المقدمة
1 - التقميش
2 - العلوم الموصلة
3 - نقد الأصول
4 - تنظيم العمل
5 - تفسير النص
6 - العدالة والضبط1
7 - إثبات الحقائق المفردة
8 - الربط والتأليف
9 - الاجتهاد
10 - التعليل والإيضاح
11 - العرض
المقدمة
1 - التقميش
2 - العلوم الموصلة
3 - نقد الأصول
4 - تنظيم العمل
5 - تفسير النص
6 - العدالة والضبط1
7 - إثبات الحقائق المفردة
8 - الربط والتأليف
9 - الاجتهاد
10 - التعليل والإيضاح
11 - العرض
مصطلح التاريخ
مصطلح التاريخ
وهو بحث في نقد الأصول وتحري الحقائق التاريخية وإيضاحها وعرضها وفي ما يقابل ذلك في علم الحديث
تأليف
أسد رستم
المقدمة
وأقدم التواريخ المدونة أسفار موسى الخمسة وأسفار يشوع وصموئيل، فإنها دونت فيما يظهر حوالي السنة 900 قبل الميلاد، وأول من حاول نقد الروايات التاريخية هكتايوس الملطي اليوناني. فإنه كتب في القرن السادس قبل الميلاد في أصل الشعب اليوناني وفي تجوالاته الأولى، وقال: «ولست أثبت هنا إلا الحكاية التي أعتقد صحتها. فإن أساطير اليونان كثيرة، وهي عندي حديث خرافة.» وجاء بعده عدد من أبناء جنسه يؤرخون، فينظرون إلى الأشياء على حقيقتها ويبتعدون عن الخرافات والأساطير، شأنهم في كل عمل فكري قاموا به، ولكن أحدا منهم فيما نعلم لم يحاول أن يجعل من هذا النظر إلى الروايات التاريخية على حقيقتها «علما بأصول».
وأول من نظم نقد الروايات التاريخية ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامي، فإنهم اضطروا اضطرارا إلى الاعتناء بأقوال النبي وأفعاله لفهم القرآن وتوزيع العدل. فقالوا: «إن هو إلا وحي يوحى، ما تلي منه فهو القرآن وما لم يتل فهو السنة.» فانبروا لجمع الأحاديث ودرسها وتدقيقها، فأتحفوا علم التاريخ بقواعد لا تزال، في أسسها وجوهرها، محترمة في الأوساط العلمية حتى يومنا هذا، وهو ما سيتاح لنا الاطلاع عليه في تضاعيف هذا الكتاب في حينه.
وجاء عبد الرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر (1332-1406) فكتب في مقدمته في «طبائع العمران» وجعل من هذه الطبائع محكا علميا لنقد الأخبار التاريخية وتمحيصها، فسجل بذلك فوزا كبيرا، ونحن وإن خالفناه في صحة هذه الطبائع وفي وجوب تطبيقها على حوادث الماضي، لا يسعنا إلا أن نعترف بفضله وبتفوقه على سائر من كتب في التأريخ قبله، وسنعرض على القارئ شيئا من هذا في حينه في فصل لاحق من فصول هذا الكتاب. وعاصر ابن خلدون فلافيوس بلوندوس الإيطالي (1388-1463) الذي كتب في تاريخ روما، وحكم عقله وطبق منطقه الفطري، فقذف بأساطير زملائه السابقين إلى حيث يطرح سقط المتاع. فكان خير زميل لجاره التونسي الكبير.
وأدت الاكتشافات الجغرافية واليقظات العلمية الفنية والمنازعات الدينية، والمطامع السياسية والوثبات الفلسفية في القرون الحديثة في أوروبا إلى الرجوع إلى الماضي، وتقليب صفحاته والاهتمام بأخباره اهتماما شديدا، ولكن رائد المؤرخ الأوروبي في القرن الخامس عشر حتى الثامن عشر، بقي طوال هذه العصور مجرد استغلال الماضي لصوالح سياسية أو دينية، ولم يدرس لذاته؛ أي للوصول إلى الحقيقة المجردة.
وأول من نادى بنقل التاريخ من ميادين الخصام والنزاع والحرب إلى مجالس الدرس والتدقيق، العالم الإيطالي جيوفني فيكو (1668-1744) فإنه درس أفلاطون وغروتيوس، فدفعه الأول إلى درس بعض كبريات مسائل التاريخ والفلسفة، وبعثه الآخر على درس فلسفة القانون، وفي السنة 1725 أصدر كتابه «أصول علم جديد» اعتبر به التاريخ فرعا من علم المجتمع الإنساني، وذهب إلى أن البحث التاريخي الحقيقي يقوم على أصول منطقية دقيقة، وقال بمبدأ التطور، وسكت عن تدبير الخالق، ونوه منتسكيو نفسه بتجرد هادئ تطور الحكم في فرنسا وإنكلترا، ووازن بين الاثنين، وجاء فولتير (1694-1778) بنقده اللاذع، فنفذ إلى صميم عناصر القوة والضعف في فرنسا، وحاول وضع تاريخ حر للثقافة، ولكن الاثنين أسرعا إلى الكتابة قبل إكمال نقد المصادر واستيعابها.
وانتظمت الممالك في أوروبا في القرن السادس عشر، وقامت عصبية وطنية جديدة ونشأ شعور قومي حديث، فقام علماء مؤرخون في دول الغرب، يعنون بجمع المصادر بدافع الاعتزاز بالماضي، وأهم مجموعة من هذه المجموعات التاريخية الوطنية، مجلدات تواريخ العصور الوسطى التي بدأ بنشرها الرهبان البندكتيون من جماعة القديس مور، وذلك في منتصف القرن السابع عشر، والواقع الذي لا مفر منه هو أن رسالة جان مابيون في الديبلوماسيات (1681) هي فاتحة البحث العلمي الحديث للمخطوطات، وظهر في القرن الثامن عشر سلاسل أخرى من نوع هذه منها مجلدات موراتوري الخمسة والعشرون من كتاب الشئون الإيطالية (1723-1750) ومجموعة توما هيرن الإنكليزي للتواريخ الإنكليزية القديمة. فتيسر لمؤرخي القرن التاسع عشر ما لم يتيسر لغيرهم من سهولة الرجوع إلى المراجع، وإنعام النظر فيها ومقابلتها ومقارنتها مما لا بد منه للوصول إلى الحقيقة.
وفي السنة 1795 أصدر العلامة وولف الألماني مقدمته الشهيرة لمجموعة هوميروس الشعرية، فأحدثت ضجة في الأوساط اللغوية الأدبية التاريخية، في ألمانيا وخارجها؛ لأن وولف ذهب فيها إلى أن الإلياذة والأوذيسية لم يكتبهما هوميروس ولا غيره بهذا الاسم، بل جماعة من الشعراء في فترات متباعدة من الزمن، ودفعت هذه الضجة التي أحدثتها مقدمة وولف بتلميذه أوغست بوخ، أن ينقد المصادر التاريخية اليونانية، في موضوع الاقتصاد السياسي في أثينا (1817)، وقام برتولد نيبور الألماني (1776-1831) وهو ابن الرحالة كارستن نيبور؛ صاحب المجلدات الثلاثة في وصف الجزيرة العربية. نقول قام برتولد نيبور يغربل المراجع الرومانيا بغربال وولف، فوضع كتابه تاريخ الرومان، ونهج به نهجا علميا جديدا، فلم يبق من أقاصيص الرومان وأساطيرهم سوى راسب يسير من الحقيقة «فأحيا التاريخ الروماني وبوأه مكانة علم مستقل.»
وآمن بالنقد الجديد رهط من علماء الألمان في القرن التاسع عشر، جعلوا من ألمانيا معلمة أساتذة للعالم بأسره في فن التاريخ الحديث، وزعيم هؤلاء، دون منازع، هو ليوبولد فون رانكي (1795-1886) الذي ولد في فيهي وتوفي في برلين، وقد كان مثال النزاهة والعدالة، رائده الحقيقة العارية، دون أي التواء، ودأب كثيرا، وطرق مواضيع شتى، فصنف في تاريخ إيطاليا وتركيا والصرب وإنكلترا وفرنسا والكنيسة، وفي الثمانين من العمر بدأ تاريخه العام، فأتم منه سبعة مجلدات، وعندما توفي في الحادية والتسعين من العمر، هب جماعة من تلاميذه الأوفياء، فأكملوا هذا التاريخ، وتسلم شعلة نيبور ألماني آخر تيودور مومسن (1817-1903) فوضع تاريخا عاما لروما، وآخر لولاياتها، لا يزالان مرجعين هامين لكل من يعني بالتاريخ الكلاسيكي، حتى يومنا هذا.
وساهم المؤرخون الإفرنسيون مساهمة قيمة في نقد المراجع الأولية بعملهم العظيم، في مدرسة الوثائق التاريخية التي أسسوها في السنة 1821، فعنوا عناية فائقة بنقد وثائق العصور الوسطى، ووضعوا القواعد الأساسية لعدد من العلوم الموصلة لعلم التاريخ، كعلم الديبلوماسية ، وعلم السفر أجيستيك وفن الباليوغرافية، وغير ذلك مما لا بد لمؤرخ العصور الوسطى من التذرع به، لفهم مراجعه الأولية، ونقدها نقدا علميا ثابتا، ومن أشهر تلامذة هذه المدرسة بنيامين غيوار وغبريال مونو، وفوستيل ده كولانج.
وسرت عدوى هذا التدقيق في المراجع من ألمانيا وفرنسا إلى بريطانيا، فقام سر فرنسيس بالغرايف (1788-1861) وجون ميتشل كامبل (1807-1857) يعنيان بتاريخ الجزر البريطانية، في العهدين السكسوني والنورماندي، بالدقة المطلوبة، ففتحا بذلك عصرا جديدا في التاريخ، في الجزر البريطانية، وفي منتصف القرن التاسع عشر أم مدارس ألمانيا، عدد من الطلاب الأميريكيين، يدرسون التاريخ بالأسلوب الجديد، وأشهر هؤلاء قدما هنري أدمز الذي درس في جامعة هيدلبوغ، ودرس في جامعة جونس هوبكنز، وجون برجس الذي عاد من ألمانيا، فأسس في جامعة كولومبية مدرسة العلوم السياسية، على طراز ما شاهد في برلين.
وعلى الرغم من العناية بالمصادر وجمعها ونشرها ونمو الروح البريء من الهوى، وتقدم الطريقة العلمية في البحث، وازدياد احترامها في جميع الأوساط في أوروبا الغربية وفي الولايات المتحدة، ظل البعض من رجال التاريخ والفلسفة يندفع بالعاطفة، فيضل ويضلل، ولا يزال رجال الفلسفة، حتى يومنا هذا يتذرعون بالتاريخ لتأييد نظرياتهم دون تبصر، فيما يقرءون أو ترو في الاستنتاج، وما أكثر الفلاسفة الذين يجهلون التاريخ، ولا يكلفون أنفسهم مشقة الاستشارة، فيجعلون التاريخ ينطق بما ليس فيه!
ولمس بعض أساتذة التاريخ هذا الضعف، وهالهم أمر هذا الشطط، فنبهوا إليه وردعوا عنه، وبين هؤلاء غبريال مونو، فإنه ما فتئ منذ السنة 1876 عندما ظهر العدد الأول من مجلته التاريخية الإفرنسية؛ نقول ما فتئ يردع عن التعميم قبل الإحاطة، وينذر بالخطر الذي ينجم عن تقبل مذهب معين من مذاهب الفلسفة، وكتابة التاريخ على ضوئه، قبل التثبت من الحقائق التاريخية تثبتا مستقلا عن كل رأي فلسفي، وذلك حتى وفاته في السنة 1912، وقال غيره من المؤرخين الأساتذة، بوجوب تربية المؤرخين المبتدئين الصغار تربية علمية واقعية تتفق في جوها وأسلوبها وتربية طلاب العلوم الطبيعية، وأشهر من أقدم على هذا العمل الشاق وأعرقهم شرفا العلامة الألماني الأستاذ الدكتور أرنست برنهايهم . فإنه أعد في الثمانين من القرن الماضي، مؤلفا خاصا لهذه الغاية، أبان فيه الخطوات الصائبة التي يجب على المؤرخ أن يخطوها، والعقبات التي تعترضه، وكيفية تذليلها، والمهالك التي قد يقع فيها، وكيفية تحاشيها، وأردف كلامه فيها كلها بالأمثلة الدقيقة المفصلة. ثم نشر هذا المؤلف الأول مرة في السنة 1889 وأعاد طبعه مرارا، وهو لا يزال حتى يومنا هذا أكمل ما صنف من نوعه، وانبرى بعده المؤرخان الإفرنسيان الكبيران شارل سينيوبوس وشارل لانغلوا، فأصدرا في السنة 1898 مقدمتهما في الأبحاث التاريخية، فجاءت مختصرا دقيقا مفيدا. أما علماء الإنكليز، فإنهم آثروا ولا يزالون التعليم بالأمثلة دون اللجوء إلى كتاب خاص بالقواعد.
ولست أذكر تماما متى بدأ عهدي بهذا العلم؛ ولكني أذكر تماما أني لما عدت من جامعة شيكاغو سنة 1923، وباشرت عملي في جامعة بيروت توليت تدريس علم المثودولوجية فيها، وأول ما عملته أني أخذت أجمع أهم المؤلفات التي تدور حوله. فتوفر لدي عدد منها في اللغات الأجنبية، ولكني لم أعثر على شيء في العربية، فصممت آنئذ أن أتلافى هذا الفراغ، وأكتب شيئا في هذا الموضوع.
ورأيت أن أتريث في الأمر، فأبدأ بتدريس الموضوع بلغة أجنبية، ريثما تتوفر لدي الأمثلة التاريخية المحلية والاصطلاحات الفنية العربية. فاضطررت أن أرجع إلى مصطلح الحديث لسببين: أولهما: الاستعانة باصطلاحات المحدثين، والثاني: ربط ما أضعه لأول مرة في اللغة العربية بما سبق تأليفه في عصور الأئمة المحدثين.
فأكببت على مطالعة كتب المصطلح، وجمعت أكثرها، وكنت كلما ازددت اطلاعا عليها، ازداد ولعي بها وإعجابي بواضعيها، ولا أزال أذكر حادثا وقع لي عام 1936 في دمشق، يوم احتفلت الحكومة السورية بمرور ألف عام على وفاة المتنبي. فإني كنت من جملة الوافدين إلى عاصمة الأمويين والمحتفلين بذكرى شاعر العرب، وأقمت فيها مدة من الزمن، أقلب في أثنائها مخطوطات المكتبة الظاهرية، وما إن بدأت بالعمل حتى أيقنت أني أمام أعظم مجموعة لكتب الحديث النبوي في العالم. ففي خزائن هذه المكتبة، عدد لا يستهان به من أمهات المخطوطات في هذا العلم، وقسم منها يحمل خطوط أعاظم رجال الحديث، ومن أهم ما وجدت فيها، نسخة قديمة من رسالة القاضي عياض في علم المصطلح، كتبها ابن أخيه سنة 595 للهجرة، وكنت قد قرأت شيئا عنها في بعض رسائل المصطلح. فاستنسختها بالفوتوستات وبدأت في درسها وتفهم معانيها. فإذا هي من أنفس ما صنف في موضوعها، وقد سما بهذا القاضي عياض إلى أعلى درجات العلم، والتدقيق في عصره، والواقع أنه ليس بإمكان أكابر رجال التاريخ اليوم، أن يكتبوا أحسن منها في بعض نواحيها، وذلك على الرغم من مرور سبعة قرون عليها. فإن ما جاء فيها من مظاهر الدقة في التفكير والاستنتاج، تحت عنوان «تحري الرواية والمجيء باللفظ» يضاهي ما ورد في الموضوع نفسه في كتب الفرنجة في أوروبا وأمريكا، وقد اقتطفنا من كلام القاضي عياض في هذا الموضوع شيئا كثيرا أوردناه في باب تحري النص والمجيء باللفظ في كتابنا هذا.
والواقع أن المثودولوجية الغربية التي تظهر اليوم لأول مرة بثوب عربي، ليست غريبة عن علم مصطلح الحديث، بل تمت إليه بصلة قوية. فالتاريخ دراية أولا ثم رواية، كما أن الحديث دراية ورواية، وبعض القواعد التي وضعها الأئمة منذ قرون عديدة للتوصل إلى الحقيقة في الحديث، تتفق في جوهرها، وبعض الأنظمة التي أقرها علماء أوروبا فيما بعد، في بناء علم المثودولوجية، ولو أن مؤرخي أوروبا في العصور الحديثة اطلعوا على مصنفات الأئمة المحدثين، لما تأخروا في تأسيس علم المثودولوجية، حتى أواخر القرن الماضي.
وبإمكاننا أن نصارح زملاءنا في الغرب فنؤكد لهم بأن ما يفاخرون به، من هذا القبيل، نشأ وترعرع في بلادنا، ونحن أحق الناس بتعليمه، والعمل بأسسه وقواعده.
وها أنا الآن أضع بين يدي القارئ رسالتين في مصطلح التاريخ، متوخيا خدمة لغتي وبلادي، ومحاولا أن أفتح بابا جديدا لطلاب التاريخ العربي، ينفذون منه إلى مجاهله، ويتوصلون به إلى فهم الروح العلمية الحديثة التي تتجلى في مؤلفات علماء الغرب اليوم. فكأي من قضية في تاريخنا، لا يزال مؤرخونا يخبطون في حلها، خبط عشواء، وكأي من ناحية في حياة القدماء، في العصور السالفة يجهلونها تمام الجهل، وحسبنا أن نذكر أن أكثر مؤرخينا اليوم يزعمون أن كتابة التاريخ لا تتعدى نقل الرواية والإلمام بقواعد اللغة. ففي عرفهم أنك إذا أجدت الإنشاء وفهمت بعض النص، فقد هيئت لك العدة لكتابة التاريخ، ولقد فات هؤلاء أن التاريخ هو علم أيضا، يعوزه ما يعوز سائر العلوم الأخرى من طب وهندسة وفقه وغيرها، وأنه لا بد لصاحبه من أن ينشأ نشأة علمية خالصة يتربى فيها على الشروط الفنية التي يقتضيها كل علم، مما أوردنا في تضاعيف هذا الكتاب، ولعلي أول من حاول أن يربط ما توصل إليه علماؤنا في الحديث بما وضعه علماء الغرب اليوم، في هذا الحقل من العمل.
أسد رستم
عن الشوبر لبنان في 12 أيلول سنة 1939
عن رأس بيروت في 2 نيسان سنة 1955
الباب الأول
التقميش
إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها. هذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها، وذلك أن التاريخ لا يقوم إلا على الآثار التي خلفتها عقول السلف أو أيديهم. فإذا سطت محن الدهر، أو عوادي الزمن، على بعض هذه الآثار، وأزالت معالمها، فقدها التاريخ، وكانت كأنها لم توجد، وبفقدها يجهل التاريخ عصرها ورجالها. أما إذا بقيت، وحفظت، فقد حفظ التاريخ فيها. لهذا يرى المؤرخون لزاما في أعناقهم، قبل كل شيء، أن يتفرغوا للبحث والتفتيش، عن شتى الآثار التي تخلفت عن السلف، والتي اصطلحنا أن نسميها أصولا.
والأصول لدى المؤرخ، هي جميع الآثار التي تخلفت عن السلف، فالرسائل الواردة إلى مجلس محمد علي باشا، والصادرة عنه هي أصول لتاريخ هذه الحقبة من تاريخ العرب، ومجموعة المدافع والأسلحة التي ترجع إلى عهده والتي لا تزال محفوظة في وزارة الحربية في مصر وفي سراي عابدي الملكية، هي أيضا أصول، بعرف المؤرخ واصطلاحه، وكذلك جامعه الشهير القائم اليوم على هضبة المقطم، والذي يطل ويشرف على مدينة القاهرة، وقل الأمر نفسه على عظامه المحفوظة في مثواه في داخل هذا الجامع العظيم، وعن بقايا ألبسته وأدواته الشخصية التي لا تزال محفوظة، لدى أحفاده في سراي عابدين الملكية ، وسائر قصورهم . وما يصح من هذا القبيل على الآثار الشخصية المتخلفة عنه، يصح أيضا على آراء غيره من المعاصرين وآثارهم؛ فتاريخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الذي عاش في القاهرة وعاصر عزيز مصر هو أيضا أصل من الأصول، وكذلك كتاب الدكتور كلوت بك الذي استخدم في حكومة الباشا والذي أسس كلية الطب في القصر العيني، وكتاب الدكتور مخايل مشاقة الدمشقي الذي درس الطب في القصر العيني، والذي التحق بخدمة الأمير بشير الثاني، وغيره من الأمراء الشهابيين الذين عاصروا عزيز مصر، ودخلوا تحت حكمه ردحا من الزمن، كل هذه في عرف المؤرخين ضروب من أصول، وهلم جرا.
فإذا صحت القاعدة العامة - وهي صحيحة دون جدال - في أنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ، أقول إذا صحت هذه القاعدة لزم على المؤرخ أن يبدأ عمله دائما بجمع الأصول، وهي لعمري حقيقة أساسية لازمة، عرفها علماء الحديث قرونا عديدة، وعملوا بها قبل أن يدرك فائدتها، وينوه بصحتها، ويحبذ العمل بها المؤرخون الحديثون، إن في أوروبا أو في غيرها من مراكز العلم الحديث.
قال المحدث الشهير أبو حاتم الرازي،
1
من أعيان القرن الثالث: «إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش.»
2
وقد جاء في المحيط: «قمش القماش يقمشه قمشا» جمعه من ها هنا وها هنا، والقماش ما على وجه الأرض من فتات الأشياء، وتقمش الرجل أكل ما وجد وإن كان دونا، فإحياء لذكر الرازي، واعترافا بجهود المحدثين وفضلهم على علم التاريخ؛ نرى من الواجب أن نسمي أول خطوات المؤرخ المدقق المنقب التقميش، فنقول: على المؤرخ قبل كل شيء أن يعنى بتقميش الأصول؛ لأنه إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها.
والآن وقد ثبت لدينا وجوب التقميش، ننتقل إلى النظر في كميته فنتساءل: أيجب أن نجمع كل الأصول أم نكتفي ببعضها؟ وبطبيعة الحال، يصبح هذا البعض ما يسهل علينا الوصول إليه - ما قد نجده مثلا في البلدة التي نقيم فيها أو في أقرب المكاتب إلينا - نتساءل فنجيب: إذا كانت غاية المؤرخ الوصول إلى الحقيقة؛ فالحقيقة هي كل الحقيقة، لا بعضها ، وهي وحدة تامة لا تتجزأ.
أوليس مما يثلج الصدر ويبهج النفس أن يكون علماء الحديث قد سبقوا الغرب في هذا أيضا فنوهوا به؟ قال الإمام الحافظ مفتي الشام وشيخ الإسلام الشيخ تقي الدين الشهرزوري في مقدمته الشهيرة، وبمناسبة الكلام في معرفة آداب طالب الحديث:
3 «ليكتب وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام ولا ينتخب. فقد قال ابن المبارك، رضي الله عنه، ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت، وروينا عنه أنه قال: لا ينتخب على عالم إلا بذنب، وروينا أو بلغنا عن يحيى بن معين أنه قال: سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه الندامة.»
ومما لا بد من الإشارة إليه، قبل اختتام هذا الفصل، مساس الحاجة في العالم العربي اليوم إلى المشتغلين في التقميش في شتى العلوم العربية، ولا يختلف اثنان، فيما نعلم، في أن علماء العرب اليوم يعيشون في القرن العشرين، وإنهم مع احترامهم لما أنتجه السلف الصالح، ومفاخرتهم به، ينوون النهوض بثقافتهم وتراثهم القومي، إلى مستوى الأمم الرقية كي يتمكنوا من خدمة العلوم التي يشتغلون بها، ومن السير مع زملائهم الغربيين في مضمار التقدم والعمران. فالعلوم العربية اليوم في بدء نهضة مباركة، وعلماء العرب في بدء عمل عظيم. فليس أفيد والحالة هذه من الاشتغال في التقميش إن في اللغة أو في التاريخ أو في الفلسفة أو في الفنون العربية.
والمجال واسع من هذا القبيل. فإنه بإمكان البعض أن يتعاضدوا في تأسيس أو تشجيع المكتبات العمومية، وفي مقدور البعض الآخر أن يعنوا في التفتيش عن المخطوطات العربية في جميع المواضيع، ومن المستحب أن يقوم البعض في نشر مجلة أو مجلات ببليوغرافية، أو في نشر فهارس بعض المكتبات العمومية والخصوصية.
وقد قلنا، منذ عشرين سنة، عندما بدأنا بنشر الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا - قلنا، ولا نزال نقول: إن مؤرخي العصر الحاضر، وإن حسبناهم على مستوى واحد مع رصفائهم في العصور السالفة، فهم يفوقونهم، بما توافر لديهم من المصادر والمراجع الأولية، التي لم يتسن لأولئك الأسلاف الوقوف عليها.
الباب الثاني
العلوم الموصلة
لا بد للمؤرخ العصري المدقق، من ولوج باب آخر، كي يتمكن من الوصول إلى الحقيقة. عليه أن يقلب ما قمش وينعم النظر فيه؛ ليرى إذا كان بإمكانه أن يدرك كنهه فيستعمله في تشييد ما يبني من صروح التأريخ، وإذا فعل سرعان ما يشعر بحاجته إلى ما نريد أن نسميه بالعربية العلوم الموصلة، والاستعارة في هذه التسمية من علم التفسير؛ فقد أجمع المفسرون على وجوب التمكن من العلوم الموصلة إلى علم التفسير قبل الشروع في فهم القرآن الكريم، وبيان معانيه، واستخراج حكمه وأحكامه، والعلوم الموصلة في عرف المفسرين إلى علم التفسير هي علم اللغة، وعلم النحو، وعلم التصريف، وعلم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وعلم القراءات، وأسباب النزول، وأحكام الناسخ والمنسوخ، وأخبار أهل الكتاب، وعلم أصول الفقه، وعلم الجدل.
