفتحه لتضع داخله ثلاثة آلاف مليون إنسان، سكان الأرض بحياتهم وهمومهم، وكل ما دار بخلدهم منذ أن كانوا بضع كائنات إلى أن أصبحوا آلاف الملايين، ويخرج الشريط من المشهد أيضا منحنيا نفس الانحناءة الخفيفة المهولة ذات الجلال.
غير بعيد شجرة في حالة خريف دائم، أوراقها مصفرة الاخضرار، مخضرة الترابية، معلقة بغصنها برباط ما، واه، شجرة كلما هب الريح انتزع منها أكثر من بضع أوراق حتى لتخالها في نهاية اليوم ستقف جرداء عارية، ولكنها أبدا هكذا لا تنقص أوراقها ولا تزيد، دائمة الخريف مستمرة الاخضرار المصفر المترب، لا ثمر لها ولا زهر، ولا اسم، شجرة، ومساحة، تلك التي تكون دائرة الأفق تتسع إذا وقفت، وإذا صعدت الشريط الحديدي اتسعت أكثر، وكلما علوت اتسعت حتى لكأن باستطاعتها أن تشمل - لو أمكنك العلو الكافي - الدنيا بأسرها.
المشهد صامت ساكن إلا بين كل حين وحين، حين تهب الريح هبات متقطعة غير ملموسة لا تعرف كيف تبدأ، إنما شيئا فشيئا تسمع الأوراق وهي توشوش في خفوت، ثم وهي تئز ويستطيل الأزيز. وتتطاير بضع أوراق ومن فوق الأرض يثور بعض الغبار حاملا معه عيدانا مهرأة من قش أرز قديم، ثم يسكن الصوت والحركة إلا من اختلاجة أخيرة لورقة، ثم يئوب كل شيء إلى صمت، صمت غير داكن، ولكنه في نفس الوقت غير مضيء، صمت هو بالتأكيد كالضوء في المشهد إذ الشمس غير موجودة، والنور غير مباشر وقليل، ولكنه مستمر على نفس الدرجة لا يشتد أو يخف ولا حتى تعتريه هزات الحركة، إنما هو كالشريط الحديدي الطويل سادر في وجوده وشموله واستمراره، ضوء كضوء عصر ضيق مترب، يومه التالي يوم القيامة.
وأنا موجود داخل المشهد لا أعرف مكاني على وجه الدقة، ولكني أرى المشهد بزاوية ما، ومهما غيرت من وقفتي أو اتجاهي، فأظل أرى المشهد من نفس الزاوية.
إني في انتظار القطار القادم مع أن المكان ليس بمحطة، وإحساس طاغ كبير أني لا أنتظر القطار لأركبه، إنما فقط أنتظره بالضبط. أنتظر اللحظة التي فجأة - تماما لا بد أن تكون فجأة - تظهر رأس القطار من كرة الأفق، سوداء فلتكن ولكن لا بد أن تظهر، تنبثق فجأة فيدق قلبي هلعا أو رعبا أو فرحا، وأوجد وأعيش. أشعر أني لأول مرة آخذ نفسي، الشهيق، وأني حي، وأني بدأت أعي بالوجود. غير مهم بعد هذا أن تستحيل النقطة المفاجئة إلى شرطة، والشرطة إلى خط، والخط إلى جسد القطار الطويل تتوجه سحابة الدخان المتعمدة المتصلة، غير مهم أن يقترب أكثر وأكثر، وأن يصبح أمامي، غير مهم أي شيء، المهم هو ذلك الظهور المفاجئ المروع للنقطة.
أنا لا أنتظر؛ فالإنسان لا ينتظر إلا شيئا يتوقعه أو واثق من حدوثه، أو حتى علم، أو أخبره أحد أنه لا محالة واقع. أنا رأيت قبلا قطارا يمر ولا البقعة محطة ولا أنا مسافر، ولا شيء على الإطلاق، على الإطلاق لا علاقة بيني وبين القطار إلا علاقة أني أرى قضبانا، وما دام هناك قضبان، فلا بد أن يكون هناك قطار، حتى لو كانت القضبان تلك التي أراها صدئة صدأ سميكا استحال من طبقة إلى قشرة، ولكن رغم كل الصدأ فمن المؤكد أن قطارا، بل لا بد قطارات مرت فوقها، لا بد قطارات مرت من هنا، وإلا فيم القضبان؟ أتكون خطا فرعيا أقامته السكة الحديد ونسيت أمره؟ أتكون خطا حديديا أقامه الحلفاء في أثناء الحرب وضاع من الخريطة؟ فلتكن أي شيء، فالمشهد مستمر، وأنا موجود داخله. أرى مهمات سرت أو غيرت موضعي بزاوية، والنور غير مباشر وداكن، والشريط طويل محني بجلال، طويل، والشجرة قائمة خريفية كأنها نبتت من بذرة خريف، وبين كل حين وحين وبلا بداية أو نهاية محسوسة تهب قبضة الهواء، فتحرك الورق في الشجر، وقش الأرز المترب في الأرض، ثم الاختلاجة الأخيرة لورقة شجرة أو عود قش، ثم الصمت المستمر الساكن.
المشهد مستمر، والأشياء فيه تتعاقب باستمرار، وحتى كم الحزن الموضوع بطريقة ما في صدري لا يتغير هو الآخر حجمه، ولا تشتد أو تخفت وطأته. حزن لا بد جاء من المشهد إذ تحس لا بد أنه مشهد نهاية ما، نهاية العالم، نهاية الحياة على الأرض، نهاية الفرح أو الأمل، ربما حتى نهاية الأحزان، ولكنه بالتأكيد نهاية، نهاية حقيقية كنهايات العلم حيث لا نهاية، إنما النهاية خيط متصل من الشيء ذاته، من السكون ذاته، من الشريط ذاته، من الضوء ذاته، من الخريف المشجر ذاته، من هبات الهواء ذاتها، من الترقب ذاته.
المشهد دائم ومستمر، وإحساسي به دائم ومستمر، وحزن النهاية - ولو كانت نهاية الحزن - دائم ومستمر. لا أذكر كيف بدأ ولا أين أو متى؟ وجدت فيه لكأني وعيت أو حتى ولدت داخله، وسأظل فيه إلى أن تنتهي حياته. كل شيء فيه هو هو لا يتغير أبدا، لا يزيد، لا ينقص، لا ينتهي، لا يبدأ، بل حتى تلك النبضة المتباعدة التي بين النبضة فيها والنبضة التالية مسافة أو زمن كأنه ألف عام، حتى لو كانت تتم في ثانية فهي ثانية طولها ألف عام، نبضة ضعيفة واهنة كالاختلاجة الأولى لجنين القلب داخل قلب الجنين حين دق لأول مرة، خافتة واهنة تدق على استحياء شديد وبغربة زائدة. دق مذعور يكاد الذعر يسكت نبضه ودق قلبه. نبضة خاطر؛ إذ فجأة تنبثق النقطة بادئة هناك من لا نهاية الشريط، فجأة أحدق وأجدها، وغير مهم أبدا ما يحدث بعد هذا أو يكون.
المشهد والإحساس والحزن، وحتى النبضة مستمرة الحدوث، وأنا فيما عدا هذا غير حزين أو خجلان أو نائم أو مستيقظ. أنا أنا، هكذا أيضا، باستمرار طويل لا ملل فيه ولا تبرم ولا تغير مطلقا في الزمان أو المكان أو درجة الوعي. كل ما في الأمر أني لدي كل نبضة خاطر، قبلها بقليل وكأنما قبل الحدث الكوني الهائل، وأثناءها، وبعدها أحس بقلبي أنا، قلبي الحقيقي يدق في انفعال حي، انفعال خافت مبهور، ولكنه حقيقي وملموس. بالضبط قبل وأثناء وبعد الخاطر يكاد جسدي كله يرتعش، وتكاد صرخة تنطلق مني هاتفة: أنا حي. وكأنها اكتشاف، ومع أنها هي الأخرى مستمرة ودائمة ولا تتغير، إلا أن فرحتي بها لم تفقد أبدا، حتى لو كان المشهد قد بدا مع بداية الخليقة، واستمر إلى نهايتها لم تفقد أبدا طعمها، بل هي لحظتها فقط، تلك اللحظة المتباعدة التي كان بينها وبين التالية أو اللاحقة لها ألف عام، لحظتها فقط، هي كل ما يربطني بالحياة.
أجل! أحدق فجأة فألمح، هكذا بمعجزة، النقطة.
وغير مهم بعد هذا أن تصبح النقطة شرطة، والشرطة خطا طويلا لا نهاية لطوله.
أبدا غير مهم.
العملية الكبرى
1
ما كان أصعب أيامها - وبالذات لحظتها - أن يشك! بل هو لا يزال لا يعرف كيف، كالبخار المتكاثف، بدأت تتجمع السحب؛ فالمهمة على غرابتها الشديدة بدت أول الأمر مجرد مهمة أخرى من المهام الكثيرة التي كان يوكل إليه بها. كل ما في الأمر أنها طريفة، وعلى وجه الدقة مثيرة لعجب طريف لا بد تمط له شفتيك، أو تهز كتفيك؛ فمع انتهاء العملية الكبرى، والجميع في قليل من الوجوم يتهيئون للانصراف، جاءه الأمر من الأستاذ الكبير أن يبقى بجوارها حتى تموت، ولأن لا طبيب بلا ممرضة، فقد ترقب همسة «الأخت تريزا» التي ستحدد الاسم، وما كاد يسمع «انشراح» التي نطقتها «انسراح» حتى وجم وكاد يغضب ويدفعه لطلب آخر، ثم رن في أذنه المثل: «خسرانة خسرانة!» وأصبح مناسبا جدا في نظره أن تكون «انشراح» بالذات هي شريكته في انتظار الموت.
وحين «صفصفت» الحجرة عليهما، ولم يعد هناك إلا هو وهي والموت الرابض على صدر السيدة، بدأت المهمة تتحول من روتين إلى نوع من الواجب الثقيل. لو كانت شريكته في انتظار النهاية ناهد مثلا أو سهير أو مديحة، أو حتى كاميليا لانقلب الواجب إلى متعة، أما المتوحشة البراوية «انشراح»، الغاضبة أبدا، المتنمرة تكاد «تخانق ذباب وجهها»، فأي أمل له في بعد ظهر هادئ حتى؟
بعد ظهر كان قد بدأ من زمن، وقفزات عقرب الدقائق في الساعة التي تتوسط الحائط من إحساسك ببطئها تبدو كل مرة كما لو كانت تفاجئك بحدوثها. بعد ظهر أصبح خوفه أن يطول ويطول حتى ليصل الظهر بالمساء، ومن يدري ربما بالليل أيضا؟ وما دامت ميتة ميتة، فلماذا هذا العذاب كله؟ وما دامت هذه الأنفاس المأخوذة على هيئة شهقات - مفاجئة أيضا كقفزات العقرب - خارجة بسرعة كالزفرة، ما دام هذا هو تنفس «طلوع الروح»، فما الداعي لعذابها باستمراره واستمراره؟ ما الداعي «يا ست انشراح» بلا أي «انشراح»، العاقدة ملامحك وكأن المسجاة هي السيدة والدتك، المنكبة حضرتك على إبر التريكو بأصابعك القمحية الرفيعة الطويلة كإبر التريكو تنسجين بداية «البلوفر» التي لم تزد رغم آلاف الغرز مساحتها، وكأنما حضرتها - لتغيظه - تنسج غرزة وتفك غرزة؟ ما الداعي؟
لو التفتت إليه لحظتها أو رفعت رأسها لكان - ودون نظر لأي اعتبار - قد بدأ الشجار؛ ذلك أن غيظه بعد انتظار دام إلى الآن ساعتين وبضع دقائق كان قد بدأ، وهو على وجه التأكيد ليس غيظه؛ فأي شيء كان يمت إلى الجراحة من قريب أو بعيد مهما تقبله الآخرون بضيق أو تبرم، ما كان ليأخذه هو إلا كآلام الحب لها نفس مذاق المتعة. الغيظ إذن غيظ وافد لا يزال لا يدري مصدره، غيظ يبدأ عند وجه «انشراح» الجميل، حتى في تنمره، ليتزايد كلما انتقل بعده إلى مجال آخر، وكلما اصطدمت عيناه، أو اصطدمت حواسه بشيء من آلاف الأشياء التي تحفل بها الحجرة.
بدايات غيظ جعلت روحه بالتدريج تنسحب من اندماجها التام في دورها الجراحي المحبب، ومن اختلاطها الكامل بكل شيء تحفل به حجرة العمليات - مهبط الوحي عنده وقدس الأقداس - لتبدأ تتخذ موقفا محايدا، وتعود ترى وكأنها لأول مرة ترى، ولتبدأ دهشة كدهشة الإفاقة من حلم تعتريه. لا ليست هذه حجرة العمليات أبدا، إنها مكان مرعب كئيب لم يره من قبل؛ فأي معركة شيطانية دارت ولا تزال آثارها طازجة؟ لا يزال الدم أحمر لم يغمق لونه بعد دم واصل حتى السقف الأبيض راسما خطوطا متقاطعة ومتقاربة ومتفرقة، خطوطا مكونة من مئات النقاط رسمها لا بد دم تفجر تحت ضغط شديد، انفجارات دموية كثيرة لا بد دارت هنا، إلى أعلى وإلى الجوانب ترتسم على جدران الحجرة الأربعة، وفي كميات تملأ زجاج الشفاط، وتكون بقعا كبيرة تلطخ المرايل والبلاطي البيض الملقاة هنا وهناك. دم يلوث كل مكان، حتى الأحذية المطاطية ذات الرقبة، حتى الأرض الكاوتشوك، بل لم يسلم منه أيضا زجاج الأضواء الكاشفة البراق والمصفر.
دم كثير من المحال أن تعتقد أن هذه السيدة النحيفة الراقدة يحفل وجهها بسلام كسلام أطفال نائمين، مصدره، ولكنها بلا شك كانت المصدر الوحيد، والواضح أنها الطرف المغلوب.
أيكون الغيظ الذي يعتريه الآن غيظا حقيقيا؟
أيكون ما يراه الآن خدعة أو بداية، أو بالأصح بداية شعور أنه ضحية خدعة شيطانية من المحتم لو صحت أن يفقد لها أثبت العقول وأصلبها الصواب؟
أخذت السيدة شهقة، قبل أن تكتمل ركبت فوقها شهقة أخرى، وكانت النتيجة شهيقا طويلا جدا اضطربت له جفونها المسدلة، حتى كادت تفتح، وحتى تصور أنه في الشهيق التالي حتما سيعود إليها الوعي، ومن يدري؟ ربما تحدث المعجزة الكاملة وتعود للحياة.
