المقدمة
1 - التقميش
2 - العلوم الموصلة
3 - نقد الأصول
4 - تنظيم العمل
5 - تفسير النص
6 - العدالة والضبط1
7 - إثبات الحقائق المفردة
8 - الربط والتأليف
9 - الاجتهاد
Página desconocida
10 - التعليل والإيضاح
11 - العرض
المقدمة
1 - التقميش
2 - العلوم الموصلة
3 - نقد الأصول
4 - تنظيم العمل
5 - تفسير النص
6 - العدالة والضبط1
7 - إثبات الحقائق المفردة
Página desconocida
8 - الربط والتأليف
9 - الاجتهاد
10 - التعليل والإيضاح
11 - العرض
مصطلح التاريخ
مصطلح التاريخ
وهو بحث في نقد الأصول وتحري الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها وفي ما يقابل ذلك في علم الحديث
تأليف
أسد رستم
المقدمة
Página desconocida
وأقدم التواريخ المدونة أسفار موسى الخمسة وأسفار يشوع وصموئيل، فإنها دونت فيما يظهر حوالي السنة 900 قبل الميلاد، وأول من حاول نقد الروايات التاريخية هكتايوس الملطي اليوناني. فإنه كتب في القرن السادس قبل الميلاد في أصل الشعب اليوناني وفي تجوالاته الأولى، وقال: «ولست أثبت هنا إلا الحكاية التي أعتقد صحتها. فإن أساطير اليونان كثيرة، وهي عندي حديث خرافة.» وجاء بعده عدد من أبناء جنسه يؤرخون، فينظرون إلى الأشياء على حقيقتها ويبتعدون عن الخرافات والأساطير، شأنهم في كل عمل فكري قاموا به، ولكن أحدا منهم فيما نعلم لم يحاول أن يجعل من هذا النظر إلى الروايات التاريخية على حقيقتها «علما بأصول».
وأول من نظم نقد الروايات التاريخية ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامي، فإنهم اضطروا اضطرارا إلى الاعتناء بأقوال النبي وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل. فقالوا: «إن هو إلا وحي يوحى، ما تلي منه فهو القرآن وما لم يتل فهو السنة.» فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها، فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال، في أسسها وجوهرها، محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا، وهو ما سيتاح لنا الاطلاع عليه في تضاعيف هذا الكتاب في حينه.
وجاء عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر (1332-1406) فكتب في مقدمته في «طبائع العمران» وجعل من هذه الطبائع محكا علميا لنقد الأخبار التاريخية وتمحيصها، فسجل بذلك فوزا كبيرا، ونحن وإن خالفناه في صحة هذه الطبائع وفي وجوب تطبيقها على حوادث الماضي، لا يسعنا إلا أن نعترف بفضله وبتفوقه على سائر من كتب في التأريخ قبله، وسنعرض على القارئ شيئا من هذا في حينه في فصل لاحق من فصول هذا الكتاب. وعاصر ابن خلدون فلافيوس بلوندوس الإيطالي (1388-1463) الذي كتب في تاريخ روما، وحكم عقله وطبق منطقه الفطري، فقذف بأساطير زملائه السابقين إلى حيث يطرح سقط المتاع. فكان خير زميل لجاره التونسي الكبير.
وأدت الاكتشافات الجغرافية واليقظات العلمية الفنية والمنازعات الدينية، والمطامع السياسية والوثبات الفلسفية في القرون الحديثة في أوروبا إلى الرجوع إلى الماضي، وتقليب صفحاته والاهتمام بأخباره اهتماما شديدا، ولكن رائد المؤرخ الأوروبي في القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر، بقي طوال هذه العصور مجرد استغلال الماضي لصوالح سياسية أو دينية، ولم يدرس لذاته؛ أي للوصول إلى الحقيقة المجردة.
وأول من نادى بنقل التاريخ من ميادين الخصام والنزاع والحرب إلى مجالس الدرس والتدقيق، العالم الإيطالي جيوفني فيكو (1668-1744) فإنه درس أفلاطون وغروتيوس، فدفعه الأول إلى درس بعض كبريات مسائل التاريخ والفلسفة، وبعثه الآخر على درس فلسفة القانون، وفي السنة 1725 أصدر كتابه «أصول علم جديد» اعتبر به التاريخ فرعا من علم المجتمع الإنساني، وذهب إلى أن البحث التاريخي الحقيقي يقوم على أصول منطقية دقيقة، وقال بمبدأ التطور، وسكت عن تدبير الخالق، ونوه منتسكيو نفسه بتجرد هادئ تطور الحكم في فرنسا وإنكلترا، ووازن بين الاثنين، وجاء فولتير (1694-1778) بنقده اللاذع، فنفذ إلى صميم عناصر القوة والضعف في فرنسا، وحاول وضع تاريخ حر للثقافة، ولكن الاثنين أسرعا إلى الكتابة قبل إكمال نقد المصادر واستيعابها.
وانتظمت الممالك في أوروبا في القرن السادس عشر، وقامت عصبية وطنية جديدة ونشأ شعور قومي حديث، فقام علماء مؤرخون في دول الغرب، يعنون بجمع المصادر بدافع الاعتزاز بالماضي، وأهم مجموعة من هذه المجموعات التاريخية الوطنية، مجلدات تواريخ العصور الوسطى التي بدأ بنشرها الرهبان البندكتيون من جماعة القديس مور، وذلك في منتصف القرن السابع عشر، والواقع الذي لا مفر منه هو أن رسالة جان مابيون في الديبلوماسيات (1681) هي فاتحة البحث العلمي الحديث للمخطوطات، وظهر في القرن الثامن عشر سلاسل أخرى من نوع هذه منها مجلدات موراتوري الخمسة والعشرون من كتاب الشئون الإيطالية (1723-1750) ومجموعة توما هيرن الإنكليزي للتواريخ الإنكليزية القديمة. فتيسر لمؤرخي القرن التاسع عشر ما لم يتيسر لغيرهم من سهولة الرجوع إلى المراجع، وإنعام النظر فيها ومقابلتها ومقارنتها مما لا بد منه للوصول إلى الحقيقة.
وفي السنة 1795 أصدر العلامة وولف الألماني مقدمته الشهيرة لمجموعة هوميروس الشعرية، فأحدثت ضجة في الأوساط اللغوية الأدبية التاريخية، في ألمانيا وخارجها؛ لأن وولف ذهب فيها إلى أن الإلياذة والأوذيسية لم يكتبهما هوميروس ولا غيره بهذا الاسم، بل جماعة من الشعراء في فترات متباعدة من الزمن، ودفعت هذه الضجة التي أحدثتها مقدمة وولف بتلميذه أوغست بوخ، أن ينقد المصادر التاريخية اليونانية، في موضوع الاقتصاد السياسي في أثينا (1817)، وقام برتولد نيبور الألماني (1776-1831) وهو ابن الرحالة كارستن نيبور؛ صاحب المجلدات الثلاثة في وصف الجزيرة العربية. نقول قام برتولد نيبور يغربل المراجع الرومانيا بغربال وولف، فوضع كتابه تاريخ الرومان، ونهج به نهجا علميا جديدا، فلم يبق من أقاصيص الرومان وأساطيرهم سوى راسب يسير من الحقيقة «فأحيا التاريخ الروماني وبوأه مكانة علم مستقل.»
وآمن بالنقد الجديد رهط من علماء الألمان في القرن التاسع عشر، جعلوا من ألمانيا معلمة أساتذة للعالم بأسره في فن التاريخ الحديث، وزعيم هؤلاء، دون منازع، هو ليوبولد فون رانكي (1795-1886) الذي ولد في فيهي وتوفي في برلين، وقد كان مثال النزاهة والعدالة، رائده الحقيقة العارية، دون أي التواء، ودأب كثيرا، وطرق مواضيع شتى، فصنف في تاريخ إيطاليا وتركيا والصرب وإنكلترا وفرنسا والكنيسة، وفي الثمانين من العمر بدأ تاريخه العام، فأتم منه سبعة مجلدات، وعندما توفي في الحادية والتسعين من العمر، هب جماعة من تلاميذه الأوفياء، فأكملوا هذا التاريخ، وتسلم شعلة نيبور ألماني آخر تيودور مومسن (1817-1903) فوضع تاريخا عاما لروما، وآخر لولاياتها، لا يزالان مرجعين هامين لكل من يعني بالتاريخ الكلاسيكي، حتى يومنا هذا.
وساهم المؤرخون الإفرنسيون مساهمة قيمة في نقد المراجع الأولية بعملهم العظيم، في مدرسة الوثائق التاريخية التي أسسوها في السنة 1821، فعنوا عناية فائقة بنقد وثائق العصور الوسطى، ووضعوا القواعد الأساسية لعدد من العلوم الموصلة لعلم التاريخ، كعلم الديبلوماسية ، وعلم السفر أجيستيك وفن الباليوغرافية، وغير ذلك مما لا بد لمؤرخ العصور الوسطى من التذرع به، لفهم مراجعه الأولية، ونقدها نقدا علميا ثابتا، ومن أشهر تلامذة هذه المدرسة بنيامين غيوار وغبريال مونو، وفوستيل ده كولانج.
وسرت عدوى هذا التدقيق في المراجع من ألمانيا وفرنسا إلى بريطانيا، فقام سر فرنسيس بالغرايف (1788-1861) وجون ميتشل كامبل (1807-1857) يعنيان بتاريخ الجزر البريطانية، في العهدين السكسوني والنورماندي، بالدقة المطلوبة، ففتحا بذلك عصرا جديدا في التاريخ، في الجزر البريطانية، وفي منتصف القرن التاسع عشر أم مدارس ألمانيا، عدد من الطلاب الأميريكيين، يدرسون التاريخ بالأسلوب الجديد، وأشهر هؤلاء قدما هنري أدمز الذي درس في جامعة هيدلبوغ، ودرس في جامعة جونس هوبكنز، وجون برجس الذي عاد من ألمانيا، فأسس في جامعة كولومبية مدرسة العلوم السياسية، على طراز ما شاهد في برلين.
Página desconocida
وعلى الرغم من العناية بالمصادر وجمعها ونشرها ونمو الروح البريء من الهوى، وتقدم الطريقة العلمية في البحث، وازدياد احترامها في جميع الأوساط في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة، ظل البعض من رجال التاريخ والفلسفة يندفع بالعاطفة، فيضل ويضلل، ولا يزال رجال الفلسفة، حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر، فيما يقرءون أو ترو في الاستنتاج، وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الاستشارة، فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه!
ولمس بعض أساتذة التاريخ هذا الضعف، وهالهم أمر هذا الشطط، فنبهوا إليه وردعوا عنه، وبين هؤلاء غبريال مونو، فإنه ما فتئ منذ السنة 1876 عندما ظهر العدد الأول من مجلته التاريخية الإفرنسية؛ نقول ما فتئ يردع عن التعميم قبل الإحاطة، وينذر بالخطر الذي ينجم عن تقبل مذهب معين من مذاهب الفلسفة، وكتابة التاريخ على ضوئه، قبل التثبت من الحقائق التاريخية تثبتا مستقلا عن كل رأي فلسفي، وذلك حتى وفاته في السنة 1912، وقال غيره من المؤرخين الأساتذة، بوجوب تربية المؤرخين المبتدئين الصغار تربية علمية واقعية تتفق في جوها وأسلوبها وتربية طلاب العلوم الطبيعية، وأشهر من أقدم على هذا العمل الشاق وأعرقهم شرفا العلامة الألماني الأستاذ الدكتور أرنست برنهايهم . فإنه أعد في الثمانين من القرن الماضي، مؤلفا خاصا لهذه الغاية، أبان فيه الخطوات الصائبة التي يجب على المؤرخ أن يخطوها، والعقبات التي تعترضه، وكيفية تذليلها، والمهالك التي قد يقع فيها، وكيفية تحاشيها، وأردف كلامه فيها كلها بالأمثلة الدقيقة المفصلة. ثم نشر هذا المؤلف الأول مرة في السنة 1889 وأعاد طبعه مرارا، وهو لا يزال حتى يومنا هذا أكمل ما صنف من نوعه، وانبرى بعده المؤرخان الإفرنسيان الكبيران شارل سينيوبوس وشارل لانغلوا، فأصدرا في السنة 1898 مقدمتهما في الأبحاث التاريخية، فجاءت مختصرا دقيقا مفيدا. أما علماء الإنكليز، فإنهم آثروا ولا يزالون التعليم بالأمثلة دون اللجوء إلى كتاب خاص بالقواعد.
ولست أذكر تماما متى بدأ عهدي بهذا العلم؛ ولكني أذكر تماما أني لما عدت من جامعة شيكاغو سنة 1923، وباشرت عملي في جامعة بيروت توليت تدريس علم المثودولوجية فيها، وأول ما عملته أني أخذت أجمع أهم المؤلفات التي تدور حوله. فتوفر لدي عدد منها في اللغات الأجنبية، ولكني لم أعثر على شيء في العربية، فصممت آنئذ أن أتلافى هذا الفراغ، وأكتب شيئا في هذا الموضوع.