وقد وجدنا باختبارنا عندما خطونا خطوة التقميش في تاريخ العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أن الأصول لهذه الحقبة من تاريخنا ترد في العربية والتركية والإفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية والبولونية والروسية، وأهمها اللغات الخمس الأولى. فأسرعنا إلى التقاط ما ينقصنا منها، وكم كنا نود لو كان بإمكاننا أن نتعلم الباقي منها كي لا تكون استنتاجاتنا موقوفة على مقدرة المترجمين من هذه اللغات.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فإنه ليس لنا ما لبعض زملائنا في توريخ بعض الأزمنة مجموعات من التعريفات الفنية، ونحن، وإن كنا لا ننكر فائدة قاموس محيط المحيط للعلامة بطرس البستاني، فإننا لا نرى فيه جميع ما نطلبه من اللهجات العامية المحكية في عصره، وأما معجم المستشرق الهولاندي رينهاردت دوزي، فإن معظمه مبني على آداب العربية في القرون الوسطى؛ ولذلك فإن فائدته ضيقة النطاق محدودة الجدوى لمن يعنى مثلنا في تاريخ العرب في القرن التاسع عشر.
وهل لعلمائنا الأعلام أقطاب اللغة العربية وأعضاء مجمع فؤاد الأول للغة، أن يكفوا عن البحث في مثل الشاطر والمشطور والكامخ بينهما، والأرزيز والطرطران والعرعور والدويداء، فينصرفوا إلى التعاون في تنظيم العمل لوضع قاموس على مثال معجم أوكسفورد للغة الإنكليزية؟ فإنك لو طلبت كلمة أدميرل الإنكليزية في هذا المعجم العظيم تجد أولا مقدمة في أصلها العربي - أمير البحر أو أمير الماء - واشتقاقها منه، ووصولها إلى الإنكليز من عرب الأندلس وصقلية، بواسطة الإسبانية أو الإيطالية. وتجد ثانيا جميع معانيها الإنكليزية المستعملة الآن، العمومي والخصوصي الفني، مع الاصطلاحات المشتقة منهما، وتحت كل من هذه المعاني تجد كذلك الاستشهادات الكافية، باستعمالها في كتب أكبر أدباء الإنكليز وعلمائهم، منذ أن شاع استعمالها، في أوائل القرن الثالث عشر، حتى الجيل الذي دخلت فيه هذا القاموس العظيم. فقد ورد في الشرح على هذه الكلمة الدخيلة ما يزيد على الأربعين شاهدا، مأخوذة كلها من آداب اللغة الإنكليزية ما بين سنة 1205 وسنة 1888، ومرتبة جميعها بترتيبها التاريخي، لإظهار تطور المعنى، بتطور الظروف والأحوال. ومن محاسن هذا المعجم، أنك تجد فيه جميع هذه الاستشهادات مقرونة بذكر كاتبها الأول، وتاريخ استعمالها مع الإشارة إلى المجلد والصفحة الموجودة فيها، وقد ورد في الشرح على كلمة ست
SET
أكثر من مائة وخمسين معنى، وما ينيف عن الثلاثة آلاف وثلاثمائة استشهاد، من أهم كتب هذه اللغة ما بين سنة 900 وسنة 1900م.
ولدى إعادة النظر في بعض ما عثرنا عليه من الأصول المشار إليها، ألفينا رسائل رسمية متبادلة بين حكام ذلك العصر، توخى كاتبها نوعا خاصا من الخط العربي هو الديواني المعلق، ولا يخفى أن قراءة الخطوط العربية العادية لا تكفي للتيقن من قراءة الخط الديواني المعلق. فأخذنا عندئذ ندرس قواعد هذا الخط للتثبت من قراءة الأصول المكتوبة به، وقل الأمر نفسه عن الأختام المستعملة في هذه الرسائل. فلا بد لنا من معرفة المواد التي كانت تصنع منها هذه الأختام، وكيفية بصمها، مثلا، وعدد الأشخاص الموكلين بها، وغير ذلك من الأمور التي تقع اليوم في أوروبا، تحت علم «السفراجستيك».
ويشعر مؤرخ هذه الحقبة من تاريخ العرب بحاجة إلى أبحاث علمية، في أصول المخابرات الرسمية في مصر وسوريا والعراق وغيرها من البلدان المجاورة في القرنين الأخيرين؛ لأنه يظهر أن كتاب هذين القرنين كانوا يتمشون بموجب عادات مرعية، ففواتح مراسلاتهم، وغرضها المقصود، وخواتمها جميعها تنم عن وجود عادات في الكتابات الرسمية. قال أحد المقربين إلى الأمير بشير الشهابي الشهير - ولعله الشيخ ناصيف اليازجي: «وكل واحدة من هذه الطوائف (في لبنان) في الطبقتين أعني الأمراء والمشايخ، يلقبه الحاكم في كتابته له بالأخ العزيز. غير أن في ملحقات هذا اللقب اختلافا من وجوه كثيرة بين الأمراء. فإن الأمير، إن كان من بني اللمع يكتب له الحاكم، جناب حضرة الأخ العزيز الأمير فلان المكرم، حفظه الله - تعالى - أولا: مزيد الأشواق لمشاهدتكم في كل خير، والثاني كذا وكذا، وهذه الكتابة تكون في نصف طبق من الورق، وإن كان من بني رسلان: يكتب له مثل ذلك، ولكن، في ربع طبق من الورق، ولا يقول في أثناء كتابته، والثاني: وبعده، ومتى أراد أن يكتب اسم نفسه في آخر الكتابة قال: محبا مخلصا لا أخا، ولا يكتب لقب نفسه بل يكتب ثلاث نقط متصلة تحت اسمه، وتحتها نقطتان متصلتان. يشير بالأولى إلى شين شهاب وبالثاني حرف ب.»
1
وما إلى ذلك من قواعد منظمة متبعة كل الأتباع على ما يظهر.
وقد وجدنا بالاختبار أنه لا بد لنا في تحري الحقيقة التاريخية، من معرفة أنواع الحبر وألوانه، وأشكال الورق - من حيث الطول والعرض واللون والسماكة - وشركات إصداره إلى الأقطار العربية، وتمغاتها الشفافة عليه، وأصناف الأقلام وظروف استعمالها، في مختلف الدوائر والدواوين، ولا يخفى ما في درس هذه الأمور جميعها من الأهمية، لفهم محتويات المخابرات الرسمية وإيجاد تواريخها، وتثبيت أصالتها وعدم تزويرها، لا بد إذا من تعلم اللغات التي ترد فيها الأصول، ومن الاستعانة بمثل ما تقدم ذكره، من العلوم والفنون، وهل ننسى القرآن والتفسير والحديث ووجوب التضلع في هذه العلوم لمن يعنى بتاريخ العرب؟
وهنالك طائفة أخرى، من العلوم الموصلة، لا مفر من الوقوف عليها، والاسترشاد بنظرياتها ونواميسها، كي نستعين بالماضي، على فهم الحاضر، وتدارك المستقبل. لا بد للمؤرخ العصري، من التبحر في العلوم الاجتماعية والفلسفية، إذا ما أراد أن ينظر إلى باطن المجتمع الماضي، ليتوصل إلى العوامل الأساسية، التي أثرت في عقول السلف، ودفعتهم لإحداث ما حدث من وقائعهم، إن في الحرب أو في السلم، وقد أظهر علماء الاجتماع، كل في دائرة اختصاصه، أن كل حادث مضى، إنما هو مظهر لقوى شتى؛ اجتماعية واقتصادية وسياسية ونفسية وغير ذلك، تضافرت في إبرازه إلى حيز الوجود؛ ولذا كان محتما على المؤرخ المدقق، إذا ما أراد فهم حقيقة الماضي، أن يحيط علما بهذه القوى، وأن يطلع على نتائج أبحاث العلماء، في جميع العلوم الاجتماعية.
وهل يختلف اثنان، في أنه يجب على مؤرخ العلوم الرياضية، أن يكون مؤرخا ورياضيا من الطبقة الأولى، وهل بإمكان من يجهل العلوم الرياضية من المؤرخين، أن يبت في تفوق علماء اليونان على علماء الشرق القديم، في مضمار علمي الهندسة والفلسفة الطبيعية؟ أو أن يحكم فيما إذا كان علم الجبر وعلم المثلثات من ابتكارات العرب أو لا؟ أو أن يقدر جهود لابلاس ونويتن ومونج حق قدرها؟ أو ليس من المضحك أن يتصدى للحكم على ابتكارات أينشتاين من لا يفقه شيئا من الرياضيات العالية؟ وقل الأمر نفسه عن تاريخ العلوم الطبيعية والطب وغير ذلك.
الباب الثالث
نقد الأصول
الفصل الأول: التزوير في الأصول والدس فيها، ووجوب التثبت من صحتها وأصالتها
والآن، وقد جمعنا الأصول، وتذرعنا بالعلوم الموصلة إليها، يجدر بنا أن نفكر قليلا في الأمر، قبل أن نخطو خطوتنا الثالثة.
هل يبدأ المؤرخ، فور انتهائه من درس العلوم الموصلة، في مطالعة الأصول لاستخراج مكنوناتها، أم يتربص قليلا للنظر في أصالة ما لديه منها (أي من الأصول)؟
وهل من مبرر للتردد في هذا الأمر؟ فلو بدأنا فور انتهائنا من العلوم الموصلة في استخراج المهم من أخبار الأصول، وزاولنا العمل مدة من الزمن، ثم تيقنا بعد ذلك أن ما اعتبرناه أصلا من الأصول، هو في الحقيقة أثر من آثار المتخلفين غير المعاصرين، أو أنه وضع خصيصا للمغالطة والتضليل، أقول: لو بدأنا بمثل ما تقدم ذكره، وتيقنا وقوع التضليل والتزوير، لضاع وقتنا سدى ، وأصبحنا من الخاسرين .
فعلى المؤرخ إذا، عند انتهائه من العلوم الموصلة، أن يتأكد، أولا: من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوها من كل دس أو تزوير، ولعله من المفيد أن نبدأ هذا البحث، باستعراض بعض ما اختبرناه من هذا القبيل.
لما جاءت اللجنة الدولية، لتدرس قضية البراق الشريف، وقدم سماحة الحاج أمين أفندي الحسيني وثائقه الرسمية، جاهر بعض المعاكسين بشكهم في صحة وثيقة ترجع إلى زمن اختصاصي. فطلب إلي عندئذ بعض الأصدقاء، أن أستشف هذه الوثيقة من الوجهة العلمية الفنية التاريخية، فلبيت الطلب.
وثيقة الحاج أمين أفندي الحسيني قطعة من الورق الصكوكي القديم، يبلغ طولها 27 سنتمترا ولا يتجاوز عرضها ال 14، وهي مكتوبة بالحبر الأسود الإستانبولي، وموجهة من محمد شريف «حكمدار بر الشام» في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف آنئذ، وهي مؤرخة في 24 ربيع الأول سنة 1256ه، الذي يوافق 27 أيار سنة 1840م، وهذا هو نصها بالضبط:
افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام، أخينا السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف حالا: إنه ورد إلينا أمر سامي سر عسكري مضمنه صورة إرادة شريفة خديوية صادرة لدولته يعرب مضمونها العالي أنه حيث قد اتضح من صورة مذاكرة مجلس شورى القدس الشريف بأن المحل المستدعين تبليطه اليهود هو ملاصق إلى حائط الحرم الشريف، وإلى محل ربط البراق، وهو كائن داخل وقفية حضرة أبو مدين (قدس سره) وما سبق لليهود تعمير هكذا أشياء بالمحل المرقوم، ووجد أنه غير جائز شرعا، فمن ثم لا تحصل المساعدة لليهود بتبليطه، وأن يتحذروا اليهود من رفع الأصوات وإظهار المقالات ويمنعوا عنها، فقط يعطي لهم الرخصة بزياراتهم على الوجه القديم، وصادر لنا الأمر السامي السر عسكري بإجراء العمل بمقتضى الإرادة المشار إليها، فبحسب ذلك اقتضى إفادتكم بمنطوقها السامي لكي، بوصوله، تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم في 24 ر 1 سنة 256 محمد شريف.
جرنال 368 نمرة 39
أصلية إذا أم مزورة؟ نقول: لا بد لنا للوصول إلى الحقيقة في مثل هذه الأحوال من تفحص هذه الوثيقة التاريخية من وجهتيها الخارجية والداخلية، فنتذرع بما يسميه المؤرخون الدليل الظاهري والدليل الباطني. فلنبدأ بالظاهر الملموس ولندقق بالورق أولا ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحبر والقلم فالخاتم، فعادات المراسلة في ذلك العهد، فاللغة والأسلوب.
أما ورق هذه الوثيقة فإنه ورق الحكومة المصرية بالذات؛ إذ إنه صكوكي قوي يتفق من حيث تركيبه الكيماوي وتوزيع أليافه، وتمغته الشفافة مع الألوف المؤلفة من وثائق الحكومة المصرية، في ذلك العهد التي لا تزال محفوظة في سراي عابدين الملكية، وفي جامعة بيروت الأميركية، وفي خزانات المؤسسات والبيوتات الكبيرة في مصر، وفي الأقطار الشامية، وحبر هذه الوثيقة هو حبر وثائق الحكومة المصرية في ذلك العهد، وأكثر الوثائق الصادرة عن حكام ذلك العصر كانت تكتب بالحبر الإستانبولي، وهو مزيج كيماوي بسيط للغاية ومؤلف من كمية معينة من الكاربون التجاري، وقدر محدود من الصمغ والماء، وبإمكان من يود التأكد من هذا الأمر، أن يتيقنه بالمكروسكوب أولا، ثم إن أراد بواسطة التحليل في المختبر، ولدى التدقيق بالمكرسكوب والنظر في الأثر الذي تركه القلم في خط هذه الوثيقة وجدنا أنها كتبت بقلم قصبي مما يتفق مع عادات الكتاب والنساخ في دواوين ذلك الزمن، وقل الأمر نفسه عن الخط، فإنه من النوع الذي شاع في دواوين الحكومة المصرية ومجالسها، الخط في عهد محمد علي باشا وابنه إبراهيم.
وليس في عنوان هذه الرسالة «افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام أخينا السيد أحمد ... إلخ»، أو في خاتمها «لكي، بوصوله تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم.» نقول ليس في عنوان هذه الرسالة أو في خاتمها من حيث المفردات المستعملة أو الأسلوب ما يوجب الشك في أصليتها.
هذا، وفي الانتقال فجأة من العنوان إلى الغرض المقصود «إنه ورد لنا أمر سامي ... إلخ»، وغض النظر عن التحية التي كانت ترد في غالب الأحيان، بعد العنوان وقبل عرض الغرض المقصود، كقول عبد الله باشا مثلا، حينما خاطب متسلم بيروت وأعيانها سنة 1241ه: «بعد التحية والتسليم بمراسم الإعزاز والتكريم المنهي إليكم ... إلخ»؛ نقول: إنه في الانتقال فجأة من العنوان إلى الغرض المقصود وفي إهمال التحية، دليل آخر على صحة هذه الرسالة وعدم تزويرها. فإن الولاة والحكام في الأقطار الشامية، قبل إبراهيم باشا ومحمد شريف باشا وبعدهما، كانوا شديدي التمسك بالتحية المشار إليها أعلاه في مراسلاتهم الرسمية مع متسلمي المدن وغيرهم من موظفي الحكومة.
ونرى، بعد هذا كله في جهل كاتب هذه الرسالة لقواعد اللغة العربية، دليلا آخر نستأنس به على صحتها وأصالتها؛ فكتاب الدواوين في النصف الأول من القرن الماضي في مصر والشام والعراق، كانوا يجهلون قواعد لغتهم ويكثرون في بعض الأحيان من استعمال المفردات الأعجمية، عند مساس الحاجة إليها، ولا يستثنى من ذلك إلا ديوان حاكم لبنان الأمير بشير الشهير.
وهي، لعمري حقيقة ناصعة تبدو للباحث حالما يرجع إلى المخابرات الرسمية المحلية في ذلك العهد، ويبدأ بتفحصها واستشفافها، وطريقة التاريخ هذه الوثيقة، هي الطريقة المتبعة في جميع أوراق الحكومة المصرية في ذلك العصر، كما أبنا ذلك بالتفصيل في مقدمتنا للأصول العربية في تاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وكذلك الإشارة إلى الجرنال والعدد فإنها موجودة في قسم كبير من أوراق الحكومة المصرية التي صدرت في سنة 1256ه.
وهنالك طائفة من الأدلة يتذرع بها المؤرخ أحيانا بإمكاننا أن نقول فيها: إنها ظاهرية وباطنية في آن واحد. فمن هو محمد شريف باشا الذي صدرت عنه هذه الوثيقة؟ ومن هو أحمد أغا دزدار الذي وجهت إليه؟ وهل كان الأول حاكما عاما يصدر مثل هذه الأوامر، والثاني متسلما على القدس يتلقى أوامره من الأول؟ وهل قاما بأعباء وظيفتيهما في شهر ربيع الأول من شهور سنة 1256ه؟ وغير ذلك من الأدلة من نوع ما تقدم. فهي باطنية لأنها تتعلق بمضمون الوثيقة، وظاهرية؛ لأنها ليست مما تنطق به الوثيقة، وإنما تستخرج من مصادر أخرى مستقلة كل الاستقلال عن الوثيقة التي نحن بصددها.
ولحسن الحظ لا يزال قسم كبير من أوراق الحكومة في ذلك العصر محفوظا في سراي عابدين الملكية، وبإمكان المؤرخ أن يرجع إليه للتثبت مما تقدم، وبإمكاننا نحن - بعد اطلاعنا على محفوظات السراي في عابدين - أن نصرح، دون تردد، أن محمد شريف باشا كان حاكما عاما على الأقطار الشامية من أوائل سنة 1248ه حتى أواخر سنة 1256ه، ومما لا شك فيه أيضا بعد الاستناد إلى محفوظات عابدين الملكية وسجلات المحكمة الشرعية في القدس أن أحمد أغا دزدار كان قائما بأعمال المتسلمية في القدس، في شهر ربيع الأول من شهور سنة 1256ه، وأن محمد شريف باشا كان يسيطر على أعمال متسلم القدس وغيره من حكام المدن والمقاطعات في جميع الأقطار الشامية آنئذ، وأنه كان بدوره يتلقى أوامره من محمد علي باشا وابنه السر عسكر إبراهيم باشا كما تنص الوثيقة، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، الإشارة إلى اطلاع عزيز مصر على قضية البراق، وصدور الأمر عنه بمنع اليهود عن تبليط محل ربط البراق، واستعماله للصلاة وإجراء بعض الطقوس الدينية فيه. فالبت في مثل هذه الأمور الطائفية كان من صلاحية العزيز في مصر، لا يشاركه فيه أحد من الموظفين في حكومته.
والدليل الباطن على صحة هذه الوثيقة متنوع أيضا. فلو تفحصنا محتويات هذه الوثيقة وغرضها المقصود، نجد أنها توافق في روحها ما نعمله من تاريخ علاقة اليهود بمحل ربط البراق، وما نعرفه عن موقف المؤسسات الإسلامية والحكومات المحلية من هذه القضية في ذلك العهد.
قال الرحالة روبنسن المشهور، الذي زار القدس عام 1838 ما نصه: «مباح لليهود أن يشتروا حق الدنو من مركز هيكلهم، وحق الصلاة والبكاء على خرابه وتبدد أمتهم.»
وقال القنصل فن الإنكليزي الذي تولى إدارة القنصلية البريطانية في القدس، ما بين سنة 1845 وسنة 1863 ما ملخصه: «يدفع الحاخام باشي إلى الأفندي الذي يجاور المبكى ثلاثمائة ليرة إنكليزية كل سنة، بدل الإذن له ولليهود معه أن يصلوا هناك.» ولعل الأفندي المشار إليه هنا هو وكيل وقفية أبي مدين، كما في الوثيقة التي نحن بصددها. هذا ولا يخفى ما كان يؤديه اليهود من هذا القبيل إلى السلطات الوثنية، فالمسيحية قبل دخول المسلمين إلى هذه البلاد. أما رتر الإلماني، الذي عاصر زمن الوثيقة، والذي وضع مؤلفه العظيم، عن جغرافية فلسطين، حوالي سنة 1845، فإنه يقول: إن قسما مهما من مساكن اليهود نفسها، ببيت المقدس، كان ملك الحرم الشريف.
ومن يطالع رحلات الفرنجة في هذه البلاد، حوالي سنة 1840، يجد أن قسما من اليهود آنئذ، في أوروبا وأميركة وفلسطين، كان ينتظر مجيء المسيح وجمع الشمل كما ورد في بعض الأسفار المقدسة، وكان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة على كلام دانيال النبي، في الإصحاح الثامن من سفره الكريم؛ حيث يقول: «فسمعت قديسا يتكلم قال قديس لفلان الذي يتكلم معه إلى متى الرؤيا رؤيا المحرقة الدائمة والمعصية المدمرة، وحتى متى يجعل القدس والجند مدوسين. فقال لي إلى ألفين وثلاثمائة مساء وصباح ثم يطهر القدس.» كان بعضهم يعلق الآمال الكبيرة، على هذه النبوة، فيقول: إن المراد باليوم فيها هو السنة، وأن المدة تبتدئ من سنة 456ق.م لقوله تعالى: «إن سبعين عاما حددت على شعبك وعلى مدينة قدسك.» فيضيفون أربع سنوات إلى التاريخ المسيحي لأجل تصحيحه ويجمعون 456 مع 1844 (السنة 1840 المصححة) فيصير العد 2300 كما في النبوة.
وكان هذا البعض من اليهود يعتقد أيضا أنه لا بد من تعمير المدينة المقدسة وتجديد بناء الهيكل، كما ورد في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر حزقيال النبي؛ حيث يقول: «وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي، وآتي بكم إلى أرضكم ... وأسكنكم في المدن، وتبنى الأخربة.»
ووافق هذا المعتقد مجيء السر موسى مونتوفيوري، الأراضي المقدسة، وإكثاره من العطاء كما تنص على ذلك الأصول التاريخية، وكما تشهد به المستعمرة التي لا تزال تحمل اسمه حتى هذه الساعة.
وإذا تذكرنا أن هؤلاء اليهود عاشوا في عقد من الزمن، كثر فيه تسامح الحكومة المصرية وتساهلها إذا تذكرنا كل هذه الأمور، سهل علينا الاستئناس بأمر التبليط في الوثيقة الدزدارية، واضطررنا أن نرى في موافقة التاريخ لمضمونها دليلا آخر على أصليتها.
ولنا في موافقة مضمون هذه الوثيقة، لما جاء في محفوظات سراي عابدين الملكية دليل آخر على صحتها وعدم تزويرها. فالمحفظة 259 من محافظ عابدين تحفظ لنا شكوى شيخ المغاربة في القدس في سنة 1256 على اليهود في موضوع الوثيقة التي نحن بصددها، وقد حفظ لفا مع هذه الشكوى قرار طويل لمجلس شورى القدس في الموضوع نفسه، وفي هذا القرار بيان واضح لحق المغاربة واعتداء اليهود، وبين إمضاءات أعضاء المجلس إمضاء لممثل الطائفة اليهودية فيه، فتأمل.
فبناء على ما نعرفه من نوع ورق هذه الوثيقة، وقاعدة خطها، وأسلوب إنشائها وطريقة تاريخها وختمها، وبناء على موافقة النصوص التاريخية لمضمونها، نرانا مضطرين أن نقول بأصليتها وعدم تزويرها.
ومما اختبره زميلنا الأستاذ جبرائيل جبور
1
من هذا القبيل نوع من التزوير لم يسلم منه كثير من الأصول، وذلك أن أصحاب الكتب الخطية، كانوا في بعض الأحيان، يضيفون على الهامش أو في أواخر الفصول والأبواب، أخبارا أو آراء جديدة تتعلق به. ثم تمر الأيام، وينسخ بعض هذه الكتب، فتدخل الزيادة في الأصل ويثبت الشرح في المتن، ويختلط الأمر على المتأخرين، فينسب كل ما في النسخة الخطية المتأخرة إلى المؤلف، وهذا النوع من التزوير هو ما نريد أن نسميه الدس، مقصودا كان أو غير مقصود، وفي محيط المحيط: دس الشيء ودسه فيه يدسه دسا أدخل ودفنه تحته وأخفاه.
وقد وجد الأستاذ جبور، عندما درس كتاب العقد لابن عبد ربه،
2
أن ناشري الطبعات التي بين أيدينا لهذا الكتاب، اعتمدوا على نسخة خطية، دست فيها جملة كثيرة من الأخبار، فأثبتوا الأصل والزيادة في طبعاتهم، دون أن ينتبهوا إلى الأمر أو يشيروا إليه، والغريب أن بعض هذه الأخبار المدسوسة، كانت ظاهرة، لا يحتاج أمر اكتشافها إلى كثير من العناء أو التدقيق.
فإنك إذا قرأت العقد ترى أنه قد ترجم فيه، في كتاب اليتيمة الثانية،
3
لأربعة خلفاء من بني عباس، هم الراضي والمتقي والمستكفي والمطيع، وكلهم توفي بعد وفاة ابن عبد ربه؛ أي بعد سنة 328ه، وترى في ترجمة الأخير أنه قد خلع نفسه سنة 363ه؛ أي بعد موت ابن عبد ربه ب 35 سنة. أوليس من المؤسف أن يقدم الناشر المحلي على مثل ما تقدم بعد أن يكون العلامة تيودور نولدكه قد نبه في كتابه أمراء غسان ، إلى هذا الدس؟!