ولكن رغم دقة القلب العالية الزائدة التي دوت في صدره انفعالا، فقد بدأ السؤال يلح من جديد: أيكون قد خدع الخديعة يا ترى؟
2
ويحدث هذا أين؟ في نفس حجرة العمليات التي شهدت منذ بضعة شهور أعظم لحظات حياته، اللحظة التي وعى فيها لأول مرة بالحياة، حياته، وأدرك عن يقين لماذا يريد أن يعيش.
لقد بدأت مشكلته بعد أن تخرج وأصبح طبيبا، واستهلك في بضعة أسابيع كل متع الفرحة بالتخرج والإحساس الغامر الجميل بأنه انطلق من عقال تلمذة طالت، وعليه أن يعب من متع الحياة الصغيرة التي حرم منها طويلا. واجهته حينذاك مشكلة ماذا يريد أن يكون؟ لقد دخل الكلية بالمجموع، وواصل الدراسة ونجح بالرغبة الغريزية في التفوق على أقرانه، وها هو ذا الآن بعد التخرج يستعرض أمام عينيه كل فروع الطب، فلا يجد في نفسه مثقال رغبة في أي منها، بل إنه حتى بعد أن تخرج وأصبح يزاول المهنة لا يجد في نفسه أي رغبة فيها أصلا. وكاد يصبح الأمر كارثة؛ فإنها لمهزلة أن تبدأ بعد وصولك إلى هدف ما قضيت في الوصول إليه أعواما طوالا، أن تكتشف أنه ليس هدفك، وأن عليك أن تبحث عن آخر.
ولقد ظل هذا يحدث وهم البحث يؤرقه، حتى انتقل إلى العمل بقسم الجراحة. حين دخل ذات صباح باكر هذه الحجرة، ومر بالطقوس المعتادة من ارتداء ملابس العمليات والاغتسال والتعقيم، وإحاطة رأسه ونصف وجهه بالقناع الأبيض المشهور، هنا حيث رأى أستاذ الجراحة الكبير لا يصف الدواء ويترك للعمليات الغامضة في الجسم أن تعمل عملها وتشفي، وإنما بأصابعه الطويلة الحادة القوية يقطع ويصل ويستأصل ويعيد التشكيل. هنا حيث بإرادتك أنت وحدك وبقدرتك يتم الشفاء، يدخل المريض يتلوى من شدة الألم أو من اليأس، وبعد ساعة يخرج وقد شفي تماما وانتهى ألمه. هنا حيث يختلط دور الجراح بدور الساحر القديم، والعلم يصبح حرفة ترتفع إلى مصاف الفن، والعملية السحرية كلها تدور في ذلك المكان البالغ النظافة، الشاحب الضوء، المعقم، بصمته القدسي الكلمات في تتحول إلى همسات تختلط بالفحيح الصادر من أجهزة التعقيم، وتنسجم مع الحركة الصوتية المتتابعة لتنفس المريض من خلال جهاز التخدير، بالسكون المضمخ بروائح اليوسول واليود والأثير، السكون الحي النابض بدق القلب، وهو يتحول إلى إشارات موسيقية ضوئية، السكون الذي يتنفس تنفسا خاشعا منتظما. هنا اكتشف الجراحة كعلم وكسحر، واكتشف أن ها هنا يوجد أمله، ومن الآن سيصير هدفه من الحياة.
وكان طبيعيا وقد اكتشف الهدف أن تأخذ السعادة عنده شكل الهوس، حيث لا يعود يأكل أو يستريح أو يحلم إلا وهو يقوم بشيء من أجل عمله الذي أصبح حبه الأكبر. سماه زملاؤه مجنون الجراحة، وكانوا يغيظونه بقولهم إنه إنما يتفانى ليرضي الأستاذ، وليتكتك لينال وظيفة «نائب الجراحة» حين تخلو، مع أنه يعلم وهم جميعا يعلمون ألا أمل له في هذه الوظيفة؛ إذ إن درجاته لا تؤهله، ولكنهم معذورون؛ فالعمل عندهم مرتبط بالمصلحة، ومن المحال أن يستطيعوا هضم أن يعمل الإنسان لأجل متعة العمل نفسها.
ولقد كان يعمل ويتفانى بلا كلمة تشجيع واحدة، وحتى وهو يدرك أن رئيسه النائب ينسب معظم الأعمال أمام الأستاذ لنفسه، فماذا يهمه أن يعرف الأستاذ اجتهاده؟ إنه لم يكن يعمل ليرضيه، بل ليرضي ذلك الشيء المركب فيه الذي لا يرضى أبدا! نفسه.
بل بدلا من التشجيع كان بالضرورة يناله كم غير قليل من شتائم الأستاذ الدكتور أدهم أستاذ الجراحة، وليس هذا رئيس القسم فقط، إنه كبير أساتذة الجراحة في المستشفى كله. والجراح في المستشفى يحتل مكانة لا يحتلها زميله طبيب الأمراض الباطنية أو طبيب الأطفال مثلا. إنه له بجانب العلم مكانة دنيوية؛ فهو ليس عالما فقط، ولكنه عالم يزاول العلم أمامك ، وأمامك يحيي ويميت. ولأن المهنة هي التي تفرض الخلق والتصرف، فعند الجراح أسهل الطرق البتر، وأي كلام ليس له فاعلية المشرط وحسمه هذر فارغ لا يقال، وما دامت إرادته هي نفسها الدواء، فإحساسه بنفسه يتعاظم، وكلمته مهما تكن أمر واجب النفاذ. وليس صدفة أنهم يسمون حجرة العمليات بمسرح العمليات؛ فالجراح في هذا المسرح هو الإرادة الكبرى والعقل المفكر، والحاضرون جميعا من بشر أو أجهزة أو عقاقير ليسوا سوى أدوات في يد تلك الإرادة تصنع بهم الشفاء. ولأن إحساس الآخرين عند الجراح غير مهم؛ إذ المهنة تحتم عليه أن يلقي شعوره بإحساسهم؛ إذ هو لو شعر أن جرحه يؤلم لارتعشت يده، ولربما نفق مريضه، ولهذا هو أيضا لا يهتم بوقع كلماته عند الآخرين، حتى لو جاءت شتائم ولعنات؛ فمسئوليته الخطيرة أن تنجح العملية، وملعون أية حركة أو خطأ يحول دون هذا النجاح.
كانت شهرة الأستاذ أدهم إذن كرئيس لا يرحم تكاد تعادل شهرته كأستاذ جراحة ممتاز، ولأن أطباء الامتياز يحتلون أدنى مرتبة في سلم المستشفى الطبقي، فنصيبهم من شتائمه ولكزاته وافر، ومعاملته لهم أسوأ بكثير من معاملته للممرضات أو التمورجية، وويل لمن يفكر في الاحتجاج أو الذود عن كرامته؛ فمعنى هذا نهايته؛ فهو لا يجر عداوته أو غضب رئيس القسم فقط، ولكن الدكتور أدهم كان أيضا كبير الأساتذة والقائم بعمل عميد الكلية، ومستشار وزارة الصحة.
ورغم كل ذلك، ومن فرط الحب والانتماء للجراحة، وكأنها المبدأ أو العقيدة التي ظل يبحث عنها، فقد راح ينظر للأستاذ أدهم باعتباره قائده لهذا المبدأ، ووسيلته للوصول. وليس مثلها سعادة تلك التي يجد الإنسان مبدأه فيها وقد تجسد على هيئة قائد وعقل أكبر. وليكن الأستاذ أدهم شيطانا مرعبا في نظر الآخرين، ولترتجف له الأوصال إذا حضر، وحتى إذا غاب، ليكن! فقد وجد فيه الأستاذ الكبير والراعي والعالم، ويبدو أن الأستاذ أدهم هو الآخر قد وجد فيه نعم التلميذ، فقد راحت شتائمه إليه تقل، حتى انتهت وحتى أصبح يناديه باسمه الأول، وفي هذا من التكريم ما لم يحلم به أحد، وليأخذ حياته كلها بإشارة منه لو أراد، فلم يعد في الحياة شيء يجلب السعادة قدر أن يتلقى عبد الرءوف الأمر، أي أمر، وقدر أن يفني نفسه تماما لتنفيذه، وقد أصبح رضا الأستاذ أدهم من رضا الضمير، من رضا الله، الله المتجسد بكل قواه وخيره وكماله.
3
ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما.
ورواة الحواديت يقولون: كان فيه امرأة، وكان فيه رجل. ثم يحدث الحدث، ويتساءلون: الحق على المرأة أو على الرجل؟
ولكن لا الأقوال المقدسة، ولا الأساطير قد تعرضت بذكر للموقف الذي هو فيه، فهو الرجل صحيح، وانشراح المرأة، ولكن ثالثهما هو الموت.
وصحيح أنهما ينتظران معا نهاية السيدة المسجاة أمامهما، وإلى الآن وكل منهما ينتظر الموت بمفرده؛ فهي منكبة على إبر «التريكو»، وهو منكب على خواطره وبينهما ما هو أكثر من الموت، الحياة نفسها وكل ما سمعه أحدهما عن الآخر. وما سمعه عنها أشياء مرعبة لا تشجع أبدا؛ فلقد أخطأ أحد زملائه وهو يعمل معها في ظلام غرفة الأشعة مرة، وحاول لمسها، وانفتح فمها لتكتسح ظلام الحجرة ومن بعدها ضجة قسم الأشعة كله وممرات المستشفى وعنابره، حتى إن المسكين لم يجرؤ على أن يري وجهه لزملائه أو للعاملين بالمستشفى إلا بعد إجازة عشرة أيام، وكان لا يزال وجهه محمرا بالخجل حين عاد منها.
ولا بد أنها هي الأخرى سمعت عن عبد الرءوف وعن انكبابه المجنون على العمل، ذلك الذي كان له تفسير واحد عند الممرضات والحكيمات والسسترات، أنه متكبر، وأنه وهو طبيب الامتياز المفعوص يتخلق بأخلاق الجراحين الكبار، وبالذات يصنع كما يصنع الأستاذ أدهم، ويضرب بالشلوت أحيانا.
والحقيقة أن قولهم هذا لم يكن يخلو من الصحة، فقط لاحظ عبد الرءوف على نفسه أنه كثيرا ما يعبس، وأنه لم يضبط مرة متلبسا بضحكة أو كلمة هزل مع طبيبة أو حكيمة من التي تقال همسا في أركان المستشفى وما أكثرها من أركان! وإذا كان قد تعلم أن يعبس بوعي، فما أكثر ما نضح إليه من خصال الأستاذ أدهم بغير وعي منه، ودون أن يلحظ أصبح يبدأ الجمل من نهايتها كما يفعل أستاذه، وتخرج كلماته الأولى همهمات صعبة التمييز، وبنفس طريقة أدهم يترك محدثه يتكلم، ثم يفاجئه في منتصف كلامه بتحديقة فاحصة مخترقة من عينيه الواسعتين، بحيث يرتج دائما على المتحدث أو ينهار لو كان يكذب، حتى لازمة أدهم المعروفة: يا اسطى! أصبحت لازمته.
والغريب أنه قد بدأ يتكون له بهذه التصرفات نفسها، ومهما قيل في أصلها، مركز متميز بين زملائه أطباء الامتياز، وأوامره أصبحت تقابل باحترام لا يمت بصلة إلى هز الأكتاف الذي تقابل به أوامر الآخرين التي كثيرا ما تأخذ شكل الرجاء، ولكن السبب الأهم في الحقيقة هو تفانيه في العمل في وسط يعتبر فيه العمل واجبا ثقيلا مفروضا ولا هدف منه سوى الماهية، وما دامت مضمونة فما الداعي لوجع الرأس؟
وكان يومه الأكبر - حلمه الدائم طوال أيام الأسبوع - هو يوم العمليات.
كان يصحو له من الرابعة صباحا، ويحس بالسعادة الكبرى بكل عمل يقوم به لتجهيز المرضى للدخول إلى الغرفة المقدسة. ولا يكتفي بواجبات الطبيب إنما بنفسه يشرف على استحمام المرضى، وعلى تجهيز أوراقهم وأشعاتهم، ويكفيه شبح ابتسامة رضاء سريعة تلوح على وجه الأستاذ. كانت الانفعالة التي تحدث له في أعقاب هذه المكافأة التي ربما لا يلحظها أحد أروع عنده من كل الشهادات والوظائف والعلاوات.
وكان اليوم يوم العمليات، وناهيك عن العمليات الصغيرة التي ستكون من نصيبه ونصيب زملائه، والتي سيقوم بها النائب والمدرس ومساعد الأستاذ. همه كله كان موجها لتلك الحالة النادرة التي جاءت إلى العيادة الخارجية منذ شهرين، وأبدى الأستاذ اهتماما خاصا بها؛ فلقد زاول - الأستاذ - الجراحة حتى أصبحت العيادة الخاصة تدر عليه دخلا يكفيه مستمتعا مدى الحياة. ولم يكن يأتي إلى المستشفى الحكومي الكبير إلا ليلتقط بين الحين والحين حالة تشبع مزاجه الخاص، كجراح أصبح لا يزاول الجراحة لشفاء الآخرين بقدر ما أصبح يزاولها لفن الجراحة نفسه، ليضيف إلى أمجاده فيها مجدا جديدا، ويصل إلى أرقام قياسية لعدد ما أجراه من عمليات. وحبذا لو استطاع أن يجري هنا في مصر عملية لم يسبقه إليها جراح آخر، ويتيه بعرض ما قام به في المؤتمرات، ويتلذذ وهو يقرؤها منشورة في مجلات الجراحة في أوروبا وأمريكا. ولا أحد باستطاعته أن يستغرب هذا أو يلومه؛ فقد وصل إلى مكانة أصبح فيها هو الجراحة، وما يقوم به ليس مجرد تطبيق، وإنما هو تجارب يضيف بها إلى العلم وإلى تراث البشر، ولا ضرر أن يفعل هذا لمجد ذاتي يناله؛ فما من فائدة للعلم أو للبشر إلا والدافع إليها متعة ذاتية.
هذه السيدة بالذات جاءت إلى العيادة بشكوى بسيطة، مجرد خدل في ساقيها وإحساس بالتعب السريع إذا مشت طويلا.