ورأيت أن أتريث في الأمر، فأبدأ بتدريس الموضوع بلغة أجنبية، ريثما تتوفر لدي الأمثلة التاريخية المحلية والاصطلاحات الفنية العربية. فاضطررت أن أرجع إلى مصطلح الحديث لسببين: أولهما: الاستعانة باصطلاحات المحدثين، والثاني: ربط ما أضعه لأول مرة في اللغة العربية بما سبق تأليفه في عصور الأئمة المحدثين.
فأكببت على مطالعة كتب المصطلح، وجمعت أكثرها، وكنت كلما ازددت اطلاعا عليها، ازداد ولعي بها وإعجابي بواضعيها، ولا أزال أذكر حادثا وقع لي عام 1936 في دمشق، يوم احتفلت الحكومة السورية بمرور ألف عام على وفاة المتنبي. فإني كنت من جملة الوافدين إلى عاصمة الأمويين والمحتفلين بذكرى شاعر العرب، وأقمت فيها مدة من الزمن، أقلب في أثنائها مخطوطات المكتبة الظاهرية، وما إن بدأت بالعمل حتى أيقنت أني أمام أعظم مجموعة لكتب الحديث النبوي في العالم. ففي خزائن هذه المكتبة، عدد لا يستهان به من أمهات المخطوطات في هذا العلم، وقسم منها يحمل خطوط أعاظم رجال الحديث، ومن أهم ما وجدت فيها، نسخة قديمة من رسالة القاضي عياض في علم المصطلح، كتبها ابن أخيه سنة 595 للهجرة، وكنت قد قرأت شيئا عنها في بعض رسائل المصطلح. فاستنسختها بالفوتوستات وبدأت في درسها وتفهم معانيها. فإذا هي من أنفس ما صنف في موضوعها، وقد سما بهذا القاضي عياض إلى أعلى درجات العلم، والتدقيق في عصره، والواقع أنه ليس بإمكان أكابر رجال التاريخ اليوم، أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها، وذلك على الرغم من مرور سبعة قرون عليها. فإن ما جاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج، تحت عنوان «تحري الرواية والمجيء باللفظ» يضاهي ما ورد في الموضوع نفسه في كتب الفرنجة في أوروبا وأمريكا، وقد اقتطفنا من كلام القاضي عياض في هذا الموضوع شيئا كثيرا أوردناه في باب تحري النص والمجيء باللفظ في كتابنا هذا.
والواقع أن المثودولوجية الغربية التي تظهر اليوم لأول مرة بثوب عربي، ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تمت إليه بصلة قوية. فالتاريخ دراية أولا ثم رواية، كما أن الحديث دراية ورواية، وبعض القواعد التي وضعها الأئمة منذ قرون عديدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث، تتفق في جوهرها، وبعض الأنظمة التي أقرها علماء أوروبا فيما بعد، في بناء علم المثودولوجية، ولو أن مؤرخي أوروبا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين، لما تأخروا في تأسيس علم المثودولوجية، حتى أواخر القرن الماضي.
وبإمكاننا أن نصارح زملاءنا في الغرب فنؤكد لهم بأن ما يفاخرون به، من هذا القبيل، نشأ وترعرع في بلادنا، ونحن أحق الناس بتعليمه، والعمل بأسسه وقواعده.
وها أنا الآن أضع بين يدي القارئ رسالتين في مصطلح التاريخ، متوخيا خدمة لغتي وبلادي، ومحاولا أن أفتح بابا جديدا لطلاب التاريخ العربي، ينفذون منه إلى مجاهله، ويتوصلون به إلى فهم الروح العلمية الحديثة التي تتجلى في مؤلفات علماء الغرب اليوم. فكأي من قضية في تاريخنا، لا يزال مؤرخونا يخبطون في حلها، خبط عشواء، وكأي من ناحية في حياة القدماء، في العصور السالفة يجهلونها تمام الجهل، وحسبنا أن نذكر أن أكثر مؤرخينا اليوم يزعمون أن كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة. ففي عرفهم أنك إذا أجدت الإنشاء وفهمت بعض النص، فقد هيئت لك العدة لكتابة التاريخ، ولقد فات هؤلاء أن التاريخ هو علم أيضا، يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى من طب وهندسة وفقه وغيرها، وأنه لا بد لصاحبه من أن ينشأ نشأة علمية خالصة يتربى فيها على الشروط الفنية التي يقتضيها كل علم، مما أوردنا في تضاعيف هذا الكتاب، ولعلي أول من حاول أن يربط ما توصل إليه علماؤنا في الحديث بما وضعه علماء الغرب اليوم، في هذا الحقل من العمل.
أسد رستم
عن الشوبر لبنان في 12 أيلول سنة 1939
Página desconocida
عن رأس بيروت في 2 نيسان سنة 1955
الباب الأول
التقميش
إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها. هذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها، وذلك أن التاريخ لا يقوم إلا على الآثار التي خلفتها عقول السلف أو أيديهم. فإذا سطت محن الدهر، أو عوادي الزمن، على بعض هذه الآثار، وأزالت معالمها، فقدها التاريخ، وكانت كأنها لم توجد، وبفقدها يجهل التاريخ عصرها ورجالها. أما إذا بقيت، وحفظت، فقد حفظ التاريخ فيها. لهذا يرى المؤرخون لزاما في أعناقهم، قبل كل شيء، أن يتفرغوا للبحث والتفتيش، عن شتى الآثار التي تخلفت عن السلف، والتي اصطلحنا أن نسميها أصولا.
والأصول لدى المؤرخ، هي جميع الآثار التي تخلفت عن السلف، فالرسائل الواردة إلى مجلس محمد علي باشا، والصادرة عنه هي أصول لتاريخ هذه الحقبة من تاريخ العرب، ومجموعة المدافع والأسلحة التي ترجع إلى عهده والتي لا تزال محفوظة في وزارة الحربية في مصر وفي سراي عابدي الملكية، هي أيضا أصول، بعرف المؤرخ واصطلاحه، وكذلك جامعه الشهير القائم اليوم على هضبة المقطم، والذي يطل ويشرف على مدينة القاهرة، وقل الأمر نفسه على عظامه المحفوظة في مثواه في داخل هذا الجامع العظيم، وعن بقايا ألبسته وأدواته الشخصية التي لا تزال محفوظة، لدى أحفاده في سراي عابدين الملكية ، وسائر قصورهم . وما يصح من هذا القبيل على الآثار الشخصية المتخلفة عنه، يصح أيضا على آراء غيره من المعاصرين وآثارهم؛ فتاريخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي عاش في القاهرة وعاصر عزيز مصر هو أيضا أصل من الأصول، وكذلك كتاب الدكتور كلوت بك الذي استخدم في حكومة الباشا والذي أسس كلية الطب في القصر العيني، وكتاب الدكتور مخايل مشاقة الدمشقي الذي درس الطب في القصر العيني، والذي التحق بخدمة الأمير بشير الثاني، وغيره من الأمراء الشهابيين الذين عاصروا عزيز مصر، ودخلوا تحت حكمه ردحا من الزمن، كل هذه في عرف المؤرخين ضروب من أصول، وهلم جرا.
فإذا صحت القاعدة العامة - وهي صحيحة دون جدال - في أنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ، أقول إذا صحت هذه القاعدة لزم على المؤرخ أن يبدأ عمله دائما بجمع الأصول، وهي لعمري حقيقة أساسية لازمة، عرفها علماء الحديث قرونا عديدة، وعملوا بها قبل أن يدرك فائدتها، وينوه بصحتها، ويحبذ العمل بها المؤرخون الحديثون، إن في أوروبا أو في غيرها من مراكز العلم الحديث.
قال المحدث الشهير أبو حاتم الرازي،
1
من أعيان القرن الثالث: «إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش.»
2
Página desconocida
وقد جاء في المحيط: «قمش القماش يقمشه قمشا» جمعه من ها هنا وها هنا، والقماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء، وتقمش الرجل أكل ما وجد وإن كان دونا، فإحياء لذكر الرازي، واعترافا بجهود المحدثين وفضلهم على علم التاريخ؛ نرى من الواجب أن نسمي أول خطوات المؤرخ المدقق المنقب التقميش، فنقول: على المؤرخ قبل كل شيء أن يعنى بتقميش الأصول؛ لأنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها.
والآن وقد ثبت لدينا وجوب التقميش، ننتقل إلى النظر في كميته فنتساءل: أيجب أن نجمع كل الأصول أم نكتفي ببعضها؟ وبطبيعة الحال، يصبح هذا البعض ما يسهل علينا الوصول إليه - ما قد نجده مثلا في البلدة التي نقيم فيها أو في أقرب المكاتب إلينا - نتساءل فنجيب: إذا كانت غاية المؤرخ الوصول إلى الحقيقة؛ فالحقيقة هي كل الحقيقة، لا بعضها ، وهي وحدة تامة لا تتجزأ.
أوليس مما يثلج الصدر ويبهج النفس أن يكون علماء الحديث قد سبقوا الغرب في هذا أيضا فنوهوا به؟ قال الإمام الحافظ مفتي الشام وشيخ الإسلام الشيخ تقي الدين الشهرزوري في مقدمته الشهيرة، وبمناسبة الكلام في معرفة آداب طالب الحديث:
3 «ليكتب وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام ولا ينتخب. فقد قال ابن المبارك، رضي الله عنه، ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت، وروينا عنه أنه قال: لا ينتخب على عالم إلا بذنب، وروينا أو بلغنا عن يحيى بن معين أنه قال: سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه الندامة.»
ومما لا بد من الإشارة إليه، قبل اختتام هذا الفصل، مساس الحاجة في العالم العربي اليوم إلى المشتغلين في التقميش في شتى العلوم العربية، ولا يختلف اثنان، فيما نعلم، في أن علماء العرب اليوم يعيشون في القرن العشرين، وإنهم مع احترامهم لما أنتجه السلف الصالح، ومفاخرتهم به، ينوون النهوض بثقافتهم وتراثهم القومي، إلى مستوى الأمم الرقية كي يتمكنوا من خدمة العلوم التي يشتغلون بها، ومن السير مع زملائهم الغربيين في مضمار التقدم والعمران. فالعلوم العربية اليوم في بدء نهضة مباركة، وعلماء العرب في بدء عمل عظيم. فليس أفيد والحالة هذه من الاشتغال في التقميش إن في اللغة أو في التاريخ أو في الفلسفة أو في الفنون العربية.
والمجال واسع من هذا القبيل. فإنه بإمكان البعض أن يتعاضدوا في تأسيس أو تشجيع المكتبات العمومية، وفي مقدور البعض الآخر أن يعنوا في التفتيش عن المخطوطات العربية في جميع المواضيع، ومن المستحب أن يقوم البعض في نشر مجلة أو مجلات ببليوغرافية، أو في نشر فهارس بعض المكتبات العمومية والخصوصية.
وقد قلنا، منذ عشرين سنة، عندما بدأنا بنشر الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا - قلنا، ولا نزال نقول: إن مؤرخي العصر الحاضر، وإن حسبناهم على مستوى واحد مع رصفائهم في العصور السالفة، فهم يفوقونهم، بما توافر لديهم من المصادر والمراجع الأولية، التي لم يتسن لأولئك الأسلاف الوقوف عليها.
الباب الثاني
العلوم الموصلة
لا بد للمؤرخ العصري المدقق، من ولوج باب آخر، كي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة. عليه أن يقلب ما قمش وينعم النظر فيه؛ ليرى إذا كان بإمكانه أن يدرك كنهه فيستعمله في تشييد ما يبني من صروح التأريخ، وإذا فعل سرعان ما يشعر بحاجته إلى ما نريد أن نسميه بالعربية العلوم الموصلة، والاستعارة في هذه التسمية من علم التفسير؛ فقد أجمع المفسرون على وجوب التمكن من العلوم الموصلة إلى علم التفسير قبل الشروع في فهم القرآن الكريم، وبيان معانيه، واستخراج حكمه وأحكامه، والعلوم الموصلة في عرف المفسرين إلى علم التفسير هي علم اللغة، وعلم النحو، وعلم التصريف، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وعلم القراءات، وأسباب النزول، وأحكام الناسخ والمنسوخ، وأخبار أهل الكتاب، وعلم أصول الفقه، وعلم الجدل.