4
ولم يكتف الأستاذ جبور في وقوفه مع العلامة نولدكه على إظهاره هذا القدر من الدس. بل دفعه الأمر إلى مراجعة الباب كله. فإذا هو يستهل بالعبارة: «فرش ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم وحجابهم
5
وهي المرة الوحيدة التي تستعمل فيها كلمة فرش في أول باب ما، إذ أن استعمالها في العقد كله واقع في أوائل الكتب لا في أوائل الفصول والأبواب.» وقد نبه إلى ذلك ابن عبد ربه نفسه في المقدمة؛ حيث قال: «وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره، من متخير جواهر الأدب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجواهر ولباب اللباب.» وإنما لي فيه، تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لدور كل كتاب
6
زد على ذلك، أنه ليس في الباب هذا، فرش كما في أوائل الكتب، وإنما هو ذكر للفرش ليس إلا؛ حيث ترى أن الباب يبدأ بأبي العباس السفاح، دون توطئة أو تمهيد، أو فرش كما اصطلح ابن عبد ربه أن يقول.
وبحث الأستاذ جبور في فرش اليتيمة الثانية، يطلب ذكر هذا الباب فلم ير لذلك أثرا، وطلب فرش الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعها، وهو الكتاب الذي يلي اليتيمة الثانية، يبحث عن ذكر لأخبار بني العباس، فلم يعثر على شيء. ثم عاد إلى مقدمة العقد نفسه، وفيها جدول بكتب العقد وفصولها، فلم ير في شرحه سوى «تم كتاب اليتيمة الثانية» في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة»، وهنا رأى الأستاذ جبور أنه يحق له أن لا يرتاح إلى أن هذه الأخبار عن بني العباس قد دونها ابن عبد ربه، وأن يزعم أنها ربما قد دست عليه بعد موته، أو أن قسما منها قد دس، ونقل القسم الآخر من موضع آخر؛ حيث إنه كان الأولى بابن عبد ربه - إن كان قد ألف هذين البابين - حملا على ما عرف عنه من حسن التبويب والتصنيف، وتبعا لما أخذ على نفسه في مقدمة عقده؛ حيث قال: «ثم قرنت كل جنس منها إلى جنسه فجعلته بابا على حدته؛ ليستدل الطالب للخبر على موضعه من الكتاب ونظيره من كل باب.» كان الأولى به أن يضع هذين البابين في الكتاب السابق - كتاب العسجدة الثانية - حيث يبحث في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، وحيث نرى بابا خاصا في أخبار الدولة العباسية.
7
ولابن عبد ربه، فصل في هذا الكتاب المذكور، يدور على توقيعات الخلفاء، فيه باب في توقيعات بني العباس،
8
ليس فيه توقيع لخليفة بعد المأمون، والغريب أن الذي دس في المواضع السابقة، قد فاته الدس هنا، وأن وقوف ابن عبد ربه عند المأمون ليحملن على الظن، أن أكثر الأخبار التي وردت في العقد، عن خلفاء بني العباس، ممن عقب المأمون، دست على ابن عبد ربه، بعد موته، وليس غريبا أن يصدق هذا الظن، لا سيما ونحن نعلم أن ابن عبد ربه، قد أخذ أكثر أخباره، عن كتب مدونة، لمؤلفين سبقوه، أكثرهم لم يدون أخبار من عقبوا المأمون. زد على ذلك، أن ابن عبد ربه، لم يذكر من توقيعات الأمراء المختلفين لأحد بعد طاهر بن الحسين، أحد قواد المأمون.
وهناك أمر آخر، دفع الأستاذ جبور إلى الظن في أنه قد طرأ على العقد بعض التغيير أو التحريف أو الزيادة، هو أن ترتيب كتب العقد، في معجم الأدباء لياقوت، يختلف عما هو عليه في العقد نفسه وفي مقدمته. على المؤرخ إذا بعد جمع الأصول وبعد الانتهاء من درس العلوم الموصلة، أن يتأكد من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوها من كل دس أو تزوير، ويتضح مما تقدم ذكره أعلاه أنه بإمكان المؤرخ أن يستعين بطائفتين من الأدلة. فهنالك أدلة باطنية، يتوصل إليها بعد درس نص الأصل نفسه، وأدلة ظاهرية، يقف عليها بعد درس الأصول الأخرى، أو بعد التمكن من بعض العلوم الموصلة. هذا ولا نرى بدا في هذا الصدد، من الإشارة إلى وجوب التريث، والترزن والتثبت. فلا فائدة ترجى من التهالك في الأمر والإسراع في العمل، ولا يخفى أن التثبت من صحة الأصول وأصالتها أمر صعب الممارسة، عزيز المنال.
وحذار حذار من الاستسلام إلى الأول بالثقة العمياء والاسترسال إليها؛ إذ لا يجوز للمؤرخ أن يكون قنوعا يثق بكل أحد أو يقنا يصدق كل ما يقرأ.
الفصل الثاني: التعرف إلى المؤرخ المجهول وتعيين الزمان والمكان
وهب أننا تثبتنا من صحة الأصل وخلوه من كل دس أو تزوير، فهل ننقاد إلى نصه وننزل على حكمه؟ أم نمتنع عن ذلك، ونعرض عن الطاعة، إلى أن نتثبت من هوية المؤرخ ونتعرف إلى شخصيته ونسبر غوره، وندرس المكان الذي عاش فيه، والزمان الذي دون فيه أخباره، أوليس من فرق، في قبول الشهادة وردها، بين رواية رئيس حكومة، عن أعماله في أثناء قيامه بأعباء الوظيفة، ورواية لحام عن الأعمال نفسها؟ أو بين رواية دونت في أثناء وقوع الحوادث المروية، وغيرها دونت بعد وقوع الحوادث بربع قرن من الزمن؟ بلى! فمن المحتم أن نتعرف إلى شخصية المؤلف، ونتثبت من أمياله ونزعاته ودرجة علمه وذكائه، واتصاله بالحوادث التي يروي أخبارها، ولا بد من الوقوف على الزمن الذي كتبت فيه هذه الأخبار، والمكان الذي سطرت فيه.
وإذا تأملنا هذا الأمير مليا نرى أن الأصول هي في غالب الأحيان صلتنا الوحيدة بحوادث الماضي، فإن أخبرتنا الخبر على حقه توصلنا إلى الحقيقة التي ننشدها، وإن أرجفت فخاضت في الأخبار المخطئة، أو الكاذبة أوقعتنا في مهاوي الضلال والتضليل؛ ولذا فإننا نرى لزاما في أعناقنا أن نتعرف إلى شخصية المؤرخين الذين نصوا هذه الأصول كي نمزق ظلمات الإشكال ونكشف معالم الهدى، ومهمتنا من هذا القبيل هي أصعب بدرجات من مهمة القضاة والمحامين، إذ إن هؤلاء يتحدثون إلى من ينقل الخبر إليهم ويمتحنونه بالاستنطاق، فهو مخبر حي ماثل أمامهم. أما مخبر المؤرخ فإنه ميت خلا مكانه وطويت صحيفته.
ومما يجدر ذكره من هذا القبيل، أنه في أواخر عام 1926 فاجأنا صديق لنا، بمخطوطة صغيرة، تحفظ أخبار الدولة المصرية العلوية في سورية، في زمن إبراهيم باشا، وبعد أن تصفحناها قليلا وجدنا أنها مغفلة، لا تحمل اسم مؤلفها، ولا تشير إلى الزمان الذي كتبت فيه، ولا إلى المكان الذي دونت فيه أخبارها، فدفعنا حب الاستطلاع إلى فحصها والتنقيب عن سرها للتعرف إلى مؤلفها، وتعيين محل إقامته، والزمان الذي دون فيه أخباره .
وبعد أن قلبنا الطرف فيها، ونظرنا في أعطافها ومطاويها، ألفيناها تضم بين دفتيها، لا أقل من ثلاثة مؤلفات مختلفة، تحتوي جميعها نتفا من أخبار إبراهيم باشا في الأقطار الشامية وبر الأناضول. فالصفحات الثلاث الأولى، تختلف عن الخمس التي تليها، والصفحات الخمس هذه تختلف بدورها عما قبلها وبعدها.
وتسهيلا للبحث، وإيراد بعض البراهين نسمي الصفحات الثلاث الأولى «ألفا»، والخمس التي تليها «باء» والباقي «جيما». فلو درسنا ما دون فيما سميناه «ألفا» وجدناه يبتدئ من حصار عكا سنة 1831 وينتهي بموقعة قونية، سنة 1832، ولو انتقلنا إلى «باء» وجدنا أن مؤلفها لا يبتدئ بذكر الحوادث التي وقعت بعد معركة قونية، وينتهي بآخر أخبار الدولة المصرية في سورية، كما هو منتظر منه فيما لو كان هو هو الذي كتب «ألفا» من قبل، بل نراه يكرر أخبار «ألف» ويقف عند ذكر فتح دمشق، وهكذا يفعل كاتب «جيم» فإنه يبتدئ من حصار عكا أيضا، ويكرر أخبار بعلبك والزراعة وزحلة ... إلخ، وينتقل بعد تكرار هذه إلى ذكر الحوادث التي لم تذكر في «ألف» و«باء» والتي حدثت بعد موقعة قونية، ولدى التدقيق في تواريخ الحوادث، وجدنا اختلافا بين روايات «ألف» و«باء» و«جيم». فإن واضع «ألف» لا يستعمل إلا التاريخ الهجري، وأما واضع باء فإنه يتشبث بالتاريخ المسيحي. ثم إن واضع «ألف» يؤرخ خبر توجه عبد الله باشا إلى مصر في 20 ذي الحجة سنة 1247، وأما «جيم» فإنه يؤرخ الخبر نفسه في 29 ذي الحجة من السنة نفسها، وبينما واضع «ألف» يؤرخ معركة حمص في 9 صفر سنة 1248، فإن واضع «جيم» يذكرها مع حوادث ربيع الأول من السنة نفسها، وفي الهامش، على خلاف عادته، يقول: إن إبراهيم باشا دخل حمص في 8 تموز نهار الأحد. كذلك نرى واضع «ألف» يقول: إن الأمراء الشهابيين ملحما وبشيرا وقاسما، توجهوا إلى إمارتهم، في 25 جمادى الأولى من سنة 1248، بين أن واضع «جيم» يجعلنا نظن أن توجههم هذا، كان بين الثاني والثامن من الشهر نفسه. أفلا يصح لنا بعد هذا الاختلاف، أن نقول إن مخطوطتنا، إنما هي مجموعة لتواريخ، لا تاريخ واحد؟
أما مؤلف القسم الأكبر من هذه المخطوطة، «جيم»، فإنه، مجهول عندنا، لا نعرف اسمه، ولا مهنته، ولا نعلم عنه شيئا، سوى ما يمكننا أن نتنسمه من أخباره في سياق كلامه عن حوادث هذه المخطوطة. فإننا لو أحصينا مثلا، جميع ما ذكره في «جيم» من الأخبار، وجدنا أن ثلثيه أو أكثر، عن لبنان والثلث الآخر عن باقي الأقطار الشامية وبر الأناضول، ولو أعدنا النظر فيما أثبته عن لبنان، وجدنا نحو ثلثيه عن دير القمر وبيت الدين، والثلث الآخر فقط عن سائر المقاطعات اللبنانية، ولو أنعمنا النظر في حوادث الدير وبيت الدين، لألفيناها أدق من غيرها وأكثر تعيينا وضبطا. نراه مثلا يؤرخ وفاة امرأة حنا الحصباني في دير القمر، وحضور المعلم بطرس كرامة من بيت الدين إلى بيته في الدير، وظهور الطاعون في البلدة نفسها، ويترك من أخباره سائر المقاطعات اللبنانية ما هو أهم منها بدرجات، ونراه يقول: «دخل إبراهيم باشا إلى بتدين في 29 أيلول بعد الظهر، حلت عساكره الظافرة في غربي سحرا الدير، عند البيادر، وأنه كان لديه خمس آليات ومدفعان وعشرون جمل جباخانه.» ويكتفي في كلامه عن بعض حوادث كسروان، بقوله: «شاع خبر» أنه صار حرب في كسروان بين عثمان باشا في عين الشقيق وأهل كسروان.
ثم نراه يشير إلى المعلم بطرس كرامة بقوله، حسب عادة أهل الدير، «المعلم»، وإلى رئيس كنيسة التلة في الدير بلفظة «الريس» فقط، ويذكر غيرهما، من أعيان سائر مقاطعات لبنان، بكامل أسمائهم. أفلا يصح لنا، بعد هذا كله، أن نقول إن المؤلف إن لم يكن لبنانيا ديرانيا، فقد كان من المقيمين في الدير أثناء وقوع الحوادث المروية في المخطوطة؟
بقي علينا أمر آخر، وهو أن ندرس خط هذه المخطوطة، ونقابله بما بقي من خطوط تلك الأيام، لنتوصل إلى معرفة كاتبها، وهكذا فعلنا. فإننا قصدنا المكتبة البطريركية، في بكركي، وطلبنا رسائل الحقبة 1831-1841 فوجدنا بعد العناء الطويل ، عدة رسائل مكتوبة بالخط نفسه، وممضاة هكذا: «القس أنطون الحلبي مدير أنطونياني»، وحينما فحصنا محتويات هذه الرسائل، وجدنا أن نفسها هو نفس مخطوطتنا، وموضوعها موضوع هذه المخطوطة بعينه، ووجدنا أيضا أن لهجة هذه الرسائل ولغتها هما لهجة مخطوطتنا ولغتها.
فقصدنا عندئذ غبطة البطريرك الماروني ماري إلياس حويك، وسألناه عن القس أنطون المذكور، لنعرف علاقته بالأمير الشهابي، الكبير. فتكرم علينا بالجواب وأكد لنا أنه؛ أي القس أنطون المذكور، كان من أقرب المقربين للأمير الكبير. فشجعنا هذا الجواب الصريح على استقصاء أخبار القس المذكور، وأشار علينا سيادة المطران عبد الله بمراجعة الأب عمانوئيل البعبداتي الأنطونياني، شيخ رهبانيته ومؤرخها. فطلبنا كتابه في تاريخ الرهبانية المذكورة، ووجدنا أن القس أنطون الحلبي كان أستاذ الأب عمانوئيل، وأنه سكت بتدين، وتقرب من الأمير الكبير.
9
وكتب إلينا الأب عمانوئيل نفسه، ردا على كتاب منا إليه، ما نصه: «بعد افتقاد خاطركم الكريم أعرض أني تشرفت بكتابكم المؤرخ في 16 كانون الثاني المنصرم (1927) ترغبون إلي أن أفيدكم عن المرحوم القس أنطون الحلبي المدبر الأنطوني، فيما إذا كان يدون أخبار أيامه، أو أنه كتب رسالة في تاريخ الأمير الشهابي الكبير أو إبراهيم باشا المصري في حروب سوريا، فأجيب أن القس أنطون المذكور عاش في أيام الأمير بشير الكبير، وكان مستشارا في ديوانه، وقد كتب عن أحكام الأمير، وعن حروبه وحروب إبراهيم باشا في سوريا، ولسوء الحظ أن تاريخه الخطي قد حرق في دير مار أنطونيوس بعبدا، في الحوادث التي جرت سنة 1845 بين النصارى والدروز. فكونوا على ثقة مما بيدكم من كتاباته؛ لأنه كان في عصره من الممتازين الذين يركن إلى قولهم، وأنا في حال ترهيبي كان المرحوم القس أنطون، المحدث عنه، مرشدي. رحمه الله رحمة واسعة. عن دير مار شعيا الموارنة في 3 شباط سنة 1927.»
أفلا يصح لنا، بعد هذا كله، أن نقول إن القس أنطون الحلبي هو في الأرجح مؤلف هذه المخطوطة وكاتبها، وأن النسخة الموجودة أمامنا الآن هي المسودة، بدليل ما نجده فيها من الضرب والتصحيح والزيادات على الهوامش؟
ويستدل من نوع ورق هذه المخطوطة، وهو صكوكي قديم معتدل في السماكة، ومن ضبط الحوادث المروية فيها، وزيادة تدقيق المؤلف في تعيين هذه الحوادث وترتيبها في يومياتها، أنها في الأرجح كانت تدون في زمن وقوعها. لأنه ليس من المحتمل أن يذكرها كاتبها، بتمامها وضبطها، بعد وقوعها بزمن بعيد، وفي بعض عبارات المؤلف واصطلاحاته، دليل آخر على تدوين حوادث هذه المخطوطة، في زمن وقوعها. فإنه قال في أثناء كلامه عن حوادث 19 تموز سنة 1840 ما نصه بالحرف: «بتاريخه شاع خبر أن في الليل الماضي، أهل المتن المجتمعين مع الأمراء، في وادي الشياطين تحت بسكنتا، قاموا وكبسوا الوزر الذين في حمانا.»
وجاء أيضا في أخبار 12 تشرين الأول ما نصه: «ووصل الوزير لنهر الصفا، وتواجه مع حنا بحري، وأفهمه أن الأمير قام لجزين، ... غضب ورجع إلى الصفا، وهذا النهار قام إلى مكسة.»
وجاء في الصفحة 108 من الكراس الثاني ما يأتي: «وقيل إنه سيتوجه إلى رومية ... إلخ.» فتأمل.
بإمكان المؤرخ المدقق إذا أن يستعين بمضمون أصل من الأصول للتعرف إلى شخصية مؤلفه، وإلى المكان الذي ألف فيه وزمن التأليف، وبإمكانه أيضا أن يتذرع بأخبار غيره من المعاصرين للتأكد مما تقدم أو لزيادة التعيين والتحديد، وعليه أيضا أن يستنير بالعلوم الموصلة لعله يفلح، ولا فائدة هنا من إعادة الكلام في العلوم الموصلة وكيفية استخدامها توصلا إلى هذه الغاية، وقد سبق الكلام فيها فليراجع في محله.
وقد تخفق آمال المؤرخ في تعيين شخص المؤلف المجهول، وتحديد الزمن الذي كتب فيه والمكان الذي عاش فيه، وعندئذ عليه أن يقنع بما قسم له ويرضى بشخصية المؤلف، وإن خفيت عليه معرفة اسمه، وإذا استحال عليه تحديد الزمن بالضبط، فعليه أن يضع لزمن وقوع الحوادث حدا أقصى وحدا أدنى؛ كيما يحصره أو يحصرها بينهما؛ أي إنه يجب عليه أن يعين التاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث قد وقعت قبله، والتاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث نفسها قد وقعت بعده، وهو أمر ميسور سهل الملتمس في غالب الأحيان، وذلك أن المؤلفين المؤرخين يشيرون أحيانا إلى بعض الحوادث التي وقعت في أثناء قيامهم بعمل التأريخ والتأليف مما يسهل مهمة المؤرخ المنقب، ويعاونه في تاريخ الأصل الذي يدرس. فلو أشار أصل من الأصول إلى كسوف الشمس كسوفا كاملا أو نص بأن ما يدونه من الحوادث وافق وقوعه حدوث حادثة مشهورة، وكان المؤرخ المنقب يعلم تاريخ هذا الكسوف أو زمن وقوع تلك الحادثة، لسهل عليه التحتيم بأن الأصل الذي يدرس لم يدون قبل وقوع هذه الحوادث، وعندئذ يجعل تاريخ وقوع هذه الحوادث حدا أقصى في تعيين الزمن الذي كتب فيه الأصل موضوع بحثه، وهلم جرا.
الفصل الثالث: تحري النص والمجيء باللفظ
وهذه مأثرة أخرى من مآثر علماء الحديث؛ فإنهم قالوا بالأمانة في نقل الحديث، وفرضوا وجوب تحري النص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلي، ومنهم من أبى أن يصلح الخطأ أو يقوم اللحن، واكتفى بإبداء رأيه على الهامش.
قال القاضي عياض، في موضوع «تحري الرواية والمجيء باللفظ»: «لا خلاف أن على الجاهل والمبتدئ، ومن لم يمهر في العلم، ولا تقدم في معرفة تقديم الألفاظ وترتيب الجمل وفهم المعاني، أن لا يكتب ولا يروي ولا يحكي حديثا إلا على اللفظ الذي سمعه، وإنه حرام عليه التغيير بغير لفظه المسموع؛ إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم الجهالة، وتصرف على غير حقيقته في أصول الشريعة، والنبي
صلى الله عليه وسلم
حض على ذلك وأمر بإيراد ما سمع منه كما سمع. ثم اختلف السلف وأرباب الحديث والفقه والأصول، هل يسوغ ذلك لأهل العلم فيحدثوا على المعنى، أو لا يباح لهم ذلك؟ فأجازه جمهورهم إذا كان ذلك من مشتغل بالعلم نافذ بوجوه تصرف الألفاظ، والعلم بمعانيها ومقاصدها، جامعا لمواد المعرفة بذلك. روي عن مالك نحوه، ومنعه آخرون، وشددوا فيه، من المحدثين والفقهاء، ولم يجيزوا ذلك لأحد، ولا سوغوا إلا الإتيان به على اللفظ نفسه في حديث النبي
صلى الله عليه وسلم
وغيره، وروي نحوه عن مالك أيضا، وشدد مالك أيضا الكراهة فيه في حديث النبي
صلى الله عليه وسلم ، وحمل أئمتنا هذا من مالك على استحباب كما قال، ولا يخالف أحد في هذا . فإن الأولى والمستحب المجيء بنفس اللفظ ما أستطيع.»
ومما له علاقة بالموضوع نفسه، ما ورد نقلا عن هذا الإمام المحدث العظيم، في باب «إصلاح الخطأ وتقويم اللحن» من رسالته الشهيرة المشار إليها - الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. قال القاضي عياض: «الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ نقل الرواية كما وصلت إليهم وسمعوها، لا يغيرونها من كتبهم، حتى اضطردوا ذلك في كلمات من القرآن، استمرت الرواية في الكتب عليها بخلاف التلاوة المجمع عليها؛ وذلك حماية للباب. لكن أهل المعرفة منهم، ينبهون على خطأها عند السماع والقراءة وفي حواشي الكتب، وكان أجرأهم على هذا من المتأخرين، القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني. فإنه لكثرة مطالعته، وتفننه في الأدب واللغة وأخبار الناس وأسماء الرجال وأنسابهم، وثقوب فهمه وحدة ذهنه، جسور على الإصلاح كثيرا وربما نبه وصححه على وجه الصواب. لكنه ربما وهم وغلط في أشياء من ذلك، والحكم فيها بما ظهر له، أو بما رآه في حديث آخر، وربما كان الذي أصلحه صوابا، وربما أيضا غلط فيه وأصلح الصواب بالخطأ ... وحماية باب الإصلاح والتغير أولى، لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن، ويتسلط عليه من لا يعلم، وطريق الأشياخ أسلم مع التبيين بذكر اللفظ عند السماع كما وقع، وينبه عليه ويذكر وجه صوابه، إما من جهة العربية أو النقل أو وروده كذلك في حديث آخر.»
هذا ما توصل إليه علماء الحديث في القرون الأولى، وهو المعول عليه الآن لدى المؤرخين المعاصرين، والفرق بين الاثنين أن المؤرخين المعاصرين يعممون قول المحدثين على الحديث وغيره من النصوص التاريخية، ويندفعون في عملهم بعامل علمي بحت. أما المحدثون فإنهم اقتصروا فيما أوردوه من هذا القبيل على الحديث الشريف، واندفعوا في تحري الحقيقة بعاطفة دينية قلما نجد مثلها في هذه الأيام.
بقي علينا بعد هذا الاعتراف بفضل علماء الحديث، أن نطرق الموضوع من ناحيته العلمية الحديثة، فنقول: التاريخ علم في تحريه الحقيقة وكعلم يطلب الحقيقة كما هي، والأصول هي صلة المؤرخ الوحيدة بحوادث الماضي، وإذا فهدف المؤرخ المنقب أن يتحقق من هذه الصلة ومن حرفية نص الشهادة التي فيها، ثم يروي هذه الشهادة كما صدرت عن صاحبها الأصلي متحريا في ذلك درس ما يمكن أن يكون قد عرض عليها من زيادة أو تحريف أو نقصان.
والأصول التاريخية، من حيث تحري النص والمجيء باللفظ، تكون على وجوه ثلاثة. فإما أن يكون الأصل بذاته أمامنا بخط واضعه أو بتصديقه، أو أن يكون الأصل مفقودا ولم يبق منه سوى نسخة واحدة أو أن يكون الأصل قد فقد أيضا، وبقيت عنه نسخ متعددة.
فحيث يظفر المؤرخ بالأصل نفسه، بخط واضعه أو بتصديقه، عليه أن يبقيه كما هو بحروفه وغلطاته؛ لأن ما يصحح اليوم ويحسب تقويما قد يمكن أن يكون اعوجاجا وتضليلا. فكم وكم من الاصطلاحات العامية، تفقد قوتها أو ضعفها. عندما تبدل بما يفتكره الناشر مقابلا لها بلغته الفصحى، وكم وكم من المعاني الفصيحة والعامية أيضا تتغير بتقديم أو تأخير أجزاء جملها بعض عن بعض. لا لا! علينا أن نثبت الأخبار كما رواها شاهدها لا كما كان «يجب عليه أن يرويها» وعلينا أيضا أن نتحاشى جميع الطرق في النشر التي تعرض الأصل لمثل هذه المخاطر. التاريخ علم في تحريه الحقيقة، وكعلم يطلب الحقيقة كما هي لا كما يجب أن تكون. فهو يختلف عن الفنون بأسرها، أدبا كانت أم تصويرا، ويكتفي هو بما لا تكتفي هي به أحيانا، وزد على هذا كله أنه إذا بقيت الأصول التاريخية على حالها الأول، سهل على الباحث إدراك ما وصل إليه رواته من العلم والرقي، إذ إن تضلع هؤلاء من قوانين اللغة وآدابها، ينبئ أحيانا عن تهذيبهم العمومي، ومقدرتهم على فهم مجريات الأمور والتدقيق في العمل. هذا ولا يخفى ما في إبقاء لغة هذا النوع من الأصول، على حالتها الأولى من الفائدة الكبرى، لفهم تاريخ تطور معنى الكلمات والاصطلاحات بتطور الأزمنة والأحوال، ولإدراك دورة عقول الذين تكلموها على طريقة الفيلسوف البحاثة فيلهلم ماكس فوندت الألماني.