ويومها أزاح الأستاذ أدهم النائب وهو يقوم بفحصها، وفي دقائق كان قد انتهى من فحصها، وكعادته نطق بالتشخيص: ورم خبيث في العمود الفقري، وعلى وجه الدقة سرطان في الغضروف مكانه بين الفقرة الرابعة والخامسة للبطن. كان من رأيه أن الاعتماد على الفحوص والمعمل في التشخيص مسألة تحيل الجراح إلى آلة حاسبة، أما الجراح الحقيقي فهو الذي بمجرد الفحص يشخص، وإذا لجأ إلى المعمل أو الأشعة، فإنما ليتأكد فقط من تشخيصه، وليكتسب الثقة بنفسه أكثر وأكثر.
وهكذا أدخلت الحالة ليس لعلاجها أساسا، وإنما لإجراء الفحوص وليثبت بها الأستاذ أدهم لنفسه ولمجموعة الأطباء التي تعمل معه أنه كان على حق، وأن رأيه أبدا لا يخيب.
ولم تكن هذه أول حالة تدخل القسم لهذا السبب، فما أكثرها من حالات لا يتعجب أحد لإدخالها لمجرد البرهنة على صحة التشخيص! فالأستاذ أدهم لا يفعل في الحقيقة إلا أنه يزاول حق التميز، ذلك الحق الذي يحلم جميع العاملين معه - جميع الطلبة والخريجين - بالوصول إليه.
ومكثت السيدة بالقسم شهرين، وأجريت لها عشرات الاختبارات والتحليلات وصور الأشعة، ومع هذا ظل الورم الصغير الذي بالكاد تلمسه الأصابع في قاع بطنها لغزا لا حل له. ولم تكن قد بقيت إلا وسيلة واحدة لحل اللغز، أن تجرى لها عملية استكشاف فيفتح البطن، ويفحص الورم، ويصل الأستاذ في أمره إلى قرار.
4
في العاشرة كانت كل العمليات الصغرى قد انتهت، وفي ثوان كان المسرح الجراحي قد نظف تماما، وأعيد ترتيبه، وجيء بالسيدة مخدرة وحملت ووضعت فوق منضدة العمليات الرئيسية، وسلطت على بطنها العاري أنوار الكشافات القوية، والكل في موقعه مستعد للبدء، بينما «سستر العمليات» الإيطالية تراجع للمرة الثالثة كالتلميذة قبل الامتحان كل ما تتطلبه العملية من أدوات، وكان الأستاذ يغتسل ويتعقم.
في العاشرة وعشر دقائق كان رأس المشرط ينغرز قريبا من «السرة» محددا نقطة البداية، ثم في خط مواز لمنتصف البطن تسحبه اليد الشهيرة التي أصبحت جزءا من تاريخ الجراحة في مصر سحبتها السحرية، وفي ومضة ينقض المساعدون بالملاقط يغلقون بها كل الأوعية الدموية الصغيرة التي تقطعت، وبلا زمن يربطونها بالخيط الخاص، والجرح قد أصبح نظيفا بلا نقطة دم يكشف عن دهن ما تحت الجلد.
ولا بد أن لحظة رضاء قد مرت بالأستاذ وهو يستمتع بقيادته لهؤلاء الناس؛ فهو لم يعد بحاجة أن ينطق بكلمة؛ فقد تعلموا تماما أن يفهموه، حتى والفكرة أو الأمر لا يزالان مشروعين في رأسه كانوا يستطيعون التقاطهما والشروع في تنفيذهما.
حتى ارتدادة عينه من فوق القناع إلى طبيب التخدير ترمقه في هذه اللحظة بالذات، يفهمها الطبيب في الحال، ويمد يده إلى مفتاح الغاز في جهاز التخدير، وترتخي عضلات السيدة تنفيذا للأمر الذي تلقاه بنظرة العين.
العاشرة والنصف:
لا بد أن يده الآن تلمس الورم، ولا بد أنها بحركتها طولا وعرضا تتحسسه وتحدد حجمه وامتداده، ولقد ظل مساعدوه الأربعة - وعبد الرءوف لسعادته الكبرى ودونا عن بقية زملائه يقوم بدور المساعد الرابع - يكادون يكتمون الأنفاس استعدادا لكلمته التي سيصدر بها حكمه على الورم، وحين أفلتت شفتاه كلمة: غريبة! لم يجرؤ أحدهم حتى أن يسأل.
وقبل أن يطلب الملقاط القاطع الذي يستخدم لأخذ العينات الحية، كانت يد السستر تضعه في يده المفتوحة، وحين تم أخذ العينة كان على عبد الرءوف أن يطير بها إلى قسم «معمل الأمراض» لتفحص بالميكروسكوب، ويصل الأخصائي إلى قرار بشأنها. وحينذاك فقط عرف الجميع أن الأستاذ لم يصل بعد إلى معرفة كنه الورم.
وكالعادة لم يجد عبد الرءوف الأخصائي في مكتبه، كان قد ذهب إلى الإدارة لأمر لعله المطالبة بتسوية حالته. وكان عبد الرءوف يستغيث رجاء في التليفون، ولم يصل إلا بعد ربع ساعة، وأخذت عملية إعداد الشريحة وإعداد الميكروسكوب والصباغة وضبط النور ربع ساعة أخرى. حتما ستطير رقبته وبالذات حين قرأ في النهاية التقرير الذي كتبه الأخصائي بخط لا يقرأ، وأدرك معه أنه لا يستطيع الجزم إن كان الورم نابعا من العظم أو الغضروف أو أي نسيج آخر، وكذلك من الصعب تحديد إن كانت الخلايا خبيثة أو حميدة، كارثة!
وظن أن خللا قد حدث في نظام الكون حين لم يقابل بكلمة لوم واحدة والوجوم الشديد موجود ولا شيء سواه، فقط حين أمسك بالورقة قريبا من عيني الأستاذ، وقرأ الأخير التقرير تفجر بركان الغضب، وانهالت الشتائم بادئة بالمعيدين أجمعين، مارة بالجامعة والكلية، وخراب الذمم، والفساد والملعون الأخصائي. أما هو عبد الرءوف فقد نالته لكزة غليظة من كوع الأستاذ.
وكان الغضب قد تسرب إلى الحاضرين جميعا، وإلى الحجرة كلها بكل ما تحتويه، يكاد جوها يرعد ويبرق، والتوتر وصل إلى أقصى مداه. ولم يكن أحد يستطيع في وسط هذا كله أن ينطق بكلمة أو يشير برأي، وإنما التصرف كله والرأي والحل لا بد أن ينطق به الأستاذ، حتى وهو في هذه الحالة؛ فهو لا يزال الإرادة العليا؛ وعليه كان المفروض أن تؤخذ عدة عينات أخرى، ثم يغلق جرح البطن، وتكون عملية الاستكشاف قد تمت بنجاح، فما دمت لا تعرف كنه الورم، فمن غير المعقول أن تعبث به، أو تمد يدك لاستئصاله مثلا.
ولكنهم - حتى قبل أن يصدر أوامره - كانوا يعرفون أن من المحال أن ينكص، وأن يكتفي من الغنيمة بقفل الجرح. وهكذا حين كظم غيظه لحظة ومن بين شفتيه المطبقتين صدرت الغمغمة المعتادة تقول: إيه رأيكم؟ الفتحة واتفتحت، والورم مش كبير، وشيله مسألة سهلة.
لم ينطق أحد كالعادة، ولا هو انتظر أن ينطق أحد، واصل كلامه بحماس مفاجئ: شوف النبض كام؟ وضغط الدم؟ والتنفس؟ ممكن بنج ساعة كمان؟ جهزوا نقل الدم وعقموا الآلات الزيادة، بسرعة.
بأسرع سرعة تفرق الجمع الملتف حول المريضة الراقدة بلا حول، وتلاحقت سلسلة الأوامر تبعثرهم في كل اتجاه، بينما باشمئناط خلع الأستاذ أدهم قفازه، وطلب سجائره وولاعته، وانتحى ركنا قريبا من غرفة الاغتسال، ومضى في حجرة العمليات يدخن، والسستر الطليانية ترقبه بغضب لا يراه.
وفي هرج ومرج عقمت الآلات بسرعة وبطريقة بدائية، بأن صبوا عليها الكحول وأشعلوا النار، وجلبت أسطوانة أكسيجين لم يتمكن أحد من فتحها، فدفعها الأستاذ بساقه دفعة أسقطتها وأحدث سقوطها دويا كالقنبلة، وجيء بأخرى. أما الدم فقد اكتشفوا أن فصيلة دمها لم تحدد بعد، وكان على طبيب نقل الدم أن يحضر معه زجاجات من كل مجموعة، وأخيرا ركبت الزجاجة في الحامل، ولكن قبل أن تتسرب منها نقطة واحدة إلى وريد المريضة كان الأستاذ أدهم قد عيل صبره، وكان قد أمسك بالملقط والمشرط بينما مساعدوه الثلاثة - وقد أخرج منهم عبد الرءوف - يفتحون له الجرح، ويزيحون أعضاء البطن ومصارينه بالمزيحات المعدنية، كاشفين الورم بقدر ما يستطيعون.
كانت العملية الكبرى، عملية الاستئصال، قد بدأت.
وعلى مجال رؤية تقريبي بدأ الأستاذ يستأصل الجزء الأعلى من الورم، وبالمشرط والملقط يفصله عن العامود الفقري من الخلف، والغشاء البريتوني والكلية والطحال من أمام، وبدا أن كل شيء رغم كل ما حدث يسير على ما يرام، والصمت يخيم والرقاب مشرئبة علها تلمح الورم، أو تستطيع بطريقة ما أن تلقي نظرة على البقعة التي تعمل فيها المشرط والملقط.
وفجأة تفجر من فتحة البطن عامود دموي حاد، وارتطم الدم المنبثق بزجاج المصباح الكشاف، عامود مفاجئ غير متوقع أبدا شحبت له الوجوه جميعا؛ فهو يعني أن شريانا قد انقطع، وفي تلك المنطقة التي كانت تدور فيها عملية التشريح لم يكن ثمة شريان آخر غير أضخم شرايين الجسم، الأورطي. أتكون قد حدثت الكارثة، كارثة أبشع من قطع شريان الرقبة، أيكون الأورطي قد قطع؟
5
حين أوغل بعد الظهر في تقدمه، وراقب قفزات عقرب الدقائق حتى ملها وأصبحت الساعة تقترب من الخامسة، وقد مضت أكثر من ساعتين على العملية الكبرى، بدلا من الغيظ انتابته فجأة موجة استخفاف. أحس بلا مقدمات أن القداسة تذهب عن كل شيء في محرابه المقدس، وأن حجرة العمليات تتعرى عن ذلك الغموض المعقم الساحر الذي كان يصبغ كل شيء فيها، بل وزحف استخفافه ليشمل ذلك الشيء السخيف تماما، المضحك جدا، الموت الذي ربما يبدو مأساويا رهيبا حين نسمعه كخبر ابن لحظته، وندرك في ومضة أن فلانا الحي قد مات وانتهى. أما حين يصبح الموت حدثا يدور أمامك، ويمثله، وتنتظر أن ينتهي فلا تبدو له نهاية، حين يصبح لحظة تتكرر ودائمة التكرر، تذهب رهبته تماما وتصبح شيئا كالحياة التي لا معنى لها، وأقصى ما تشعر به حينذاك أن تحس بالملل. ولا بد أن ذلك الملل هو الذي دفعه للاستخفاف؛ ليدفعه الاستخفاف أن يقرر رغم أي اعتبار آخر أن يحادث «انشراح». - سمعت آخر نكتة؟
توقفت أصابعها المكوكية وحدقت تجاه عبد الرءوف، وجحظت عيناها قليلا، ثم حين رأته يعني ما يقول جحظت عيناها أكثر. - سمعتيها؟ - هي إيه يا دكتور؟
عجيب صوتها، أول مرة يسمعه وإن كان كثيرا ما سمع عنه، هادئ ومؤدب، أم هو تمثيل وتأدب؟ - النكتة، آخر نكتة.
حركت تحديقها في وجهه، ورمقت السيدة المسجاة، ثم أرخت عينيها وقالت بصوت منخفض: حرام يا دكتور! حرام! ده وقت نكت؟ - أمال وقت تريكو؟
واغمق وجهها القمحي الشاب خجلا، وكفت أصابعها عن الحركة في الحال، وجمعت الكرة والنسيج والإبر في يد أسقطتها بجانبها، ثم بعد ثبات في مكانها برهة انسلت قائمة متحركة ببطء ناحية النافذة العريضة ذات الزجاج المصنفر، وفتحت ضلفة منها وأطلت برأسها، ثم ما لبثت أن ارتكزت بذقنها على يدها. اعتقد أنها تفعل هذا خجلا، في حين أنها - كما أخبرته بعد هذا - كانت تحاول أن تكتم عنه نوبة الضحك الشديدة التي انتابتها.
ولكنه لحظتها، وبوقوفها ومشيتها وارتكازها، تحول انتباهه إلى الشيء الوحيد الذي غاب عن عينيه طيلة الوقت، انشراح الأنثى. الآن وجهها مختف، وجسدها الخلفي بكامله أمام عينيه، وبمثل ما يرى الإنسان أول ما يرى وجه المرأة من أمام، تسقط عيناه أول ما تسقط حين يراها من الخلف على ساقيها، وجهها الخلفي، وجه نادر الجمال، نادر أن تلتف الساق بلا ترهل أو نحافة، وتتسق مع الوسط والأرداف والكتفين.
كيف استطاعت حواري شبرا المختلفة بازدحامها أن تنبت هذا الجسد السمهري المتسق الفارع؟
أيكون تنمرها وتوحشها علامات أنوثة يسيء الرجال فهمها؟
وأي طراز من الرجال يا ترى تفضل؟ مهما كان طرازها، فبالتأكيد لا يمكن أن ترى مثله في الشاب النحيف الطويل ذي الشعر الأصفر والعينين الملونتين الذي - وإن كان يعجب أغلب البنات والسيدات - ولكنها هي بالتأكيد مختلفة، ومزاجها مختلف.