Página desconocida
وقد وجدنا باختبارنا عندما خطونا خطوة التقميش في تاريخ العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أن الأصول لهذه الحقبة من تاريخنا ترد في العربية والتركية والإفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية والبولونية والروسية، وأهمها اللغات الخمس الأولى. فأسرعنا إلى التقاط ما ينقصنا منها، وكم كنا نود لو كان بإمكاننا أن نتعلم الباقي منها كي لا تكون استنتاجاتنا موقوفة على مقدرة المترجمين من هذه اللغات.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فإنه ليس لنا ما لبعض زملائنا في توريخ بعض الأزمنة مجموعات من التعريفات الفنية، ونحن، وإن كنا لا ننكر فائدة قاموس محيط المحيط للعلامة بطرس البستاني، فإننا لا نرى فيه جميع ما نطلبه من اللهجات العامية المحكية في عصره، وأما معجم المستشرق الهولاندي رينهاردت دوزي، فإن معظمه مبني على آداب العربية في القرون الوسطى؛ ولذلك فإن فائدته ضيقة النطاق محدودة الجدوى لمن يعنى مثلنا في تاريخ العرب في القرن التاسع عشر.
وهل لعلمائنا الأعلام أقطاب اللغة العربية وأعضاء مجمع فؤاد الأول للغة، أن يكفوا عن البحث في مثل الشاطر والمشطور والكامخ بينهما، والأرزيز والطرطران والعرعور والدويداء، فينصرفوا إلى التعاون في تنظيم العمل لوضع قاموس على مثال معجم أوكسفورد للغة الإنكليزية؟ فإنك لو طلبت كلمة أدميرل الإنكليزية في هذا المعجم العظيم تجد أولا مقدمة في أصلها العربي - أمير البحر أو أمير الماء - واشتقاقها منه، ووصولها إلى الإنكليز من عرب الأندلس وصقلية، بواسطة الإسبانية أو الإيطالية. وتجد ثانيا جميع معانيها الإنكليزية المستعملة الآن، العمومي والخصوصي الفني، مع الاصطلاحات المشتقة منهما، وتحت كل من هذه المعاني تجد كذلك الاستشهادات الكافية، باستعمالها في كتب أكبر أدباء الإنكليز وعلمائهم، منذ أن شاع استعمالها، في أوائل القرن الثالث عشر، حتى الجيل الذي دخلت فيه هذا القاموس العظيم. فقد ورد في الشرح على هذه الكلمة الدخيلة ما يزيد على الأربعين شاهدا، مأخوذة كلها من آداب اللغة الإنكليزية ما بين سنة 1205 وسنة 1888، ومرتبة جميعها بترتيبها التاريخي، لإظهار تطور المعنى، بتطور الظروف والأحوال. ومن محاسن هذا المعجم، أنك تجد فيه جميع هذه الاستشهادات مقرونة بذكر كاتبها الأول، وتاريخ استعمالها مع الإشارة إلى المجلد والصفحة الموجودة فيها، وقد ورد في الشرح على كلمة ست
SET
أكثر من مائة وخمسين معنى، وما ينيف عن الثلاثة آلاف وثلاثمائة استشهاد، من أهم كتب هذه اللغة ما بين سنة 900 وسنة 1900م.
ولدى إعادة النظر في بعض ما عثرنا عليه من الأصول المشار إليها، ألفينا رسائل رسمية متبادلة بين حكام ذلك العصر، توخى كاتبها نوعا خاصا من الخط العربي هو الديواني المعلق، ولا يخفى أن قراءة الخطوط العربية العادية لا تكفي للتيقن من قراءة الخط الديواني المعلق. فأخذنا عندئذ ندرس قواعد هذا الخط للتثبت من قراءة الأصول المكتوبة به، وقل الأمر نفسه عن الأختام المستعملة في هذه الرسائل. فلا بد لنا من معرفة المواد التي كانت تصنع منها هذه الأختام، وكيفية بصمها، مثلا، وعدد الأشخاص الموكلين بها، وغير ذلك من الأمور التي تقع اليوم في أوروبا، تحت علم «السفراجستيك».
ويشعر مؤرخ هذه الحقبة من تاريخ العرب بحاجة إلى أبحاث علمية، في أصول المخابرات الرسمية في مصر وسوريا والعراق وغيرها من البلدان المجاورة في القرنين الأخيرين؛ لأنه يظهر أن كتاب هذين القرنين كانوا يتمشون بموجب عادات مرعية، ففواتح مراسلاتهم، وغرضها المقصود، وخواتمها جميعها تنم عن وجود عادات في الكتابات الرسمية. قال أحد المقربين إلى الأمير بشير الشهابي الشهير - ولعله الشيخ ناصيف اليازجي: «وكل واحدة من هذه الطوائف (في لبنان) في الطبقتين أعني الأمراء والمشايخ، يلقبه الحاكم في كتابته له بالأخ العزيز. غير أن في ملحقات هذا اللقب اختلافا من وجوه كثيرة بين الأمراء. فإن الأمير، إن كان من بني اللمع يكتب له الحاكم، جناب حضرة الأخ العزيز الأمير فلان المكرم، حفظه الله - تعالى - أولا: مزيد الأشواق لمشاهدتكم في كل خير، والثاني كذا وكذا، وهذه الكتابة تكون في نصف طبق من الورق، وإن كان من بني رسلان: يكتب له مثل ذلك، ولكن، في ربع طبق من الورق، ولا يقول في أثناء كتابته، والثاني: وبعده، ومتى أراد أن يكتب اسم نفسه في آخر الكتابة قال: محبا مخلصا لا أخا، ولا يكتب لقب نفسه بل يكتب ثلاث نقط متصلة تحت اسمه، وتحتها نقطتان متصلتان. يشير بالأولى إلى شين شهاب وبالثاني حرف ب.»
1
وما إلى ذلك من قواعد منظمة متبعة كل الأتباع على ما يظهر.
وقد وجدنا بالاختبار أنه لا بد لنا في تحري الحقيقة التاريخية، من معرفة أنواع الحبر وألوانه، وأشكال الورق - من حيث الطول والعرض واللون والسماكة - وشركات إصداره إلى الأقطار العربية، وتمغاتها الشفافة عليه، وأصناف الأقلام وظروف استعمالها، في مختلف الدوائر والدواوين، ولا يخفى ما في درس هذه الأمور جميعها من الأهمية، لفهم محتويات المخابرات الرسمية وإيجاد تواريخها، وتثبيت أصالتها وعدم تزويرها، لا بد إذا من تعلم اللغات التي ترد فيها الأصول، ومن الاستعانة بمثل ما تقدم ذكره، من العلوم والفنون، وهل ننسى القرآن والتفسير والحديث ووجوب التضلع في هذه العلوم لمن يعنى بتاريخ العرب؟
Página desconocida
وهنالك طائفة أخرى، من العلوم الموصلة، لا مفر من الوقوف عليها، والاسترشاد بنظرياتها ونواميسها، كي نستعين بالماضي، على فهم الحاضر، وتدارك المستقبل. لا بد للمؤرخ العصري، من التبحر في العلوم الاجتماعية والفلسفية، إذا ما أراد أن ينظر إلى باطن المجتمع الماضي، ليتوصل إلى العوامل الأساسية، التي أثرت في عقول السلف، ودفعتهم لإحداث ما حدث من وقائعهم، إن في الحرب أو في السلم، وقد أظهر علماء الاجتماع، كل في دائرة اختصاصه، أن كل حادث مضى، إنما هو مظهر لقوى شتى؛ اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية وغير ذلك، تضافرت في إبرازه إلى حيز الوجود؛ ولذا كان محتما على المؤرخ المدقق، إذا ما أراد فهم حقيقة الماضي، أن يحيط علما بهذه القوى، وأن يطلع على نتائج أبحاث العلماء، في جميع العلوم الاجتماعية.
وهل يختلف اثنان، في أنه يجب على مؤرخ العلوم الرياضية، أن يكون مؤرخا ورياضيا من الطبقة الأولى، وهل بإمكان من يجهل العلوم الرياضية من المؤرخين، أن يبت في تفوق علماء اليونان على علماء الشرق القديم، في مضمار علمي الهندسة والفلسفة الطبيعية؟ أو أن يحكم فيما إذا كان علم الجبر وعلم المثلثات من ابتكارات العرب أو لا؟ أو أن يقدر جهود لابلاس ونويتن ومونج حق قدرها؟ أو ليس من المضحك أن يتصدى للحكم على ابتكارات أينشتاين من لا يفقه شيئا من الرياضيات العالية؟ وقل الأمر نفسه عن تاريخ العلوم الطبيعية والطب وغير ذلك.
الباب الثالث
نقد الأصول
الفصل الأول: التزوير في الأصول والدس فيها، ووجوب التثبت من صحتها وأصالتها
والآن، وقد جمعنا الأصول، وتذرعنا بالعلوم الموصلة إليها، يجدر بنا أن نفكر قليلا في الأمر، قبل أن نخطو خطوتنا الثالثة.
هل يبدأ المؤرخ، فور انتهائه من درس العلوم الموصلة، في مطالعة الأصول لاستخراج مكنوناتها، أم يتربص قليلا للنظر في أصالة ما لديه منها (أي من الأصول)؟
وهل من مبرر للتردد في هذا الأمر؟ فلو بدأنا فور انتهائنا من العلوم الموصلة في استخراج المهم من أخبار الأصول، وزاولنا العمل مدة من الزمن، ثم تيقنا بعد ذلك أن ما اعتبرناه أصلا من الأصول، هو في الحقيقة أثر من آثار المتخلفين غير المعاصرين، أو أنه وضع خصيصا للمغالطة والتضليل، أقول: لو بدأنا بمثل ما تقدم ذكره، وتيقنا وقوع التضليل والتزوير، لضاع وقتنا سدى ، وأصبحنا من الخاسرين .
فعلى المؤرخ إذا، عند انتهائه من العلوم الموصلة، أن يتأكد، أولا: من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوها من كل دس أو تزوير، ولعله من المفيد أن نبدأ هذا البحث، باستعراض بعض ما اختبرناه من هذا القبيل.
لما جاءت اللجنة الدولية، لتدرس قضية البراق الشريف، وقدم سماحة الحاج أمين أفندي الحسيني وثائقه الرسمية، جاهر بعض المعاكسين بشكهم في صحة وثيقة ترجع إلى زمن اختصاصي. فطلب إلي عندئذ بعض الأصدقاء، أن أستشف هذه الوثيقة من الوجهة العلمية الفنية التاريخية، فلبيت الطلب.
Página desconocida
وثيقة الحاج أمين أفندي الحسيني قطعة من الورق الصكوكي القديم، يبلغ طولها 27 سنتمترا ولا يتجاوز عرضها ال 14، وهي مكتوبة بالحبر الأسود الإستانبولي، وموجهة من محمد شريف «حكمدار بر الشام» في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف آنئذ، وهي مؤرخة في 24 ربيع الأول سنة 1256ه، الذي يوافق 27 أيار سنة 1840م، وهذا هو نصها بالضبط:
افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام، أخينا السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف حالا: إنه ورد إلينا أمر سامي سر عسكري مضمنه صورة إرادة شريفة خديوية صادرة لدولته يعرب مضمونها العالي أنه حيث قد اتضح من صورة مذاكرة مجلس شورى القدس الشريف بأن المحل المستدعين تبليطه اليهود هو ملاصق إلى حائط الحرم الشريف، وإلى محل ربط البراق، وهو كائن داخل وقفية حضرة أبو مدين (قدس سره) وما سبق لليهود تعمير هكذا أشياء بالمحل المرقوم، ووجد أنه غير جائز شرعا، فمن ثم لا تحصل المساعدة لليهود بتبليطه، وأن يتحذروا اليهود من رفع الأصوات وإظهار المقالات ويمنعوا عنها، فقط يعطي لهم الرخصة بزياراتهم على الوجه القديم، وصادر لنا الأمر السامي السر عسكري بإجراء العمل بمقتضى الإرادة المشار إليها، فبحسب ذلك اقتضى إفادتكم بمنطوقها السامي لكي، بوصوله، تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم في 24 ر 1 سنة 256 محمد شريف.
جرنال 368 نمرة 39
أصلية إذا أم مزورة؟ نقول: لا بد لنا للوصول إلى الحقيقة في مثل هذه الأحوال من تفحص هذه الوثيقة التاريخية من وجهتيها الخارجية والداخلية، فنتذرع بما يسميه المؤرخون الدليل الظاهري والدليل الباطني. فلنبدأ بالظاهر الملموس ولندقق بالورق أولا ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحبر والقلم فالخاتم، فعادات المراسلة في ذلك العهد، فاللغة والأسلوب.