وقد تفنى أو تضيع نسخة المؤلف ولا يبقى عنها سوى نسخة واحدة، وفي مثل هذا الظرف يترتب على المؤرخ المدقق، الذي يود تحري النص الأصلي والمجيء بلفظ المؤلف، أن يبدأ بدرس هذه النسخة درسا وافيا من جميع نواحيها. ثم ينتقل إلى ترجمة مؤلفها، فالمصادر التي أخذ عنها وتآليفه الأخرى، وعليه أن يتعرف إلى أشهر كتاب العصر الذي عاش فيه المؤلف ولا سيما زملائه في الموضوع، وإذا ما وقف على جلائل النسخة ودقائقها وعجم عود مؤلفها وتعرف إلى معاصريه وزملائه، عاد إلى نص النسخة التي يدرس ونبذ من صيغ كلماتها ما لا يتفق مع ذوق مؤلفها، أو ذوق معاصريه، وأثبت في الهامش جميع ما ينبذه كما ورد في النسخة التي يستعرضها، وليس في وسعنا إلا أن نعترف بأن العمل على هذا الشكل ضرب من المغامرات التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء الباحث وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.
ومما اختبرناه من هذا القبيل، أننا لما شرعنا في جمع الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وجدنا أن عددا لا يستهان به من النسخ الأصلية لمناشير إبراهيم باشا قد ضاع، وأنه لم يبق من هذه النسخ الأصلية في بعض الأحيان سوى نسخة واحدة، ومثال ذلك أن البيان الذي وجهه هذا القائد الفاتح إلى أهالي دمشق عن انتصاره في حمص على الجيش العثماني قد ضاع، ولم يبق عنه سوى نسخة واحدة في كتاب المذكرات التاريخية الذي نشره الخوري قسطنطين الباشا، وإليك نص هذا البيان كما ورد بالحرف:
10 «قدوة الأماجد الكرام متسلم الشام حالا أحمد بك بعد التحية والسلام بمزيد العز والإكرام المنهي إليكم، إنه نهار السبت الواقع في 9 صفر سنة 1248 الساعة بالسبعة من النهار كان ابتدا وصول عساكر المنصورة التي ساقته ركابنا ببحيرة حمص، وبتلك الساعة نظرنا قدوم عساكر خيل الترك المحتشدين لمعونة الباشاوات الموجودين بحمص، وحالا هجمت عليهم عساكرنا المنصورة خيالة الجهادية والعرب، وضربوهم وشتتوا شملهم وأسقوهم كأس الوبال والنكال، وولوا هاربين وللنجاة طالبين، فاقتفوا آثارهم عساكرنا المظفرة وظهر أمامهم أربعة الآيات نظام قرابة إستانلية وثلاث الآيات خيالة، وعند ذلك تقدمت لحرابتهم عساكرنا المظفورة بترتيب الصفوف على رسم البديع، وهجموا عليهم هجوم الأسود الكواسر وأذاقوهم كئوس المنايا بقطع الحراب وفتك السيوف البواتر، ولا تحملوهم سوى ساعة واحدة إلا وولوا الأدبار صارخين: الفرار الفرار. من بعد أن وقع منهم من قتيل ومجروح ما ينوف عن ألف وخمسماية نفر منهم من انمسك مسك اليد ما ينوف عن ألفين وخمسماية نفر وارطتين قد كانوا في قلعة حمص للمحاصرة، عندما كانوا عزموا على الهرب مع جانب عساكر أرنقوط، ومجرد حلول ركابنا في أو رضى الباشاوات القاعدين بمدينة حمص، فاستولينا على أموالهم وخيامهم، وجبا خاناتهم وسائر ذخايرهم، وصاروا جميعا أغنيمته لنا والأرطتين والعسكر الأرناءوط الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهازل البديعة والظفر البديع استفاقوا وطلبوا الأمان وحنان العفو، وكان اللطف غنامهم مرحمة منا أعطيناهم الأمان، وخرجوا من القلعة آمنين مطمئنين نحمده تعالى على هذه النعمة العظيمة والمواهب الكبيرة الجسيمة، فالآن لأجل نبشركم أصدرنا مرسومنا هذا لكم ويلزم منكم بوصوله تشهروا ذلك إلى كافة الرعايا بعمل الشنك إلى كافة المقاطعات والبلاد؛ لكي يكونوا مثابرين على سنيات الدعوات الخيرية بدوام دولة وتأييد صولة سعادة أفندينا ولي النعم، والدنا المعظم وقهر أعداه المحجولين ما مر الأيام والسلام.»
نقول لدى اطلاعنا على هذا البيان، تخالج في صدرنا منه أشياء، وترددنا في صحة نصه، ولا سيما والقسم الأخير منه مشوش غير مفهوم، فرجعنا أولا إلى المخطوطة التي أخذ عنها الخوري الباشا نص هذا البيان. لنرى هل أخطأ في قراءة خطها، وبعد أن تأكدنا من أمانة الناشر، عدنا إلى المؤلف نفسه، لعلنا نجد فيه من سائر بيانات الباشا ما يبدد هذه الظلمات فلم نفلح، وعندئذ رأينا أن نعيد النظر في جميع البيانات التي صدرت عن إبراهيم باشا، والتي أعلن فيها أخبار حروبه في سوريا وانتصاراته على أعدائه. فوجدنا لحسن الحظ في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس بيانا آخر وجه الباشا إلى متسلم هذه المدينة، يعلن فيه انتصاره على العثمانيين في حمص، وفي آخر هذا البيان ما نصه: «والأرطتين والعسكر القرنبود الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهاول المريعة والظفر البديع، استغاثوا وطلبوا الأمان، وحيث إن العفو زكاة الظفر أغثناهم مرحمة منا وأعطيناهم الأمان.»
فعلمنا عندئذ أن أحد النساخ الذين نسخوا بيان الباشا إلى متسلم دمشق أخطأ، في الأرجح، في قراءة هذا البيان؛ فقرأ استغاثوا «استفاقوا»، وحيث إن «حنان»، وزكاة «وكان»، والظفر «اللطف»، وأغثناهم «غنامهم»، وهلم جرا. على أننا نكرر القول بأننا لم نوفق دائما إلى الفوز في تحري النص والمجيء باللفظ. في حال ضياع الأصل وبقاء نسخة واحدة، كما توفقنا هنا، ونوافق الأستاذ شارل لانجلوا الإفرنسي في قوله: إن تحري النص في مثل هذه الأحوال هو نوع من المغامرات، التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء المؤرخ المدقق وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.
وقد تضيع أو تفنى نسخة المؤلف الأصلية ويبقى عنها نسخ متعددة، وفي مثل هذه الحال، يجتهد المؤرخ المدقق في نبذ بعض هذه النسخ، إذا ظهر له أن ذلك البعض يعتمد على سابقه. ثم يقسم النسخ الباقية إلى فصائل متخذا الأغلاط المشتركة بينها قاعدة لهذا التقسيم. لأنه ليس من المرجح أن يجمع النساخ على غلطة ما، إلا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابقه. كما إنه ليس من المحتمل أن يتفقوا منفردين بعضهم عن بعض إلا على الصحة. ثم يحاول المؤرخ استعادة اللفظ الأصلي بالمقابلة بين النسخ الباقية، وما يكون قد تشربه من روح المؤلف وذوق معاصريه، ولا بد من الإشارة إلى الاختلافات في منطوق هذه النسخ على هوامش ما ينشر؛ تسهيلا للتحقيق وضنا بالحقيقة.
ومثال ذلك أننا لما أقدمنا على نشر تاريخ الأمير فخر الدين المعني لمؤلفه الشيخ أحمد الخالدي الصفدي لم نعثر على مخطوطة المؤلف الأصلية، ولكننا وجدنا خمس نسخ ثانوية. منها نسخة تمتاز عن أخواتها بتجانس أجزائها من حيث اللغة والأسلوب واختصاصها بالتاريخ الهجري، ورقها عبادي صقيل من النوع الذي شاع استعماله في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهي في حوزة الشيخ كسروان الخازن، وسنشير إليها بالحرف ك، والنسخة م وهي رقم 427 من مجموعة المكتبة العمومية بمدينة موينخ الألمانية، وقد جاء في آخرها أنها بخط عبد اللطيف بن الشيخ أحمد الرشيدي، وعليها عبارة بخط إسكندر أبكاريوس هذا نصها: «خاصة الفقير إسكندر أبكاريوس.» مما يدل على أنها كانت تباع وتشترى في منتصف القرن الماضي، ونسخة جامعة برنستن في الولايات المتحدة، وقد استنسخها لنفسه الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، فتم له ذلك في 11 كانون الأول سنة 1912، وهي رقم 38050 من مكتبة بيروت الأميركية، وقد أشرنا إليها بالحرفين ج ب، ووجدنا أيضا نسخة أخرى في مدينة طرابلس لدى الأستاذ جورج يني، استنسخها لنفسه عن نسخة للخوازنة.
فأخذنا ندرس هذه النسخ درسا دقيقا لننبذ بعضها، ولا سيما ما يعتمد منها على سابق له. فأهملنا بادئ ذي بدء نسخة جورج يني؛ لأنها تتفق كل الاتفاق مع النسخة ك التي هي أقدم منها، ولما كانت ك مع هذا الاتفاق التام، موجودة لدى أحد الخوازنة، وكان الأستاذ جورج يني قد نسخ باعترافه عن نسخة خازنية أصبح من المحتمل أن يكون قد نسخ عنها نفسها، وكذلك فإنه بالإمكان أن نعتبر نسخة جامعة برنستن والنسخة ج ب نسخة واحدة؛ لأن الأستاذ المعلوف يعترف بهذه الصلة، ولأن المقابلة بين النسختين تؤيدها. ثم لاحظنا أيضا علاقة ظاهرة بين النسختين م وج ب، وذلك بالأغلاط المشتركة بينهما. فقد ورد مثلا في كل من هاتين النسختين ما نصه: «فلما عاد مصطفى كتخدا وأعلم الأمير عليا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحجة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش وأرسلها لابن الحرفوش واستكثر خيره.»
وهو كلام مشوه بدليل النقص في معناه، ولا ينجلي المعنى إلا بالاتكال على ك فنقرأ عندئذ: «فلما عاد مصطفى كتخذا وأعلم الأمير عليا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحجة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش، ودفعه لأرباب الديوان في الحال جهز الأمير علي العشرة آلاف غرش، وأرسلها لابن الحرفوش وتشكر منه.» وهنالك مثال آخر يؤيد هذه الصلة بين النسختين. فقد ورد في كل منهما أن الوزير «خليل باشا عين جملة بكلربكية وسناجق، ومعهم عشرون ألف عسكري جرد خيل وتوجهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين تصور باله أن لا بد أن يجيء إلى كبسهم.» وفي هذا القول نقص ظاهر، وصحيحه في الأرجح كما ورد في ك: «وتوجهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين، فلما علم الشاه عباس أن جماعة الوزير مروا على التركمان والأكراد، تصور في باله أنه لا بد يجيء لكبسهم.» هذا وقد وجدنا من هذا النوع من الأغلاط المشتركة ما يربو على الستين، ولا يخفى كما أشرنا سابقا أن النساخ لا يجمعون على مثل هذه الأغلاط إلا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابق له، كما أنه ليس من المحتمل أن يتفقوا منفردين بعضهم عن بعض إلا على الصحة. فأما أن تكون ج ب منقولة عن م، أو أن تكون م وج ب منقولتين عن أصل واحد مفقود، وأصبح لدينا بعد هذه الغربلة وهذا النبذ نسختان رئيسيتان هما ك وم، وتوجب علينا أن نقابلهما الواحدة بالأخرى وأن ننتقي منهما ما نراه أقرب لعصر المؤلف وللغته وأمياله، فنثبت نصه في المتن، ونرجئ للهامش نص النسخة الأخرى.
الباب الرابع
تنظيم العمل
يجدر بالمؤرخ المدقق بعد ولوج هذه الأبواب الثلاثة؛ أي بعد أن يكون قد جمع الأصول، ونقدها، وتمكن من العلوم الموصلة إلى فهمها، أن ينسق ما جمع من الأصول ويتبع خطة عملية رشيدة في استخلاص المعلومات منها، وقد أدرك المنفعة من مثل هذا العمل خاصة الناس وعامتهم، وأجمعوا عليه في حياتهم الشخصية. فقالوا بوجوب ترتيب الثياب في الخزائن والجوارير، ووضع أواني المطبخ في محلات معينة لها، وذلك لتسهيل الوصول إليها وعدم ضياع الوقت في التفتيش عنها.
وعلى الرغم من هذه لا نزال نرى بعض علمائنا يقضون السنين الطوال في البحث والتنقيب وجمع المعلومات، وعندما تضطرهم الظروف للرجوع إليها، يستغلق الأمر عليهم ويعسر الوصول إلى ما يريدون مما جمعوا، إلا بعد العناء الطويل، ونحن نعرف صديقا لنا قضى عمره في درس تاريخ لبنان الحديث، فوقف على جلائله ودقائقه، وأصبح أعرف الناس به، ولكنه قليل الترتيب في تدوين ما يعلم. فإنك لو طلبت إليه أن يطلعك على مرجع من المراجع التي أخذ عنها وذهبت معه إلى بيته، ودخلت مكتبته، لو فعلت هذا لرأيته يطلب دفترا قديما هنا، وهامشا هناك، وقصائص أوراق دون في الواحدة منها معلومات شتى بخط سقيم ممجمج، وقد تبقى في غرفته ساعتين أو أكثر، ثم يقول لك سأبحث عن هذا في جو رائق وأوافيك بالجواب، وقد يجد ما يطلب أو لا يجد، ولست أدري من هذا الذي قال إن مثل هذا مثل قوم قضوا حياتهم كلها في تشييد بناء يحملون حجارته على أكتافهم دون أن يفقهوا أين يضعونها، حتى إذا بلغوا المرحلة الأخيرة في حياتهم نظرت إليهم وإلى ما يفعلون، فلا تسمع سوى ضجة تصم الآذان، ولا ترى سوى سحب من الغبار عقدت سرادقات فوق رءوسهم تعمي الأبصار.
ومثل هذا التنسيق أو الترتيب على تواضع ظاهره، يعد في عرف المؤرخين المدققين، دعامة كبرى في بناء التاريخ، وبفضله وحده يتميز نفر من المؤرخين على سواهم. فيوفرون على أنفسهم أتعابا جمة، ويصلون من أهدافهم إلى ما لا يصل إليه غيرهم.
وإذا كان لا بد من تنظيم العمل فكيف يكون ذلك؟ وماذا يفعل المؤرخ فور انتهائه من نقد الأصول؟ على المؤرخ أن يعترف بادئ بدء أنه ليس بإمكانه أن يعتمد على ذاكرته في العمل، وأن يسلم بوجوب القيد، وهو أمر لا يرتاب فيه عاقل، وقد نطق بصحته فلاسفة علم النفس، وتناصرت عليه حججهم. أولم يقل الفقيه اللغوي ابن عباس الكوفي:
لا تنس هاتيك العهود فإنما
سميت إنسانا لأنك ناسي
ويترتب على المؤرخ أن يبتعد كل البعد عن الدفاتر والأوراق المجلدة؛ لأنه إذا دون ما يستخلصه من الأصول في دفتر أو دفاتر معينة تقيد بترتيب خاص، قد تقضي الظروف بتغييره أو تعديله قبل الانتهاء من مهمة التأريخ، وقد يضطر المؤرخ، بعد الابتداء بالعمل، أن يفسح مجالا أوسع لموضوع ما، فلا يرى سبيلا لذلك إلا بعد العناء، وقد لا يرى. أما إذا ابتعد عن كل ما يمت إلى المجلدين بصلة، واتخذ للتدوين أوراقا منثورة، انطلقت يده في العمل، وأصبح حرا يزيد متى يشاء، ويقدم ويؤخر ما شاء.
وقد اختلف المؤرخون في كمية ما يدونون على أوراقهم المنثورة. فمنهم من قال بتدوين كل ما له علاقة بالموضوع. أي إذا عني مؤرخ ما بتاريخ حرب من الحروب، وأفرد لكل سبب من أسباب هذه الحرب ورقة أو ورقات، ولكل موقعة منها مثل ذلك، وهلم جرا، فعليه أن ينقل على أوراقه كل النص الذي يتعلق بمثل هذه المواضيع، وقال آخرون بوجوب الاكتفاء بخلاصة النص.
أما نحن، فقد وجدنا بالاختبار الشخصي، بعد أن بدأنا بتأريخ الحملة المصرية على الأقطار الشامية (1831-1841)، أن لا هذه الطريقة ولا تلك تفي بالمرام، وذلك لأسباب نعرضها حالا زيادة للإيضاح. أن الأصول لهذه الحقبة الوجيزة من تاريخ الأقطار الشامية تربو على الألف كتاب بين مقالة ورسالة ورحلة وتاريخ رسمي، وهنالك ما لا يقل عن الخمسين ألف وثيقة تتعلق بالموضوع نفسه. فلو عنيا بإدخال جميع هذه النصوص، على أوراق أو بطاقات منثورة، لاضطررنا أن نقضي حياتنا بالاستنساخ، وبعد أن عملنا بما ورد في أعلاه مدة من الزمن، وزاولنا استنساخ النصوص على البطاقات كما تقدم، اضطرتنا الظروف أن نكتب شيئا في بعض نقاط معينة. فوجدنا أنه لا بد لنا من مراجعة المؤلفات نفسها للتحقق، إما من صحة ما نقلنا، أو من علاقته بما قبله وما بعده. فلم نستفد من بطاقاتنا، والحالة هذه، سوى أنها أرشدتنا إلى النصوص في وقت قصير للغاية، وأنها مكنتنا من ترتيب هذه النصوص ترتيبا تاريخيا في وقت وجيز أيضا. فرأينا، بعد هذا الاختبار، أن نجعل من بطاقاتنا المنثورة فهرسا عاما لجميع مواضيع الأصول، وجميع أسماء الرجال والأمكنة فيها.
على أن جميع المؤرخين، اليوم، يصرون على وجوب الإشارة إلى زمن وقوع الحوادث المرورية، ويحتمون على المؤرخ المنقب وجوب الإشارة في كل ورقة من ورقاته المنثورة إلى المرجع الذي استخلص منه محتويات هذه الورقات، وذلك بذكر المؤلف والمؤلف والمجلد والصفحة.
وقد لا يختلف اثنان من علماء التاريخ في ترتيب الأوراق المنثورة. فحيث نجعل من هذه الأوراق فهرسا عاما للأصول نرتبها ترتيبا أبجديا، وإن آثارنا تدوين النصوص بكاملها عليها رتبناها إما بموجب تواريخها، أو بحسب الأمكنة التي وجدت فيها، أو على أساس مواضيعها، وليذكر المؤرخ المستجد أن ترتيب النصوص على أساس تواريخها ضروري في غالب الأحيان؛ وذلك لأنه يوضح له تسلسل الرواية والحوادث المروية، ولأنه يقيه شر تقديم المسببات على أسبابها، وحيث ترد بعض الأصول مجهولة التاريخ، عليه أن يسعى سعيا حثيثا لتأريخها، كي يتمكن من ترتيبها بموجب تواريخها.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أنه لا يجوز ترتيب النصوص على أساس الأمكنة التي وجدت فيها، أو المواضيع التي تحتوي عليها. بل بالعكس، فإنه من المستحسن أن يتفنن المؤرخ في الأسس التي يتخذها للتصنيف والتنسيق، سواء أكانت زمنية أم جغرافية أم غير ذلك. فإذا ما عالج المؤرخ درس موضوعه من مثل هذه النواحي المختلفة، برزت له الحقيقة التي يتوخاها بوضوح وجلاء، قد لا يصل إليهما، إذا اكتفى باتباع أساس واحد للتنسيق.
وقد يضطر المؤرخ أحيانا إلى إهمال التنسيق على أساس زمن النصوص لاستحالة معرفة تواريخها، فيكتفي، والحالة هذه، بما تبقى لديه من سائر الأسس، ولنا في اختبار علماء أوروبا، ولا سيما العلامة الكبير تيودور مومسن، في مجموعة النقوش اللاتينية
Corpus Inscriptionum Latinarum
مثال واضح يؤيد ما تقدم. فإن معظم هذه النقوش غير مؤرخ، وقد اختلف العلماء، عشرات من السنين، في أمر تنسيقها وترتيبها. فقال البعض بتصنيفها على أساس محتوياتها، وقسموها إلى نقوش دينية، ونقوش عسكرية، ونقوش أدبية شعرية، واعترض آخرون على هذا التنسيق، وقالوا باتخاذ المكان الذي وجدت فيه النقوش أساسا للترتيب؛ وذلك لأن تنسيقها على أساس محتوياتها قد يضطر المؤرخ إلى التكرار الممل. إذ إنه معقول جدا أن يحتوي نقش ما على شعر ودين وحرب في آن واحد، وبعد اختبار طويل دام قرنا كاملا، أو أكثر، أجمعت الآراء على أفضلية الترتيب الجغرافي، وبعد أن قال العلامة مومسن، مدة طويلة بالتنسيق على أساس المحتويات، عاد فأيد الأساس الجغرافي، وظهرت المجموعة كاملة على هذا الأساس .
الباب الخامس
تفسير النص
وبانتهاء المؤرخ من نقد الأصول، على الوجه الذي تقدم شرحه في الباب الثالث من هذا الكتاب، ينتهي النقد الخارجي، وينتقل المؤرخ من ظاهر النص ومجرد اللفظ إلى باطن الكلام وفهم المعنى، فيشرع في النقد الداخلي. والنقد الداخلي في مصطلح التاريخ على نوعين: نقد داخلي إيجابي، ونقد داخلي سلبي. فالإيجابي يفسر النص ويظهر معناه، والسلبي يكشف الستار عن مآرب المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية.
وتفسير النص، وهو موضوع هذا الباب، يكون على وجهين: أولهما: تفسير ظاهر النص، وثانيهما: إدراك غرض المؤلف. فعلى المؤرخ المدقق المنقب؛ حيث يحاول تفسير ظاهر النص، أن يلم أولا بلغة الأصل الذي يدرس، وعليه أن يجيد فهم هذه اللغة كما عرفت واستعملت في العصر الذي عاش فيه راوي الرواية. فمعاني المفردات تتطور وتتغير أحيانا مع تطور الظروف وتغير الأحوال، وكفانا دليلا على ذلك بعض أعمال المجمع اللغوي في مصر، وما وضعنا في هذا الكتاب من المعاني الجديدة العصرية في بعض المفردات والاصطلاحات التي استعملت في كتب الحديث والتفسير منذ مئات السنين، وعلى المؤرخ أيضا أن يذكر أن المفردات والاصطلاحات اللغوية تختلف أيضا باختلاف الإقليم، وقد تختلف باختلاف الكاتب نفسه.
وحيث يشعر المؤرخ المدقق بشيء من الشك في فهم بعض هذه الدقائق اللغوية في أصل من الأصول يجدر به أن يكمل قراءة النص، أولا، لعله يقف على إيضاح ما التبس. فإن أعياه ذلك فعليه بسائر كتب المؤلف، وإذا لم يجد التفسير في النص نفسه، ولا في مؤلفات المؤلف الأخرى، رجع في ذلك إلى أقوال الزملاء المعاصرين. هذا؛ وإن «لا أدري» لمن العلم!
وقد يكتفي المؤرخ، في قراءة الأوامر الإدارية وبعض النصوص التاريخية القصصية، بتفسير ظاهر النص لإدراك غرض المؤلف، وذلك أن واضع النص، في مثل هذه الظروف، يتوخى استعمال الألفاظ التي توضح المعنى دون أي تردد في الأمر. فإذا ما نجح المؤرخ في فهم ظاهر النص، توصل إلى إدراك المعنى الحقيقي.
وقد يلمس المؤرخ غموضا أو نقصا أو تناقضا في المعنى، إذا هو استمسك بظاهر النص. فقد يكون في الكلام كتابة، أو مجاز، أو استعارة، أو تشبيه، أو هزل، أو مداعبة، أو تلميح، أو تعريض، وما إلى ذلك. قال ابن عبد ربه في عقده في باب الكناية والتعريض:
1 «وقد كنى الله تعالى في كتابه عن الجماع بالملامسة، وعن الحدث بالغائط ... وقال تعالى:
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء (طه: 22) فكنى عن البرص، ودخل الربيع بن زياد على النعمان بن المنذر، وبه وضح، فقال: ما هذا البياض بك؟ فقال: سيف الله جلاه. ودخل حارثة بن بدر على زياد، وفي وجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر الذي في وجهك؟ قال: ركبت فرسي الأشقر فجمح بي. فقال: أما أنك لو ركبت الأشهب لما فعل ذلك. فكنى حارثة بالأشقر عن النبيذ، وكنى زياد بالأشهب عن اللبن، وقال معاوية للأحنف بن قيس: أخبرني عن قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم
فسرك أن يعيش فجيء بزاد
بخبز أو بتمر أو بسمن
أو الشيء الملفف بالبجاد
تراه يطوف في الآفاق حرصا
ليأكل رأس لقمان بن عاد
ما هذا الشيء الملفف في البجاد؟ قال الأحنف: السخينة يا أمير المؤمنين. قال معاوية: واحدة بأخرى والبادي أظلم. والسخينة طعام كانت تعمله قريش من دقيق، وهو الحريرة، فكانت تسب به.»
وهل ننسى ونحن نتكلم عن الكناية قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله! كيف يلتقيان؟!