أيحاول بلا مقدمات أن يجس النبض؟
أم يحترم نفسه كما ظل يحترمها ويقنع بالسكوت؟
6
الدم المندفع المفاجئ معناه غلطة، وغلطة لا يرتكبها طبيب امتياز أو حتى طالب طب، فكيف ومرتكبها هو كبير أساتذة الجراحة؟ كان واضحا أن هناك سرا، وأن شيئا غير عادي لا بد يحدث. ولأنها ليست على ما يبدو غلطة، ولأنه حقا كبير أساتذة الجراحة، فلم يستغرق الانفجار سوى ومضة؛ إذ في ومضة كانت يده قد امتدت وانتزعت قطعة كبيرة من الشاش المطبق، وبدقة شديدة كتم بها مصدر الانفجار، وكف الدم عن التسرب تماما.
وصحيح أنه لم يقل في لحظتها السبب، ولا أحد استطاع التخمين، ولكن لم يكن من الممكن أن يستمر الغموض طويلا؛ فقد اتضح أن الورم قد أحاط بالأورطي، وابتلعه داخله، وأنه في محاولته فصل الورم جرح الأورطي.
والتفت إليهم بعد لحظة هدوء، وقد عادت شخصية الأستاذ الكبير تسيطر: الجراح الناجح هو اللي ما تهزوش أي مفاجأة تحصل، حتى لو انجرح الأورطي. الجراحة أعصاب، واللي ما عندوش أعصاب يدور له على شغلة تانية يا أسطوات. المسألة حلها بسيط زي ما شفتم، وقفنا النزيف، بعد كده نخيط الجرح.
ولرأب الجرح الذي حدث للوعاء الدموي الكبير، فلا بد من إحاطته بغرز يضمها خيط واحد تجذب طرفيه وتعقده فتتعلق الفتحة كما تتعلق فتحة كيس النقود.
ولقد تولى الأستاذ المساعد مهمة كتم الجرح ريثما ينتهي الأستاذ من إحاطته بالغرز بإبر خاصة، وبخيط خاص، ولكنه ما كاد يجذب طرفي الخيط ليعلق الفتحة، حتى تفتت الجدار من حول الجرح وتفجر الدم في نافورة غزيرة مروعة. هذه المرة كانت قد اتضحت الحقيقة المرة، جدار الأورطي قد تهرأ حين ابتلعه الورم، ولم يعد يحتمل غرزة، وقد حاول ربطه كلية، وإذا به ينقطع تماما، ويتفجر بحر من الدماء اندفع هذه المرة في كل اتجاه يغرق أنحاء الغرفة، ويلطخ الوجوه، ويملأ العيون، ويعمي لابسي النظارات، ويحيل الأقنعة البيضاء إلى حمراء قانية. دم كثير وكأن عشرة رجال ينزفون معا، تعجب كيف أن مصدره الوحيد هو هذه السيدة النحيلة الغائبة عن الوعي!
وكما أصاب الدم الموجود فسوى بين ملامحهما تكفلت الفوضى والارتباك بإحالة الحجرة إلى مكان انتهى منه النظام تماما، مليء بالصرخات العصبية والتخبط والجري في كل اتجاه والتعثر في كل خطوة، تلمع الكلمات كالشهب بلا صدى، نقل الدم، رباط ضاغط، ضاغط، يا ابن الكلب، يا بهايم، امسحوا الدم اللي في عيني، يا غجر امسحوا الدم.
وامتدت كل يد تستطيع الامتداد إلى بطن المريضة، وليذهب التعقيم إلى الجحيم. وأخيرا وبلفة قطن بالغة الضخامة وتحت ضغط ثماني أيد أمكن سد فيضان البحر المكتسح سدا مؤقتا؛ فالنزيف كان لا يزال مستمرا، وبمعدل أسرع من زجاجات نقل الدم الأربع المفتوحة صماماتها إلى آخرها، والجميع وقد أطار عقولهم ما حدث لا يرجون إلا فرصة واحدة - ثانية - لالتقاط الأنفاس.
وحين جاءت الفرصة وأحكم الضغط على الأورطي تماما، بحيث كفت الدماء عن التسرب، كان الخاطر الذي هبط بثقله على الجميع هو أن السيدة قد حكم عليها - هكذا - بالموت، وأن العملية التي بدأت لعبة واستكشافا قد انقلبت إلى مأساة، وأن لا حل. - أظن ما فيش فايدة.
قالها الأستاذ المساعد باستسلام.
والمفاجأة كانت حين ارتفع صوت الأستاذ: ما فيش فايدة إزاي؟ الكلام ده يحصل مع واحد تاني غير أدهم شفيق، مش أدهم شفيق اللي تموت منه عملية، الأورطي انقطع حانشيله كله ونشيل الورم كمان، ونحط بداله وصلة من شريان الفخذ. اطلبوا كل الدم اللي في المستشفى، وهاتوا اللي في الإسعاف السريع كمان. «تيريزا» إبر خياطة الشرايين وحرير ثلاثة زيرو، وشغلوا الشفاط وامسحوا الدم ده كله، ولا نقطة أشوفها.
كانت أوامر كهذه تهبط عليهم دائما، وكأنها أوامر السماء! تفكيرهم الوحيد هو كيف ينفذونها وبأكمل وجه، كأنه كان يخاطب خشبا مسندة هذه المرة! صحيح أنهم تفرقوا يجهزون ما أمر به، ولكنهم كانوا كأنهم فقدوا الإيمان بما يقول.
ولقد تم كل شيء كما أراد، وربط الأورطي بعيدا عن أجزائه المتهرئة، واستؤصل الباقي مع الورم، وامتد الجرح إلى الفخذ، واقتطعت من شريانه أوسع قطعة وصل بها الأورطي، ودار كل هذا ولا أحد يكاد يصدق أنه يدور، فكأنه يحدث في منطقة وراء العقل، أو انقلبت الحجرة بهم إلى فندق تحول فيه الواقع إلى كابوس، والأشخاص والأشياء إلى رموز، والجو ملبد مشحون.
وكان الجميع - وربما بما فيهم الأستاذ نفسه - يتوقعون أن تنتهي السيدة قبل أن تنتهي العملية، ولكن أغرب شيء أنها رغم كل ما نزفت وضاع من الدماء، رغم ضغط دمها الذي كان كالبندول يتأرجح، ويقترب عشرات المرات من منطقة العدم، والقلب الذي كان ينبض، ثم يكاد يكف ليعود ينبض، رغم كل هذا لم تمت مع إدراكهم جميعا والعلم معهم أنها لا بد أن تموت، إلا أنها - وكأنما سخرية بهم - لم تمت. ولعل هذا هو الذي شجع الأستاذ في الثالثة، وبعد العملية التي استغرقت خمس ساعات طوال أن يقول: اللي علي عملته، وما كانش يخرج من إيد أي جراح في العالم أنه يعمل أكثر م اللي عملته. إنما حنعمل إيه بقى لوزارة الصحة؟
فالمستشفى في رأيه خال من الخيوط الحريرية ذات السمك المضبوط، والإبر أصغر مما يجب، وغرفة العمليات ليس بها أجهزة تكييف هواء تساعد على هدوء الأعصاب. - واهو كده أو كده كان الورم حايموتها، يبقى العلم اللي كسب؛ فمصر كسبت عملية عمرها ما اتعملت، وعملية ناجحة قدامكم أهه، والست لسه عايشة أهه، ولو كانت الإبر مضبوطة والخيط مضبوط كانت تعيش عشرين سنة كمان، إنما حظها كده. •••
والحقيقة أن لا الإبر ولا الخيوط ولا أجهزة التكييف هي السبب، والسيدة ما زالت لم تمت - هذا صحيح - ولكن الدم يتسرب من مكان الوصلة وبكميات ضخمة؛ فليس هكذا توصل الشرايين بالشرايين، فالطريقة خاطئة والفكرة من أولها خاطئة، والخطأ ممتد وبادئ من اللحظة التي قرر فيها أن يحيل عملية الاستكشاف إلى عملية استئصال كبرى، بل الخطأ - هكذا يدرك عبد الرءوف الآن - يمتد إلى أبعد، إلى ذلك اليوم الذي أصبحت الجراحة عند أستاذه تزاول من أجل الجراحة، وأصبحت العمليات وأصحابها وهم غالبا من الفقراء الذين بلا حول، ميدانا لإثبات القدرة والأستاذية.
7
الشيء الذي لم يعمل له حسابا قط هو الذي يحتل عقله الآن تماما، ليست هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها ميتا يحتضر أو يسمع ذلك الشخير المتصل، ولكنها الأولى التي يعايش الموت فيها ليست معايشة متفرج، ولكنها معايشة متأمل مترقب ليرى متى وكيف تكون النهاية، أو بالأصح نهاية النهاية. وكلما تأمل وترقب وانتظر أحس أنه يغوص أكثر وأكثر في التجربة، حتى بدا وكأنه هو نفسه يعاني نزعات الموت، ولكن حب الاستطلاع يعود يجذبه ويعود يعيش المشهد بكل خلجاته ليرى كيف بالضبط يموت الناس. وإذا كان المشاهد في المسرح أو السينما، وهو يعرف أن ما يراه خيال في خيال ينتفض انفعالا في انتظار النهاية، فما بالك والمشهد هنا حقيقي، والموت فيه حقيقي؟ واسم النهاية معروف، ولكن طريقة حدوثها شيء لا يمكن أن يعرف أحد كيف تحدث. أنت هنا لا تضطرب بين اليأس والأمل! إنك تحفر بتفكيرك وترقبك في أعمال اليأس لتصل إلى منتهاه، وكأنك تتوقع أن تموت هذه السيدة الطيبة التي أسلمتهم نفسها بثقة فيهم وفي عملهم ما بعدها ثقة بطريقة لم يسبقها إليها أحد، ما دامت قد اجتازت هذه العملية الكبرى وعاشت بعدها وبطريقة لم يسبقها إليها أحد.
ولم يدرك أنه الآخر قد بدأت تنهد فيه أشياء وتموت مثل الجسد الواهي المسجى أمامه إلا متأخرا. هذا الشهيق المتباعد يبدأ ببطء، ويصل إلى منتهاه ببطء ليندفع بعده الزفير فجأة مرة واحدة. هذا التنفس الغريب الذي يسبق الوفاة، والذي طال أمده وامتد وانتظم حتى أصبح كالنبض، وانقلب من دليل مؤكد على الموت القادم إلى نبض منتظم، ليس نبض الحياة، وإنما نبض الموت ودقاته تهوي كل نبضة منه كالمطرقة الخرافية البشعة تهد وتسحق الجسد غير الواعي، ولكن الأهم أنها أصبحت تهوي عليه نفسه، وعلى مراكز الحياة فيه فتتهدم وتهوي وتتساقط، حتى أصبح وكأنما كلما أمعن في انتظار لحظة النهاية اقشعر بدنه، مخافة أن تأتي معها بنهايته هو الآخر.
وكالفأر الذي أطبقت عليه المصيدة مضى بكل ما يملك من قدرة على الهرب يستنجد بالخيال، وبأحداث اليوم، وب «انشراح» وجسدها الفائر، ولكن الذكريات والخيالات وحتى الحقائق نفسها كانت تهرب منه، وتفر من حضرة أخلد حقيقة عرفها الإنسان - الموت - أقوى الحقائق كلها، الأقوى حتى من حقيقة أنك حي.
وكالاستغاثة الأخيرة ترك مقعده، واتجه إلى حيث تجلس «انشراح»، ووضع يده على كتفها، ليجد أن جسدها هو الآخر يرتعش وكأنها هي الأخرى قد بدأت تحتضر.
ضمها عساها أن تكف عن الارتجاف، فإذا به يبدأ هو الآخر يرتعش، ويمد يده يتناول يدها، فإذا بها باردة، ميتة بغير شك، برودتها أبدا ليست من صنع الجسد، وإنما هي وافدة من مكان بعيد سحيق، نفس المكان الذي يقبل منه الموت! تضغط على يده، وبكلتا يديه يعتصر يدها، وتنتقل برودتها إليه وبرودته إليها؛ فالسيدة كان رأسها قد بدأ يتململ، وشخيرها يضطرب، وأجفانها - مرة واحدة - تفتحت إلى آخرها، وبرزت من خلفها عينان واسعتان محدقتان بلا نظرات. كان واضحا أن شيئا مهولا يقترب، إما النهاية التي انتظراها حتى أوغل الليل في تقدمه، وإما المعجزة، وكلاهما مرعب مخيف؛ فالموت حولهما وفي كل مكان، وهو لا يمكن أن يتراجع! فإذا لم تمت هي فلا بد أن سيكون الموت من نصيبهما.
الموت الكثيف الذي تضبب له جو الحجرة وثقل هواؤها، وأصبح النور كالخيوط المنعزلة المخنوقة.
ماذا بالضبط بدأ وفي قوة عارمة يتدفق في جسديهما؟ أبدا ليس خاطرا، ولا انفعالا، ولا إحساسا ولده الخارج، أو اندفع من الداخل، وحتى ليس دفقة الحياة الأخيرة حين ينتاب الإنسان ذلك النوع الوحيد من الرعب الذي لا يحسه المرء إلا مرة واحدة في عمره، الرعب من الموت الذي يصل إلى درجة أن يميت هو إذا غاب الموت أو اختفى سببه.
ليس جنونا أيضا أو فقدان سيطرة.
الحقيقة ليس شيئا أبدا قابلا للإخضاع والمناقشة والتفسير.
والعجيب أنه كان يحدث لهما معا، وفي نفس اللحظة، كالآلتين تعزفان نفس النغمة، أو كأنهما أصبحا جسدا واحدا وكائنا متكاملا.
اشتد التصاقهما حتى وقفا، وتراجعا إلى حافة المنضدة، حيث اقتربا، وتفتحت أذرع أربع لتضم الجسدين.
وكأنما هو مسوق بها وهي مسوقة به وكلاهما مسوق بقوة أكبر، دفعا معا «الترولي» المجهز لتحمل عليه السيدة بعد وفاتها ووضعاه، حتى أصبح امتدادا لمنضدة العمليات، وبدا ألا قوة على سطح الأرض تستطيع منعهما، ومعا خلعا ملابسهما، وبمساعدته صعدت فوق «الترولي» وصعد هو الآخر، والسيدة كفت عن التلفت والتحديق، واستقرت عيناها - لا تزالان متسعتين أيضا وبلا نظرات - على الجسدين العاريين تماما أمامها.
وغير مهم إن كانت ترى أو لا ترى، المهم أنها استمرت تحدق حتى حين عاد إليها نبض الموت، وعادت تتنفس شخيرا منقطعا غير منتظم.
والتهب جسده وأحس بها بين ذراعيه تلتهب وكأنهما محمومان، وضمها بشدة، واستماتت هي متعلقة به وكأنما بألف ساق وذراع.