أما ورق هذه الوثيقة فإنه ورق الحكومة المصرية بالذات؛ إذ إنه صكوكي قوي يتفق من حيث تركيبه الكيماوي وتوزيع أليافه، وتمغته الشفافة مع الألوف المؤلفة من وثائق الحكومة المصرية، في ذلك العهد التي لا تزال محفوظة في سراي عابدين الملكية، وفي جامعة بيروت الأميركية، وفي خزانات المؤسسات والبيوتات الكبيرة في مصر، وفي الأقطار الشامية، وحبر هذه الوثيقة هو حبر وثائق الحكومة المصرية في ذلك العهد، وأكثر الوثائق الصادرة عن حكام ذلك العصر كانت تكتب بالحبر الإستانبولي، وهو مزيج كيماوي بسيط للغاية ومؤلف من كمية معينة من الكاربون التجاري، وقدر محدود من الصمغ والماء، وبإمكان من يود التأكد من هذا الأمر، أن يتيقنه بالمكروسكوب أولا، ثم إن أراد بواسطة التحليل في المختبر، ولدى التدقيق بالمكرسكوب والنظر في الأثر الذي تركه القلم في خط هذه الوثيقة وجدنا أنها كتبت بقلم قصبي مما يتفق مع عادات الكتاب والنساخ في دواوين ذلك الزمن، وقل الأمر نفسه عن الخط، فإنه من النوع الذي شاع في دواوين الحكومة المصرية ومجالسها، الخط في عهد محمد علي باشا وابنه إبراهيم.
وليس في عنوان هذه الرسالة «افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام أخينا السيد أحمد ... إلخ»، أو في خاتمها «لكي، بوصوله تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم.» نقول ليس في عنوان هذه الرسالة أو في خاتمها من حيث المفردات المستعملة أو الأسلوب ما يوجب الشك في أصليتها.
هذا، وفي الانتقال فجأة من العنوان إلى الغرض المقصود «إنه ورد لنا أمر سامي ... إلخ»، وغض النظر عن التحية التي كانت ترد في غالب الأحيان، بعد العنوان وقبل عرض الغرض المقصود، كقول عبد الله باشا مثلا، حينما خاطب متسلم بيروت وأعيانها سنة 1241ه: «بعد التحية والتسليم بمراسم الإعزاز والتكريم المنهي إليكم ... إلخ»؛ نقول: إنه في الانتقال فجأة من العنوان إلى الغرض المقصود وفي إهمال التحية، دليل آخر على صحة هذه الرسالة وعدم تزويرها. فإن الولاة والحكام في الأقطار الشامية، قبل إبراهيم باشا ومحمد شريف باشا وبعدهما، كانوا شديدي التمسك بالتحية المشار إليها أعلاه في مراسلاتهم الرسمية مع متسلمي المدن وغيرهم من موظفي الحكومة.
ونرى، بعد هذا كله في جهل كاتب هذه الرسالة لقواعد اللغة العربية، دليلا آخر نستأنس به على صحتها وأصالتها؛ فكتاب الدواوين في النصف الأول من القرن الماضي في مصر والشام والعراق، كانوا يجهلون قواعد لغتهم ويكثرون في بعض الأحيان من استعمال المفردات الأعجمية، عند مساس الحاجة إليها، ولا يستثنى من ذلك إلا ديوان حاكم لبنان الأمير بشير الشهير.
وهي، لعمري حقيقة ناصعة تبدو للباحث حالما يرجع إلى المخابرات الرسمية المحلية في ذلك العهد، ويبدأ بتفحصها واستشفافها، وطريقة التاريخ هذه الوثيقة، هي الطريقة المتبعة في جميع أوراق الحكومة المصرية في ذلك العصر، كما أبنا ذلك بالتفصيل في مقدمتنا للأصول العربية في تاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وكذلك الإشارة إلى الجرنال والعدد فإنها موجودة في قسم كبير من أوراق الحكومة المصرية التي صدرت في سنة 1256ه.
وهنالك طائفة من الأدلة يتذرع بها المؤرخ أحيانا بإمكاننا أن نقول فيها: إنها ظاهرية وباطنية في آن واحد. فمن هو محمد شريف باشا الذي صدرت عنه هذه الوثيقة؟ ومن هو أحمد أغا دزدار الذي وجهت إليه؟ وهل كان الأول حاكما عاما يصدر مثل هذه الأوامر، والثاني متسلما على القدس يتلقى أوامره من الأول؟ وهل قاما بأعباء وظيفتيهما في شهر ربيع الأول من شهور سنة 1256ه؟ وغير ذلك من الأدلة من نوع ما تقدم. فهي باطنية لأنها تتعلق بمضمون الوثيقة، وظاهرية؛ لأنها ليست مما تنطق به الوثيقة، وإنما تستخرج من مصادر أخرى مستقلة كل الاستقلال عن الوثيقة التي نحن بصددها.
Página desconocida
ولحسن الحظ لا يزال قسم كبير من أوراق الحكومة في ذلك العصر محفوظا في سراي عابدين الملكية، وبإمكان المؤرخ أن يرجع إليه للتثبت مما تقدم، وبإمكاننا نحن - بعد اطلاعنا على محفوظات السراي في عابدين - أن نصرح، دون تردد، أن محمد شريف باشا كان حاكما عاما على الأقطار الشامية من أوائل سنة 1248ه حتى أواخر سنة 1256ه، ومما لا شك فيه أيضا بعد الاستناد إلى محفوظات عابدين الملكية وسجلات المحكمة الشرعية في القدس أن أحمد أغا دزدار كان قائما بأعمال المتسلمية في القدس، في شهر ربيع الأول من شهور سنة 1256ه، وأن محمد شريف باشا كان يسيطر على أعمال متسلم القدس وغيره من حكام المدن والمقاطعات في جميع الأقطار الشامية آنئذ، وأنه كان بدوره يتلقى أوامره من محمد علي باشا وابنه السر عسكر إبراهيم باشا كما تنص الوثيقة، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، الإشارة إلى اطلاع عزيز مصر على قضية البراق، وصدور الأمر عنه بمنع اليهود عن تبليط محل ربط البراق، واستعماله للصلاة وإجراء بعض الطقوس الدينية فيه. فالبت في مثل هذه الأمور الطائفية كان من صلاحية العزيز في مصر، لا يشاركه فيه أحد من الموظفين في حكومته.
والدليل الباطن على صحة هذه الوثيقة متنوع أيضا. فلو تفحصنا محتويات هذه الوثيقة وغرضها المقصود، نجد أنها توافق في روحها ما نعمله من تاريخ علاقة اليهود بمحل ربط البراق، وما نعرفه عن موقف المؤسسات الإسلامية والحكومات المحلية من هذه القضية في ذلك العهد.
قال الرحالة روبنسن المشهور، الذي زار القدس عام 1838 ما نصه: «مباح لليهود أن يشتروا حق الدنو من مركز هيكلهم، وحق الصلاة والبكاء على خرابه وتبدد أمتهم.»
وقال القنصل فن الإنكليزي الذي تولى إدارة القنصلية البريطانية في القدس، ما بين سنة 1845 وسنة 1863 ما ملخصه: «يدفع الحاخام باشي إلى الأفندي الذي يجاور المبكى ثلاثمائة ليرة إنكليزية كل سنة، بدل الإذن له ولليهود معه أن يصلوا هناك.» ولعل الأفندي المشار إليه هنا هو وكيل وقفية أبي مدين، كما في الوثيقة التي نحن بصددها. هذا ولا يخفى ما كان يؤديه اليهود من هذا القبيل إلى السلطات الوثنية، فالمسيحية قبل دخول المسلمين إلى هذه البلاد. أما رتر الإلماني، الذي عاصر زمن الوثيقة، والذي وضع مؤلفه العظيم، عن جغرافية فلسطين، حوالي سنة 1845، فإنه يقول: إن قسما مهما من مساكن اليهود نفسها، ببيت المقدس، كان ملك الحرم الشريف.
ومن يطالع رحلات الفرنجة في هذه البلاد، حوالي سنة 1840، يجد أن قسما من اليهود آنئذ، في أوروبا وأميركة وفلسطين، كان ينتظر مجيء المسيح وجمع الشمل كما ورد في بعض الأسفار المقدسة، وكان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة على كلام دانيال النبي، في الإصحاح الثامن من سفره الكريم؛ حيث يقول: «فسمعت قديسا يتكلم قال قديس لفلان الذي يتكلم معه إلى متى الرؤيا رؤيا المحرقة الدائمة والمعصية المدمرة، وحتى متى يجعل القدس والجند مدوسين. فقال لي إلى ألفين وثلاثمائة مساء وصباح ثم يطهر القدس.» كان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة، على هذه النبوة، فيقول: إن المراد باليوم فيها هو السنة، وأن المدة تبتدئ من سنة 456ق.م لقوله تعالى: «إن سبعين عاما حددت على شعبك وعلى مدينة قدسك.» فيضيفون أربع سنوات إلى التاريخ المسيحي لأجل تصحيحه ويجمعون 456 مع 1844 (السنة 1840 المصححة) فيصير العد 2300 كما في النبوة.
وكان هذا البعض من اليهود يعتقد أيضا أنه لا بد من تعمير المدينة المقدسة وتجديد بناء الهيكل، كما ورد في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر حزقيال النبي؛ حيث يقول: «وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي، وآتي بكم إلى أرضكم ... وأسكنكم في المدن، وتبنى الأخربة.»
ووافق هذا المعتقد مجيء السر موسى مونتوفيوري، الأراضي المقدسة، وإكثاره من العطاء كما تنص على ذلك الأصول التاريخية، وكما تشهد به المستعمرة التي لا تزال تحمل اسمه حتى هذه الساعة.
وإذا تذكرنا أن هؤلاء اليهود عاشوا في عقد من الزمن، كثر فيه تسامح الحكومة المصرية وتساهلها إذا تذكرنا كل هذه الأمور، سهل علينا الاستئناس بأمر التبليط في الوثيقة الدزدارية، واضطررنا أن نرى في موافقة التاريخ لمضمونها دليلا آخر على أصليتها.
ولنا في موافقة مضمون هذه الوثيقة، لما جاء في محفوظات سراي عابدين الملكية دليل آخر على صحتها وعدم تزويرها. فالمحفظة 259 من محافظ عابدين تحفظ لنا شكوى شيخ المغاربة في القدس في سنة 1256 على اليهود في موضوع الوثيقة التي نحن بصددها، وقد حفظ لفا مع هذه الشكوى قرار طويل لمجلس شورى القدس في الموضوع نفسه، وفي هذا القرار بيان واضح لحق المغاربة واعتداء اليهود، وبين إمضاءات أعضاء المجلس إمضاء لممثل الطائفة اليهودية فيه، فتأمل.
فبناء على ما نعرفه من نوع ورق هذه الوثيقة، وقاعدة خطها، وأسلوب إنشائها وطريقة تاريخها وختمها، وبناء على موافقة النصوص التاريخية لمضمونها، نرانا مضطرين أن نقول بأصليتها وعدم تزويرها.
Página desconocida
ومما اختبره زميلنا الأستاذ جبرائيل جبور
1
من هذا القبيل نوع من التزوير لم يسلم منه كثير من الأصول، وذلك أن أصحاب الكتب الخطية، كانوا في بعض الأحيان، يضيفون على الهامش أو في أواخر الفصول والأبواب، أخبارا أو آراء جديدة تتعلق به. ثم تمر الأيام، وينسخ بعض هذه الكتب، فتدخل الزيادة في الأصل ويثبت الشرح في المتن، ويختلط الأمر على المتأخرين، فينسب كل ما في النسخة الخطية المتأخرة إلى المؤلف، وهذا النوع من التزوير هو ما نريد أن نسميه الدس، مقصودا كان أو غير مقصود، وفي محيط المحيط: دس الشيء ودسه فيه يدسه دسا أدخل ودفنه تحته وأخفاه.
وقد وجد الأستاذ جبور، عندما درس كتاب العقد لابن عبد ربه،
2
أن ناشري الطبعات التي بين أيدينا لهذا الكتاب، اعتمدوا على نسخة خطية، دست فيها جملة كثيرة من الأخبار، فأثبتوا الأصل والزيادة في طبعاتهم، دون أن ينتبهوا إلى الأمر أو يشيروا إليه، والغريب أن بعض هذه الأخبار المدسوسة، كانت ظاهرة، لا يحتاج أمر اكتشافها إلى كثير من العناء أو التدقيق.
فإنك إذا قرأت العقد ترى أنه قد ترجم فيه، في كتاب اليتيمة الثانية،
3
لأربعة خلفاء من بني عباس، هم الراضي والمتقي والمستكفي والمطيع، وكلهم توفي بعد وفاة ابن عبد ربه؛ أي بعد سنة 328ه، وترى في ترجمة الأخير أنه قد خلع نفسه سنة 363ه؛ أي بعد موت ابن عبد ربه ب 35 سنة. أوليس من المؤسف أن يقدم الناشر المحلي على مثل ما تقدم بعد أن يكون العلامة تيودور نولدكه قد نبه في كتابه أمراء غسان ، إلى هذا الدس؟!