هي شامية، إذا ما استقلت
وسهيل، إذا استقل، يماني
ويجدر بالمؤرخ العربي، بعد مطالعة القرآن ودرس حكمه وأحكامه، أن يدرس رسالة الفخر الرازي «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز»، فيلم ببعض ما كان يجول في عقول السلف من هذا القبيل. فهنالك فصول متتابعة في الكناية وضروبها، والتجنيس وأنواعه، والسجع، والتضمين، والترصيع، والمجاز والتشبيه، والاعتذار، والاستعارة، والمطابقة، والمقابلة، والمزاوجة، والاعتراض، والالتفات، والاقتباس، والتلميح، واللف والنشر، والتعديد، والإبهام، وتجاهل العارف، والإغراق، والجمع، والتفريق، والتقسيم، ومثل هذا يكثر في النصوص الدينية، والمراسلات الشخصية، والقطع الأدبية، فعلى المؤرخ المدقق أن يستعد لمثل هذه المفاجآت اللغوية، ويتهيأ لها.
وحيث يعترض المؤرخ مثل هذه العقبات، عليه أن يسعى لتذليلها بالوسائل نفسها التي يتذرع بها لفهم الغامض من ظاهر النص، عليه بمطالعة النص كله أولا، ثم بمراجعة مؤلفات المؤلف الأخرى، فأقوال الزملاء المعاصرين، ويجدر به أن يترزن في مثل هذه المواقف، فلا يتوقع الكناية مثلا في غير محلها ولا يغفل عنها في محل وقوعها.
بقي علينا قبل اختتام هذا الباب أن نعترف بفضل علماء التفسير في هذا المضمار. فإن الأسس التي اتبعوها في أصول التفسير علمية صحيحة.
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في رسالته في أصول التفسير
2
ما نصه: «فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر من مكان، فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك، فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فهو بما
3
فيه من القرآن، قال الله تعالى:
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (النساء: 105)، وقال تعالى:
وأنزلنا (النحل: 44)، وقال تعالى:
وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (النحل: 64)؛ ولهذا قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه.» يعني السنة، والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن؛ لأنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة، ليس هذا موضع ذلك، والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده في السنة كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله، وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد.
وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين مثل
4
عبد الله بن مسعود، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب قال: أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناوله المطايا لأتيته، وقال الأعمش أيضا عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
له؛ حيث قال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.» وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وكيع، أنبأنا سفيان، عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيى بن داود عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس، ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية سورة النور، ففسرهما تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
وهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السندي الكبير في تفسير عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان، ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ حيث قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.» رواه البخاري عن عبد الله بن عمر؛ ولهذا كان عبد الله بن عمر قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام؛ أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما نشهد له بالصدق فذاك صحيح، والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا تختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرا، ويأتي عن المفسرين خلاف، بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون
5
كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به المقتول
6
من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى ... إلى غير ذلك مما أبهمه
7
الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه، تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى:
سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (الكهف: 22)، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا:
قل ربي أعلم بعدتهم
فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال:
فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا
أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب، فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها؛ فهو ناقص إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف، ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال؛ فهو ناقص أيضا. فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد الكذب أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظا، ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى، فقد ضيع الزمان وأكثر مما
8
ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب.
إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق، حدثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها، وبه إلى الترمذي قال: حدثنا الحسين بن مهدي البصري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئا، وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش. قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت، وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال:
9
حدثنا طلق بن غنام عن عثمان الملكي عن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فقال ابن عباس: اكتب. حتى سأله عن التفسير كله؛ ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك - وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب، وأبي العالية والربيع وابن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافا، فيحكيها أقوالا وليس كذلك؛ فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي، وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء، فلا
10
يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.» حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.» وبه إلى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثني حسان بن هلال، قال: حدثنا سهيل أخو حزم القطعي، قال: حدثنا أبو عمران الجوني عن جندب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.» قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم، وهكذا روى بعض أهل العلم عن
11
أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم، وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلنا: إنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل، فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ، والله أعلم، وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين فقال:
فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (النور: 13)، فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به، والله أعلم؛ ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمود بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله:
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (الأنفال: 31)، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم،
12
وقال أبو عبيد أيضا: حدثنا يزيد عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر:
وفاكهة وأبا
فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر، وقال عبد بن حميد، حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنا عند عمر بن الخطاب، وفي ظهر قميصه أربع رقاع، فقرأ:
وفاكهة وأبا ، فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك أن لا تدريه، وهذا هو كله محمول على أنهما - رضي الله عنهما - إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل لقوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم * يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم * وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (الأنفال: 27-30)، وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن عباس أنه سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها، إسناده صحيح، وقال أبو عبيد الله: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن
يوم كان مقداره ألف سنة (السجدة: 5)، فقال ابن عباس فما:
يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (المعارج: 4)، فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه. الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم،
13
حدثنا ابن علية عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله، فسأله عن آية من القرآن، فقال: أحرج
14
عليك إن كنت مسلما لما قمت عني أو قال إن تجالسني، وقال مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئا، وقال الليث عن يحيى بن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن، وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء. يعني: عكرمة، وقال ابن شوذب: حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت، كأنه لم يسمع، وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبده العنبي، حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وأنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع الديلمي،
15
وقال: وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن هشام بن عروة. قال: ما سمعت أبي تأول آية من كتاب الله قط، وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن. فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد، وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه، وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله، وقال أبو عبيد الله: حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير؛ فإنما هو الرواية عن الله.»
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا، فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنما كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى:
لتبيننه للناس ولا تكتمونه (آل عمران: 187)، ولما جاء في الحديث المروي من طرق: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار.» وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الباب السادس
العدالة والضبط1
وهنالك نقد داخلي سلبي، يكشف الستار عن مآرب المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية، فيظهر لنا مقدار ما عنده من العدالة والضبط أو ما ينقصه منهما، والمؤرخ العربي في أشد الحاجة إلى مثل هذا النوع من النقد، ولا سيما وأنه لا يزال في العالم العربي من يقول قول فنلون الإفرنسي ويحذو حذوه:
فما كتب التاريخ في كل ما روت
لقرائها إلا حديث ملفق
نظرنا لأمر الحاضرين فرابنا
فكيف بأمر الغابرين نصدق
على ما عرف من جمهور علماء الحديث وعلى ما أنتجه قرائح رجال الغرب في القرنين الأخيرين في هذا السبيل، حتى كاد بعضهم يحشر مسألة معالجة التاريخ من بعض نواحيه بين العلوم الثابتة، ولكن صاحبنا شاعر، والشعراء يتبعهم الغاوون.
ومن الغريب أن ما أورده شاعرنا، في سبيل الهزء والسخرية، في البيت الثاني، إنما هو قاعدة من القواعد التي يرتكز عليها علم التأريخ، وقد قال علماء التاريخ: شك المؤرخ رائد حكمته ، وقالوا: الأصل في التأريخ الاتهام لا براءة الذمة.
ودليلهم في هذا مستمد من علم النفس؛ حيث يتهم رجاله حواس الإنسان، وأحكامه العقلية، وذاكرته، ويذهبون إلى أنه كثيرا ما يخدع فيخدع، ونظرة إلى ما يقوم به المشعوذون على المسارح لتضليل الجماهير تكفي لإقناع القارئ بما أقول، وخذ إذا شئت حصاة صغيرة وضعها في كفك، ثم ضع وسطى أصابع يدك الأخرى فوق السبابة وتناولها بها تشعر بأنها اثنتان، وما يصدق على اللمس يصح على الحواس الأخرى أحيانا.
وقد تنقل الحواس الخبر اليقين إلى الدماغ، ولكن العقل يسيء التفسير فيخطئ فهمها وتعليلها، ويضل في وهمه، ومما نذكر من هذا القبيل، أننا في أثناء التلمذة، جلسنا مرة نصغي إلى أستاذنا يلقي محاضرة علينا في هذه الناحية من علم النفس، وفي أثناء الكلام سمعنا ضجة قوية خارج الغرفة. ثم دخل فجأة علينا رجل مذعور ووراءه اثنان يلحقان به، وأحدهما يقول له: قف قف، وإلا قتلتك. وبيده مسدس صوبه إليه. فهرب الرجل الأول من باب آخر، وتبعه الرجلان الآخران. فقال لنا أستاذنا اكتبوا ما شاهدتهم من هذه الواقعة. فكتبنا ما ورد في أعلاه، وبعد أن اطلع على شهادتنا في الأمر ضحك، ثم استدعى صاحب المسدس وسأله أن يرينا مسدسه، ولشد ما كانت دهشتنا حين علمنا أن مسدسه لم يكن سوى ثمرة جافة من أثمار الموز. أرأيتم إلى أي حد يخدع العقل أحيانا في استناده إلى حواس؟!
هذا واذكروا أن الإنسان عرضة للنسيان. فقد تخونه الذاكرة أو يخلط بين حادثين. فيضيف وقائع حدثت أو وقعت في الواحد وينسبها إلى الآخر، وإذن فعلم النفس، في هذا الباب، يفرض أن نحتاط فلا نخدع، وإذا ما ذكرنا في الوقت نفسه أن الراوي يقول أحيانا فيما لا يفهم، وأنه قد يقصد التحريض وإيقاد نار الفتنة، وقد يتعمد الكذب لغاية في النفس، إذا ما ذكرنا جميع هذه الأمور، قلنا مع علماء التاريخ، شك المؤرخ رائد حكمته.
وينحصر شك المؤرخ في سلسلتين أساسيتين من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عنها لإخراج الحقائق التاريخية من سترة الريب إلى صحن اليقين، والسلسلة الأولى تتعلق برأي الراوي في حقيقة ما يروي؛ لأنه قد يموه الباطل ويزين الخطأ. فيترتب على المؤرخ، والحالة هذه، أن يتساءل عن أمور عدة منها ما يأتي: (1)
هل لراوي الرواية مصلحة فيما يروي؟ وهل هو يزين لنا الأمر ويحسنه، فيتعمد الكذب ليسوقنا إلى استنتاج معين؟ فإذا ما خامرنا في كلامه شك، وخالجنا فيه ظن، تحرينا غرضه فيما يكتب، ومثل هذا يكثر في المخابرات السياسية الرسمية، ولا سيما فيما تنشره الحكومات عن بعض المشاكل فور ظهورها. فقد تصدق الوزارات فيما تنشر ولكنها لا تنشر كل الحقيقة، وليس على المؤرخ المستجد إلا أن يطلع على بعض ما نشره الأستاذ هارولد تمبرلي، من أبحاثه في تاريخ أوروبة المعاصر، ليتأكد من صحة ما نقول، وعليه أيضا أن يتعهد بنظره الرواة الذين ينتمون إلى فئة معينة من الناس، أو يدينون بمذهب من المذاهب، أو يقولون قول حزب من الأحزاب، لعلهم يموهون أو ينمقون أو يكذبون. (2)
هل خضع الراوي لظروف قاهرة أكرهته على التلفيق والنطق بالبطل؟ ومثل هذا يقع أحيانا في بعض المعاملات الرسمية، كأن تتطلب بعض الظروف الحكومية القانونية شروطا لا تتوفر أحيانا بتمام دقائقها وحذافيرها. فيضطر منظم الضبط أن يقول باكتمالها في حين أنها لم تكتمل. فمن خطأ في تاريخ الاجتماع إلى تأخير في الساعة المعينة للجلسة إلى نقص في عدد الحاضرين وهلم جرا، وعلى الرغم من هذا ترى العامة والخاصة أحيانا تعزو الصدق إلى وثيقة من الوثائق الحكومية الرسمية لمجرد كونها رسمية، وإذن فيجدر بالمؤرخ المدقق أن يتردد في صحة هذا النوع من الوثائق الرسمية أن ينجلي الشك ويشرق نور اليقين. (3)
هل شايع الراوي، أو قاوم، فئة معينة من الناس حتى اضطر، عن قصد أو غير قصد، أن ينظر بعين الرضى إلى الفئة التي انتمى إليها فيناصرها على الأخرى؟ وهو أمر قديم العهد في مهنة التاريخ أشار إليه المؤرخون القدماء وعبروا عنه بالعبارتين اللاتينيتين:
Stodium in longum jacens, studium immane loquendi .
ومعنى الأولى «رغبة في الكلام لا تعرف الشبع» والثانية «بغض مزمن » نقول: عبر المؤرخون القدماء عن هذا الأمر بهاتين العبارتين، وتبرءوا من الأخذ بهما منذ مئات السنين، فيجدر بالمؤرخ المدقق أن يتبصر في الأمر من هذه الناحية، ويدرس الراوي من حيث علاقاته القومية والحزبية والمذهبية والفلسفية وما شاكل ذلك. (4)
وهل اندفع الراوي بشيء من الغرور والكبرياء لينطق بالباطل ويحيد عن الحق؟ وهل أقدم على ما يروي بداعي المفاخرة، أو المنافسة، أو ما شابه ذلك؟ لا بد من تفحص أخبار الراوي من هذه الناحية أيضا قبل الاعتماد على روايته، وليذكر المؤرخ المستجد أن دوافع الغرور والكبرياء تختلف باختلاف الزمان والمكان، وأن بعض الناس قد يفاخر بما لا يفاخر به البعض الآخر. فالإفرنسيون اليوم ينكرون على أسلافهم قيامهم بمجزرة برثولوميو، والملك الإفرنسي شارل التاسع زمنئذ كان يتبجح ويتباهى بأنه هو الذي نظم هذه المذابح. بيد أنه لا بد من الاعتراف أيضا بنوع من التشرف والتبذخ والاعتزاز، لم يختلف على مدى العصور والأدهار، هو حب الجاه والظهور بمظهر المقدرة والنفوذ والعظمة. فيجدر بنا، والحالة هذه، أن نصر على اتهام الراوي بمثل ما تقدم إلى أن نتيقن من براءة ذمته. (5)
وهل حاول الراوي أن يتودد إلى جمهور الناس أو أن يتملقهم أو يداريهم؟ فهنالك عقائد دينية وعادات اجتماعية وأمور أخرى، قلما يجرؤ على مخالفتها أو إهمالها فرد من الأفراد، وهذه مراسلاتنا الشخصية، فإنها قد تتضمن الشيء الكثير من عبارات التودد والإخلاص والمحبة لمجرد المجاملة والانقياد للعرف، وقد لا نجد، حتى بين أفراد العامة، من ينكر علينا هذا الأمر، ولكننا ننسى أو نتناسى هذه الحقيقة الناصعة، عندما نرجع إلى بعض الأصول لتأييد رأي من الآراء. فنقول مثلا بتواضع المقامات الإكليريكية العالية، في العصور الوسطى؛ لأنهم لدى انتخابهم لتبوء عرش من العروش الكنيسية، امتنعوا عن القبول بداعي العجز والتقصير وعدم الاستحقاق. نقول هذا القول وننسى في الوقت نفسه، أن العادة والعرف في العصور الوسطى قضيا بمثل هذا التواضع، وإذا فلا بد من التردد والتبصر، مرة أخرى قبل الاعتماد على رواية الراوي في مثل هذه الظروف. فقد يكون مخلصا فيما يقول ويفعل وقد لا يكون، وعلى كل فإنه يحسن بالمؤرخ المدقق أن يتعرف إلى الراوي؛ ليتأكد من الجمهور الذي يخاطب، ويجدر به أن ينعم النظر في أحوال الجمهور المخاطب، ليقف على عرفهم وعوائدهم. (6)
ومما يترقبه المؤرخ المدقق ولا يغفله، طرفة عين، الأسلوب الأدبي في الرواية؛ وذلك لأن الأدب فن، وكفن لا يتطلب صاحبه فيه الحقيقة كما هي، بل كما يريدها أن تكون؛ ولذا فإن الأديب يتعمد مداعبة الألفاظ والتراكيب للتأثير في النفس، وقد يتطلب ذوقه الفني ما لا يتفق مع الحقيقة. فمن زيادة بسيطة هنا إلى تقديم أو تأخير هناك، وما إلى ذلك من أساليب الفن مما يزعج المؤرخ العالم ويدفعه للتيقظ. فيتعقب خطوات الراوي الأديب ويراقب حركاته وسكناته. ثم يسعى ما أمكنه للتعرف إلى أدب العصر الذي عاش فيه الراوي، فيطلع على بدائعه وروائعه لعله يقف على المثل العليا التي أثرت في أسلوب الراوي. فيسهل عليه عندئذ أن يتفهم الرواية ويقدرها حق قدرها.
ولا نرى بدا في هذه المناسبة من مصارحة المؤرخ المستجد بأن شكنا في عدل الراوي، يتناسب أحيانا كثيرة مع تفوقه في الإبداع الفني الأدبي. فكلما ازداد الراوي إبداعا في أسلوبه الأدبي ازددنا شكا في عدله، وقل اطمئناننا إليه، وما يصح عن النثر في هذا الباب أحيانا ينطبق كل الانطباق على الشعر في غالب الأحيان.
وهنالك سلسلة ثانية من الأسئلة العلمية يتذرع بها المؤرخ للتوصل إلى فهم الراوي وإدراك مقدار ضبطه، وهي كالسلسلة الأولى مما أجمع عليه المؤرخون المعاصرون، وأبدع في عرضه والتعبير عنه المؤرخ الإفرنسي الشهير الأستاذ شارل لانجلوا، وإليك أهمها: (1)
هل كان الراوي يتمتع بحواس سليمة وعقل صحيح؟ أم كان عرضة للخطأ من هذا القبيل كما أبنا ذلك في القسم الأول من هذا الباب؟ فقد يشاهد الراوي ما يروي وينوي الصدق والإخلاص، ولكن حواسه تخطئ في نقل الخبر إليه، أو عقله يتوهم غير الواقع، أو ذاكرته تخونه من حيث لا يدري.
ومما له علاقة بالموضوع نفسه أهواء الراوي وأغراضه، فإنها قد تؤثر عليه من حيث لا يقصد، فيظن أنه يروي الحقيقة ويكون بعيدا عنها، فيتذرع المؤرخ عندئذ ببعض الأسئلة التي أوردناها لإظهار العدالة، ويتمكن بها أحيانا كثيرة من اكتشاف أهواء الراوي وأغراضه.
بيد أنه لا بد من الإشارة بهذه المناسبة إلى طريقة السؤال والجواب في نقل بعض المعلومات التاريخية. فقد يستدعي شكل السؤال شكلا خصوصيا للجواب مما يؤدي أحيانا إلى الضلال والتضليل، ولا سيما وإن السائل في بعض الأحيان يجهل ما يسأل عنه، فيبتعد كل البعد عن الحقيقة التي ينشد. (2)
هل تمتع الراوي بجميع شروط المشاهدة العلمية؟ وهي ما يلي: أولا: أن يكون الراوي في مكان يتمكن فيه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة، وثانيا: أن يكون الراوي في أثناء المشاهدات بعيدا عن الغرض، وثالثا: أن يدون ما شاهده في أثناء وقوع الحوادث المروية، ورابعا: أن يوضح بجلاء تام طريقته في المشاهدة والتدوين. فقد يشاهد الراوي ما يروي، ولكنه يكون في مكان أو ظرف لم يتمكن فيه من التدقيق في النظر والسمع، وقد يشاهد ما يروي وينقصه الاستعداد الفني لفهمه، وقد يشاهد أيضا، ولكنه يتأخر في التدوين فتخونه الذاكرة، وتؤثر عليه ظروف مستجدة، فلا ينقل إلينا الخبر اليقين، وإذا «فالذكريات» التي لا تدون عادة إلا بعد مرور الزمن، هي في عرفنا من أضعف الروايات. (3)
وهناك حقائق كان بإمكان الراوي أن يشاهدها ويفهمها لو كلف نفسه مئونة البحث عنها. فقد يروي لنا تفاصيل لم يشاهدها، ولكنه تكاسلا أو إهمالا منه تخيلها أو استنتجها دون أن يتحققها بنفسه، ومثال ذلك يروي أحيانا عن تفاصيل حفلة دعي إليها الراوي، ولكنه لسبب ما لم يحضرها. فاكتفى بوقائع الحفلة وتخيل أو استنتج الباقي. (4)
وهل روى الراوي ما لا تكتمل معرفته بمجرد المشاهدة الشخصية؟ فقد تتعلق روايته بحقيقة عامة تشمل عددا كبيرا من النفوس، أو بلادا واسعة من البلدان، مما لا يتيسر لفرد واحد من الناس أن يدقق فيها، وينقل إلينا الخبر اليقين عنها. فمن كلام إجمالي عن عادات قوم من الأقوام، إلى تعميم عن تطور عقيدة أو رأي في عصر من العصور، وما إلى ذلك من الإجمال في الكلام والتعميم في المعنى، مما يستلفت النظر ويوجب التبصر. فيترتب على المؤرخ في هذه الأحوال أن يذكر أن مثل هذا التعميم، إنما هو استنتاج في أساسه لا مشاهدة، فينظر عندئذ في عدد الحقائق المفردة التي بنى الراوي استنتاجه عليه، ويلتفت بصورة خاصة إلى مقدرة الراوي في الاستنتاج، ولا بد من درس الراوي في جميع مؤلفاته للتعرف إلى عاداته في التفكير والاستنتاج، وإذا ما ذكرنا بهذه المناسبة أن العقل البشري يتأثر بالعادة في التفكير، أدركنا إمكانية التوصل إلى نقد الراوي من هذه الناحية، وتقدير تدقيقه في التفكير والاستنتاج.
ونريد، قبل الفراغ من بحث هذه المسألة، أن نلاحظ أمرا هو من الأهمية بمكان. ذلك أن أمر العدالة والضبط عند الراوي الواحد ليس جامعا مانعا كما يقول المناطقة. فلا يجوز مثلا أن نثبت عدالة الطبري وضبطه، ثم نأخذ بجميع أقواله. إذ قد يجوز أن يكون عادلا ضابطا في بعض ما يقول، ويكون على عكس ذلك في بعض أقواله الأخرى، وإذن فيجب على المؤرخ المدقق أن ينظر في كل خبر من أخبار الراوي على حدة، فيطبق ما ورد من الأسئلة في أعلاه مرارا متعددة.
وقد تضطرنا الظروف أحيانا إلى الاعتماد على المصادر الثانوية، وذلك لأسباب منها؛ ضياع الأصول أو المصادر الأولية، ومنها أن ما نسميه أصلا قد لا يخلو أحيانا من الاعتماد على سابق له، فتصبح الرواية فيه مزيجا من شهادة أولية وشهادة ثانوية مأخوذة عن الغير، ومما نذكر من هذا القبيل أنه لما زار الجنرال اللنبي جامعة بيروت الأميركية عام 1919 أتى بمعيته أركان حربه، وبعد أن رحب به الدكتور هورد بلس رئيس الجامعة آنئذ قام الجنرال ليتكلم، واتخذ موضوعا له موقعة طول كرم الشهيرة، وما كاد يتبسط في أخبار هذه الموقعة، التي خاض غمارها بصفته قائدا عاما للقوات البريطانية، حتى أخذ يستعين بأركان حربه الجالسين معه على المنبر، فيقول للجنرال بولفين: ألم تفعل كذا في الساحل؟ ويقول لغيره: أليس كذلك؟ فانظروا إلى رجل، كان على رأس جيش فاتح، يحمل أكبر مسئولية في ساحة القتال، وهو أولى من تؤخذ عنه أخبار فتوحاته، ولكنه على ذاك يعتمد على من كان يوجه إليهم الأوامر في تفاصيل روايته، وإذا فرواية الجنرال اللنبي عن موقعة طول كرم هي مزيج من مشاهداته الشخصية ومشاهدات ثانوية أخذها عن أركان حربه.
وهنا يجب على المؤرخ أن يوجه التفاته إلى الشاهد الذي أخذ عنه الخبر. فإذا كان هذا قد شاهد بعينه فشهادته أولية، وإلا فمن الواجب أن نتأثر الرواة الذين تسلسل عنهم هذا الخبر حتى نصل إلى الشاهد العيان، وعندئذ نطبق ما مر بنا من الأسئلة للتثبت من العدالة والضبط، وهو أمر وعر المسلك لبعدنا في غالب الأحيان عن زمن الوقائع المروية، فنصبح تجاه أمر واقع وهو النظر في شهادة ليس لها راو معروف، وشهادة مثل هذه هي في عرفنا قليلة القيمة، ولو تقيد المؤرخون بهذه القاعدة لوفروا على الخلف كثيرا من العناء، ولكفوا أنفسهم مئونة سرد أخبار لا طائل تحتها، ولعل كثيرا من التاريخ لو غربل بهذا الغربال لما زاده عن عشرة.
ومما يذكر مع مزيد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب، وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويها بتدقيقهم العلمي، واعترافا بفضلهم على التأريخ.
قال الإمام مالك بن أنس (179ه): «لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك - لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى، يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس، وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به، وقال إسحاق بن محمد الغروي: سئل مالك: أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة؟ فقال: لا. فقيل: أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم ما يحدث به؟ فقال: لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ، ويكون قد طلب وجالس الناس وعمل ويكون معه ورع، وقال إسماعيل بن أبي أويس وعرف: سمعت خالي مالكا يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان به أمينا؛ لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه، وقال شعبة بن الحجاج: كان مالك أحد المميزين، ولقد سمعته يقول: ليس كل الناس يكتب عنهم، وإن كان لهم فضل في أنفسهم، إنما هي أخبار رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فلا تؤخذ إلا من أهلها، وقال ابن كنانة: قال مالك: من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران، وكان على زيادة.»