ومضى هو يرد على تحديق العينين المثبتتين عليهما بتحديق كأنما يدفع به الموت المنصب من عينيها، وبتحديق هاتف يقول: لا للموت، لا. إلى اللحظة التي بدأ فيها وكأن نبض الحياة قد اتحد بنبض الموت، وأصبح للكائنات الموجودة بالحجرة - ميتة وحية ومترددة بين الموت والحياة - نبض واحد متسق لا نشاز فيه.
وقبل أن يفقد وعيه بوجودها أحس أن السيدة لا بد قد استردت وعيها للحظة؛ فقد بدا من نظراتها أنها لأول مرة تراهما رأي العين وتدرك تماما ما يدور، وأنها ما كادت تسترد الوعي حتى انتهى، ولكن اللحظة كانت كافية لتصنع ملامحها شيئا كالابتسامة، ابتسامة مندهشة قليلا كابتسامة طفل فتح عينيه لأول مرة على الحياة فيدهشه ما يرى.
وما كاد يستعيد الوعي ويعود يحدق في السيدة، حتى وجد أن كل شيء لا يزال كما تركه، وابتسامة الدهشة القليلة لا تزال قائمة وموجودة، والعينان أيضا مفتوحتان على آخرهما بأوسع اتساع. شيء واحد فقط هو الذي غاب، نبض الموت؛ إذ قد انتهى الشخير والشهيق والزفير والتنفس. •••
وكأنه أيضا للحظة قد توحد كل شيء، واشتبكت إغماءة النهاية بإغماءة البداية، أول البداية ونهاية النهاية، لحظة خروج الحي من الميت، والميت من الحي، لحظة كأنما أبت السيدة الطيبة إلا أن تحتشد وبآخر ما تملك تسجل بشبكتيها للمشهد صورة، صورة تبقى في عينيها وتخلد إلى الأبد.
دستور ... يا سيدة
المربع الأول
الظهر، ظهرها كله أصبح مربعات كبيرة محمرة داخلها مربعات أصغر، فيها ألم. بالراحة، بالعقل، بالحنية، أبدا أبدا ليس هكذا أرادت أو تريد، لا بد أن تهتف صارخة دافعة إياه بكل غلظة: حاسب، اوعى، اوعى!
مفاجأة لم تكن متوقعة! المفروض أن يتحول إلى وحش، إلى كائن مرعب يخضعها، ولكن على نصف جانب، وثنية رجل ويد شبه مرفوعة في الهواء حيرى ماذا تفعل، سكن. العيون، عيناه مفتوحتان في دهشة، والملامح تنطق بشعور طفل أذنب رغم أنفه ويريد البراءة. ماذا حدث؟ سألها خائفا أن يقترب أو يلمسها. لم تجب، ماذا تقول؟ كيف تجعله يفهم أشياء هي نفسها، وإن كانت تحسها، لكنها لا تعرف كيف تصوغها كلمات محددة مفهومة؟ أهذا وقت التراجع والعدول النهائي؟ كيف؟ وما تصورته الأفظع والأبشع والمستحيل قد تم.
أحست في قمة الغضب التعس بيده تقترب، كقطة متلصصة تعرف أن ما تريده ليس من حقها. دفعت اليد جانبا بقوة وقسوة لم تردها أبدا، ولا تخصها، لكأنها قسوة امرأة أخرى داخلها، امرأة لا تعرفها.
صمت.
إما التسليم المطلق أو إعلان الفشل وإحالته من شعور إلى واقع.
صمت أيضا.
اختفت من خلاله وفي كثافته حشرجات السوق والشارع وصراع الأطفال العابث اللاعب، وأزيز الدنيا.
أتعاقبها السيدة زينب؟
اقشعرت.
أتفقد العقل؟ أتصرخ؟ أتجري شبه هاربة هكذا، وتقول لكل الناس إنها أم فلان البيه وفلان المدير ومع هذا تفعل ما هي الآن تفعله؟
أتقتل نفسها؟
وذاب عقلها في ضياع. وقبل أن تفكر في أي شيء آخر رمقته بحدقة عينيها فقط، ودون أن تتحرك كرة العين في المحجر ربع نظرة، انتهت بعدها تماما، تماما.
بلا صوت، أو اعتصار لذاته، أو احتشاد، أو حتى تغيير لوضعه، كانت جفونه مسبلة ومن بينها يتساقط دمع بطيء تلمع آثاره على الوجنة، وبقيته تتوالى نقطة عزيزة بعدها نقطة.
من جديد - وكالإعصار - تحرك ذلك الإحساس الطاغي الذي ينسيها أي شيء إلا أن تنتفض هالعة مقبلة عليه، محيطة إياه بذراعين تثلجتا بالحنان، وبقبلات منهمرة مذعورة تركزت فيها كل قدراتها على الفعل، ودفع الشر تغمره وتغسل وجنتيه وتلعق أجفانه، ولفرط رغبتها تستعذب طعم الدموع.
لقد انتهت! فليكن أجرم فليجرم! فليكن الثمن حياتها نفسها فلن يبكي مرة أخرى. إنها المقادير، مقاديرها وحظها رتبت كل شيء. الازدحام عند باب السيدة زينب، والدفعة التي جاءتها فجأة من الخلف، وفي نفس اللحظة التي كانت ساقها لا تزال لم تصل بعد إلى الأرض. واعتقدت تماما أنها ساقطة لا محالة، وأصبح رجاؤها كله ألا يرتطم رأسها بالبلاط المربع الكبير، ولكنه الترتيب المحكم، وبالضبط وهي تهوي وقد سلمت بالكارثة المحققة، تأتيها اليد وكأن ليس لها صاحب، يد من السماء ربما توقف لولا سقوطها، وحين تفقد التوازن كنتيجة لهذا تأتيها الذراع قوية مشمرة تلتف حولها، ولومضة، لومضة سريعة تشعرها، ربما منذ زمن بعيد، حتى قبل أن يموت زوجها، أنها في أمان كامل، ذلك الأمان.
لم تسقط ولم يكسر لها ساق أو قدم.
ولكن السيدة - أم هاشم وأم العواجز - على حق. أنا محقوقة لك يا سيدة حقك علي. الشنطة! ها هي اليد الأخرى تقدمها. وحين ذاك فقط تبدأ تدرك أن يده الأولى لا تزال تحيطها وتحتضنها. ومع الشكر والتراجع وارتباك الإفاقة من مصير محتوم، ماذا قال؟ لا تعرف. في النهاية نظرت في وجهه، والمفاجأة أنها كانت طوال الوقت تخاطب وتعامل وتشكر رجلا، ولكن هذا ... إنه ... إنه بالكاد له شارب. - بتعيط ليه؟ أنا عملت حاجة؟ أنا زعلتك؟ - زقتيني. - ودي تزعل؟ - أيوه بقوة وكره. إنتي بتكرهيني. إنتي عايزة أفندي واللا بيه غني ومعتبر. وأنا فقير، والفقير عندكم ما عندوش إحساس.
وتفجرت رغما عنه، أو ربما برضاه، دمعة.
واحتضنته.
إنه لا يفهم.
مستحيل أن يفهم.
كيف يفهم؟
بأي قوة تستطيع أن تطلعه على ذلك الشعور الذي لا يقاوم، والذي جعلها تنسى أي شيء إلا أنها وجدته، وأنه في تلك اللحظة بالذات أعز عليها من الدنيا بما عليها. - أعمل إيه علشان تصدقني؟ - ما تزقنيش. - بس أنا يا ابني زي أمك. - أمي ماتت من عشر سنين. أنا زي ما أنت شايفة يتيم.
واختنق حلقه بدموع تريد التحول إلى كلمات، وكلمات تصدر عن إحساس في نفسه، إحساس كبير كالقصر المهجور الذي دبت فيه الحياة فجأة. في نفس اللحظة التي أحاطها بذراعه وأحس بجسدها، وإن لم يكن سمينا رجراجا إلا أنه «هوانمي» طري، ناعم حتى من خلال ملابسها الكثيرة الحريرية السوداء. كان ممكنا أن يتقبل الشكر ويمضي، ولكنه توقف، تلكأ، تمنى لثانية أن تحتاج إليه.
والخطوة التالية لم يرتبها القدر، صحيح أن قدمها التوت، ولكن كان باستطاعتها احتمال الألم الخفيف والسير بمفردها.
لماذا إذن - حين حاولت الخطو - بالغت في التألم والعرج؟
أتكون قد لاحظت أنه تلكأ، وأنه يا للغرابة يبدو أنه يحتاج منها أن تحتاج إليه؟
دون كلمة عرض أو إيماءة قبول كان بجوارها، ويده تحت إبطها، بكل ما يستطيع من رقة يساعد في حمل الجسد، رقة حنون افتقدتها من زمن، رقة حنون كرقة الأبناء الأطفال قبل أن يصبحوا رجالا، وينقلوا رقتهم تلك إلى حبيباتهم وزوجاتهم.
كان مفروضا أن يتوقف موكبها لدى أول محطة ترام أو أوتوبيس، أو عند أول تاكسي، ولكن الموكب استمر. لم تطلب، لم يسأل، بل ولا حديث إلا بين الحين والحين: تعبتك؟ فتجيئها إجابته مستنكرة، مغرقة في الاستنكار لدى كل مرة تالية: - أعمل إيه عشان أقنعك إني بأعزك قوي؟ - ما تزقيش. - بس أنا يا ابني زي أمك، عيب!
إنها دائما تعود إلى موضع الألم، ولكن الطريقة التي تنطق بها كلمة أمك كأنما تعنيها ولا تريده أن يصدقها. لقد حرمته أمه بموتها من نفسها ومن النساء. هذه «الست» تعيد إليه كل شيء مرة واحدة، وكأنه في حلم. إنه يكتشف الآن فقط أنه جوعان محروم ضائع، يكاد يجن وهو يحس بها ترتكز على يده ارتكازة جسد أليف محب. لو تكون محرومة من الخلفة، وتتبناه وكل يوم ترتكز عليه بهذه الألفة! ولكن ذراعه بدأت، وكأنما تحيا حياة أخرى بعيدة عن كل أفكاره! فالجسد الذي تحتويه بدا من فرط ما فيه كالزبدة يسيح. ذراعه الممزقة عنها «الأوفرول» في أجزاء، تشركه رغما عنه، وتنقل له من خلال ملابس غالية - وإن كانت أكثر مما يحتمل الجو - ذلك الإحساس، ونعومة جسد الأم تفقد كل صفاتها الأخرى، ولا يبقى فيها سوى تلك الرجرجة الشحمية المرتاحة، رجرجة الستات المرتاحات، رجرجة تبقي السيدة أنثى، ولو وصلت إلى الستين، ولكنها لا يبدو أنها وصلت أبدا إلى الخمسين، بل إن ما فيها من أنوثة أكثر بكثير من زوجة جارهم سائق التاكسي التي تبدو بعد عامها السابع من الزواج وكأنما جف فيها كل ما يمت إلى النساء بصلة. - تعبانة؟ - شوية. - كده أحسن.
وبكل ذراعه أحاطها حتى أصبحت في حضنه، وأصبحا في حارة، وأصبحت تعرف أنه في الثامنة عشرة، وأنه يعمل مع أبيه في تصليح البوتاجازات، وأنهما يقطنان قريبا، وأنه وحيد، وأن أمه ماتت في عملية.
وأيضا أصبحت تعرف سبب غضب السيدة زينب منها؛ فليست هذه أول مرة تأتي إليها مضطرة.
بعد المشوار الطويل، بعد أن تصبح جدة للمرة الرابعة، وأما لمدير عام شاب لامع، ولدكتور في جامعة يؤكدون أنه الوزير القادم، والثالث تاجر سيارات مستعملة وأغناهم جميعا، وبنت تزوجت وتعمل أيضا في الخارجية.
سعادة الاكتفاء موجودة ولا حد لها. المهمة تمت بنجاح ساحق رغم أن المرحوم مات في ثلاثة أرباع الطريق. الجميع يتوجونها أما مثالية، ويأتي أولادها كل عيد، وكل مناسبة، وانتي، وانتي، وانتي ... ولكنها كلمات.
الرجال والابنة الذين لم يعودوا في حاجة إليها، يدللونها ويهزلون معها ويبدءون يسخرون من الأشياء القديمة المتراكمة في الشقة، تلك التي نموا وهم يحملون لها الحب والتقديس. صحيح أن هناك روابط كثيرة تجمعها بهم وتجمعهم بها، نفس الروابط التي تنزعج لها إذا علمت بمرض أحد، وينزعج لها الأبناء، أو جزع الابنة إذا ارتفع لديها معدل الضغط أو نسبة السكر، ولكنه جزع مخالف تماما لمثيله أيام كانوا أولادها وأيام كانت فعلا أمهم، جزع على اللعبة القديمة ذات الشعرات البيضاء التي نحاول أن نحفر في صدرها كلما ضممناه عسانا نعثر على قطرة واحدة من نبع كان يروينا، وكانت تتعاظم بنا وبها السعادة إذا روانا جزع الزمالة ربما في المجتمع الأكبر الذي أصبحنا فيه أولادا وبنات وأمهات وزملاء، وإن كانت تفرق بيننا بعض السنين. حتى غداء الجمعة، من الصباح الباكر تكدح لتصنع مع خادمتها العجوز لكل منهم ما يفضله، وبزيطة وابتهاج يبدءون يقبلون، والابن الواحد الذي لا تزال تذكركم به كان نحيفا شاحبا وهو طفل صغير أصبح اليوم زوجا، زوجا قديما له أولاد وبنات ينادونها بيا «تانت» ويا «تيزة» ويا «جدتي». أصبح الولد عائلة بأكملها وأصبحت له أسراره الخاصة وهمساته وغمزاته مع زوجته أو مع أخيه الآخر، وهي الوحيدة البعيدة عن اللعبة. ويوضع الطعام ويأكلون، وبينما في أعماقهم قد أدركوا من زمن أن طعام أمهم من الأحسن لها ولهم أن يبقى ذكريات حلوة، ومذاقا يعطيه حاجز الزمن قيمة ومتعة؛ فالواقع الحاضر أنهم قد فقدوا الرغبة تماما فيه، وأنهم بالكاد يزدردونه؛ فلقد جاءت الزوجات معهن بأطعمة أخرى، وبأصناف لم تخطر للأم على بال، حتى الطعام وتعليقاتهم البالغة في استحسانه أصبحت عادة قديمة تبتلعها على مضض؛ فإنها لتحس بالأمر كله، وبيوم الجمعة وكل ما يحدث فيه تمثيل في تمثيل يجيء فيه الأبناء ليروا أبناءهم تحضنهم الجدة العجوز، ويتسلون بتدريبهم على نطق اسمها، وربما يثير اليوم في نفس أحدهم ذكرى أو حادثة طفولة، تمثيلية سرعان ما يمل الممثلون القيام بها، فإذا بكل واحد قد انزوى مع زوجته في ركن أو على فراش، أو قد اجتمع أربعة منهم يناقشون موضوعا لا صلة لها به. كل ما في الأمر أنه بين الحين والحين، وربما على دقات جرس ضمير بطيء المفعول، يتعطف عليها أحدهم بكلمة، أو بثناء، أو بقبلة سريعة، لا تلبث أن تدرك أنها وهي في بيتها تأويهم وتطعمهم قد أصبحت عبئا هم مضطرون للخلاص منه بعد قليل؛ فسرعان ما تبدأ سلسلة الاكتشافات، وينظر أيهم في ساعته، ثم يشهق مروعا: أنا نسيت ميعاد المحاضرة. وما أتعسها من دقائق أو ساعات تلك التي يقضيها الباقون وتقضيها معهم وهي محرجة تدرك أن كلا منهم لا بد يبحث لنفسه عن اكتشاف جديد أو عذر وجيه! حتى الأطفال ملوا سماع حواديتها ويطالبون بالتليفزيون، بل - إمعانا - تذهب إلى المطبخ أحيانا لتجد الملاذ في الخادمات، فإذا بهن هن الأخريات مشغولات بتبادل أنباء فضائح الأسياد والسيدات والجيران، وأحدث الزيجات والطلاقات بين نجوم الغناء والسينما. وفي النهاية، وبعد كل الضجيج الهائل والازدحام تصبح مرة أخرى وحيدة تماما في الشقة الكبيرة ذات السقف العالي؛ فحتى الخادمة العجوز تأخذ بعد ظهر اليوم نفسه إجازتها.