4
Página desconocida
ولم يكتف الأستاذ جبور في وقوفه مع العلامة نولدكه على إظهاره هذا القدر من الدس. بل دفعه الأمر إلى مراجعة الباب كله. فإذا هو يستهل بالعبارة: «فرش ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم وحجابهم
5
وهي المرة الوحيدة التي تستعمل فيها كلمة فرش في أول باب ما، إذ أن استعمالها في العقد كله واقع في أوائل الكتب لا في أوائل الفصول والأبواب.» وقد نبه إلى ذلك ابن عبد ربه نفسه في المقدمة؛ حيث قال: «وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره، من متخير جواهر الأدب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجواهر ولباب اللباب.» وإنما لي فيه، تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لدور كل كتاب
6
زد على ذلك، أنه ليس في الباب هذا، فرش كما في أوائل الكتب، وإنما هو ذكر للفرش ليس إلا؛ حيث ترى أن الباب يبدأ بأبي العباس السفاح، دون توطئة أو تمهيد، أو فرش كما اصطلح ابن عبد ربه أن يقول.
وبحث الأستاذ جبور في فرش اليتيمة الثانية، يطلب ذكر هذا الباب فلم ير لذلك أثرا، وطلب فرش الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعها، وهو الكتاب الذي يلي اليتيمة الثانية، يبحث عن ذكر لأخبار بني العباس، فلم يعثر على شيء. ثم عاد إلى مقدمة العقد نفسه، وفيها جدول بكتب العقد وفصولها، فلم ير في شرحه سوى «تم كتاب اليتيمة الثانية» في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة»، وهنا رأى الأستاذ جبور أنه يحق له أن لا يرتاح إلى أن هذه الأخبار عن بني العباس قد دونها ابن عبد ربه، وأن يزعم أنها ربما قد دست عليه بعد موته، أو أن قسما منها قد دس، ونقل القسم الآخر من موضع آخر؛ حيث إنه كان الأولى بابن عبد ربه - إن كان قد ألف هذين البابين - حملا على ما عرف عنه من حسن التبويب والتصنيف، وتبعا لما أخذ على نفسه في مقدمة عقده؛ حيث قال: «ثم قرنت كل جنس منها إلى جنسه فجعلته بابا على حدته؛ ليستدل الطالب للخبر على موضعه من الكتاب ونظيره من كل باب.» كان الأولى به أن يضع هذين البابين في الكتاب السابق - كتاب العسجدة الثانية - حيث يبحث في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، وحيث نرى بابا خاصا في أخبار الدولة العباسية.
7
ولابن عبد ربه، فصل في هذا الكتاب المذكور، يدور على توقيعات الخلفاء، فيه باب في توقيعات بني العباس،
8
ليس فيه توقيع لخليفة بعد المأمون، والغريب أن الذي دس في المواضع السابقة، قد فاته الدس هنا، وأن وقوف ابن عبد ربه عند المأمون ليحملن على الظن، أن أكثر الأخبار التي وردت في العقد، عن خلفاء بني العباس، ممن عقب المأمون، دست على ابن عبد ربه، بعد موته، وليس غريبا أن يصدق هذا الظن، لا سيما ونحن نعلم أن ابن عبد ربه، قد أخذ أكثر أخباره، عن كتب مدونة، لمؤلفين سبقوه، أكثرهم لم يدون أخبار من عقبوا المأمون. زد على ذلك، أن ابن عبد ربه، لم يذكر من توقيعات الأمراء المختلفين لأحد بعد طاهر بن الحسين، أحد قواد المأمون.
Página desconocida
وهناك أمر آخر، دفع الأستاذ جبور إلى الظن في أنه قد طرأ على العقد بعض التغيير أو التحريف أو الزيادة، هو أن ترتيب كتب العقد، في معجم الأدباء لياقوت، يختلف عما هو عليه في العقد نفسه وفي مقدمته. على المؤرخ إذا بعد جمع الأصول وبعد الانتهاء من درس العلوم الموصلة، أن يتأكد من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوها من كل دس أو تزوير، ويتضح مما تقدم ذكره أعلاه أنه بإمكان المؤرخ أن يستعين بطائفتين من الأدلة. فهنالك أدلة باطنية، يتوصل إليها بعد درس نص الأصل نفسه، وأدلة ظاهرية، يقف عليها بعد درس الأصول الأخرى، أو بعد التمكن من بعض العلوم الموصلة. هذا ولا نرى بدا في هذا الصدد، من الإشارة إلى وجوب التريث، والترزن والتثبت. فلا فائدة ترجى من التهالك في الأمر والإسراع في العمل، ولا يخفى أن التثبت من صحة الأصول وأصالتها أمر صعب الممارسة، عزيز المنال.
وحذار حذار من الاستسلام إلى الأول بالثقة العمياء والاسترسال إليها؛ إذ لا يجوز للمؤرخ أن يكون قنوعا يثق بكل أحد أو يقنا يصدق كل ما يقرأ.
الفصل الثاني: التعرف إلى المؤرخ المجهول وتعيين الزمان والمكان
وهب أننا تثبتنا من صحة الأصل وخلوه من كل دس أو تزوير، فهل ننقاد إلى نصه وننزل على حكمه؟ أم نمتنع عن ذلك، ونعرض عن الطاعة، إلى أن نتثبت من هوية المؤرخ ونتعرف إلى شخصيته ونسبر غوره، وندرس المكان الذي عاش فيه، والزمان الذي دون فيه أخباره، أوليس من فرق، في قبول الشهادة وردها، بين رواية رئيس حكومة، عن أعماله في أثناء قيامه بأعباء الوظيفة، ورواية لحام عن الأعمال نفسها؟ أو بين رواية دونت في أثناء وقوع الحوادث المروية، وغيرها دونت بعد وقوع الحوادث بربع قرن من الزمن؟ بلى! فمن المحتم أن نتعرف إلى شخصية المؤلف، ونتثبت من أمياله ونزعاته ودرجة علمه وذكائه، واتصاله بالحوادث التي يروي أخبارها، ولا بد من الوقوف على الزمن الذي كتبت فيه هذه الأخبار، والمكان الذي سطرت فيه.
وإذا تأملنا هذا الأمير مليا نرى أن الأصول هي في غالب الأحيان صلتنا الوحيدة بحوادث الماضي، فإن أخبرتنا الخبر على حقه توصلنا إلى الحقيقة التي ننشدها، وإن أرجفت فخاضت في الأخبار المخطئة، أو الكاذبة أوقعتنا في مهاوي الضلال والتضليل؛ ولذا فإننا نرى لزاما في أعناقنا أن نتعرف إلى شخصية المؤرخين الذين نصوا هذه الأصول كي نمزق ظلمات الإشكال ونكشف معالم الهدى، ومهمتنا من هذا القبيل هي أصعب بدرجات من مهمة القضاة والمحامين، إذ إن هؤلاء يتحدثون إلى من ينقل الخبر إليهم ويمتحنونه بالاستنطاق، فهو مخبر حي ماثل أمامهم. أما مخبر المؤرخ فإنه ميت خلا مكانه وطويت صحيفته.
ومما يجدر ذكره من هذا القبيل، أنه في أواخر عام 1926 فاجأنا صديق لنا، بمخطوطة صغيرة، تحفظ أخبار الدولة المصرية العلوية في سورية، في زمن إبراهيم باشا، وبعد أن تصفحناها قليلا وجدنا أنها مغفلة، لا تحمل اسم مؤلفها، ولا تشير إلى الزمان الذي كتبت فيه، ولا إلى المكان الذي دونت فيه أخبارها، فدفعنا حب الاستطلاع إلى فحصها والتنقيب عن سرها للتعرف إلى مؤلفها، وتعيين محل إقامته، والزمان الذي دون فيه أخباره .
وبعد أن قلبنا الطرف فيها، ونظرنا في أعطافها ومطاويها، ألفيناها تضم بين دفتيها، لا أقل من ثلاثة مؤلفات مختلفة، تحتوي جميعها نتفا من أخبار إبراهيم باشا في الأقطار الشامية وبر الأناضول. فالصفحات الثلاث الأولى، تختلف عن الخمس التي تليها، والصفحات الخمس هذه تختلف بدورها عما قبلها وبعدها.
وتسهيلا للبحث، وإيراد بعض البراهين نسمي الصفحات الثلاث الأولى «ألفا»، والخمس التي تليها «باء» والباقي «جيما». فلو درسنا ما دون فيما سميناه «ألفا» وجدناه يبتدئ من حصار عكا سنة 1831 وينتهي بموقعة قونية، سنة 1832، ولو انتقلنا إلى «باء» وجدنا أن مؤلفها لا يبتدئ بذكر الحوادث التي وقعت بعد معركة قونية، وينتهي بآخر أخبار الدولة المصرية في سورية، كما هو منتظر منه فيما لو كان هو هو الذي كتب «ألفا» من قبل، بل نراه يكرر أخبار «ألف» ويقف عند ذكر فتح دمشق، وهكذا يفعل كاتب «جيم» فإنه يبتدئ من حصار عكا أيضا، ويكرر أخبار بعلبك والزراعة وزحلة ... إلخ، وينتقل بعد تكرار هذه إلى ذكر الحوادث التي لم تذكر في «ألف» و«باء» والتي حدثت بعد موقعة قونية، ولدى التدقيق في تواريخ الحوادث، وجدنا اختلافا بين روايات «ألف» و«باء» و«جيم». فإن واضع «ألف» لا يستعمل إلا التاريخ الهجري، وأما واضع باء فإنه يتشبث بالتاريخ المسيحي. ثم إن واضع «ألف» يؤرخ خبر توجه عبد الله باشا إلى مصر في 20 ذي الحجة سنة 1247، وأما «جيم» فإنه يؤرخ الخبر نفسه في 29 ذي الحجة من السنة نفسها، وبينما واضع «ألف» يؤرخ معركة حمص في 9 صفر سنة 1248، فإن واضع «جيم» يذكرها مع حوادث ربيع الأول من السنة نفسها، وفي الهامش، على خلاف عادته، يقول: إن إبراهيم باشا دخل حمص في 8 تموز نهار الأحد. كذلك نرى واضع «ألف» يقول: إن الأمراء الشهابيين ملحما وبشيرا وقاسما، توجهوا إلى إمارتهم، في 25 جمادى الأولى من سنة 1248، بين أن واضع «جيم» يجعلنا نظن أن توجههم هذا، كان بين الثاني والثامن من الشهر نفسه. أفلا يصح لنا بعد هذا الاختلاف، أن نقول إن مخطوطتنا، إنما هي مجموعة لتواريخ، لا تاريخ واحد؟
أما مؤلف القسم الأكبر من هذه المخطوطة، «جيم»، فإنه، مجهول عندنا، لا نعرف اسمه، ولا مهنته، ولا نعلم عنه شيئا، سوى ما يمكننا أن نتنسمه من أخباره في سياق كلامه عن حوادث هذه المخطوطة. فإننا لو أحصينا مثلا، جميع ما ذكره في «جيم» من الأخبار، وجدنا أن ثلثيه أو أكثر، عن لبنان والثلث الآخر عن باقي الأقطار الشامية وبر الأناضول، ولو أعدنا النظر فيما أثبته عن لبنان، وجدنا نحو ثلثيه عن دير القمر وبيت الدين، والثلث الآخر فقط عن سائر المقاطعات اللبنانية، ولو أنعمنا النظر في حوادث الدير وبيت الدين، لألفيناها أدق من غيرها وأكثر تعيينا وضبطا. نراه مثلا يؤرخ وفاة امرأة حنا الحصباني في دير القمر، وحضور المعلم بطرس كرامة من بيت الدين إلى بيته في الدير، وظهور الطاعون في البلدة نفسها، ويترك من أخباره سائر المقاطعات اللبنانية ما هو أهم منها بدرجات، ونراه يقول: «دخل إبراهيم باشا إلى بتدين في 29 أيلول بعد الظهر، حلت عساكره الظافرة في غربي سحرا الدير، عند البيادر، وأنه كان لديه خمس آليات ومدفعان وعشرون جمل جباخانه.» ويكتفي في كلامه عن بعض حوادث كسروان، بقوله: «شاع خبر» أنه صار حرب في كسروان بين عثمان باشا في عين الشقيق وأهل كسروان.
ثم نراه يشير إلى المعلم بطرس كرامة بقوله، حسب عادة أهل الدير، «المعلم»، وإلى رئيس كنيسة التلة في الدير بلفظة «الريس» فقط، ويذكر غيرهما، من أعيان سائر مقاطعات لبنان، بكامل أسمائهم. أفلا يصح لنا، بعد هذا كله، أن نقول إن المؤلف إن لم يكن لبنانيا ديرانيا، فقد كان من المقيمين في الدير أثناء وقوع الحوادث المروية في المخطوطة؟
Página desconocida
بقي علينا أمر آخر، وهو أن ندرس خط هذه المخطوطة، ونقابله بما بقي من خطوط تلك الأيام، لنتوصل إلى معرفة كاتبها، وهكذا فعلنا. فإننا قصدنا المكتبة البطريركية، في بكركي، وطلبنا رسائل الحقبة 1831-1841 فوجدنا بعد العناء الطويل ، عدة رسائل مكتوبة بالخط نفسه، وممضاة هكذا: «القس أنطون الحلبي مدير أنطونياني»، وحينما فحصنا محتويات هذه الرسائل، وجدنا أن نفسها هو نفس مخطوطتنا، وموضوعها موضوع هذه المخطوطة بعينه، ووجدنا أيضا أن لهجة هذه الرسائل ولغتها هما لهجة مخطوطتنا ولغتها.