2
وقال الإمام أبو الحسين مسلم
3 (261ه): «واعلم - وفقك الله تعالى - أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات، وسقيمها وثقات الناقلين لها من المهتمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع.» وقال أيضا: «حدثني محمد بن عبد الله بن قهزاد من أهل مرو، قال: أخبرني علي بن حسين بن واقد قال: قال عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: إن عباد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم، فترى أن أقول للناس لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بل قال عبد الله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه، وأقول لا تأخذوا عنه، وحدثني محمد بن أبي عتاب قال: حدثني عفان عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال: لم نر في الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث. قال مسلم: يقول يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب، وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد قال: قال أيوب: إن لي جارا ... ثم ذكر من فضله، ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة.»
4
وقال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي (505ه): «العدالة في الرواية والشهادة عبارة عن استقامة السيرة في الدين، ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه. فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازعا عن الكذب. ثم لا خلاف في أنه لا تشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة، وتطفيف في حبة قصدا، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يجترئ على الكذب للأغراض الدنيوية. كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة، نحو أكل في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال، والإفراط في المزاح، والضابط في ذلك، فيما جاوز محل الإجماع، أن يرد إلى اجتهاد الحاكم. فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به، وما لا فلا، وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين، وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول، ورب شخص يعتاد الغيبة، ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع، لا يصبر عنه، ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا، فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه، ويختلف ذلك بعادات البلاد، واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض.»
5
ومما له علاقة بهذا الباب، وهو من أجود ما قرأنا، كلام القاضي عياض بن عياض (544ه) حيث يقول: «الذي ذهب إليه أهل التحقيق من مشايخ الحديث وأئمة الأصوليين والنظار أنه لا يجب أن يحدث المحدث إلا بما حفظه في قلبه أو قيده في كتابه وصانه في خزانته، فيكون صونه كصونه فيه في قلبه حتى لا يدخله ريب، ولا شك في أنه كما سمعه، وكذلك يأتي لو سمع كتابا وغاب عنه ثم وجده أو عاره ورجع إليه، وحقق أنه بخطه أو الكتاب الذي سمع فيه بنفسه، ولم يرتب فيه حرف منه ولا في ضبط كلمة، ولا وجد فيه تغيرا. فمتى كان بخلاف هذا، أو دخله ريب أو شك لم يجز له الحديث بذلك؛ إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب في شيء فقد حدث بما لم يحقق أنه من قول النبي
صلى الله عليه وسلم ، ويخشى أن يكون مغترا، فيدخل في وعيد من حدث عنه بالكذب، وصار حديثه بالظن، والظن أكذب الحديث، وقد هاب السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم الحديث بما سمعوه من قلق فيه، وحفظوه عنه مخافة تجويز النسيان، والوهم والغلط على حفظهم، ولا تأثير في الشرع للتجويزات، فكيف بما لا يحقق وبني على الظن وسلامة الظاهر؟ ولهذا قال مالك - رحمه الله - فيمن يحدث من الكتاب ولا يحفظ حديثه أخاف أن يزاد في كتبه بالليل، وقد قال مثل هذا جماعة من أئمة الحديث وشددوا في الأخذ.»
6
وقام في القرن السابع للهجرة الحافظ الفقيه ابن الصلاح الشهرزوري (643ه)، ونزل دمشق ودرس الحديث في المدرسة الأشرفية. فاعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة وجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، وعكف الناس عليه وساروا بسيره فنظموا أقواله، واختصروها، واستدركوا عليها، واقتصروا وعارضوا وانتصروا.
7
إلى أن قام في أيامنا العلامة الشيخ راغب الطباخ فعني بمصنف ابن الصلاح، ونشره نشرا دقيقا وعمم فائدته.
8
فرأينا نحن أن نقتطف من هذا المؤلف جميع ما ورد في معرفة من تقبل روايته ومن ترد.
قال ابن الصلاح: «أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه، وتفصيله أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه أن حدث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني، والله أعلم، ونوضح هذه الجملة بمسائل:
الأولى:
عدالة الراوي، تارة تثبت بتنصيص المعدلين على عدالته، وتارة تثبت بالاستفاضة. فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل، أو نحوهم من أهل العلم، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة، استغني فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصا، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه، وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ، ومثل ذلك بمالك وشعبة والسفيانين والأوزاعي والليث وابن المبارك ... ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر، فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم، وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين، وتوسع ابن عبد البر الحافظ في هذا فقال: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل، محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله
صلى الله عليه وسلم : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، وفيما قاله اتساع غير مرضي، والله أعلم.
والثانية:
ويعرف كون الراوي ضابطا بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان. فإن وجدنا رواياته موافقة، ولو من حيث المعنى لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله أعلم.
الثالثة:
التعديل مقبول من غير ذكر سببه، على المذهب الصحيح المشهور؛ لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا فعل كذا وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه، وذلك شاق جدا، وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسرا، مبين السبب؛ لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح. فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه، لينظر فيما هو جرح أم لا، وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله، وذكر الخطيب الحافظ أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل البخاري ومسلم وغيرهما؛ ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس - رضي الله عنهما - وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق وغيرهم، واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل أبو داود السجستاني وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه، ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة، وعقد الخطيب بابا في بعض أخبار من استفسر في جرحه، فذكر ما لا يصح جارحا. منها عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه، ومنها عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث الصالح المري، فقال: ما يصنع بصالح! ذكروه يوما عند حماد بن سلمة فامتخط حماد، والله أعلم. قلت: ولقائل أن يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة، ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح، أو في الجرح والتعديل، وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم: فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك، أو هذا حديث ضعيف، وهذا حديث غير ثابت، ونحو ذلك. فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك، وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر، وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح، والحكم به قد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك، بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف. ثم من انزاحت عنه الريبة فلم يبحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته، قبلنا حديثه، ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم. فافهم ذلك فإنه مخلص حسن، والله أعلم.
الرابعة:
اختلفوا في أنه هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد أو لا بد من اثنين. فمنهم من قال: لا يثبت ذلك إلا باثنين كما في الجرح والتعديل في الشهادات، ومنهم من قال: وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره، أنه يثبت بواحد؛ لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح رواية وتعديله بخلاف الشهادات، والله أعلم.
الخامسة:
إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل؛ فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل؛ فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى، والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه، والله أعلم.
السادسة:
لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل. فإذا قال: حدثني الثقة أو نحو ذلك مقتصرا عليه لم يكتف به فيما ذكره الخطيب الحافظ، والصيرفي الفقيه وغيرهما، خلافا لمن اكتفى بذلك؛ وذلك لأنه قد يكون ثقة عنده، وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده، أو بالإجماع. فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف.
السابعة:
إذا روى العدل عن رجل، وسماه لم يجعل روايته عنه، تعديلا منه له، عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم، وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي: يجعل ذلك تعديلا منه له؛ لأنه يتضمن التعديل، والصحيح هو الأول؛ لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل فلم يتضمن روايته عنه تعديله.
الثامنة:
في رواية المجهول، وهو في غرضنا ههنا أقسام: أحدها: المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعا، وروايته غير مقبولة عند الجماهير، على ما نبهنا عليه أولا، والثاني: المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة، وهو عدل في الظاهر، وهو المستور. فقد قال بعض أئمتنا: المستور من يكون عدلا في الظاهر، ولا نعرف عدالة باطنة. فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية الأول، وهو قول بعض الشافعيين، وبه قطع منهم الإمام سليم بن أيوب الرازي. قال: لأن أمر الإخبار مبني على حسن الظن بالراوي، ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن، فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر، وتفارق الشهادة فإنها تكون عند الحكام، ولا يعتذر عليهم ذلك. فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن. قلت: ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة، في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم، وتعذرت الخبرة الباطنة بهم، والله أعلم، والثالث: المجهول العين، وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين، ومن روى عنه عدلان ، وعيناه، فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة. ذكر أبو بكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسائل سئل عنها: أن المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفه العلماء، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد، وقل ما يرتفع به الجهالة: أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه، قلت: قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راو واحد منهم مرداس الأسلمي، لم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم، وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راو لهم غير واحد. منهم ربيعة بن كعب الأسلمي، لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن، وذلك منهما مصير إلى أن الراوي قد يخرج من كونه مجهولا مردودا، برواية واحد عنه، والخلاف في ذلك متجه في التعديل نحو اتجاه الخلاف المعروف في الاكتفاء بواحد في التعديل على ما قدمناه، والله أعلم.
التاسعة:
اختلفوا في قبول المبتدع الذي لا يكفر في بدعته، فمنهم من رد روايته مطلقا؛ لأنه فاسق ببدعته، وكما استوى في الكفر المتأول، وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول، ومنهم من قبل رواية المبتدع، إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه، أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته، أو لم يكن، وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم، وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية، ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء، وحكى بعض أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - خلافا بين أصحابه في قبول رواية المبتدع، إذا لم يدع إلى بدعته، وقال: أما إذا كان داعية فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته، وقال أبو حاتم بن حيان البستي، أحد المصنفين من أئمة الحديث: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافا، وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها ، والأول بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث. فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة، غير الدعاة، وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول، والله أعلم.
العاشرة:
التائب من الكذب في حديث الناس وغيره، من أسباب الفسق، تقبل روايته إلا التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا تقبل روايته أبدا وإن حسنت توبته على ما ذكر غير واحد من أهل العلم. منهم أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري، وأطلق الإمام أبو بكر الصيرفي الشافعي فيما وجدت له في شرحه لرسالة الشافعي فقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه، لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك، وذكر أن ذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة، وذكر الإمام أبو المظفر السمعاني المروزي أن من كذب في خبر واحد، وجب إسقاط ما تقدم من حديثه، وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي، والله أعلم.
الحادية عشرة:
إذا روى ثقة عن ثقة حديثا، ورجع المروي عنه، فنفاه المختار أنه إن كان جازما بنفيه بأن قال: ما رويته أو كذب علي، أو نحو ذلك، فقد تعارض الجزمان، والجاحد هو الأصل. فوجب رد حديث فرعه ذلك، ثم لا يكون ذلك جرحا له، يوجب رد باقي حديثه؛ لأنه مكذب لشيخه أيضا في ذلك، وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه فتساقطا. أما إذا قال المروي عنه: لا أعرفه أو لا أذكره أو نحو ذلك. فلذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه، ومن روى حديثا ثم نسيه لم يكن ذلك مسقطا للعمل به عند جمهور أهل الحديث وجمهور الفقهاء والمتكلمين، خلافا لقوم من أصحاب أبي حنيفة صاروا إلى إسقاطه بذلك، وبنوا عليه ردهم حديث سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها فنكاحها باطل.» الحديث من أجل ابن جريج، قال لقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه، وكذا حديث ربيعة الرأي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قضى بشاهد ويمين. فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: لقيت سهلا، فسألته عنه فلم يعرفه. والصحيح ما عليه الجمهور. لأن المروي عنه بصدد السهو والنسيان، والراوي عنه ثقة جازم، فلا يرد بالاحتمال روايته؛ ولهذا كان سهيل بعد ذلك يقول: حدثني ربيعة عني عن أبي ويسوق الحديث، وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعدما حدثوا بها عن سمعها منهم، فكان أحدهم يقول: حدثني فلان عني وعن فلان بكذا وكذا، ولأجل أن الإنسان معرض للنسيان كره من كره من العلماء الرواية عن الأحياء، منهم الشافعي - رضي الله عنه - قال لابن عبد الحكم: إياك والرواية عن الأحياء، والله أعلم.
الثانية عشرة:
من أخذ على التحديث أجرا، منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث، وروينا عن إسحاق بن إبراهيم أنه سئل عن المحدث يحدث بالأجر. فقال: لا يكتب عنه، وعن أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي نحو ذلك، وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلي بن عبد العزيز المكي وآخرون في أخذ العوض على التحديث، وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه. غير أن في هذا من حيث العرف خرما للمروءة، والظن يساء بفاعله، إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه، كمثل ما حدثنيه الشيخ أبو المظفر عن أبيه الحافظ أبي سعيد السمعاني: أن أبا الفضل محمد بن ناصر السلامي ذكر أن أبا الحسين بن النقور فعل ذلك؛ لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازمي أفتاه بجواز أخذ الأجرة على التحديث؛ لأن أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياليه، والله أعلم.
الثالثة عشرة:
لا تقبل رواية من عرف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه، كمن لا يبالي بالنوم في مجلس السماع، وكمن يحدث لا من أصل مقابل صحيح، ومن هذا القبيل من عرف بقول التلقين في الحديث، ولا تقبل روايته من كثرة الشواذ والمناكير في حديثه. جاء عن شعبة أنه قال: لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ، ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في روايته، إذا لم يحدث من أصل صحيح، وكل هذا يحرم الثقة بالراوي وبضبطه، وورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم، أن من غلط في حديث وبين له غلطه، فلم يرجع عنه وأصر على رواية ذلك الحديث، سقطت روايته، ولم يكتب عنه، وفي هذا نظر، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك، والله أعلم.
الرابعة عشرة:
أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم، وكان عليه من تقدم، ووجه ذلك ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها. فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق والسخف، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه، وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي - رحمه الله تعالى - فإنه ذكر فيما روينا عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم، ولا يحسنون قراءته من كتبهم، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم، ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت، أو وقعت بين الصحة والسقم، قد دونت، وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث، ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها. قال البيهقي: فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم، فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية غيره، والقصد من روايته، والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا، وأخبرنا، وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة، شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والله أعلم.
الخامسة عشرة:
في بيان الألفاظ المستعملة من أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل، وقد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه «في الجرح والتعديل» فأجاد وأحسن، ونحن نرتبها كذلك ونورد ما ذكره ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك عن غيره، إن شاء الله تعالى: أما ألفاظ التعديل فعلى مراتب، الأولى: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل للواحد إنه ثقة أو متقن فهو ممن يحتج بحديثه. قلت: وكذا إذا قيل: ثبت أو حجة، وكذا إذا قيل في العدل: إنه حافظ أو ضابط، والله أعلم. الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قيل إنه صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية. قلت: هذا كما قال؛ لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه ويختبر حتى يعرف ضبطه، وقد تقدم بيان طريقه في أول هذا النوع، وإن لم يتسوف النظر المعرف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطا مطلقا، واحتجنا إلى حديث من حديثه اعتبرنا ذلك الحديث، ونظرنا هل له أصل من رواية غيره؟ كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر، ومشهور، عن عبد الرحمن بن مهدي، القدوة في هذا الشأن، أنه حدث فقال: حدثنا أبو خلدة فقيل له: أكان ثقة. فقال: كان صدوقا وكان مأمونا وكان خيرا، وفي رواية، كان خيار الثقة شعبة وسفيان. ثم إن ذلك مخالف لما ورد عن ابن أبي خيثمة. قال: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: فلان ليس به بأس وفلان ضعيف. قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف فليس هو بثقة لا تكتب حديثه. قلت: ليس في هذا حكاية ذلك، من غيره من أهل الحديث فإنه نسبه إلى نفسه خاصة، بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم، والله أعلم . الثالثة: قال ابن أبي حاتم إذا قيل: شيخ فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه، وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية. الرابعة : قال إذا قيل: صالح الحديث، فإنه يكتب حديثه للاعتبار. قلت: وقد جاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال: كان عبد الرحمن بن مهدي، ربما جرى ذكر حديث الرجل به ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث، والله أعلم.
وأما ألفاظهم في الجرح فهي أيضا على مراتب: أولاها: قولهم: بلين الحديث. قال ابن أبي حاتم: إذا أجابوا في الرجل لين الحديث فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه اعتبارا. قلت: وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام. فقال له: إذا قلت: فلان لين إيش تريد به؟ قال: لا يكون ساقطا متروك الحديث، ولكن مجروحا بشيء لا يسقط عن العدالة. الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قالوا: ليس بقوي، فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه إلا أنه دونه. الثالثة: قال: إذا قالوا: ضعيف الحديث، فهو دون الثاني لا يطرح حديثه، بل يعتبر به. الرابعة قال: إذا قالوا: متروك الحديث وذاهب الحديث، أو كذاب فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة.
قال الخطيب أبو بكر: أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال حجة أو ثقة، ودونها أن يقال: كذاب ساقط. أخبرنا أبو بكر بن عبد المنعم الصاعدي الفردي، قراءة عليه بنيسابور، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ، أخبر الحسين بن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: سمعت أحمد بن صالح. قال: لا يترك حديث حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه. قد يقال: فلان ضعيف، فإما أن يقال: فلان متروك فلا، إلا أن يجمع الجميع على ترك حديثه، ومما لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب، قولهم: فلان قد روى الناس عنه، فلان وسط، فلان مقارب الحديث فلان مضطرب الحديث، فلان لا يحتج به، فلان مجهول، فلان لا شيء فلان ليس بذاك، وربما قيل: ليس بذاك القوي، فلان فيه أو في حديثه ضعف، وهو في الجرح أقل من قولهم: فلان ضعيف الحديث. فلان ما أعلم به بأسا، وهو في التعديل دون قولهم لا بأس به، وما من لفظة منها ومن أشباهها، إلا ولها نظير، شرحناه أو أصل أصلناه ننبه إن شاء الله به عليها، والله أعلم.»
9
ولم يغفل ابن خلدون عما توصل إليه علماء الحديث في هذا المضمار، ولا عن تطبيقه على الروايات التاريخية. فإنه نظر في أمر العدالة والضبط، وذكر شيئا من هذا القبيل في مقدمته الشهيرة، ثم ذهب مذهبا خاصا في تمحيص الأخبار، لا ينفصل عن آرائه الفلسفية في الاجتماع والتاريخ، وإليك الآن بعض ما قاله في هذا الموضوع: «اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر، بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش، والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.
ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها: (1)
التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار، لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتحميص، فتقع في قبول الكذب ونقله. (2)
ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. (3)
ومنها الذهول عن المقاصد. فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. (4)
ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. (5)
ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها ؛ وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. (6)
ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فيستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل، ولا متنافسين في أهلها.
ومن الأسباب المقتضية له أيضا، وهي سابقة على جميع ما تقدم، الجهل بطبائع الأحوال في العمران. فإن كل حادث من الحوادث، ذاتا كان أو فعلا، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته، وفيما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب، وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض وكثيرا ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة، وينقلونها وتؤثر عنهم، كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الإسكندرية، وكيف اتخذ صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها، وعمل تماثيلها من أجساد معدنية، ونصبها حذاء البنيان، ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها، وتم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي، ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه، ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور، ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة، واجتماع الناس إلى غيره، وفي ذلك إتلافه، ولا ينظرون به رجوعه من غروره ذلك طرفة عين، ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها، إنما هي قادرة على التشكل، وما يذكر من كثرة الرءوس لها، فإنما المراد به البشاعة والتهويل، لا أنه حقيقة، وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية، والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله، وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي، وتسخن روحه بسرعة لقتله فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي، ويهلك مكانه، وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم من الهواء البارد، والمتدلين في الآبار والمطافير العميقة المهوى، إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها. فإن المتدلي فيها يهلك لحينه، وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر. فإن الهواء الذي خرج إليه حار، فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة، ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك.
ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضا في تمثال الزرزور الذي برومة، تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون، ومنه يتخذون زيتهم، وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت.
ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب، تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة، وتشتمل على عشرة آلاف باب، والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي، وهذه خرجت عن أن يحاط بها، فلا يكون بها حصن ولا معتصم.
وكما نقله المسعودي أيضا في حديث مدينة النحاس، وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سلجماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه، فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل، عادة من خرافات القصاص، وصحراء سلجماسة قد نفضها الركاب والأدلاء، ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر. ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل، عادة مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها، وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآتية والخرثى، وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد.
وأمثال ذلك كثيرة، وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار، وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح، ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل، وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية؛ لأن معظمها تكاليف إنشائية، أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها؛ وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط، وأما الأخبار عن الواقعات، فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدما عليه؛ إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط، وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة.
وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر بالاجتماع البشري الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضا لا يعتد به، وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانونا في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني، لا مدخل للشك فيه، وحينئذ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه، وكان ذلك لنا معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه، وهذا هو غرض هذا الكتاب من تأليفنا.»
10
وفي كلام ابن خلدون ضعف ظاهر، ومصدر الضعف أن طبائع العمران التي ذكرها في مقدمته شيء أقل ما يقال فيه: إنه غير مستقر أو راهن. فما يتعلق من طبائع العمران بالطبيعة فقد انتظمت ظواهره وثبتت نواميسه، ويصح فيه تطبيق نظرية ابن خلدون كما سنبين في فصل آخر. أما ما يتعلق من طبائع العمران بالمجتمع البشري فلسنا نستطيع قبوله، وذلك أن العلماء لم يتمكنوا بعد من تعيين نواميس لعلوم الاجتماع كما فعلوا في العلوم الطبيعية، ولو تمكنوا فلن تكون نواميس ثابتة لا تتغير بل تقريبية.
الباب السابع
إثبات الحقائق المفردة
لقد جمعنا كل الأصول وتذرعنا بالعلوم الموصلة إلى فهمها ونقدناها. فتثبتنا من صحتها وعينا تاريخها ومكان تدوينها. ثم تحرينا نصوصها وتوصلنا إلى فهم ظاهرها وباطنها، ودققنا في أخبار رواتها للتعرف إلى أحوالهم فتوصلنا إلى تقرير عدالتهم وضبطهم. فهل يجوز لنا بعد هذا القدر من النقد والغربلة أن نقبل ما تبقى لدينا من الروايات، فنؤلف منه التاريخ الذي نكتب؟ أم يجب علينا أن نتابع البحث ونعيد الغربلة قبل الشروع في التأليف؟
نقول: إن ما تذرعنا به من وسائل النقد والغربلة لم يثبت لنا الحقائق التاريخية، ولكنه مكننا من المفاضلة بين الرواة، وتعيين درجاتهم على الشكل التالي: راو لا تقبل روايته، وآخر ضعيف الرواية مجهول المكانة، وثالث وهو أولاهم في انتباهنا لسماع روايته، ولكنه على هذا يظل موضوعا للنظر والاختبار، وإذا فالنقد الذي تذرعنا به لم يوصلنا إلى نتيجة إيجابية، ويمكننا الاعتماد عليها للتأكد من حقيقة الماضي، ولم يقطع لنا في شيء سوى أمر واحد؛ هو إسقاط رواية من لا يعتمد عليه، وهي نتيجة سلبية.
فلا بد للمؤرخ، والحالة هذه، من متابعة البحث والتنقيب للوصول إلى طمأنينة العقل وسلامة الاستنتاج، وعليه أولا أن يبتعد كل الابتعاد عن الروايات التي انفرد بها راو واحد. فإذا كانت العلوم الطبيعية تتطلب المشاهدة والاستدلال القياسي والتحقيق بالمقابلة والتجربة، فتبتعد كل الابتعاد عن الإطلاق في النتيجة من مشاهدة واحدة. فالتأريخ أولى بذلك منها لأنه بعيد عن المشاهدة، ضعيف الاستدلال بالقياس، عديم التجربة.
وهو أمر قديم العهد بيننا، وقد اعترف به علماء الحديث فجعلوا الحديث من هذه الناحية درجات أعلاها المتواتر، وشرطوا فيه أن يبلغ عدد المخبرين مبلغا يمنع في العادة تواطؤهم على الكذب.
1
ومن ذلك أبيات الجلال السيوطي في ألفيته المشهورة. قال:
وما رواه عدد جم يجب
إحالة اجتماعهم على الكذب
فالمتواتر وقوم حددوا
بعشرة وهو لدي أجود
والقول باثني عشرا وعشرينا
يحكى وأربعين أن سبعينا
2
ومن هذه الدرجات في الحديث العزيز، وقد أطلقوه على ما لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين. قال شيخ الإسلام بن حجر العسقلاني: «وسمي بذلك إما لقلة وجوده وإما لكونه عز؛ أي بمجيئه من طريق أخرى.»
3
وفيه قال الجلال السيوطي:
وسم العزيز والذي رواه
ثلاثة مشهورنا رآه
4
ومن المحدثين من اشترط في الصحيح رواية راويين على الأقل؛ وهو شرط العزيز.
قال الحافظ زين الدين العراقي في شرحه على مقدمة ابن الصلاح: «قال البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني - رحمهما الله - رأيت في الفصول التي أملاها الشيخ - حرسه الله تعالى - حكاية عن بعض أصحاب الحديث، أنه يشترط في قبول الأخبار أن يروي عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر قائله إلى آخر كلامه، وكأن البيهقي رآه في كلام أبي محمد الجويني فنبه على أنه لا يعرف عن أهل الحديث، والله أعلم.»