لا لوم! فهكذا الدنيا، وأولادها لم يعودوا بحاجة إليها إلا كديكور أم محنط في شقة «العيلة»، ولكن الأم فيها لم تنته بعد، لم تمت! ما زالت تدق داخل قلبها الكبير. وحين مات المرحوم لم تفكر لحظة في الزواج، أو في تغيير حياتها مع أولادها؛ فلقد كانوا هناك، صبية صغارا وبنات لا يسمحون لها أن تغيب عن أعينهم لحظة لشدة حاجتهم إليها، ولا تسمح هي لنفسها أن تتغيب لحظة لشدة ما تريدهم أن ينهلوا من صدر أمومتها، ويروون بذلك النبع الأخضر الريان في أعماقها. سعادتها الكبرى أن تعطيهم، وكان طبيعيا جدا أن يأتي اليوم الذي لا يعودون بحاجة إليها، وقد أصبحوا بدورهم آباء وأمهات يريدون هم أنفسهم البذل لأولادهم والعطاء. ماذا تفعل والأم فيها لا تزال قادرة موجودة يقظة؟ فقد تزوجت صغيرة وخلفت صغيرة، ولا تزال بعد لم تصل إلى الخمسين. - يا ريت تزوري السيدة!
وكأنما هبط الاقتراح كالحل العبقري لمشكلة أبناء يريدون فرض اليأس والشيخوخة على أمهم فرضا، يريدون فرض اللاحول واللاقوة والسكون والسلبية التامة، فرض الموت عليها فوق سطح الأرض انتظارا للحظة الانتقال إلى باطنها. أبناء يريدون هذا وكأنما ليزيحوا عن خواطرهم الواقع الحي الناطق أنها بعد لم تصبح شيخة. صحيح أنها لم تعد شابة مثلما كانت حين مات أبوهم، ولكنها بالقطع والتأكيد لم تعد تصبح - وباستماتة تأبى أن تصبح - في القريب العاجل شيخة. وليست الشيخة أيضا كي يفرضوا عليها الشيخوخة فقط، إنما لكي - وهذا هو الأهم - يفرضوا عليها الوحدة؛ فالوحدة إذا كانت حراما على الأنثى أو الشابة، فهي حلال على الشيخة، وما لم تصبح شيخة فعليهم أن يحلوا هم مشكلة وحدتها، ومن هنا يعتبر اقتراح زيارة السيدة إذن حلا عبقريا. - إن شالله يا سيدة.
أجل، يوم الجمعة بعد الغداء الحافل، بعد أن تستمتع بهم مرصوصين حول مائدة الطعام الفخمة، الرجال من أبنائها والبنت مع زوجها، وبعد أن تحمل أحفادها كل بدوره وتهدهده وبأسماء تدليله، عليها أن تذهب للسيدة وتقضي بقية اليوم تدعو وتتعبد. وفي العام القادم بإذن الله تحجين وأمانة عليك أن تقرئي لنا الفاتحة يا ست الحبايب، ولا تنسي أن تدعي ل «منى» بالنجاح، ول «حمادة» بالشهادة، ولابنك - أنا - باستقالة رئيس مجلس الإدارة ليفرغ منصبه. - وإيه رأيك يا ستي؟
والتفت الكل إلى الأخ الصغير، فقد بدا وكأنه وجد الضالة المنشودة: الجمعة السيدة، وإن زهقتي يبقى الإثنين الحسين، وإن حبيتي يبقى سيدي الحنفي الخميس.
واحنا مستعدين.
أجل! هم دائما مستعدون؛ لكي يحولوا العواطف والمجاملات والواجبات إلى معادلة نقدية، ربما لأنهم أصبحوا يمتلكون النقود، بينما لم يعودوا في حاجة إلى العواطف والمجاملات.
بالتأكيد مشروع سقوطها كان من غضب السيدة عليها؛ فهي أبدا لم تذهب بدافع من ذات تريد، إنما مدفوعة لا إلى زيارة أو قراءة فاتحة، وإنما إلى مصير لا تملك دفعه. - ياه! إحنا مشينا كثير. أنا اتأخرت، نشوف تاكسي؟ - زهقتي؟
وتطلعت، هذا الوجه، تلك الملامح الطفلية التي يسكب فيها سن الثامنة عشرة أول كم من عصير الرجال، فيصبح لها - للسن - جمالها الخاص بحيث يضيء وجه كل فتى وكل فتاة، حتى المحرومين من الجمال، بنور جميل طازج، نور تلك السن. شاربه النابت المحلوق الذي تكاد تعد جذور الشعر فيه شعرة شعرة، بينما الذقن تتسلل من الصدغين هابطة على استحياء، ولكنها في وسط الذقن تماما، وحول وداخل طابع الحسن تنطلق فجأة، كنافورة شعرية مستديرة. العينان فيهما نظرة، ليست لها صفاقة نظرات الرجال أو مجال أبصارهم الخاضع للإرادة والوعي والتحديد، وليس فيها شقاوة الصبية، إنما هي نظرة بدأت تدرك وجود الآخرين، وكما ترى الناس باستطاعة الناس أن يروا ما بداخلها، داخلها المليء في تلك اللحظة إلى الحافة بنداء، أقوى ما رأته عيناها من نداء، ألا تذهب؟ أن تبقى، نداء حقيقي صاعد، ربما رغم أنف صاحبه، شتان بينه وبين نظرة الدكتور أو المدير ابنها وهو يقول بينما هو يستعد لإغلاق الباب خلفها بعد انتهاء زيارتها: وحياتك، وحياتك يا ماما تقعدي تتعشي معانا. - حضرتك عايزة تروحي؟ مش تستريحي شوية، على بال الوجع ما يخف؟
عادت ترمق النداء قويا ملحا في عينيه، لا تملك عصيانه، نداء يحرجها، فهو لا يتبع بكلمات تلح الإلحاح الكافي، إنما هو يترك لها هي الرأي والقرار، يترك لها أن تضغط بكل ما تملك من رغبة على كل ما تملك من مقاومة، وتسأل: أنا الحقيقة تعبانة، بس أستريح فين؟ لازم أروح.
ولكنه وبحداقة أهل حي الحنفي قدم الحل البديل، فأبوه في الدكان، وعلى بعد أمتار يوجد بيتهم المكون من حجرة واحدة وصالة صغيرة، أيليق بالمقام؟
أي مقام والساذج لا يدرك أنها منذ أن استقبلت النداء قويا صادقا مجتاحا قد أصبح له على الفور المقام الأعلى، وأصبح أقصى ما تتمناه أن تعمل وبكل ما تملك لإسعاده. منذ النداء قد انتفض داخلها مارد قادر على كل شيء، حي نابض بالحياة، مارد تجاهلته وحاولت قتله، وتجاهله أبناؤها، وكل من حولها، وبكل ما يملكون من قيم وعظات وحكم ومثل، حاولوا خنقه أو سجنه؛ ليموت جوعا وإهمالا وحرمانا، مارد حين انتفض يرتد من النقيض إلى النقيض، ويعود بها وكأنما ببساط سحري إلى أرض شابة حية مدمدمة بحركة الحياة، وكل ما فوقها وعليها وداخلها ينبض، أرض مرعبة، مرعبة تماما.
النظرة ليست كلها احتياج، هناك وراءها مكونة مركزها وقلبها رغبة، رغبة ملتهبة صامتة كأنها العواء بلا عواء، ولكن فليكن وراءها جهنم نفسها، إنها هي وإرادتها الكفيلتان بأي شيء، بأن تأخذ من النظرة ما تشاء وترغمه على التخلي عن أي شيء آخر. إنه طفل، ليس سوى طفل حتى وإن بدا أطول منها قامة، حتى وإن أطل لها كاللص بصيص من ذات ذاتها يحاول أن يرى في الفتى كل ما ليس بطفل فيه، كل الأشياء التي يمكن أن تتلصص عليها المرأة، أية امرأة.
مخاطرة فلتكن واثقة من أن رأيها هو الرابح، واثقة أنها في النهاية ستعطيه أما ولو لساعات، وستأخذ منه ربما رغم أنفه ابنا ولو لدقائق، وأنها أبدا أبدا لم تعد تستطيع الهرب من ذلك القدر.
الغريب، وذراعه لا تزال تحت إبطها تسندها، والعيون في شارع الحنفي كثيرة لا عمل لها سوى التحديق بحثا عن لمحة إثارة، الغريب أن العيون لم تستنكر، حتى الجيران اعتبروها الخالة الغنية لا بد تبحث - بالوفاء - عن أقاربها من الفقراء، والناس في تسليمهم بكل ما تواضعوا عليه أبدا لا يبدءون هم بالشك. قريبا من رأس السلم المؤدي إلى شقة السطوح حيث يقطنون، انزلقت يده التي تسندها وتحتضنها متحسسة الظهر، يد اكتسبت - بطول الاحتكاك - بعض الجرأة.
ولم تشأ للوقت أن يضيع فيما لم توطن نفسها عليه. أفهمته بلطف أنها إنما جاءت معه لا لكي تستريح، وإنما لأنه حرك أمومتها (وكان طبيعيا جدا أن تكذب هنا وتقول إن السبب أنه يشبه ابنها الذي فقدته في مثل سنه بالوفاة)، فإذا كان هو يتيما ماتت أمه، فهي العكس تماما، الأم التي كف الأبناء أن يثيروا فيها أو يحتاجوا إلى أمومتها. ستكون أمه إذن لبعض الوقت، وإذا أساء الفهم، فإنها من هنا وقبل أي خطوة ثانية ستعود.
وطبعا استنكر وأكد وقبل، واثقا أنها تعني حقيقة ما تقول، مقررا بينه وبين نفسه أن يطاوعها ويستمتع أولا بالأم فيها، وحبذا لو فاز بعد هذا بالمرأة أيضا! - يعني أنا زي ابنك دلوقتي؟ - وأنا زي أمك. - فكرة والله، طب وحانعمل إيه بقى؟ - اللي بتعمله الأمهات.
خلعت فستان الخروج الأسود، وبقيت بثوبها الداخلي الرقيق، وبينما الماء يغطي أرض الشقة التي لم تنظف من أجيال، وهي بكل همة - ورغم الألم - قد انحنت تمسح وتنظف، كان هو يخرج ويدخل هائصا يغني، باختصار، سعيد. وأرسلته ب «السبت» والنقود وعاد ملهوفا باللحمة والخضار، وبدأت رائحة «التقلية» تتصاعد، وبينما كان «البوتاجاز» القديم يطهو الطعام على مهل وفي حجرة قد نظفت تماما ونظمت، كانت هي في الحمام منخرطة في غسل الملابس، كل ما تحويه الشقة من ملابس، حتى «الأفرول» الذي يرتديه أصرت أن يخلعه لتغسله، وعليه أن يبقى بلباس داخلي انتقته له من «سرة» ملابسه القديمة وهو طفل لا يزال.
وبالغسيل يكاد ينتهي، ورائحة الطعام قد نضجت، وغناؤه قد علا وتخللته قهقهات لأتفه الأسباب، كانت سعيدة سعادة لم تذقها ربما في شهر عسلها الأول نفسه، فلم تكن قد تزوجت حبيبا، إنما تزوجت كما كان يفعل الناس في أيامها من عريس جاء عن طريق قريب، ولولا العشرة الطويلة والخلفة والطباع الحلوة لكانت كرهته، ومن يدري ربما كانت قد أحبته، أو على الأقل جربت شعورا ملتهبا غير مستقر يجعلها تبرد وتغلي وتتفجر بدلا من هذا الإحساس المتصل الطويل لا تعلو له قمة ولا يهبط إلى قاع، سعادة لم يذقها الفتى وأمه نفسها عائشة؛ فقد كانت رغم قبلاتها الطويلة الخانقة لا تناديه إلا مسبوقا بلفظ سباب، وإذا احتوته جرحت مشاعره البضة شوكات حنانها الخشنة، حنان ما حاولت مرة تليينه أو إعطاءه نعومة الأم الأنثى إلا وغلب عليها الطبع في النهاية، وعادت إلى طبيعتها الخشنة. إنه الآن يكاد لا يذكرها، يكاد ينسى كيف كان موقفه حيالها؛ فلحظة الحاضر جاءت تغرق كل ما فات، وها هو بكل نزق وضحك وجري ودلال وشقاوة، يعيش كما لم يعش أبدا، كما لم يحلم بعيش كهذا من قبل. وقد صح ما توقعته تماما، فالأم فيها أعادت إليه الطفل، والطفل فيه أعاد لأمومتها لمسات وملامح ذبلت وجفت وماتت من سنين. لكأنها تصبح أما لأول مرة.