فقصدنا عندئذ غبطة البطريرك الماروني ماري إلياس حويك، وسألناه عن القس أنطون المذكور، لنعرف علاقته بالأمير الشهابي، الكبير. فتكرم علينا بالجواب وأكد لنا أنه؛ أي القس أنطون المذكور، كان من أقرب المقربين للأمير الكبير. فشجعنا هذا الجواب الصريح على استقصاء أخبار القس المذكور، وأشار علينا سيادة المطران عبد الله بمراجعة الأب عمانوئيل البعبداتي الأنطونياني، شيخ رهبانيته ومؤرخها. فطلبنا كتابه في تاريخ الرهبانية المذكورة، ووجدنا أن القس أنطون الحلبي كان أستاذ الأب عمانوئيل، وأنه سكت بتدين، وتقرب من الأمير الكبير.
9
وكتب إلينا الأب عمانوئيل نفسه، ردا على كتاب منا إليه، ما نصه: «بعد افتقاد خاطركم الكريم أعرض أني تشرفت بكتابكم المؤرخ في 16 كانون الثاني المنصرم (1927) ترغبون إلي أن أفيدكم عن المرحوم القس أنطون الحلبي المدبر الأنطوني، فيما إذا كان يدون أخبار أيامه، أو أنه كتب رسالة في تاريخ الأمير الشهابي الكبير أو إبراهيم باشا المصري في حروب سوريا، فأجيب أن القس أنطون المذكور عاش في أيام الأمير بشير الكبير، وكان مستشارا في ديوانه، وقد كتب عن أحكام الأمير، وعن حروبه وحروب إبراهيم باشا في سوريا، ولسوء الحظ أن تاريخه الخطي قد حرق في دير مار أنطونيوس بعبدا، في الحوادث التي جرت سنة 1845 بين النصارى والدروز. فكونوا على ثقة مما بيدكم من كتاباته؛ لأنه كان في عصره من الممتازين الذين يركن إلى قولهم، وأنا في حال ترهيبي كان المرحوم القس أنطون، المحدث عنه، مرشدي. رحمه الله رحمة واسعة. عن دير مار شعيا الموارنة في 3 شباط سنة 1927.»
أفلا يصح لنا، بعد هذا كله، أن نقول إن القس أنطون الحلبي هو في الأرجح مؤلف هذه المخطوطة وكاتبها، وأن النسخة الموجودة أمامنا الآن هي المسودة، بدليل ما نجده فيها من الضرب والتصحيح والزيادات على الهوامش؟
ويستدل من نوع ورق هذه المخطوطة، وهو صكوكي قديم معتدل في السماكة، ومن ضبط الحوادث المروية فيها، وزيادة تدقيق المؤلف في تعيين هذه الحوادث وترتيبها في يومياتها، أنها في الأرجح كانت تدون في زمن وقوعها. لأنه ليس من المحتمل أن يذكرها كاتبها، بتمامها وضبطها، بعد وقوعها بزمن بعيد، وفي بعض عبارات المؤلف واصطلاحاته، دليل آخر على تدوين حوادث هذه المخطوطة، في زمن وقوعها. فإنه قال في أثناء كلامه عن حوادث 19 تموز سنة 1840 ما نصه بالحرف: «بتاريخه شاع خبر أن في الليل الماضي، أهل المتن المجتمعين مع الأمراء، في وادي الشياطين تحت بسكنتا، قاموا وكبسوا الوزر الذين في حمانا.»
وجاء أيضا في أخبار 12 تشرين الأول ما نصه: «ووصل الوزير لنهر الصفا، وتواجه مع حنا بحري، وأفهمه أن الأمير قام لجزين، ... غضب ورجع إلى الصفا، وهذا النهار قام إلى مكسة.»
وجاء في الصفحة 108 من الكراس الثاني ما يأتي: «وقيل إنه سيتوجه إلى رومية ... إلخ.» فتأمل.
بإمكان المؤرخ المدقق إذا أن يستعين بمضمون أصل من الأصول للتعرف إلى شخصية مؤلفه، وإلى المكان الذي ألف فيه وزمن التأليف، وبإمكانه أيضا أن يتذرع بأخبار غيره من المعاصرين للتأكد مما تقدم أو لزيادة التعيين والتحديد، وعليه أيضا أن يستنير بالعلوم الموصلة لعله يفلح، ولا فائدة هنا من إعادة الكلام في العلوم الموصلة وكيفية استخدامها توصلا إلى هذه الغاية، وقد سبق الكلام فيها فليراجع في محله.
وقد تخفق آمال المؤرخ في تعيين شخص المؤلف المجهول، وتحديد الزمن الذي كتب فيه والمكان الذي عاش فيه، وعندئذ عليه أن يقنع بما قسم له ويرضى بشخصية المؤلف، وإن خفيت عليه معرفة اسمه، وإذا استحال عليه تحديد الزمن بالضبط، فعليه أن يضع لزمن وقوع الحوادث حدا أقصى وحدا أدنى؛ كيما يحصره أو يحصرها بينهما؛ أي إنه يجب عليه أن يعين التاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث قد وقعت قبله، والتاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث نفسها قد وقعت بعده، وهو أمر ميسور سهل الملتمس في غالب الأحيان، وذلك أن المؤلفين المؤرخين يشيرون أحيانا إلى بعض الحوادث التي وقعت في أثناء قيامهم بعمل التأريخ والتأليف مما يسهل مهمة المؤرخ المنقب، ويعاونه في تاريخ الأصل الذي يدرس. فلو أشار أصل من الأصول إلى كسوف الشمس كسوفا كاملا أو نص بأن ما يدونه من الحوادث وافق وقوعه حدوث حادثة مشهورة، وكان المؤرخ المنقب يعلم تاريخ هذا الكسوف أو زمن وقوع تلك الحادثة، لسهل عليه التحتيم بأن الأصل الذي يدرس لم يدون قبل وقوع هذه الحوادث، وعندئذ يجعل تاريخ وقوع هذه الحوادث حدا أقصى في تعيين الزمن الذي كتب فيه الأصل موضوع بحثه، وهلم جرا.
Página desconocida
الفصل الثالث: تحري النص والمجيء باللفظ
وهذه مأثرة أخرى من مآثر علماء الحديث؛ فإنهم قالوا بالأمانة في نقل الحديث، وفرضوا وجوب تحري النص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلي، ومنهم من أبى أن يصلح الخطأ أو يقوم اللحن، واكتفى بإبداء رأيه على الهامش.
قال القاضي عياض، في موضوع «تحري الرواية والمجيء باللفظ»: «لا خلاف أن على الجاهل والمبتدئ، ومن لم يمهر في العلم، ولا تقدم في معرفة تقديم الألفاظ وترتيب الجمل وفهم المعاني، أن لا يكتب ولا يروي ولا يحكي حديثا إلا على اللفظ الذي سمعه، وإنه حرام عليه التغيير بغير لفظه المسموع؛ إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم الجهالة، وتصرف على غير حقيقته في أصول الشريعة، والنبي
صلى الله عليه وسلم
حض على ذلك وأمر بإيراد ما سمع منه كما سمع. ثم اختلف السلف وأرباب الحديث والفقه والأصول، هل يسوغ ذلك لأهل العلم فيحدثوا على المعنى، أو لا يباح لهم ذلك؟ فأجازه جمهورهم إذا كان ذلك من مشتغل بالعلم نافذ بوجوه تصرف الألفاظ، والعلم بمعانيها ومقاصدها، جامعا لمواد المعرفة بذلك. روي عن مالك نحوه، ومنعه آخرون، وشددوا فيه، من المحدثين والفقهاء، ولم يجيزوا ذلك لأحد، ولا سوغوا إلا الإتيان به على اللفظ نفسه في حديث النبي
صلى الله عليه وسلم
وغيره، وروي نحوه عن مالك أيضا، وشدد مالك أيضا الكراهة فيه في حديث النبي
صلى الله عليه وسلم ، وحمل أئمتنا هذا من مالك على استحباب كما قال، ولا يخالف أحد في هذا . فإن الأولى والمستحب المجيء بنفس اللفظ ما أستطيع.»
ومما له علاقة بالموضوع نفسه، ما ورد نقلا عن هذا الإمام المحدث العظيم، في باب «إصلاح الخطأ وتقويم اللحن» من رسالته الشهيرة المشار إليها - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. قال القاضي عياض: «الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ نقل الرواية كما وصلت إليهم وسمعوها، لا يغيرونها من كتبهم، حتى اضطردوا ذلك في كلمات من القرآن، استمرت الرواية في الكتب عليها بخلاف التلاوة المجمع عليها؛ وذلك حماية للباب. لكن أهل المعرفة منهم، ينبهون على خطأها عند السماع والقراءة وفي حواشي الكتب، وكان أجرأهم على هذا من المتأخرين، القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني. فإنه لكثرة مطالعته، وتفننه في الأدب واللغة وأخبار الناس وأسماء الرجال وأنسابهم، وثقوب فهمه وحدة ذهنه، جسور على الإصلاح كثيرا وربما نبه وصححه على وجه الصواب. لكنه ربما وهم وغلط في أشياء من ذلك، والحكم فيها بما ظهر له، أو بما رآه في حديث آخر، وربما كان الذي أصلحه صوابا، وربما أيضا غلط فيه وأصلح الصواب بالخطأ ... وحماية باب الإصلاح والتغير أولى، لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن، ويتسلط عليه من لا يعلم، وطريق الأشياخ أسلم مع التبيين بذكر اللفظ عند السماع كما وقع، وينبه عليه ويذكر وجه صوابه، إما من جهة العربية أو النقل أو وروده كذلك في حديث آخر.»
هذا ما توصل إليه علماء الحديث في القرون الأولى، وهو المعول عليه الآن لدى المؤرخين المعاصرين، والفرق بين الاثنين أن المؤرخين المعاصرين يعممون قول المحدثين على الحديث وغيره من النصوص التاريخية، ويندفعون في عملهم بعامل علمي بحت. أما المحدثون فإنهم اقتصروا فيما أوردوه من هذا القبيل على الحديث الشريف، واندفعوا في تحري الحقيقة بعاطفة دينية قلما نجد مثلها في هذه الأيام.
Página desconocida
بقي علينا بعد هذا الاعتراف بفضل علماء الحديث، أن نطرق الموضوع من ناحيته العلمية الحديثة، فنقول: التاريخ علم في تحريه الحقيقة وكعلم يطلب الحقيقة كما هي، والأصول هي صلة المؤرخ الوحيدة بحوادث الماضي، وإذا فهدف المؤرخ المنقب أن يتحقق من هذه الصلة ومن حرفية نص الشهادة التي فيها، ثم يروي هذه الشهادة كما صدرت عن صاحبها الأصلي متحريا في ذلك درس ما يمكن أن يكون قد عرض عليها من زيادة أو تحريف أو نقصان.
والأصول التاريخية، من حيث تحري النص والمجيء باللفظ، تكون على وجوه ثلاثة. فإما أن يكون الأصل بذاته أمامنا بخط واضعه أو بتصديقه، أو أن يكون الأصل مفقودا ولم يبق منه سوى نسخة واحدة أو أن يكون الأصل قد فقد أيضا، وبقيت عنه نسخ متعددة.
فحيث يظفر المؤرخ بالأصل نفسه، بخط واضعه أو بتصديقه، عليه أن يبقيه كما هو بحروفه وغلطاته؛ لأن ما يصحح اليوم ويحسب تقويما قد يمكن أن يكون اعوجاجا وتضليلا. فكم وكم من الاصطلاحات العامية، تفقد قوتها أو ضعفها. عندما تبدل بما يفتكره الناشر مقابلا لها بلغته الفصحى، وكم وكم من المعاني الفصيحة والعامية أيضا تتغير بتقديم أو تأخير أجزاء جملها بعض عن بعض. لا لا! علينا أن نثبت الأخبار كما رواها شاهدها لا كما كان «يجب عليه أن يرويها» وعلينا أيضا أن نتحاشى جميع الطرق في النشر التي تعرض الأصل لمثل هذه المخاطر. التاريخ علم في تحريه الحقيقة، وكعلم يطلب الحقيقة كما هي لا كما يجب أن تكون. فهو يختلف عن الفنون بأسرها، أدبا كانت أم تصويرا، ويكتفي هو بما لا تكتفي هي به أحيانا، وزد على هذا كله أنه إذا بقيت الأصول التاريخية على حالها الأول، سهل على الباحث إدراك ما وصل إليه رواته من العلم والرقي، إذ إن تضلع هؤلاء من قوانين اللغة وآدابها، ينبئ أحيانا عن تهذيبهم العمومي، ومقدرتهم على فهم مجريات الأمور والتدقيق في العمل. هذا ولا يخفى ما في إبقاء لغة هذا النوع من الأصول، على حالتها الأولى من الفائدة الكبرى، لفهم تاريخ تطور معنى الكلمات والاصطلاحات بتطور الأزمنة والأحوال، ولإدراك دورة عقول الذين تكلموها على طريقة الفيلسوف البحاثة فيلهلم ماكس فوندت الألماني.
