وهنالك طائفة أخرى، من العلوم الموصلة، لا مفر من الوقوف عليها، والاسترشاد بنظرياتها ونواميسها، كي نستعين بالماضي، على فهم الحاضر، وتدارك المستقبل. لا بد للمؤرخ العصري، من التبحر في العلوم الاجتماعية والفلسفية، إذا ما أراد أن ينظر إلى باطن المجتمع الماضي، ليتوصل إلى العوامل الأساسية، التي أثرت في عقول السلف، ودفعتهم لإحداث ما حدث من وقائعهم، إن في الحرب أو في السلم، وقد أظهر علماء الاجتماع، كل في دائرة اختصاصه، أن كل حادث مضى، إنما هو مظهر لقوى شتى؛ اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية وغير ذلك، تضافرت في إبرازه إلى حيز الوجود؛ ولذا كان محتما على المؤرخ المدقق، إذا ما أراد فهم حقيقة الماضي، أن يحيط علما بهذه القوى، وأن يطلع على نتائج أبحاث العلماء، في جميع العلوم الاجتماعية.
وهل يختلف اثنان، في أنه يجب على مؤرخ العلوم الرياضية، أن يكون مؤرخا ورياضيا من الطبقة الأولى، وهل بإمكان من يجهل العلوم الرياضية من المؤرخين، أن يبت في تفوق علماء اليونان على علماء الشرق القديم، في مضمار علمي الهندسة والفلسفة الطبيعية؟ أو أن يحكم فيما إذا كان علم الجبر وعلم المثلثات من ابتكارات العرب أو لا؟ أو أن يقدر جهود لابلاس ونويتن ومونج حق قدرها؟ أو ليس من المضحك أن يتصدى للحكم على ابتكارات أينشتاين من لا يفقه شيئا من الرياضيات العالية؟ وقل الأمر نفسه عن تاريخ العلوم الطبيعية والطب وغير ذلك.
الباب الثالث
نقد الأصول
الفصل الأول: التزوير في الأصول والدس فيها، ووجوب التثبت من صحتها وأصالتها
والآن، وقد جمعنا الأصول، وتذرعنا بالعلوم الموصلة إليها، يجدر بنا أن نفكر قليلا في الأمر، قبل أن نخطو خطوتنا الثالثة.
هل يبدأ المؤرخ، فور انتهائه من درس العلوم الموصلة، في مطالعة الأصول لاستخراج مكنوناتها، أم يتربص قليلا للنظر في أصالة ما لديه منها (أي من الأصول)؟
وهل من مبرر للتردد في هذا الأمر؟ فلو بدأنا فور انتهائنا من العلوم الموصلة في استخراج المهم من أخبار الأصول، وزاولنا العمل مدة من الزمن، ثم تيقنا بعد ذلك أن ما اعتبرناه أصلا من الأصول، هو في الحقيقة أثر من آثار المتخلفين غير المعاصرين، أو أنه وضع خصيصا للمغالطة والتضليل، أقول: لو بدأنا بمثل ما تقدم ذكره، وتيقنا وقوع التضليل والتزوير، لضاع وقتنا سدى ، وأصبحنا من الخاسرين .
فعلى المؤرخ إذا، عند انتهائه من العلوم الموصلة، أن يتأكد، أولا: من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوها من كل دس أو تزوير، ولعله من المفيد أن نبدأ هذا البحث، باستعراض بعض ما اختبرناه من هذا القبيل.
لما جاءت اللجنة الدولية، لتدرس قضية البراق الشريف، وقدم سماحة الحاج أمين أفندي الحسيني وثائقه الرسمية، جاهر بعض المعاكسين بشكهم في صحة وثيقة ترجع إلى زمن اختصاصي. فطلب إلي عندئذ بعض الأصدقاء، أن أستشف هذه الوثيقة من الوجهة العلمية الفنية التاريخية، فلبيت الطلب.
Página desconocida