واندفع بنزق صبياني يرفع غطاء الحلة، ويلتقط بعض قطع اللحم الملتهب التي لا تزال في طريقها إلى النضج. ونهرته ووضعته أمام الأمر الواقع؛ فقد أصبح كل شيء نظيفا ما عداه، ولا بد أن يستحم، وأيضا قبل الطعام. ويا له من شعور لذيذ انتابه وهو يحاول مماطلتها، وتأجيل «علقة» الحمام إلى ما بعد الغداء! وهي تصر إصرار أمومة ناعم تحسبه قابلا للتعديل، ولكنك لا تلبث أن تدرك أن نعومته أشد صلابة من إصرار يملؤه النهر والسباب.
بدلع قال: يبقى تحميني، مش أمي؟ أمي تحميني.
وكان يعرف أن الاقتراح مرفوض، فما هو بالرضيع أو الصبي، ولكنه ربما قاله ليسبر الغور، ويعرف إلى أي مدى أصبحت أما، وإلى أي مدى استترت المرأة، وفي دفعتها له من ظهره لتدخله الحمام، وتجذب الباب أحس أنها ليست أبدا دفعة استنكار شديد، هي تمضي في سياق واتساق مع لعبة الابن والأم، وما وراءها غامض كل الغموض. - ادعكي لي ظهري، من يوم ما ماتت أمي ما حدش دعكهولي.
ولو أوتيت كل قدرات العالم النفسي لما استطاعت أبدا أن تدرك لماذا قبلت، ولماذا صرخت قبل أن يدخل تطلب منه الجلوس القرفصاء، وإعطاء ظهره للباب، وماذا بالضبط كان شعورها والليفة المتآكلة لا تمنع يدها من تلمس جسده، والإحساس بعضلات صلبة بمثل ما لم تكن تتوقع، متناسقة، تجعل من كومة اللحم الحي المنحنية على نفسها تصدر العواء والأصوات كتلة مجهولة ذات خطر، كتلة شاب كبير الجسد دافئه.
وتسأله إن كان قد غسل خلف أذنيه بالليفة، وتكتشف بعد سلسلة من الأسئلة أنه لا يعرف بعد كيف يحمي نفسه، لا أحد قد علمه. إنه ليس يتما واحدا ما يصاب به الصبي، إنه يتيم من الحب، من الصدر الحنون، من الإلحاح عليه بالإفطار، من تنظيف كامل وأمين لجسده، ألف يتم.
وحين انتهت من مهمتها، والماء ينصب ويتلوى الفتى لانصبابه، وكأنها فجعت ودهشت، روعتها النظرة الخاطفة حين ألقتها، فكشفت لها عن معالم الرجل فيه. وفي الحال واجهت نفسها - فالأمر لم يعد يحتمل الخداع - لقد كانت لساعات طويلة توهم نفسها بابن حبيب عثرت عليه اليوم صدفة، ولكن هذا الشاب الممشوق الجسد، وما به من رجولة ليس أبدا ذلك الابن، إنه غريب عنها، جسده كله جاء من امرأة أخرى، وله أب لم تره في حياتها، وحياة طويلة قبلها لم تر منها إلا عرض أصبع.
ومضة ولكنه أدرك وفهم، واعتراه الارتباك في نفس لحظة ذهولها وارتباكها. وشتان بين إحساس تلقائي منساب كجداول الطبيعة بالنبوة والأمومة، وقد انقطع - بترته النظرة العابرة - ليكملا الدور بعمد هذه المرة، وبارتباك وبإشراك هائل للإرادة، محاولا هو فيه أن يخفي علامات الرجولة فيه، ومحاولات دائمة منها ألا ترى سوى الطفل، محاولات كانت لا تزيدهما إلا ارتباكا، محاولات أنهت الحمام فجأة، وفي خفوت متعمد، وكأنه كان السبب في مأساة.
وعجيب حقا أن تتسع نفسها بعد كل هذا المزيج المتناقض من الأحاسيس بإحساس جديد مرق كالشرارة، إحساس بفرحة صغيرة، فرحة أي أم حين تكتشف في ملابس ابنها الداخلية ذات يوم أنه بعد لم يعد طفلا، السؤال المعلق - وقد بدأ المساء يحل في دكان أبيه - سؤال لم تنطقه، ومع هذا فقد جاءها الجواب بغير هناء: إنه مع أصدقائه في حي «الباطنية» مجتمعين حول «الجوزة»، ويشدون أنفاسا تقهقه لها «الجوزة» ويقهقهون، ويئوبون بعد القهقهة العنيفة إلى سعال طويل. جلسة لن تنتهي قبل أن ينتصف الليل. ودون سؤال منه فالسؤال كان لنفسها جاءتها الإجابة: إن شيئا لا ينتظرها سوى جدران الشقة الكبيرة العالية الفارغة، وسجادة الصلاة، ولا شيء بعد هذا أبدا. - أنا بردان، باين الوساخة كانت مدفياني!
ضحكت للنكتة وظننه يدعي.
ولكن أسنانه فعلا بدأت تصطك.
واندفع إلى «الكليم» المهري الذي يغطي أرض الحجرة الوحيدة.
واصطكت أسنانه بشدة، وعطس أكثر من مرة.
لو كانت هناك مدفأة أو أخشاب لأشعلتها، ولكنها في بحثها الدائب المنخلع القلب عما يمنع عنه البرد والرجفة، ورعبها أن يمرض لم تجد هناك سوى نفسها، وأدارت ظهره إليها، واحتضنته دافعة بساقيها وتقوسات بطنها وظهرها لتشمل انحناءات جسده كله، وأصبحت يداها تضمانه بشدة.
وشيئا فشيئا كف ارتعاشه.
وشيئا فشيئا بدأ يحل بجسده إحساس غامر شامل بالراحة والسلام والأمن، وهي في نفس الوقت نشوى وحضنها قد فعل فعله، نشوة أم أرضعت ابنها كل ما يؤرق ثديها من لبن.
وليس أبدا لأن جسده استكان تماما إلى دفئها.
إنما - هكذا - وربما في نفس اللحظات بدا حضنها نفسه ينسيه المرأة فيها، ويمر عابرا بالأم، ويستقر عند أول الطريق إلى شعور آخر مخالف تماما، جديد تماما ذلك الذي يجعل القلب يدق، لا من الرغبة وإنما بما هو أقوى، بالانفعال، بالعاطفة.
وكان مفروضا أنها بعد أن استكان إلى حضنها وشبعت أمومتها أن يبدأ قلبها هو الآخر يدق، لكل ما هو غريب في فتاها وليس لكل ما هو قريب.
ولكنها ولفرط ما هي خائفة كبتت الشعور.
وهكذا بينما - رغم التصاقهما الشديد - بدأت تنمو وتترعرع ضبابة عاطفية تغطيهما تماما وتربطهما تماما، يفرزها جسداهما لتثير كل ما لا باستطاعته أو يملك الجسد إثارته.
أيكون الحب؟
المربع الثاني
ليكن، فإن كان المقياس المعزة، فإن أحدا على ظهر الأرض حتى أولادها أنفسهم ليسوا بأعز عليها منه. أما هو فقد استكان إلى ملجأ غريب لم يجربه أبدا، أحس معه بكل ما عاناه ويعانيه، بكل شظف العيش مع أب حشاش عجوز، ونساء يشتهينه حتى ليلتصقن به عامدات فوق السلم الضيق، بكل شيء كأنه ما كان ولن يكون، كأنه يولد هذه اللحظة ولادة تحف بها كل أحلامه، كل ما حرم منه، كل ما سوف يحرم منه.
ليكن الحب!
لتكن الجنة!
لتكن أقصى سعادته الآن أن يستسلم للأحلام التي بدأت تخلعه من الواقع، وتحمله بتؤدة إلى النوم. ولتكن إغفاءتها هي الأخرى علامة شبع بعد مائدة انتظرتها، جوعى تتلوى لسنوات.
ليكن! لولا أنه مع الدفء، وبعيدا عنهما تماما وعن العقل والأحلام والمتعة المتخيلة، بدا ثمة جسد يحس بجسد، مباشرة وبلا واسطة، تاركة العقول تسبح فيما تشاء، عاقدة هي وبلا أي قوة تستطيع إيقافها الصلة والاتفاق.
والأجساد لا تتخيل وتحلم، إنها لا تعرف للتعبير عن نفسها إلا الالتحام والاحتواء، بينما الأحلام تلتقي وردية لقاء الخيال والعالم اللاملموس.
وبدأ الجذب.
رغم إرادتيهما معا.
هو - بحركات لا يمكن رصدها - يكور ويصغر نفسه أكثر وأكثر، وكأنما لو ترك لعنانه لأحال نفسه إلى طفل يستكن في بطنها كالجنين.
وهي - بإيجابية السلب المطلق، بالقدرة على الاحتواء - تضمه، بادئة بيده التي أنقذتها من حادث محقق تعتصرها بين أصابعها، إلى وجوده الجسدي الكبير الغريب المتكور، إلى حياته كلها وأبيه وحجرته وملابسه المعلقة تجف، تحتويها كلها، وتضمه وكأنما لتعيده إلى حيث يجب أن يكون، إلى بطنها وذاتها.
عاطفة الحب التي بدأت لا جسدية بالمرة، وكأنها من صنع الخيال، ما إن بدأت الأجساد تتقارب، حتى استحالت إلى قوة تلهب الجذب، وتشرك فيه الإحساس والمعنى والخيال.
ولو كان ملاكا وكانت هي قديسة.
ولو كان الجزاء الموت حرقا أو فوق خازوق.
ولو اجتمعت الدنيا كلها لتوقف قوة الجذب الخارقة لوقفت عاجزة.
فما يحدث كان في الواقع سره من سر الحياة، وقوته من قوتها.
الحياة حين يصبح هدفها الأوحد من البقاء والوجود والاستمرار أن تتحد.
الحياة حين تخلق العاطفة قوة تجذب، فإذا تلامس الحيان فلا شيء بإمكانه أن يفرق بينهما. لقد استعانت بأولياء الله ومشايخه، وبالسيدة، وبصبرها الذي طال عشرين عاما، بابتسامة أبيها الحنون، بأمها المرحومة ذات العشر حجات، بالفاتحة وآية الكرسي، وكل ما يطرد الشياطين، واستعان هو بشيخ طريقته، وتعاليمها، وكل ما تراكم في ذاكرته من أوامر ومحرمات، ولكن جوع الجلد إلى الجلد، جوع الضلوع إلى الضلوع، وظمأ الفم إلى الفم، والسيقان لتلتف حول السيقان كان هو الذي كل مرة ينتصر، ويقهر.
جذب من جذب ذلك الكون الشاسع القادر على تعليق كوكبنا، بل شمسنا، وملايين غيرها، في فراغه المخيف بلا شيء سوى جذب التجاذب وجذب التنافر، جذب لا يدري للآن أحد سره، ذلك الذي يجذب المرأة إلى رجل بالذات لتستعمله كوسيلة تحصل بها على نسخة من صنعها هي لهذا الرجل، على ابن ما أروعه لو جاء تماما كأبيه لتستميت في حبه، وحبذا لو أبيح لها أن تختار هذا الابن نفسه لينتج لها ومن ذات نفسها أيضا ابنا آخر، أكثر قربا لما تريد وتهفو!
جسدان راقدان متجاوران متلاصقان هذا صحيح، من ساعات كانا مجرد كائنين مثلهما مثل الملايين الأخرى من الكائنات، ملتصقان وكأنما بفعل مغناطيس قانونه الأوحد أن يتجاذب قطباه، حتى لو كان أحدهما في الخمسين والآخر لم يبلغ العشرين، بل حبذا لو كان أحدهما في الخمسين والآخر دون العشرين!
جسدان خلفتهما قوانين حياة لا تقهر، قوانين أكثر تعقيدا وهولا من كل نزعات الإنسانية للتخلص منها، قوانين غريبة سارية تحيل الفراغ بينهما، إن كان قد بقي فراغ، إلى جحيم من الانفعالات المكبوتة، والقاهرة المنطلقة، والمناطق المحرمة التي شيئا فشيئا تستباح، وهي مستميتة تتشبث بخط دفاعها الأخير كأم لأولاد مقربين ناجحين متعلمين، تستحضرهم بكل ما لديها من يأس لتمنع بهم المشهد القائم، أو توقف التحرك إلى المشهد الفاجع التالي؛ لينقذوها على الأقل من كهارب وتيارات وأحاسيس تشل إرادتها شيئا فشيئا، وتعمق لديها إحساس الأم؛ ليوقفوا الحفر الدائب داخله وداخل قدرتها على العطاء، حتى لا تبلغ هذه القدرة على العطاء والمنح أقصى مداها، بحيث - أعوذ بالله، أعوذ بالله - تنقلب بفعل أي دفعة أخرى بسيطة إلى رغبة في الأخذ والاستقبال، وتمضي قدما في خط الأمومة لتصل إلى أقصاها حيث الأنثى، ومن رغبة الشاب إلى رغبة ملحة في الحصول على صفاته وملامحه، وعليه كله مصغرا، وفي حجم بويضتها المتربصة المنتظرة.
بينما تبلغ به رغبته فيها كأم إلى حد لم يعد يحتمله إلى حد يصبح كل أمله ومناه أن تكون أمه وحده، بحيث تنغلق عليه دون سواه من البشر أو الإخوة أو الزواج والأبناء، تبلغ به الرغبة حدا يجعله يحتاج إليها كأم إلى الدرجة التي لا يعود يكتفي فيها بمعالم الأمومة الظاهرة، إنما يبحث وإلى آخر رمق، حتى يصل ويستولي على كنه الأمومة فيها، على الأنثى فيها؛ فالأم دائما أكبر من أي ابن، ولكن الأنثى لا ينالها إلا رجل واحد، وتكون له وحده.