وقد تفنى أو تضيع نسخة المؤلف ولا يبقى عنها سوى نسخة واحدة، وفي مثل هذا الظرف يترتب على المؤرخ المدقق، الذي يود تحري النص الأصلي والمجيء بلفظ المؤلف، أن يبدأ بدرس هذه النسخة درسا وافيا من جميع نواحيها. ثم ينتقل إلى ترجمة مؤلفها، فالمصادر التي أخذ عنها وتآليفه الأخرى، وعليه أن يتعرف إلى أشهر كتاب العصر الذي عاش فيه المؤلف ولا سيما زملائه في الموضوع، وإذا ما وقف على جلائل النسخة ودقائقها وعجم عود مؤلفها وتعرف إلى معاصريه وزملائه، عاد إلى نص النسخة التي يدرس ونبذ من صيغ كلماتها ما لا يتفق مع ذوق مؤلفها، أو ذوق معاصريه، وأثبت في الهامش جميع ما ينبذه كما ورد في النسخة التي يستعرضها، وليس في وسعنا إلا أن نعترف بأن العمل على هذا الشكل ضرب من المغامرات التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء الباحث وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.
ومما اختبرناه من هذا القبيل، أننا لما شرعنا في جمع الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وجدنا أن عددا لا يستهان به من النسخ الأصلية لمناشير إبراهيم باشا قد ضاع، وأنه لم يبق من هذه النسخ الأصلية في بعض الأحيان سوى نسخة واحدة، ومثال ذلك أن البيان الذي وجهه هذا القائد الفاتح إلى أهالي دمشق عن انتصاره في حمص على الجيش العثماني قد ضاع، ولم يبق عنه سوى نسخة واحدة في كتاب المذكرات التاريخية الذي نشره الخوري قسطنطين الباشا، وإليك نص هذا البيان كما ورد بالحرف:
10 «قدوة الأماجد الكرام متسلم الشام حالا أحمد بك بعد التحية والسلام بمزيد العز والإكرام المنهي إليكم، إنه نهار السبت الواقع في 9 صفر سنة 1248 الساعة بالسبعة من النهار كان ابتدا وصول عساكر المنصورة التي ساقته ركابنا ببحيرة حمص، وبتلك الساعة نظرنا قدوم عساكر خيل الترك المحتشدين لمعونة الباشاوات الموجودين بحمص، وحالا هجمت عليهم عساكرنا المنصورة خيالة الجهادية والعرب، وضربوهم وشتتوا شملهم وأسقوهم كأس الوبال والنكال، وولوا هاربين وللنجاة طالبين، فاقتفوا آثارهم عساكرنا المظفرة وظهر أمامهم أربعة الآيات نظام قرابة إستانلية وثلاث الآيات خيالة، وعند ذلك تقدمت لحرابتهم عساكرنا المظفورة بترتيب الصفوف على رسم البديع، وهجموا عليهم هجوم الأسود الكواسر وأذاقوهم كئوس المنايا بقطع الحراب وفتك السيوف البواتر، ولا تحملوهم سوى ساعة واحدة إلا وولوا الأدبار صارخين: الفرار الفرار. من بعد أن وقع منهم من قتيل ومجروح ما ينوف عن ألف وخمسماية نفر منهم من انمسك مسك اليد ما ينوف عن ألفين وخمسماية نفر وارطتين قد كانوا في قلعة حمص للمحاصرة، عندما كانوا عزموا على الهرب مع جانب عساكر أرنقوط، ومجرد حلول ركابنا في أو رضى الباشاوات القاعدين بمدينة حمص، فاستولينا على أموالهم وخيامهم، وجبا خاناتهم وسائر ذخايرهم، وصاروا جميعا أغنيمته لنا والأرطتين والعسكر الأرناءوط الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهازل البديعة والظفر البديع استفاقوا وطلبوا الأمان وحنان العفو، وكان اللطف غنامهم مرحمة منا أعطيناهم الأمان، وخرجوا من القلعة آمنين مطمئنين نحمده تعالى على هذه النعمة العظيمة والمواهب الكبيرة الجسيمة، فالآن لأجل نبشركم أصدرنا مرسومنا هذا لكم ويلزم منكم بوصوله تشهروا ذلك إلى كافة الرعايا بعمل الشنك إلى كافة المقاطعات والبلاد؛ لكي يكونوا مثابرين على سنيات الدعوات الخيرية بدوام دولة وتأييد صولة سعادة أفندينا ولي النعم، والدنا المعظم وقهر أعداه المحجولين ما مر الأيام والسلام.»
نقول لدى اطلاعنا على هذا البيان، تخالج في صدرنا منه أشياء، وترددنا في صحة نصه، ولا سيما والقسم الأخير منه مشوش غير مفهوم، فرجعنا أولا إلى المخطوطة التي أخذ عنها الخوري الباشا نص هذا البيان. لنرى هل أخطأ في قراءة خطها، وبعد أن تأكدنا من أمانة الناشر، عدنا إلى المؤلف نفسه، لعلنا نجد فيه من سائر بيانات الباشا ما يبدد هذه الظلمات فلم نفلح، وعندئذ رأينا أن نعيد النظر في جميع البيانات التي صدرت عن إبراهيم باشا، والتي أعلن فيها أخبار حروبه في سوريا وانتصاراته على أعدائه. فوجدنا لحسن الحظ في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس بيانا آخر وجه الباشا إلى متسلم هذه المدينة، يعلن فيه انتصاره على العثمانيين في حمص، وفي آخر هذا البيان ما نصه: «والأرطتين والعسكر القرنبود الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهاول المريعة والظفر البديع، استغاثوا وطلبوا الأمان، وحيث إن العفو زكاة الظفر أغثناهم مرحمة منا وأعطيناهم الأمان.»
فعلمنا عندئذ أن أحد النساخ الذين نسخوا بيان الباشا إلى متسلم دمشق أخطأ، في الأرجح، في قراءة هذا البيان؛ فقرأ استغاثوا «استفاقوا»، وحيث إن «حنان»، وزكاة «وكان»، والظفر «اللطف»، وأغثناهم «غنامهم»، وهلم جرا. على أننا نكرر القول بأننا لم نوفق دائما إلى الفوز في تحري النص والمجيء باللفظ. في حال ضياع الأصل وبقاء نسخة واحدة، كما توفقنا هنا، ونوافق الأستاذ شارل لانجلوا الإفرنسي في قوله: إن تحري النص في مثل هذه الأحوال هو نوع من المغامرات، التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء المؤرخ المدقق وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.
وقد تضيع أو تفنى نسخة المؤلف الأصلية ويبقى عنها نسخ متعددة، وفي مثل هذه الحال، يجتهد المؤرخ المدقق في نبذ بعض هذه النسخ، إذا ظهر له أن ذلك البعض يعتمد على سابقه. ثم يقسم النسخ الباقية إلى فصائل متخذا الأغلاط المشتركة بينها قاعدة لهذا التقسيم. لأنه ليس من المرجح أن يجمع النساخ على غلطة ما، إلا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابقه. كما إنه ليس من المحتمل أن يتفقوا منفردين بعضهم عن بعض إلا على الصحة. ثم يحاول المؤرخ استعادة اللفظ الأصلي بالمقابلة بين النسخ الباقية، وما يكون قد تشربه من روح المؤلف وذوق معاصريه، ولا بد من الإشارة إلى الاختلافات في منطوق هذه النسخ على هوامش ما ينشر؛ تسهيلا للتحقيق وضنا بالحقيقة.
ومثال ذلك أننا لما أقدمنا على نشر تاريخ الأمير فخر الدين المعني لمؤلفه الشيخ أحمد الخالدي الصفدي لم نعثر على مخطوطة المؤلف الأصلية، ولكننا وجدنا خمس نسخ ثانوية. منها نسخة تمتاز عن أخواتها بتجانس أجزائها من حيث اللغة والأسلوب واختصاصها بالتاريخ الهجري، ورقها عبادي صقيل من النوع الذي شاع استعماله في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهي في حوزة الشيخ كسروان الخازن، وسنشير إليها بالحرف ك، والنسخة م وهي رقم 427 من مجموعة المكتبة العمومية بمدينة موينخ الألمانية، وقد جاء في آخرها أنها بخط عبد اللطيف بن الشيخ أحمد الرشيدي، وعليها عبارة بخط إسكندر أبكاريوس هذا نصها: «خاصة الفقير إسكندر أبكاريوس.» مما يدل على أنها كانت تباع وتشترى في منتصف القرن الماضي، ونسخة جامعة برنستن في الولايات المتحدة، وقد استنسخها لنفسه الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، فتم له ذلك في 11 كانون الأول سنة 1912، وهي رقم 38050 من مكتبة بيروت الأميركية، وقد أشرنا إليها بالحرفين ج ب، ووجدنا أيضا نسخة أخرى في مدينة طرابلس لدى الأستاذ جورج يني، استنسخها لنفسه عن نسخة للخوازنة.
Página desconocida
فأخذنا ندرس هذه النسخ درسا دقيقا لننبذ بعضها، ولا سيما ما يعتمد منها على سابق له. فأهملنا بادئ ذي بدء نسخة جورج يني؛ لأنها تتفق كل الاتفاق مع النسخة ك التي هي أقدم منها، ولما كانت ك مع هذا الاتفاق التام، موجودة لدى أحد الخوازنة، وكان الأستاذ جورج يني قد نسخ باعترافه عن نسخة خازنية أصبح من المحتمل أن يكون قد نسخ عنها نفسها، وكذلك فإنه بالإمكان أن نعتبر نسخة جامعة برنستن والنسخة ج ب نسخة واحدة؛ لأن الأستاذ المعلوف يعترف بهذه الصلة، ولأن المقابلة بين النسختين تؤيدها. ثم لاحظنا أيضا علاقة ظاهرة بين النسختين م وج ب، وذلك بالأغلاط المشتركة بينهما. فقد ورد مثلا في كل من هاتين النسختين ما نصه: «فلما عاد مصطفى كتخدا وأعلم الأمير عليا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحجة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش وأرسلها لابن الحرفوش واستكثر خيره.»
وهو كلام مشوه بدليل النقص في معناه، ولا ينجلي المعنى إلا بالاتكال على ك فنقرأ عندئذ: «فلما عاد مصطفى كتخذا وأعلم الأمير عليا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحجة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش، ودفعه لأرباب الديوان في الحال جهز الأمير علي العشرة آلاف غرش، وأرسلها لابن الحرفوش وتشكر منه.» وهنالك مثال آخر يؤيد هذه الصلة بين النسختين. فقد ورد في كل منهما أن الوزير «خليل باشا عين جملة بكلربكية وسناجق، ومعهم عشرون ألف عسكري جرد خيل وتوجهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين تصور باله أن لا بد أن يجيء إلى كبسهم.» وفي هذا القول نقص ظاهر، وصحيحه في الأرجح كما ورد في ك: «وتوجهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين، فلما علم الشاه عباس أن جماعة الوزير مروا على التركمان والأكراد، تصور في باله أنه لا بد يجيء لكبسهم.» هذا وقد وجدنا من هذا النوع من الأغلاط المشتركة ما يربو على الستين، ولا يخفى كما أشرنا سابقا أن النساخ لا يجمعون على مثل هذه الأغلاط إلا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابق له، كما أنه ليس من المحتمل أن يتفقوا منفردين بعضهم عن بعض إلا على الصحة. فأما أن تكون ج ب منقولة عن م، أو أن تكون م وج ب منقولتين عن أصل واحد مفقود، وأصبح لدينا بعد هذه الغربلة وهذا النبذ نسختان رئيسيتان هما ك وم، وتوجب علينا أن نقابلهما الواحدة بالأخرى وأن ننتقي منهما ما نراه أقرب لعصر المؤلف وللغته وأمياله، فنثبت نصه في المتن، ونرجئ للهامش نص النسخة الأخرى.