5
وجاء في رسالة ابن حجر العسقلاني ما يأتي: «والثالث العزيز، وهو أن يرويه أقل من اثنين عن اثنين، وسمي بذلك إما لقلة وجوده وإما لكونه عز، أي: قوي بمجيئه من طريق أخرى، وليس شرطا للصحيح خلافا لمن زعمه، وهو أبو علي الجبائي من المعتزلة، وإليه يومئ كلام الحاكم أبي عبد الله في علوم الحديث؛ حيث قال: الصحيح أن يرويه الصحابي الزائل عنه اسم الجهالة بأن يكون له راويان، ثم يتداوله أهل الحديث كالشهادة على الشهادة، وصرح القاضي أبو بكر بن العربي في شرح البخاري بأن ذلك شرط البخاري، وأجاب عما أورد عليه من ذلك بجواب فيه نظر. لأنه قال: فإن قيل: حديث الأعمال بالنيات فرد لم يروه عن عمر إلا علقمة، قال: قلنا: قد خطب به عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة الصحابة، فلولا أنهم يعرفونه لأنكروه كذا، وقال: وتعقب بأنه لا يلزم من كونهم سكتوا عنه أن يكونوا سمعوه من غيره، وبأن هذا لو سلم في عمر، منع في تفرد علقمة. ثم تفرد محمد بن إبراهيم به عن علقمة، ثم تفرد يحيى بن سعيد به عن محمد على ما هو الصحيح المعروف عند المحدثين، وقد وردت لهم متابعات، لا يعتبر بها لضعفها، وكذا لا نسلم جوابه في غير حديث عمر - رضي الله عنه - قال ابن رشيد: ولقد كان يكفي القاضي في بطلان ما ادعى أنه شرط البخاري أول حديث مذكور فيه، وادعى ابن حبان نقيض دعواه، فقال: إن رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي لا توجد أصلا. قلنا: إن أراد به أن رواية اثنين فقط عن اثنين فقط، لا توجد أصلا فيمكن أن نسلم، وأما صورة العزيز التي حررناها فموجودة بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين.»
6
وقال الشيخ محي الدين عبد الحميد، المدرس في كلية اللغة العربية في الجامع الأزهر، في شرحه على ألفية السيوطي، ما نصه: «وقد قال باشتراط رواية رجلين عن رجلين إبراهيم بن إسماعيل بن علية، وهو من الفقهاء المحدثين، وكان يميل إلى الاعتزال، وكان الشافعي يحذر منه ويرد عليه، وذهب أبو علي الجبائي من المعتزلة إلى أن شرط الصحة رواية عدلين عن مثلهما، أو رواية عدل واحد بشرط أن يعضده موافقة ظاهر كتاب أو ظاهر خبر آخر، ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي أن بعضهم اشترط في قبول الخبر أن يرويه ثلاثة عن ثلاثة إلى منتهاه.»
وبعضهم اشترط أربعة عن أربعة، وبعضهم اشترط خمسة عن خمسة، وبعضهم اشترط سبعة عن سبعة، وكل هذه الأقوال غير قول جمهرة العلماء، وقد نسب الناظم القائلين بها إلى الغلط، وذلك في قوله:
وليس شرطا عدد ومن شرط
رواية اثنين فصاعدا غلط
7
ومما جاء في أصول الفقه للإمام أبي حامد الغزالي
8
ما يلي: «اعلم أن التكليف والإسلام والعدالة والضبط يشترط فيه الرواية والشهادة. فهذه الأربعة. أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة، فهذه الستة تؤثر في الشهادة دون الرواية. لأن الرواية حكمها عام لا يختص بشخص، حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة.» كما هي الحال في الشهادة.
وإذا، فالأمر قديم العهد بيننا، وقد قال به علماء الحديث في المتواتر والعزيز، وبعضهم قالوا في الصحيح، ونوه به علماء الفقه في الشهادة. فحري بالمؤرخ العربي أن يعتنقه وينادي به، فيبتعد عن كل رواية تاريخية، انفرد بها راو واحد.
9
فإذا قضت الظروف بتدوينها فعليه أن يصرح بأنها غريبة في بابها وأنها لم ترو إلا عن راو واحد. هذا، وإنه لمن دواعي الأسف أن نرى بعض زملائنا المؤرخين الذين يعنون بالعصور الوسطى والعصور القديمة، يهملون هذه القاعدة الأساسية في مصطلح التاريخ، فيثبتون في تواريخهم روايات جمة انفرد بها راو واحد فيضلون ويضللون، وإذا ما تسرب إلى عقول البعض أن بعض المؤلفات الحديثة في العصور الوسطى، وفي التاريخ القديم، هي أكثر جزما من بعض أخواتها في العصور الحديثة، فإنما السبب في ذلك يرجع إلى إهمال واضعيها، وقلة درايتهم بقواعد مصطلح التاريخ.
على أنه يجدر بالمؤرخ المدقق، قبل إسقاط الرواية التي ينفرد بها راو واحد، أن يعيد البحث والتنقيب، لعله يجد بين الروايات المختلفة ما يزكي به روايته المنفردة، وهو أمر عرفه المحدثون وعملوا به، فأفردوا له بابا خاصا سموه: باب الاعتبار والمتابعات والشواهد. قال ابن الصلاح: «هذه أمور يتداولونها في نظرهم في حال الحديث هل تفرد به راويه أو لا؟ وهل معروف أو لا؟ وذكر أبو حاتم محمد بن حبان التميمي الحافظ - رحمه الله - أن طريق الاعتبار في الأخبار مثاله أن يروي حماد بن سلمة حديثا لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم . فينظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين. فإن وجد علم أن للخبر أصلا يرجع إليه، وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين ورواه عن أبي هريرة، وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي
صلى الله عليه وسلم . فأي ذلك وجد يعلم به أن للحديث أصلا يرجع إليه وإلا فلا. قلت: فمثال المتابعة أن يروي ذلك الحديث بعينه عن أيوب غير حماد، فهذه المتابعة التامة. فإن لم يروه أحد غيره عن أيوب، لكن رواه بعضهم عن ابن سيرين أو عن أبي هريرة، أو رواه غير أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فذلك قد يطلق عليه اسم المتابعة أيضا لكن يقصر عن المتابعة الأولى بحسب بعدها منها، ويجوز أن يسمى ذلك بالشاهد أيضا. فإن لم يرو ذلك الحديث أصلا من وجه من الوجوه المذكورة لكن روي حديث آخر بمعناه، فذلك الشاهد من غير متابعة. فإن لم يرو أيضا بمعناه حديث آخر فقد تحقق فيه التفرد المطلق حينئذ، وينقسم عندئذ إلى مردود منكر، وغير مردود كما سبق، وإذا قالوا: في مثل هذا تفرد به أبو هريرة وتفرد به عن أبي هريرة ابن سيرين، وتفرد به عن ابن سيرين أيوب، وتفرد به عن أيوب حماد بن سلمة، كان في ذلك إشعار بانتفاء وجوه المتابعات فيه.
ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودا في الضعفاء، وفي كتاب البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكرهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك؛ ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: فلان يعتبر به، وفلان لا يعتبر به، وقد تقدم التنبيه على نحو ذلك، والله أعلم.»
10
وقال الجلال السيوطي نظما ما يلي:
11
الاعتبار سبر ما يرويه
هل شارك الراوي سواه فيه
فإن يشاركه الذي فيه اعتبر
أو شيخه أو فوق تابع أثر
وإن يكن متن بمعناه ورد
فشاهد وفاقد ذين انفرد
وربما يدعى الذي بالمعنى
متابعا وعكسه قد يعنى
وقد تتعدد الروايات التاريخية في أمر واحد، فتتوافق أن تتناقض، وحيث تتناقض يحسن بالمؤرخ أن يؤكد بدء وقوع التناقض. لأن ما يظهر من التناقض، لأول وهلة، قد يتلاشى لدى التدقيق والتحقيق. فقد لا تتفق الروايات في الزمان أو المكان أو الشخص المقصود أو ما شاكل ذلك. أما إذا ثبت التناقض فعلى المؤرخ ما يأتي: (1)
أن يترفع عن اتخاذ موقف وسط بين الطرفين. فإذا ما وقع مثلا على أصل من الأصول فيه أن عدد المحاربين في واقعة كان عشرين ألفا، وآخر فيه، أنهم كانوا أربعين ألفا، فإنه من الخطأ الفاضح أن يوفق بين الطرفين؛ فيزعم أن العدد كان وسطا بين الطرفين؛ أي ثلاثين ألفا. فإن ما يصح في علم الرياضيات يصح هنا. فإذا جعل أحدهم حاصل الرقمين 2 × 2 أربعة وجعل الآخر الحاصل ستة، فهل يقال إن الحاصل الحقيقي لا هذا ولا ذاك بل هو خمسة! (2)
أن يعيد النظر في الطرفين لعله يكشف الستار عن عيب في إحدى الروايتين لم ينتبه إليه أولا. أو لعله يجد ما يجعله يثق بالواحدة أكثر من الأخرى. فيسقط ما قلت ثقته فيه ويرجح القول الآخر. (3)
أن يمتنع عن الحكم بين الطرفين، إذا عم الشك وبانت قلة الثقة، فليس هنالك ما يضطره لإبداء رأيه وإصدار حكمه، والعالم من يعلم أنه لا يعلم، وما يصح عن التناقض بين روايتين يصح أيضا عن التناقض بين رواية من الجهة الواحدة، وروايتين أو أكثر من الجهة الأخرى. فلا عبرة للعدد في مثل هذه المواقف، والحقيقة العلمية لا تثبت بالصويت والأكثرية، وقد قال الفلاسفة القدماء:
Ne numerentur, sed ponderentur «الوزن لا العدد» وحيث تتوافق الروايات التاريخية يجدر بالمؤرخ المدقق أن يلتفت إلى أمور عدة، منها ما يأتي: (1)
عليه أن لا يتسرع في الحكم، فيظن أن جميع ما لديه من الروايات هو من النوع الذي يعول عليه. فالناس كثيرا ما ينقل بعضهم عن بعض، وهذه جرائدنا اليومية. ألا ترى أن مخبرا واحدا أحيانا ينقل الخبر نفسه إلى جرائد متعددة؟ وإذا فالمؤرخ المدقق هو من يتروى في الأمر، ويعيد النظر في الروايات ليؤكد عدم اعتماد الرواة بعضهم على بعض، والتأكد من الاعتماد أو عدمه ميسور لمن يسعى إليه، وقد سبق لنا أن طرقنا مثل هذا الموضوع في باب تحري النص والمجيء باللفظ، فأتينا على ذكر قاعدة عامة يقول بها المؤرخون في مثل هذه المواقف، وهي أن النساخ والرواة لا يتفقون على خطأ إلا ويكون أحدهم في الأرجح قد أخذ عن غيره كما وأنهم لا يتفقون منفردين إلا على الصحة. فليس على المؤرخ، والحالة هذه، إلا أن ينعم النظر في الروايات التي يدرس ليرى إذا كانت تتفق على خطأ معين، فيثبت لديه عندئذ اعتماد الواحدة منها على الأخرى وهلم جرا، فإن أعياه ذلك فعليه أن يعلق حكمه في الأمر ويبقى متمسكا بالشبهة والاتهام، ولا يخفى أن ما يصدق على الرواية بأكملها يصح أيضا على أجزائها. فيحسن بالمؤرخ أن يتأكد من هذا الأمر أيضا، قبل الفراغ من عمله. (2)
وعليه أن يذكر أيضا أن شدة الانطباق بين الروايات المختلفة توجب الشك لا الثقة، وهو أمر عرفه علماء التزوير في الخطوط، وقالوا به منذ زمن بعيد. فحيث ينطبق إمضاء، معترض عليه، من جميع نواحيه وفي جميع دقائقه، على إمضاء معترف به، يرجح وقوع التزوير، وحيث يشتد انطباق الروايات بعضها على بعض يزداد قلق المؤرخ ويكثر ريبه. (3)
وهناك تآلف بين الحقائق التاريخية لا بد من الالتفات إليه، والاستعارة هنا من علم الموسيقى. فكما تتآلف الألحان المختلفة فتشكل مجموعا موسيقيا شائقا مؤثرا في النفس، كذلك الروايات التاريخية المختلفة، فإنها إذا ما عبرت عن الحقيقة الراهنة تتآلف بعضها مع بعض؛ فتتناصر على البطل وتلمع لمعان الحق. فيترتب على المؤرخ المدقق أن ينظر إلى رواياته المتوافقة ليرى إذا كانت تتآلف فتتناصر، وتظهر الحقيقة، والعكس بالعكس.
وقد تكتمل هذه الشروط في رواية من الروايات، ولكن المؤرخ يجد تناقضا بين مضمونها، وناموس من نواميس العلوم الطبيعية. فيضطر، والحالة هذه إلى إسقاط الرواية وصرف النظر عنها، فلو قال قائل بما يتناقض كل المناقضة مع قواعد علم الطب لاضطررنا أن نصدق الطبيب بترك الراوي، ومثله في أمور الفلسفة الطبيعة أو علم الكيمياء أو الحيوان. فهنالك نواميس في هذه العلوم راسخة لا تتزعزع، ولا مفر من الاعتراف بها وقبولها، إن عن الحاضر أو الماضي أو المستقبل.
ومثال بعض ما أوردناه في هذا الباب وفي الباب السادس أيضا ما أقدمنا على نشره عام 1930 في تشريح موقف الدمشقيين من حملة محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا على الأقطار الشامية.
فبينما كان لبنان يخف لنجدة مصر 1831م، ويقدم لها المساعدة الواحدة تلو الأخرى، فيجاهر بالخروج على السلطان،
12
ويقاتل في سبيل الشقيقة في طرابلس قتال الأبطال، ويؤمن الذخائر والمؤن في سهل البقاع، ويقوم بحفظ الأمن في القسم الأكبر من البلاد المغلوبة، ويلبي الطلب في هذا الأمر وذاك،
13
بينما كان لبنان يصدق هذا السعي لمصر ويبذل طوقه في سبيلها، كانت دمشق تتقاعس عن مساعدة الفاتح المصري، وتنقبض على إسعافه، وزاد تطرفها في هذا الأمر أن أقفلت أبوابها في وجهه، وتجهزت لحربه فتصدت له بالقرب من داريا، قاصدة قطعة عن عزمه وإحالته عن قصده.
14
هذه حقيقة تاريخية كنا نرددها بالأمس، ولا نزال نقول بها اليوم، ولكن طالما توخينا وحاولنا أن نعرف أسبابها، فاعترضتنا عقبة السكوت في بعض الأصول، والغموض في غيرها فحبستنا عن حاجتنا، ولم يتوفر لدينا وقتئذ من معالم الطريق سوى بعض الروايات المبهمة، أو الممرضة في مخطوطتي برلين
15
ولندن
16
وكتاب الدكتور ميخائيل مشاقه المشهور
17
وغيره، وبعض الأخبار المفردة الغربية في كتاب «كاد الفان وبارو» ورسالة فيدال وغيرهما.
18
فقد جاء في مخطوطة برلين في الكلام عن ثورة دمشق وقتل محمد سليم باشا عام 1831 ما يأتي: «وبعد دخول الوزير بثلاث أيام هرب الجوربجي محمد أغا الداراني بالليل إلى بيت الشوملي بالميدان، فلما بلغ ذلك الوزير اغتاظ، وأرسل له أمرا أنه لا يقعد في حكمه، فالتزم توجهه إلى عكا، ولما مضى من الحصار خمسة عشر يوما شاع الخبر أن الجوربجي الداراني الذي كان هرب إلى عكا، حاضر منها صحبته كيخية عبد الله باشا، وقبل أن يحضر الجوربجي كانت المادة تناقصت، وبعد حضوره تجسمت، وتقوت المتاريس، والناس تواقحوا وصار الجوربجي رأس الجميع، وظهر أن هذه إرادة عبد الله باشا والي عكا.»
19
وجاء في مخطوطة لندن ما نصه: «ومحمد سليم باشا كان يفتكر يجيه إسعاف من جهات، وجميع الناس صاروا ضده من الجملة؛ عبد الله باشا والي عكا، كان يرسل يقوي عبارة أهل الشام كذا شاع عنه.»
20
وكذلك الدكتور مشاقه، فإنه قال في مخطوطته المشار إليها سابقا ما يأتي: «ثم حضر من عكا الجربجي الداراني الذي كان نازحا إليها من وجه سليم باشا، والقول إن عبد الله باشا أرسله لإتمام ما جرى بعد ذلك، لغاية ما؛ لأنه كان صاحب سطوة جسيمة بين كبراء دمشق.»
21
ولا يخفى ما في هذا القول جميعه من صيغة التمريض والإبهام، كما يتضح من قول المؤرخ المجهول في المخطوطة البرلينية «وظهر» وقول ميخائيل الدمشقي «وشاع» واكتفاء الدكتور مشاقة بكلمة «والقول»، وكذلك فإن قول المؤرخين الإفرنج المشار إليهم آنفا لا يخلو من الترجيم، ولا يخرج بعضه عن حد المظنونات. غير أننا مع إقرارنا بهذا التمريض والترجيم والإبهام كله كنا نأمل أن نستبصر بهذا القول عن مقتل محمد سليم باشا، فنكشف القناع عن موقف الدمشقيين الحقيقي تجاه النزاع الذي وقع بين والي عكة وعزيز مصر وقتئذ، ونحسر اللثام عن أميالهم السياسية.
وهكذا جرى فإننا توفقنا عام 1927 فوجدنا في سجل المحكمة الشرعية بمدينة دمشق رسالتين من عبد الله باشا إلى أهالي هذه البلدة يرجع عهدهما إلى سنة 1831، ويدور منطوقهما حول مقتل سليم باشا وخروج محمد علي باشا إلى سوريا، ومع أننا لم نجد في هاتين الرسالتين نصا صريحا على حقيقة موقف الدمشقيين، فإننا بدأنا آنئذ بالخروج من حيز الظن إلى جهة الترجيح واليقين - ترجيح ما أومأته إلينا تلك المقدمات وما صوره لنا ذلك الظن.
نص الرسالة الأولى: «بيورلدي بختم كبير من حضرة عبد الله باشا، والي عكا صدر الموالي العظام، عمدة العلماء الكرام ونخبة الفضلاء الفخام ذو الفضل واليقين، رافع أعلام الشريعة والدين وارث علوم الأنبياء والمرسلين، المختص بمزيد عنايت الملك (المعين) قاضي محروسة دمشق الشام حالا أفندي زيدت فضائله، وافتخار العلماء الكرام وزبدة الفضلاء الفخام المأذون بالإفتا أفندي زيدت علومه وفرع الشجرة الزكية وطراز العصابة الهاشمية، قائمقام نقيب الأشراف أفندي، زيد شرفه ومفاخر أقرانهم علماء المدينة وأعيانهما ووجوهها وأرباب التكلم بوجه العموم زيدت مقاديرهم، بعد السلام التام بمزيد الإعزاز والإكرام المنهي إليكم، اطلعنا على عرض محضركم المتضمن التخبير عما حصل من المرحوم محمد سليم باشا وقتله كتخداه، وما حصل بهذه الحركة بينه وبين الحراس وقتله ثلاثة أنفار منهم، وإنه أخيرا جلس على صندوق باروت، وقوصه بيده فاحترق هو والأوده بما فيها، فلما بلغ ذلك أعيان البلدة توجهوا اخرجوا أتباعه بالسلامة، وسيروهم من الشام بالأمن والحراسة، وحررتم الموجودين التي بالأودة التي احترقت بالمشار إليه، وأما أمين بك أفندي المأمور من طرف حضرت ولي نعمتنا الدولة العلية صانها وحرسها رب للبرية، فهو مقيم بالراحة والرفاه في قوناق أسدكم الحاج محمد أغا الداراني، وجميعها شرحتوه وأعرضتوه صار معلوم، فنخبركم أن قبل تاريخه عرض محضركم الذي أرسلتموه لطرفنا قدمنا أعراضه لجناب العتبة العليا الملوكية، فلا زالت على الدوام مصانة ومحمية، صحبة سر تاتاران بابنا، والآن عرض محضركم هذا قدمنا أعراضه أيضا لجانب العتبة العالية الملوكية صحبة تاتاران بابنا، ونحن بانتظار الأوامر الشريفة والإرادة السامية الشاهانية بمصلحة إيالت الشام المراد تكونوا متنبهين لحفظ الموجودات، وراحة البلدة إلى حين ورود الأجوبة لنا من جانب حضرة ولي نعمتنا الدولة العليا والسلطنة السنية أعز الله - تعالى - أنصارها وقوى شوكة اقتدارها، فبناء على ذلك أصدرنا لكم بيور لدينا هذا من ديواننا في قلعة النصر، داخل دار الجهاد محروسة عكا المحمية عن يد رافعه، فبوصوله ووقوفكم على مضمونه تعلموه وتعملوا بموجبه، وتعتمدوه غاية الاعتماد في غرة ج سنة 1247 قيد سند في 6 ج سنة 47 بختم صغير.»
نص الرسالة الثانية: «بيورلدي باختم كبير من عبد الله باشا والي عكا صدر الموالي العظام عمدة العلماء الكرام، ونخبة الفضلاء (الفخام) معدن الفضل واليقين رافع أعلام الشريعة والدين وارث علوم الأنبياء والمرسلين، قاضي محروسة الشام حالا مولانا أفندي زيدة فضائله وافتخار العلماء الكرام ونخبة الفضلاء الفخام المأذون بالإفتا بها أفندي زيدة علومه، وفرع الشجرة الزكية وطراز العصابة الهاشمية قائمقام نقيب السادة الأشراف أفندي زيد شرفه ومفاخر العلماء الكرام، ونخبة المدرسين الفخام وزبدة العلماء العظام علماء المدينة ومدرسينها وصلحائها زيدة علومهم وفضلهم وصلاحهم، ومفاخر الأماجد والأعيان وجوه وأعيان المدينة وأرباب التكلم ومقارشين الأمور زيد مجدهم وقدرهم، بعد التحية والتسليم بمراسم الإعزاز والتكريم، والسؤال عن خواطركم المنهي إليكم، اطلعنا على عرض محضركم المتضمن توارد الأخبار لطرفكم عن قدوم عسكر والي مصر إلى إيالات بر الشام، ودخوله إلى غزة ويافا وإنه مرسل مراكبه بحرا وبوجه الفراسة تحققتم إن ذلك خروج على السلطان، لزم عقدتم مجلس عمومي بحضور جميعكم وتفاوضتم بأمر هذا الخارجي، والجميع منكم بقول واحد وقلب واحد اتفقتم، أن جميعكم عبيد حضرة ولي نعمتنا الدولة العليا والسلطنة السنية أعز الله أنصارها وقوى شوكة اقتدارها وأعدا لمن عاداها وأصدق لمن صادقها وجميعكم بهذا الاتفاق كجسم واحد بإطاعتنا، وتحت أوامرنا وجميع ما شرحتوه ووضحتوه حرفا بحرف صار معلوم، فنخبركم أن الأمر كما تحققتم، ووالي مصر بوجه الخروج على السلطان تجرأ على الفعل الوخيم العواقب، وأرسل عساكره وتكناته المنحوسة لأجل الاستيلاء على هذه المماليك الشامية، التي هي وإيالت مصر أيضا ملك حضرة مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن، ومن المحقق تقارب الأجل، وحلول أوان زوال النعم أغراه لهذا الخروج الذي عواقبه الدمار والبوار وقلع الآثار، ولقد أصبتم بما عقدتم عليه رأيكم واتفقتم عليه بقلوبكم، وهو بلا شك موجب لكم سعادة الدارين، ولقد انحظينا الحظ التام من ارتباطكم للخدامة الصادقة أمام حضرة ولي نعمنا الدولة العليا صانها وحرسها رب البرية؛ إذ نحن بحوله تعالى وقوته وباهر جلال عظمته بغاية القوة والاستعداد والنشاط التام لخدامة حضرة ولي نعم العالم، وسبب أمن وراحة بني آدم ظل الله الظليل سلطان السلاطين وخاقان الخواقين - أعزه الله بنصره المبين - وقهر أعداء الخاسرين انكان بلقاء هذا الخارجي وضربه وتدميره، وانكان بجميع الخدامات والمأموريات، فأنتم يلزم تقووا اعتصابكم واعتضادكم هذا، وتنشطوا العزائم الإسلامية بهذا الاتفاق الحسن الذي فيه خير الدنيا والآخرة وتكونوا منتظرين أوامرنا، فبناء على ذلك أصدرنا لكم بيورلدينا هذا من ديواننا في قلعة النصر، داخل دار الجهاد محروسة عكا المحمية بوصوله واطلاعكم على مضمونه تعتمدوه غاية الاعتماد، وتداوموا على خير الدعاء بالأماكن والأوقات المظنونة الإجابة بدوام سرير سلطنة حضرة مولانا السلطان نصره العزيز الرحمن، وخلد سرير سلطنته العظماء إلى انتهاء الأزمان وانقراض الدوران، هذا ما لزم أخباركم والدعاء في 11ج سنة 247 قيد سند 14ج سنة 247.»
إثبات الأصلية وإقرار المضمون
هذا هو نص هاتين الرسالتين كما عرفناه في سجل المحكمة المذكورة، وقد أبقيناه على حاله بحروفه وغلطاته، ونحن نرى في وجود هاتين الرسالتين ضمن سجل رسمي يرجع عهده إلى ذلك الزمن دليلا قويا يثبت أصليتهما ويقرها بوجه الإجمال، ولنا أيضا في صحة أصل الصكوك الشرعية التي ترد قبل هاتين الرسالتين في السجل نفسه، وبعدهما ما يقوي اعتقادنا في سلامة أصلهما وعدم تزويره، وبعد المقابلة بين نص هاتين الرسالتين ونصوص غيرهما من رسائل عبد الله باشا التي تحمل ختمه وإمضاءه، والتي لا تزال محفوظة حتى الآن لدى أرباب البيوت الكبيرة في فلسطين وسوريا تمكنا من الوقوف على دليل آخر يدعم هذا الإثبات ويؤيده. فإنك لو طلبت المجموعة الفاهومية في الناصرة، وأخذت بيدك مراسيم هذا الباشا إلى الشيخ عبد الله الفاهوم وغيره لوجدت فواتحها وخواتمها كفواتح هاتين الرسالتين وخواتمها بالضبط. ثم إننا لا نجد فرقا بين لغة وأسلوب هاتين وتلك.