ومهما كانت الردود وفعل الردود، والإقدام مرة والخجل مرة، بحضور تاريخ طويل من النواهي والأوامر مرة، واختفائه خلف قوانين الحياة العظمى مرة أخرى، به حين يبدأ يتصرف كشاب فتنهره كأم، وبها حين تضمه مؤملة أن تسكته بأمومتها فتتحول الأمومة بفعل النار الموقدة إلى أنوثة، بالأربعة معا الابن والأنثى والأم والشاب في صراع لا رحمة فيه بين بعضهم البعض، وبينهم وبين أشباح الآخرين الحاضرة، وأشباح غابت ومقدسات لها مفعول الأزل، بهذا كله ترتفع الحرارة حتى يتشعب اللهب، وعلى لهيبها تحترق أشياء كانت لا تقبل الاحتراق، وتذوب النواهي، ويذوب كل ما كان، وكل ما سيكون، ولا يبقى سوى المرأة المحتمية بالأم فيها، والابن التائه يبحث عن أنثاه المختفية داخل المرأة الأم.
ولو الأمر أمر الأجساد وتلقائيتها لانعكس التيار الصادر عنها يعطيه الأنوثة أمومة، إلى تيار يستقبل العطاء ويحيل البنوة ذكورة.
ولكن الإنسان ليس جسدا فقط، إنه ليمتلك في جسده عضوا غريبا ساحر المفعول اسمه العقل، ودون إشراكه وموافقته فلن يصدر عن الجسد فعل أي فعل، أو يتحرك مستقلا قيد أنملة.
وباستماتة، وكأنما استجابة لدعائها الحار بالأولاد وقد استجمعتهم كالجيش «العرموم» حولها يتواثب منه أحفادها، ويستنكرون مسلك الجدة، بينما آباؤهم يتطلعون بعيون زوجاتهم إليها، حيث استحضرت المرحوم هو الآخر وسنوات الكفاح والرفض المستميت للزواج من بعده، حين حشدت التاريخ الماضي كله ليمنع لحظة فاصلة، حدثت المعجزة، واستعادت الأم والأرملة العذراء سيطرتها، وانتابتها من هول ما هي فيه رعدة وأفلتته.
ولكن ربما لقصر في تاريخه، ربما بحكم السن، لم يستطع هو أن يعود للحاضر أو يخفي عنها أو عن نفسه رجولته ولا رغبة الرجل في الأنثى، أي أنثى التي أصبحت تعميه. كان قد وصل بشعوره إلى نقطة لا عودة فيها، بنفس استحالة أن تحدث أصبح المستحيل تماما أن يعود.
المربع الثالث
المربعات التي تآكلت سطوحها، فبرزت حوافها الملتصقة، مربعات الدبش الأبيض الكبير التي تكون أرض الحجرة والشقة، المربعات التي لا يفلح «الكليم» الرقيق الرخيص في تغطية حواف الدبش وعلاماته، المربعات والكنبة الكبيرة العالية ، والمنضدة المعدنية ذات الأرجل الثلاث، ونافذة الحجرة الحافلة بغسيله المنشور، كان الشهود ليسوا شهودا على شاب في الثامنة عشرة قد جاءت معه بقدمها - ولو ملتوية - امرأة إلى حيث يقطن، حتى وإن كانت قد بلغت الخمسين، لا ولا بين طرف رافض وطرف يرغب، ربما الأدق أنها كانت معركة بين كل منهما ونفسه، معركة مبهمة غير واضحة، فثمة سحب كثيرة من خجل ذي درجات تلفها وتشمل المكان كله، درجات تبدأ بالخجل البسيط، خجل الأم أن يكتشف ابنها أنها أنثى، وخجل الابن أن تكتشف أمه أنه رجل، فجأة يثور فيه الشاب فيحتوي الرقبة، ويقبلها قبلات شابة محمومة.
وبحسم تهمس: عيب أنا زي أمك، أنا، ولادي أكبر منك، أنا جدة والله.
فلتكوني جدة أو جنية، فالمهم أنك الآن أمامي أنثى، وأنا الذكر حتى ولو كنت أمي نفسها وأوصلتني إلى هذه الدرجة فلا تتوقعي أبدا أن تجدي في الابن.
يصبح الكلام بلا فائدة فتستعمل اليد، يدها، وتدفعه برفق دفعة الأم لابنها المناكف، فيعود يقبل عليها بإصرار الابن المناكف، تريه الشعر الأبيض في رأسها ليصدق، ليكتشف هو وتكتشف معه أن ناره لا تزيد إلا اشتعالا، وأنها كلما قربت نفسها من صورة أمه أو حاولت أن تستثير فيه الابن، لا يفعل هذا كله إلا أن يؤجج الشاب، الذي بدا وكأن ما أصبح يثيره فيها أنها أم، أمه، بل وصلت إلى ما هو مرعب أكثر، أنها هي كلما شعرت وأقنعت نفسها أنه لا يعدو كونه ابنا، كلما أحست ومنها له انطلقت من أعماقها الأنثى، أنثى ترعبها فهي أبدا ليست تلك التي عاشت ابنة مطيعة ورباها أب وأم وعلماها وزوجاها وأنجبت أبناء أنجبوا بدورهم أبناء، أنثى أكثر أنوثة من كل ما تصورته في حياتها عن نفسها كأنثى، أنثى حبيسة شيطانية تدمدم مهددة بانفجار لا يعلم سوى الله مداه، أنثى كأنها الأذرع الطويلة القوية لأمومتها تختلج متحركة في كل اتجاه، وتريد إرادة لا وسيلة لقهرها أن تطبق على الشاب الصغير إطباقة تبتلعه فيها وتحتويه ليعود مرة أخرى جزءا منها. الشاب الذي - وأولادها حاضرون محدقون شاهدون - تراه هو الغريب أكثر قربا وبنوة منهم جميعا. الشاب المضطرب بين خجله منها ورغبته فيها، الخجل حتى من ذكورته، بل خجل أكثر من أنوثتها. الشاب الذي وكأنما يريد اعتصار الأمومة فيها إلى حد الأنثى، أو يريدها كأنثى إلى درجة اعتصار كل ما قد يكون فيها من أمومة تخصه وحده دون سواه. ظمآن إلى المرأة من زمن، أما أو أنثى، لم يعد يكفيه أن يطوقها أو يرقد ساكنا في حضنها، وإنما يقترب منها بكل ما يستطيعه من اندفاع كي ينتمي إليها كما يذوب فيها ويتلاشى، وكأنه الكوكب يعود بعد طول دوران إلى أمه النجم.
ولكنها رغم هذا كله كان هناك في داخلها شيء لم يكف عن الصراخ أبدا، أو إشعارها بوجوده، شيء يقول بأعلى صوت ومذ كانا على عتبة السيدة: لا، لا، لا. شيء قد يضعف أو يخفق، ولكنه أبدا لم يمنح ولم يكف ولم يتوقف للحظة، بل ظل يستجمع نفسه بكل قواه إلى أن انتفضت مرعوبة ملتاعة دافعة إياه، وبكل ما تملك من قوة وعنف بعيدا عنها. دفعة كالصخرة ارتطمت برأسه فأفاق، وأحس أن كل ما راوده أحلام، وأنه لا يزال ذلك اليتيم المنبوذ.
وحينذاك، وحينذاك فقط ورغما عنه بدأت الدموع تتجمع في مأقيه وتطفر، بينما عيناه تنظران إلى أمام، تلك النظرة الملتاعة المفجوعة المتأكدة أنها وبلا أمل، قد فقدت حقيقة الأم.
نظرة اليتيم حين يرمق طوابير الرجال والنساء مقبلة تعانق أطفالها ويتقافز حولها الأطفال، وهو الوحيد الذي ليس له بينهم أم، بل وأب أيضا.
تلك النظرة الغارقة في الدموع التي لمحتها بربع عينها، وأحست بعدها أنها انتهت تماما، وأن على أي شيء أن يحدث، ولكنها أبدا لن تجعله يشعر بيتمه الثاني.
نظرة الأم لابنها في لحظة خطر يهدد أمومتها له أو بنوته.
وكان هذا الاندفاع والاحتضان والقبلات تغسل بها دموعه وتهدهد بها فوق ملامحه الكسيرة. - أمال بتزقيني ليه؟ - مش ح ازقك.
لم يكن ردا، كان قرارا وإلى جهنم مباشرة فلتذهب. - تعال، تعالالي.
وجاء ولم تحتوه أو يحتوها، إنما فقط ذابت المسافة التي استمرت طويلا بينهما، وذاب الزمن.
وبين القطبين الأعظمين تمت شرارة الالتحام الصاعقة.
صاعقة تزلزل لها بلاط الحجرة المربع، واصطكت نوافذها ولو استمرت أكثر لتهدم البيت كله.
المربع الرابع
وحين عادت إلى شقتها الكبيرة وجدتها صغيرة، وفي المرآة طالعها تعبير لم تره في وجهها منذ ثلاثين عاما.
وحين جاء يوم الجمعة فوجئ أولادها جميعا بالشيخة التي أرادوها، وقد تفجرت فيها دفقة حياة جعلتها تبدو أكثرهم حركة ونشاطا وطاقة على خلق المرح، وكأنها عادت شابة. - مش قلت لك؟ آدي بركات الست ظهرت!
والأعجب أنها كانت أول من استأذن، والحجة جاهزة، فالسيدة لا تستطيع الانتظار.
وأشياء كثيرة كانت تختل في الكون وفي الدنيا وفي نظام البشر، ولكن لم يحدث أبدا أن اختلت مواعيد زيارتها للسيدة، بعد أن تشبع بطونهم من الطعام وتغذيهم بحنان غريب وكأنه اندفاعة البترول في بئر مهجورة وترعاهم، وتغمرهم بأمومة أصبحت ربما أكثر من طاقتهم على الأخذ، تستأذن وتزور السيدة.
وفي كل مرة وبرهبة ترمق الضريح مبتعدة وتتمتم: دستورك يا سيدة. وكأنما أيضا توقف بها الزمن وفعل الزمن عند ذلك اليوم، ولم يتحرك إلا في يوم كانت على الدوام تحسب حسابه وتتوقع مجيئه، ولكن في الحق فاجأها حين جاء، وظلت في مكانها مشدوهة لا تريد أن تصدق أن اليد لم تعد هناك، وأنها لن تقودها هذه المرة إلى حجرة المربعات في الحنفي.
ثم حين تمضي الساعات ولا يجيء تبدأ تقدم رجلا وتؤخر رجلا إلى الدكان القائم غير بعيد عن الجامع والضريح.
ولكنها قبل أن تصله تتوقف.
كان هناك وقد أصبح صاحب الدكان بعدما مات الأب.
ولكنه لم يكن وحده.
أمام الدكان كانت فتاة في الثامنة عشرة ربما، أو أقل؛ فقد كانت لا تزال محتارة كيف تلف الملاءة بإتقان حول جسدها.
وكان يساومها على تصليح البوتاجاز.
مساومة ذات معان، تبدأ من «الفونية» إلى المفتاح، والفرن ونار الفرن.
والفتاة تضحك، وهو يبتسم.
وفجأة نظرت إليه من جديد.
نظرة، وكأنها ثاني مرة تراه فيها بعد المرة الأولى، المرة الأولى.
كان إنسانا آخر تماما، كانت قد أصبحت له ذقن غزيرة غير حليقة نابتة وسوداء كثة، وكان صوته قد غلظ وضحكته قد أصبحت رجالية خشنة، صوت له إرادة، ونظراته لم تعد تستقبل العالم وتدهش له، أصبحت فقط تراه لتحدد مسارها فيه لا غير.
لقد أصبح رجلا كبيرا، هذا واضح.
أصبح واحدا من قافلة الرجال، والأمهات على الرجال عبء.
وقبل أن تئن أو تدور بها الدنيا.
أحست أنها لا تريد الأنين، وأن باستطاعتها أن توقف الدوار؛ فهي ليست عاتبة أو حزينة أو مندهشة، أو حتى حاقدة على الفتاة أو عليه. أدركت - من خلال إحساس غير واضح وبلا ضغينة - أنها هي الأخرى لم يعد لديها ما تعطيه أو تمنحه، لا فائض أمومة ولا فائض عواطف، والبركان الأخضر الريان لم تعد به قطرة واحدة.
وفي مرآة حقيبتها رأت البياض في شعرها واضحا تماما رغم الصبغة، والتجاعيد كثيرة حول جفونها ورقبتها.
وتحركت.
مبتعدة.
ومقتربة من المسجد.
واستأذنت في سرها، وكأن جاءها الإذن؛ ففي خشوع وتسليم ورغبة دخلت، وإلى المقام اتجهت.
ووقفت طويلا لا تعرف ماذا تقول أو تفعل.
ثم، وكأنما بالوحي أو السليقة اقتربت من السور النحاسي المقام حول الضريح، وأمسكت مع الممسكين والممسكات بحلقة من حلقات النحاس الناعم الذي أثخنته كثرة الاستعمار، أمسكت بالحلقة، وضغطت عليها، وتشبثت تماما بها وكأنما الأرض تحتها، تنفتح لتبتلعها.
لا أحد يحتاج إليها الآن.
ولم تعد هي بحاجة إلى أحد.
إنها الوحدة الحقيقية كما لم تتصور وقوعها يوما.
ها هي مثل بوادر الشتاء وبلا ضجيج، قد جاءت.
وحدة حقيقية لا مهرب منها، الوحدة الفاصلة بين الابن وبينه هو نفسه حين يصبح أبا، وبينها وقد نفدت أمومتها أو ما تبقى منها وبين عودتها من جديد لتصبح هي نفسها ابنة، ابنة لأم لا وجود لها، وربما لهذا سموها أم العواجز؛ فالإنسان لا يستطيع البقاء إنسانا إلا ابنا كان أو أبا، فإذا انتهت رجولته وأبوته عاد ابنا، وإذا انتهت أمومتها عادت ابنة، قاعدة ليس لها شواذ، ولكنها الآن في لحظة واحدة فاصلة، كوحدة السيدة زينب نفسها وقد تجمع حولها وأمسك بحلقات ضريحها أناس كثيرون، رجال ونساء، وكلهم وكلهن وحيدون ووحيدات مثلها. كلهم وكلهن قد أصبح أملهم أن يعودوا أبناء وبنات، وحبذا لأم العواجز، الوحيدة في قبرها رغم ما حوله من ازدحام! يحاول كل متزاحم أن يتشبث إلى درجة البكاء والعويل بحلقة من حلقات الضريح، وكأنما ليلغي ما بينه وبين صاحبة الضريح من مسافة، وينجح في النهاية أن يخرج من وحدته ويحس بها أمه، ولو كانت أم الجميع، فهي أيضا رغم كل شيء وحيدة.
وحيدة في قبرها.
وحولها يتشبث الوحيدون والوحيدات.
والفاتحة لها ولهم. (تمت)
Página desconocida