الباب الرابع
تنظيم العمل
يجدر بالمؤرخ المدقق بعد ولوج هذه الأبواب الثلاثة؛ أي بعد أن يكون قد جمع الأصول، ونقدها، وتمكن من العلوم الموصلة إلى فهمها، أن ينسق ما جمع من الأصول ويتبع خطة عملية رشيدة في استخلاص المعلومات منها، وقد أدرك المنفعة من مثل هذا العمل خاصة الناس وعامتهم، وأجمعوا عليه في حياتهم الشخصية. فقالوا بوجوب ترتيب الثياب في الخزائن والجوارير، ووضع أواني المطبخ في محلات معينة لها، وذلك لتسهيل الوصول إليها وعدم ضياع الوقت في التفتيش عنها.
وعلى الرغم من هذه لا نزال نرى بعض علمائنا يقضون السنين الطوال في البحث والتنقيب وجمع المعلومات، وعندما تضطرهم الظروف للرجوع إليها، يستغلق الأمر عليهم ويعسر الوصول إلى ما يريدون مما جمعوا، إلا بعد العناء الطويل، ونحن نعرف صديقا لنا قضى عمره في درس تاريخ لبنان الحديث، فوقف على جلائله ودقائقه، وأصبح أعرف الناس به، ولكنه قليل الترتيب في تدوين ما يعلم. فإنك لو طلبت إليه أن يطلعك على مرجع من المراجع التي أخذ عنها وذهبت معه إلى بيته، ودخلت مكتبته، لو فعلت هذا لرأيته يطلب دفترا قديما هنا، وهامشا هناك، وقصائص أوراق دون في الواحدة منها معلومات شتى بخط سقيم ممجمج، وقد تبقى في غرفته ساعتين أو أكثر، ثم يقول لك سأبحث عن هذا في جو رائق وأوافيك بالجواب، وقد يجد ما يطلب أو لا يجد، ولست أدري من هذا الذي قال إن مثل هذا مثل قوم قضوا حياتهم كلها في تشييد بناء يحملون حجارته على أكتافهم دون أن يفقهوا أين يضعونها، حتى إذا بلغوا المرحلة الأخيرة في حياتهم نظرت إليهم وإلى ما يفعلون، فلا تسمع سوى ضجة تصم الآذان، ولا ترى سوى سحب من الغبار عقدت سرادقات فوق رءوسهم تعمي الأبصار.
ومثل هذا التنسيق أو الترتيب على تواضع ظاهره، يعد في عرف المؤرخين المدققين، دعامة كبرى في بناء التاريخ، وبفضله وحده يتميز نفر من المؤرخين على سواهم. فيوفرون على أنفسهم أتعابا جمة، ويصلون من أهدافهم إلى ما لا يصل إليه غيرهم.
وإذا كان لا بد من تنظيم العمل فكيف يكون ذلك؟ وماذا يفعل المؤرخ فور انتهائه من نقد الأصول؟ على المؤرخ أن يعترف بادئ بدء أنه ليس بإمكانه أن يعتمد على ذاكرته في العمل، وأن يسلم بوجوب القيد، وهو أمر لا يرتاب فيه عاقل، وقد نطق بصحته فلاسفة علم النفس، وتناصرت عليه حججهم. أولم يقل الفقيه اللغوي ابن عباس الكوفي:
لا تنس هاتيك العهود فإنما
سميت إنسانا لأنك ناسي
Página desconocida
ويترتب على المؤرخ أن يبتعد كل البعد عن الدفاتر والأوراق المجلدة؛ لأنه إذا دون ما يستخلصه من الأصول في دفتر أو دفاتر معينة تقيد بترتيب خاص، قد تقضي الظروف بتغييره أو تعديله قبل الانتهاء من مهمة التأريخ، وقد يضطر المؤرخ، بعد الابتداء بالعمل، أن يفسح مجالا أوسع لموضوع ما، فلا يرى سبيلا لذلك إلا بعد العناء، وقد لا يرى. أما إذا ابتعد عن كل ما يمت إلى المجلدين بصلة، واتخذ للتدوين أوراقا منثورة، انطلقت يده في العمل، وأصبح حرا يزيد متى يشاء، ويقدم ويؤخر ما شاء.
وقد اختلف المؤرخون في كمية ما يدونون على أوراقهم المنثورة. فمنهم من قال بتدوين كل ما له علاقة بالموضوع. أي إذا عني مؤرخ ما بتاريخ حرب من الحروب، وأفرد لكل سبب من أسباب هذه الحرب ورقة أو ورقات، ولكل موقعة منها مثل ذلك، وهلم جرا، فعليه أن ينقل على أوراقه كل النص الذي يتعلق بمثل هذه المواضيع، وقال آخرون بوجوب الاكتفاء بخلاصة النص.
أما نحن، فقد وجدنا بالاختبار الشخصي، بعد أن بدأنا بتأريخ الحملة المصرية على الأقطار الشامية (1831-1841)، أن لا هذه الطريقة ولا تلك تفي بالمرام، وذلك لأسباب نعرضها حالا زيادة للإيضاح. أن الأصول لهذه الحقبة الوجيزة من تاريخ الأقطار الشامية تربو على الألف كتاب بين مقالة ورسالة ورحلة وتاريخ رسمي، وهنالك ما لا يقل عن الخمسين ألف وثيقة تتعلق بالموضوع نفسه. فلو عنيا بإدخال جميع هذه النصوص، على أوراق أو بطاقات منثورة، لاضطررنا أن نقضي حياتنا بالاستنساخ، وبعد أن عملنا بما ورد في أعلاه مدة من الزمن، وزاولنا استنساخ النصوص على البطاقات كما تقدم، اضطرتنا الظروف أن نكتب شيئا في بعض نقاط معينة. فوجدنا أنه لا بد لنا من مراجعة المؤلفات نفسها للتحقق، إما من صحة ما نقلنا، أو من علاقته بما قبله وما بعده. فلم نستفد من بطاقاتنا، والحالة هذه، سوى أنها أرشدتنا إلى النصوص في وقت قصير للغاية، وأنها مكنتنا من ترتيب هذه النصوص ترتيبا تاريخيا في وقت وجيز أيضا. فرأينا، بعد هذا الاختبار، أن نجعل من بطاقاتنا المنثورة فهرسا عاما لجميع مواضيع الأصول، وجميع أسماء الرجال والأمكنة فيها.
على أن جميع المؤرخين، اليوم، يصرون على وجوب الإشارة إلى زمن وقوع الحوادث المرورية، ويحتمون على المؤرخ المنقب وجوب الإشارة في كل ورقة من ورقاته المنثورة إلى المرجع الذي استخلص منه محتويات هذه الورقات، وذلك بذكر المؤلف والمؤلف والمجلد والصفحة.
وقد لا يختلف اثنان من علماء التاريخ في ترتيب الأوراق المنثورة. فحيث نجعل من هذه الأوراق فهرسا عاما للأصول نرتبها ترتيبا أبجديا، وإن آثارنا تدوين النصوص بكاملها عليها رتبناها إما بموجب تواريخها، أو بحسب الأمكنة التي وجدت فيها، أو على أساس مواضيعها، وليذكر المؤرخ المستجد أن ترتيب النصوص على أساس تواريخها ضروري في غالب الأحيان؛ وذلك لأنه يوضح له تسلسل الرواية والحوادث المروية، ولأنه يقيه شر تقديم المسببات على أسبابها، وحيث ترد بعض الأصول مجهولة التاريخ، عليه أن يسعى سعيا حثيثا لتأريخها، كي يتمكن من ترتيبها بموجب تواريخها.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أنه لا يجوز ترتيب النصوص على أساس الأمكنة التي وجدت فيها، أو المواضيع التي تحتوي عليها. بل بالعكس، فإنه من المستحسن أن يتفنن المؤرخ في الأسس التي يتخذها للتصنيف والتنسيق، سواء أكانت زمنية أم جغرافية أم غير ذلك. فإذا ما عالج المؤرخ درس موضوعه من مثل هذه النواحي المختلفة، برزت له الحقيقة التي يتوخاها بوضوح وجلاء، قد لا يصل إليهما، إذا اكتفى باتباع أساس واحد للتنسيق.
وقد يضطر المؤرخ أحيانا إلى إهمال التنسيق على أساس زمن النصوص لاستحالة معرفة تواريخها، فيكتفي، والحالة هذه، بما تبقى لديه من سائر الأسس، ولنا في اختبار علماء أوروبا، ولا سيما العلامة الكبير تيودور مومسن، في مجموعة النقوش اللاتينية
Corpus Inscriptionum Latinarum
مثال واضح يؤيد ما تقدم. فإن معظم هذه النقوش غير مؤرخ، وقد اختلف العلماء، عشرات من السنين، في أمر تنسيقها وترتيبها. فقال البعض بتصنيفها على أساس محتوياتها، وقسموها إلى نقوش دينية، ونقوش عسكرية، ونقوش أدبية شعرية، واعترض آخرون على هذا التنسيق، وقالوا باتخاذ المكان الذي وجدت فيه النقوش أساسا للترتيب؛ وذلك لأن تنسيقها على أساس محتوياتها قد يضطر المؤرخ إلى التكرار الممل. إذ إنه معقول جدا أن يحتوي نقش ما على شعر ودين وحرب في آن واحد، وبعد اختبار طويل دام قرنا كاملا، أو أكثر، أجمعت الآراء على أفضلية الترتيب الجغرافي، وبعد أن قال العلامة مومسن، مدة طويلة بالتنسيق على أساس المحتويات، عاد فأيد الأساس الجغرافي، وظهرت المجموعة كاملة على هذا الأساس .
الباب الخامس
Página desconocida
تفسير النص
وبانتهاء المؤرخ من نقد الأصول، على الوجه الذي تقدم شرحه في الباب الثالث من هذا الكتاب، ينتهي النقد الخارجي، وينتقل المؤرخ من ظاهر النص ومجرد اللفظ إلى باطن الكلام وفهم المعنى، فيشرع في النقد الداخلي. والنقد الداخلي في مصطلح التاريخ على نوعين: نقد داخلي إيجابي، ونقد داخلي سلبي. فالإيجابي يفسر النص ويظهر معناه، والسلبي يكشف الستار عن مآرب المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية.
وتفسير النص، وهو موضوع هذا الباب، يكون على وجهين: أولهما: تفسير ظاهر النص، وثانيهما: إدراك غرض المؤلف. فعلى المؤرخ المدقق المنقب؛ حيث يحاول تفسير ظاهر النص، أن يلم أولا بلغة الأصل الذي يدرس، وعليه أن يجيد فهم هذه اللغة كما عرفت واستعملت في العصر الذي عاش فيه راوي الرواية. فمعاني المفردات تتطور وتتغير أحيانا مع تطور الظروف وتغير الأحوال، وكفانا دليلا على ذلك بعض أعمال المجمع اللغوي في مصر، وما وضعنا في هذا الكتاب من المعاني الجديدة العصرية في بعض المفردات والاصطلاحات التي استعملت في كتب الحديث والتفسير منذ مئات السنين، وعلى المؤرخ أيضا أن يذكر أن المفردات والاصطلاحات اللغوية تختلف أيضا باختلاف الإقليم، وقد تختلف باختلاف الكاتب نفسه.
وحيث يشعر المؤرخ المدقق بشيء من الشك في فهم بعض هذه الدقائق اللغوية في أصل من الأصول يجدر به أن يكمل قراءة النص، أولا، لعله يقف على إيضاح ما التبس. فإن أعياه ذلك فعليه بسائر كتب المؤلف، وإذا لم يجد التفسير في النص نفسه، ولا في مؤلفات المؤلف الأخرى، رجع في ذلك إلى أقوال الزملاء المعاصرين. هذا؛ وإن «لا أدري» لمن العلم!
وقد يكتفي المؤرخ، في قراءة الأوامر الإدارية وبعض النصوص التاريخية القصصية، بتفسير ظاهر النص لإدراك غرض المؤلف، وذلك أن واضع النص، في مثل هذه الظروف، يتوخى استعمال الألفاظ التي توضح المعنى دون أي تردد في الأمر. فإذا ما نجح المؤرخ في فهم ظاهر النص، توصل إلى إدراك المعنى الحقيقي.
وقد يلمس المؤرخ غموضا أو نقصا أو تناقضا في المعنى، إذا هو استمسك بظاهر النص. فقد يكون في الكلام كتابة، أو مجاز، أو استعارة، أو تشبيه، أو هزل، أو مداعبة، أو تلميح، أو تعريض، وما إلى ذلك. قال ابن عبد ربه في عقده في باب الكناية والتعريض:
1 «وقد كنى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة، وعن الحدث بالغائط ... وقال تعالى:
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء (طه: 22) فكنى عن البرص، ودخل الربيع بن زياد على النعمان بن المنذر، وبه وضح، فقال: ما هذا البياض بك؟ فقال: سيف الله جلاه. ودخل حارثة بن بدر على زياد، وفي وجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر الذي في وجهك؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فجمح بي. فقال: أما أنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنى زياد بالأشهب عن اللبن، وقال معاوية للأحنف بن قيس: أخبرني عن قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم
فسرك أن يعيش فجيء بزاد
Página desconocida