ويصح لنا بناء على هذا الإثبات للأصلية أن نقول: إن أهالي دمشق ودعوا عبد الله باشا خيرا، فقال: إنه اتعد، وإنهم قالوا: إنهم فعلوا ذلك لخروج محمد علي باشا على السلطان، وإن عبد الله شدد عزائمهم ونشط قلوبهم، ولكننا نجد أنفسنا مضطرين لطلب تزكيتين على الأقل مستقلتين، الواحدة عن الأخرى، لتأييد كلام الدمشقيين في سبب انقباضهم عن إسعاف الباشا المصري، ومقاومتهم إياه، ولما كان هذا العدد والنوع من التزكيات الفنية غير متوفر لدينا الآن، لا نرى مناصا من الاكتفاء بالقول إن الدمشقيين «قالوا»: إنهم قاوموا المصريين لأن هؤلاء خرجوا على السلطان، وإنهم - أي الدمشقيين - اشتهروا بتعصبهم ومحافظتهم على التقاليد القديمة، دينية كانت أم اجتماعية.
22
ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ أم هناك دخلة مكنونة لا بد لنا من إظهار بعضها وإماطة اللثام عنها. نقول: نحن على مرية من أمر مقتل الباشا كما ورد في الرسالة الأولى، وقد ترددنا ولا نزال نتردد في صحته لغرابته ومخالفته الأصول المعروفة. قال المؤرخ الدمشقي المجهول واضع مخطوطة برلين المشار إليها سابقا: «وفي الساعة الواحدة من الليل أحضروا كيخية سليم باشا، وخاله من بيت المفتي إلى عنده، وقالوا لهم: إن الوزير طالبكم، ودخل أولاد البلد الساعة الرابعة من الليل، قتلوا كيخية الوزير وخاله والقبجي والسلحدار والخزندار والمهردار، وكان الوزير حينئذ في القاعة، فسمع العكرة بأرض الدار فسكر الباب من جوا، وكان عنده مملوك وطواشي، صاروا يدكوا له، وهو يقوص حتى قتل ستة أنفار من أولاد البلد، وبعد هذا طلع ناس إلى ظهر القاعة، حفروه ونقبوه وقوصوه فرموه، وأناس علقت النار في باب القاعة ... وهو وقع من القواص، فلحقته النار احترقت ذقنه وشواربه وتشلوط كل بدنه ولا يعاد ينعرف شكله.»
23
ويزكي قول هذا المؤرخ ما جاء في الجواب على اقتراح الأحباب للدكتور مشاقه، وفي حوادث الشام ولبنان، ولعلها لمخائيل الدمشقي، وكتاب الروضة الغناء لنعمان القساطلي.
24
ولا يخفى ما في هذا القول المزكي من المناقصة لقول الدمشقيين أنفسهم، فهم يقولون: إن سليما قتل نفسه، والمؤرخون المعاصرون يقولون: إنهم هم قتلوه. فأي القولين نقبل؟ نقول: تدل محتويات المخطوطة البرلينية أن كاتبها كان دمشقيا
25
من وجهاء الطائفة الأرثوذكسية المسيحية، وأنه كان في إمكانه أن يشاهد بعض ما يرويه عن مقتل الباشا، وأنه كان يدون رواياته حين وقوع حوادثها أو بعد ذلك بزمن يسير. هذا ولا نعرف له مصلحة؛ كان بإمكانه أن يخدمها بقوله هذا أو ظروفا كانت تضطره لتزوير شيء عن مقتل الباشا، أو أنه كان يتودد للعامة فيكتب ما يرضيهم، فهو لم يذكر اسمه ولا مهنته، ولم يقصد نشر مخطوطته على ما نعلم.
26
وكذلك فإن الدكتور مشاقة ونعمان القساطلي اشتهرا بنباهتهما وتدقيقهما وأمانتهما أيضا.
27
أما عريضة الدمشقيين فإنها وضعت لاستعطاف أولياء الأمر آنئذ، وكتبها أناس اتهموا بقتل الوالي نفسه، وعرفوا بانخراعهم من جراء ذلك وخوفهم وجبنهم.
28
وبناء على هذا كله نرى أنفسنا مضطرين الآن أن نرجح صحة أقوال المؤرخين المعاصرين، ونكذب الأعيان الدمشقيين.
فإذا صح أن الدمشقيين قتلوا واليهم، وأنهم حذروا بطش الآستانة من جراء ذلك فأظهروا علامات الجبن والخوف، وأنهم فاوضوا عبد الله باشا في الأمر، وطلبوا إليه أن يتوسط بينهم وبين الآستانة، ويستعطف السلطان عليهم، وإذا صحت الإشاعة أنه كان لعبد الله يد في مقتل الباشا، إذا صحت هذه الأمور جميعها، أفلا يصح لنا أن نقول: إن ما اقترفه الدمشقيون من الإثم في مقتل الباشا، وانخراعهم في عقابه، ربما كان سببا من أسباب اتحادهم مع عبد الله باشا ومقاومتهم للفاتح المصري؟
للدرس والتطبيق: ويجدر بالقارئ أن يطالع بإمعان وتدقيق ما قاله الأستاذ جبرائيل في موت عمر بن أبي ربيعة في الجزء الثاني من مؤلفه المشهور، وإليك نصه: «ولعل أخفى ما في تاريخ عمر أمر موته؛ وهو شيء غريب، فالرواة والمؤرخون عودونا أن يختلفوا في أمر ولادة بطل أخبارهم؛ لأن أحدا من الناس لم يؤت النبوة ليعلم أن هذا الصغير الذي يوضع سيكون له شأن، أما أن يختلفوا في ظروف موت شاعر طبق صيته العالم العربي فأمر ذو بال.
غريب جدا أن يكون شاعر مثل عمر ملأ الدنيا بحق، وشغل الناس - نساء ورجالا - ثم يموت فيجهل الرواة أمر موته ويختلفون في سببه وموضعه، فيزعم بعضهم أنه قضى في الشام، ويزعم آخرون أنه مات غرقا في دهلك، ويذهب فريق إلى أنه مات من مرض أصابه، ويذهب آخرون إلى أنه غزا في البحر فاحترقت السفينة به، ويذهب غيرهم إلى أن امرأة شبب بها ظلما، فدعت عليه فقتله دعاؤها، ويضطرب حبل الرواة في تعيين سنة موته، فيرى بعضهم أنها كانت ثلاثا وثمانين للهجرة، يرى آخرون أنها ثلاث وتسعون، ويمد فريق ثالث بعمره، فيجعل سنة وفاته الواحدة بعد المائة، ولسنا نرى بدا بعد هذا الاضطراب والتشويش من عرض هذه الروايات المختلفة للدرس والنقد، علنا نستطيع أن نتوصل إلى الحقيقة.»
أما أقدم هذه الروايات وأكثرها انتشارا في كتب السلف، وأشدها أثرا في نفوس الأدباء العرب في هذا العصر وأحظاها قبولا عندهم، فهي تلك التي تنص على أن الخليفة عمر بن عبد العزيز نفى ابن أبي ربيعة إلى دهلك
29
فغزا بالبحر فأحرقوا سفينته فاحترق، ولعل أقدم من ذكر هذه الرواية وأظهر سبب وجود عمر في دهلك ابن قتيبة في كتاب «الشعر والشعراء»
30
وقد سبقه الجاحظ فذكر في «البيان والتبيين» خبر احتراق السفينة بعمر
31
ولكنه لم يذكر من الذي دفع بعمر إلى أن يغزو في البحر، ويظهر أن الجاحظ وابن قتيبة أشفقا على عمر فختما له بالشهادة على هذه الصورة، وزعما أن عبد الله بن عمر قال: فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة؛ فغزا البحر فأحرقوا سفينته فاحترق ، وقد جارى الجاحظ وابن قتيبة في ما ذكراه عن استشهاد عمر في البحر كثيرون من المتأخرين نذكر منهما ابن خلكان
32
والدميري
33
والسيوطي
34
والحنبلي
35
والعيني
36
والبغدادي،
37
ولعلهم قد ارتاحوا لسماع هذا الخبر فدونوه فرحين مطمئنين. أوليس حسنا أن تختم حياة عمر في الجهاد؟ أوليس عظيما أن ترجع هذه النفس الضالة إلى رشدها، فيكفر صاحبها عن سيئاته بالغزو فيموت شهيدا؟ والأغلب أن شيئا من هذا لم يجر، وهذه الرواية في نظرنا أبعد الروايات عن الحقيقة. ذلك أن عمر بن عبد العزيز اعتلى عرش الخلافة سنة تسع وتسعين كما هو مشهور، فلو فرضنا أن ابن أبي ربيعة قد عاش إلى ذلك الزمن، فقد دخل في السادسة والسبعين من عمره، ونحن نعلم أنه كان زمن الوليد بن عبد الملك شيخا كبيرا مسنا يتوكأ على مولى له لضعفه، فكيف يخشى شر هذا فينفى؟! وكيف يغزو مثل هذا في البحر؟! والغريب أن كثيرا من هؤلاء الذين دونوا هذه الرواية ذكروا أن موت ابن أبي ربيعة قد وقع سنة ثلاث وتسعين. أي قبل استخلاف عمر بن عبد العزيز بست سنوات، ولم يتصد منهم أحد منهم لنفيها. زد على هذا أن روايتي الجاحظ وابن قتيبة تذهبان إلى أن عبد الله بن عمر قص هذا الخبر على ابن أبي ربيعة، وزعم أنه في موته شهيدا قد فاز بالدنيا والآخرة - كسب الدنيا حين تمتع بملذاتها، والآخرة حين مات شهيدا - ولسنا نعلم كيف تورط الجاحظ وابن قتيبة في مثل هذا الخطأ، فقبلا الرواية المدسوسة على عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر قد مات سنة أربع وسبعين
38
أي قبل أن يصبح ابن عبد العزيز خليفة بخمس وعشرين سنة، وقبل أن يموت عمر بن أبي ربيعة بزمن طويل.
وإذا فرواية الجاحظ وابن قتيبة مضطربة ضعيفة، ولنذكر أن أبا الفرج كتب أوفى ترجمة لحياة عمر، ولم يذكر هذه الرواية، وأننا نذهب إلى أبعد من نفي موته شهيدا في البحر، فننفي أيضا أمر تسييره إلى دهلك؛ إذ ليس في كل أخباره ما يفيد أنه نفي إلى دهلك غير هذه الرواية التي تشير إلى موته في البحر، ولعل مصدرها أن عمر بن عبد العزيز نفى الأحوص - فيما يزعمون - إلى دهلك، والرواة يعلمون أن عمر لم يكن بالفاسق اليسير، وإذن فلينف مع الأحوص، قالوا: فلم يكن لعمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة من هم سوى الأحوص وابن أبي ربيعة، وغريب أن ينفي مثل عمر إلى دهلك، ولا تحفظ عنه أخبار أو أشعار في ذاك، بينما يذكر لنا الرواة أن أهل دهلك يأثرون عن الأحوص الشعر، وعن عراك بن مالك في الفقه
39
وقد خلط الرواة بين الأحوص وعمر كثيرا، ونسبوا لهذا بعض ما وقع لذاك
40
فليس غريبا أن يجمعوا بينهما في المنفى، ولكن الأحوص أعيد من منفاه
41
فما بقي لعمر إلا أن يموت شهيدا، ومن الممتع أن نعلم أن هناك من يزعم أن ابن حزم عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة، هو الذي نفى الأحوص إلى دهلك لا عمر بن عبد العزيز.
42
بل هناك من يزعم أنه عامل سليمان.
43
ورواية ثالثة تذهب إلى [أن] الأحوص نفي إلى اليمن.
44
ولرب معترض يقول: إن عمر بن عبد العزيز كان واليا على المدينة للوليد بن عبد الملك سنة سبع وثمانين
45
فما الذي يمنع أن يكون، وهو وال قد نفى عمر إلى دهلك؟ وهنا نجيب أن أحدا من الرواة لم يزعم هذا الزعم، وأن أخبار موته الأخرى تناقضه كما سيجيء معنا.
وهناك رواية ثانية في موت عمر تذهب إلى أن عمر نظر في الطواف، ذات سنة إلى امرأة شريفة من أحسن خلق الله وجها فذهب عقله عليها، وكلمها فلم تجبه، فقال فيها:
الريح تسحب أذيالا وتنشرها
يا ليتني كنت ممن تسحب الريح
كيما تجر بنا ذيلا فتطرحنا
على التي دونها مغبرة سوح
أني بقربكم أم كيف لي بكم
هيهات ذلك ما أمست لنا روح
فليت ضعف الذي ألقى يكون بها
بل ليت ضعف الذي ألقى تباريح
إحدى بنيات عمي دون منزلها
أرض بقيعانها القيصوم والشيح
فبلغها شعره فجزعت منه، فقيل لها: اذكريه لزوجك فإنه سينكر عليه قوله، فقالت: كلا والله لا أشكوه إلا إلى الله، ثم قالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح، فضرب الدهر من ضربه، ثم إنه غدا يوما على فرس؛ فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة فعصفت الريح فخدشه غصن منها فدمي وورم به ومات من ذلك.
46
وقد قبل هذه الرواية فيما يظهر أبو الفرج الأصبهاني، واكتفى بها ودونها في آخر أخباره عن حياة عمر، ونقلها عنه البغدادي صاحب خزانة الأدب مثل ما نقل عن ابن قتيبة الرواية الأولى دون أن يؤثر واحدة على الأخرى.
47
ولعل صاحب هذه الرواية لم يكن مشفقا على عمر، بل أراد أن ينتقم الله من عمر، لهؤلاء النساء الشريفات اللواتي كان يشبب بهن، فأماته بدعاء واحدة منهن، ولو شئت أن أعدد للقارئ أخبار من مات من العرب بدعاء أحد الناس عليه، لطال بي المقام، ومهما يكن من الأمر فالصنعة ظاهرة في هذه الرواية، والاختراع بين في هذه المصادفات الغريبة التي تتابعت على هذا النحو، ليتم دعاء هذه المرأة على عمر. زد على هذا أن أبا الفرج قد تفرد بذكرها، وقد أسندها إلى رجل باسم ثعلبة بن عبد الله بن صعير، وفي هامش طبعة دار الكتب للأغاني أن لهذا الرجل صحبة ولابنه رؤية.
48
ونحن نستبعد أن يعيش إلى أواخر القرن الأول للهجرة رجل كانت له صحبة مع النبي، ولابنه رؤية، ونستبعد أيضا أن يقص مثل هذا الصحابي خبرا عن موت شاعر قضى في أواخر القرن الأول.
ورواية ثالثة يذكرها البلاذري تذهب إلى أن عمر مات بالشام قال: فحدثت أن عمر بن أبي ربيعة المخزومي لما نعي، وكان موته بالشام، بكت عليه مولدة من مولدات مكة كانت لبعض بني مروان، فجعلت توجع له وتفج عليه، وقالت: من لا باطح مكة بعده، وكان يصف حسنها وملاحة نسائها. فقيل لها: إنه قد حدث فتى من ولد عثمان بن عفان يسكن بعرج الطائف، شاعر يذهب مذهبه. فقالت: الحمد لله الذي جعل له خلفاء ، سريتم، والله عني.
49
وهذه الرواية تتفق مع رواية رواها الأصبهاني في أكثر أجزائها، والاختلاف الوحيد هو أن الأصبهاني يروي أن الجارية حبشية، وكانت بالمدينة، فلما أتاهم موت عمر جزعت، تعين رواية الأصبهاني أين حدثت وفاة عمر.
50
وقد ذكر الحصري الرواية نفسها، ولكنه لم يذكر أن موت عمر كان بالشام، بل زعم أن الجارية كانت في الشام.
51
وقد أورد الأصبهاني مضمون الرواية نفسها في موضع آخر؛ غير أن الشاعر فيها الذي زعموا أنه خلف عمر هو الحارث بن خالد المخزومي لا العرجي.
52
وسواء أكانت الجارية في الشام أم في المدينة، وسواء أكان الذي خلف عمر في فنه وغزله الحارث أم العرجي، فإن هذا الخبر - إن صح - يفيد أن عمر مات قبل خلافة عمر بن عبد العزيز؛ لأن العرجي والحارث عرفا وشهرا قبل ذلك الزمن. يؤيد هذا إشارة في الأغاني إلى أن الثريا صاحبة عمر، وفدت على الوليد بن عبد الملك بعد أن مات زوجها، فسألها الخليفة: هل تحفظ شيئا من شعر عمر فيها؟ فقالت: أي نعم - يرحمه الله - وفي بعض الروايات - رحمه الله، وأنشدته شيئا من شعره.
53
ولعل في هذا القول إشارة إلى أن عمر قد مات قبل آخر خلافة الوليد هذا.
وللأصبهاني رواية أخرى تذهب إلى أن عمر مات موتا يقول فيها: أنه لما مرض عمر مرضه الذي مات فيه جزع أخوه الحارث ... إلخ.
54
وهذه الرواية تشير إلى أن عمر مات من مرض، وأن موته كان قبل موت أخيه، وقد كان أخوه شابا مدركا في خلافة ابن الخطاب، وهذا الخبر يبعد احتمال وقوع موت عمر بعد سنة 93ه، وقد أورد الأصبهاني أيضا أن عمر مات، وقد قارب السبعين أو جاوزها.
وهناك رواية تفرد بذكرها فيما نعلم أبو المحاسن بن تغري بردي، لم يشر فيها إلى سبب موت عمر بل اكتفى بقوله: إن عمر مات سنة مائة وواحدة؛ أي سنة مات عمر بن عبد العزيز نفسه.
55
ولسنا نعلم من أين استقى أبو المحاسن هذا الخبر، والغريب أنه نقل عن ابن خلكان شيئا من كلامه عن ابن أبي ربيعة، ولكنه لم ينقل سنة الوفاة عنه، ولا هو أشار إلى اختلافها عما ذكر هو نفسه، وليس لدينا إلا فرض واحد نستطيع فرضه الآن، وهو أن ابن خلكان ذكر في ترجمة حياة عمر التي تبلغ نحو صفحتين من طبعة بولاق روايتين مختلفتين عن سنه حين مات؛ واحدة تشير إلى أنه كان ابن سبعين، وأخرى أنه كان ابن ثمانين، وقد تلا ذكر هذه السنين خبر عن موت والد عمر سنة ثمان وسبعين، فلا يبعد أن يكون أبو المحاسن أراد أن يجمع سن عمر إلى سن مولده؛ ليذكر متى مات، فجمع خطأ سنة موت والده المذكورة؛ وهي 78 إلى 27 وهي سنة ولادة عمر فبلغ 101، وهي السن التي ذكرها، ولا بد لنا من القول إن أبا المحاسن من المتأخرين، وليس في كل المصادر التي طالعنا ما يسنده في روايته، وإذن فإنا لا نرى داعيا لقبولها.
بقي رواية تشير إلى أن عمر مات سنة 93 للهجرة، ذكرها حاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون» عند ذكره ديوان عمر،
56
وهي تتفق مع أكثر الروايات القديمة في تعيين التاريخ، ولعل حاجي خليفة قد نقلها عن بعض المصادر القديمة، واكتفى بها دون ذكر سبب الموت.
وقد ذكر الدميري رواية ابن قتيبة في أن عمر غزا في البحر واحترقت سفينته، ولكنه جعل سنة الموت ثلاثا وثمانين.
57
ولعل الرقم خطأ مطبعي أو نسخي أو لعل الدميري أخذ روايته عن كتاب ابن خلكان؛ حيث نجد أن الهيثم بن عدي زعم أن عمر ولد سنة ثلاث عشرة، فقبل الدميري هذه الرواية، وأضاف إليها سن عمر - سبعين وجعل سنة وفاته ثلاثة وثمانين.
نرى بعد هذا كله أن نرفض خبر موته غرقا أو حرقا، وألا نقبل أنه مات بعد سنة 93ه، وكذلك نستبعد خبر موته من غصن أدماه بعد ريح تهب عليه لكي يستجاب دعاء امرأة شبب بها، ونحن نعلم أنه كان شيخا ضعيفا في آخر حياته يتوكأ على مولى له، ولا يقوى مثل هذا على ركوب الخيل في الصحاري أو ركوب البحر للغزو، فلا يبقى لدينا إلا أنه مرض ومات وقد قارب السبعين، ولنذكر أن عمر كانت تنتابه حمى البرداء، وقد ارتحل مرة إلى اليمن ومرض فيها واضطرته الحمى أن يمكث هناك، فنظم قصيدة يصف فيها مرضه ويشكو سوء حاله وحال رفاقه، ويعتذر إلى صاحبة له:
أرقت ولم يمس الذي اشتهي قربا
وحملت من أسماء إذ نزحت نصبا
لعمرك ما جاوزت غمدان طائعا
وقصر شعوب أن أكون بها صبا
ولكن حمى أضرعتني ثلاثة
مجرمة ثم استمرت بنا غبا
ومجلس أصحابي كأن أنينهم
أنين مكاك فارقت بلدا خصبا
فإنك لو أبصرت يوم سويقة
مقامي وحبسي العيس مطوية حدبا
إذا لاقشعر الرأس منك صبابة
ولاستفرغت عيناك من عبرة سكينا
58
وظاهر من وصفه لهذا المرض أنه البرداء، تلك الحمى التي تأتي غبا؛ أي تأخذه يوما وتدعه آخر، وليس غريبا أن تكون هذه الحمى قد عاودته - ومن شأنها المعاودة - فمات منها، ولكن أين مات؟ ذلك أمر لا نستطيع الجزم فيه، ويلوح لنا من اختلاف الرواة أنه لو كان عمر قد مات في مكة أو المدينة لكان من السهل على الرواة أن يعرفوا ذلك، ويظهر أن سبب اختلافهم يعود إلى أن عمر قد مات بعيدا عن الحجاز، ونستبعد أن يكون مات بالشام كما يروي البلاذري، ولعل كلمة الشام في رواية البلاذري مصدرها أن الجارية المكية التي حزنت لموت عمر قد صارت إلى بني مروان في الشام، وأغلب الظن أن عمر قد مات في اليمن وقد كان له مزارع فيها، ورثها إما عن أمه أو عن أبيه، وكان ابنه جوان أيضا عاملا على تبالة، فليس بعيدا أن يكون عمر قد قضى آخر حياته في بلد أمه وأخواله أو عند ابنه، وليس غريبا أن يكون أخوه الحارث معه كما تشير رواية مرضه، ولنذكر أن المصادر التي بين أيدينا لا تذكر شيئا عن الحارث بعد زوال سلطة آل الزبير، فلعله قد انقطع عن السياسة أو أقصي عنها، آثر أن يعيش بعيدا عن الحجاز في آخر حياته، أو لعل أخاه عمر قد بعث وراءه في مرضه الأخير ليكون عنده.
ولعمر ثلاثة أبيات شعر تقع في آخر بعض نسخ الديوان الخطية وفي آخر طبعة أوروبة، ربما كان وقوعها هنا إشارة إلى أنها آخر شعر قاله، وفيها يشير إلى مرضه بعيدا عن «أجياد» منازل قومه في مكة يشكو فيها قلة عواده:
سقى سدرتي أجياد فالدومة التي
إلى الدار صوب الساكب المتهلل
فلو كنت بالدار التي مهبط الصفا
سلمت إذا ما غاب عني معللي
هنالك لو أني مرضت فعادني
كرام ومن لا يأت منهن يرسل
والخلاصة:
أن الروايات متعددة ومتضاربة، والخطأ في بعضها ظاهر، وأصحابها بعيدو العهد بعمر، فإن الجاحظ، وهو أقدمهم بدأ حياته الأدبية بعد موت عمر بنحو ثمانين، ولم يعن بدرس حياة عمر، بل ذكر خبر موته عرضا، وقد كان هو وابن قتيبة قليلي التدقيق في هذا الأمر. أما البلاذري فقد تفرد بذكر موت عمر بالشام، ولم يسند روايته أحد، وأما الأصبهاني فبالرغم من أنه كتب أخباره مسندة إلى رواتها، فإنه قد تأخر أكثر من مئتي سنة عن عمر، ويصعب علينا الآن متابعة الإسناد في رواياته لقلة المعلومات التي لدينا عن رجال السند في الروايات الأدبية، فإن أحدا من الناس لم يعن بهم عناية رجال الحديث برواته. أما المتأخرون فقد أخذوا عن الذين ذكرنا، وليس هناك قيمة لأقوالهم في هذا الصدد، وفي مثل هذا الاضطراب في الروايات لا نرى شيئا ينير سبيلنا سوى شعره الذي يؤيد رواية مرضه، فأغلب الظن إذا أنه مات من مرض - ربما في اليمن - وكان موته كما تتفق أكثر هذه الروايات في حدود سنة ثلاث وتسعين للهجرة.
الباب الثامن
الربط والتأليف
وبعد التثبت من صحة الروايات يشرع المؤرخ في التأليف وربط الروايات المختلفة. فينتفي البعض منها، ويصرف النظر عن البعض الآخر، ثم ينسق ما انتفى منها، فينظمه ويجعله وحدة متجانسة متآلفة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
توطئة عامة
ويحسن بالمؤرخ المستجد أن يذكر بادئ ذي بدء أن ربط الحقائق التاريخية وتأليفها يختلف عن الربط والتأليف في العلوم الطبيعية. فعلماء الطب والحيوان مثلا يشاهدون الجسد بتمامه أولا، فيدرسونه درسا إجماليا وافيا. ثم يشرحونه فيقسمونه إلى الأجزاء التي يتركب منها، وبعد التدقيق التام في هذه الأجزاء والتعرف إلى وظائفها وأعمالها يستطيعون أن يقابلوا فيما بينها، ويتعرفوا إلى العلاقات التي تربط بعضها إلى بعض، فيدونون هذه الحقائق المفردة التي يتوصلون إليها، ثم يعودون إلى ربطها وتأليفها، فيتبعون خطة عينتها الطبيعة تكون ماثلة أمامهم. بل إنهم يستطيعون أن يتناولوا مجموعة واحدة يقابلونها على مجموعة أخرى باعتبار كل من المجموعتين وحدة قائمة بنفسها، وكأنهم بذلك أتموا مقابلة كل واحد بكل آخر، فيرون نقط التشابه بين هذا وذاك، ويصنفون هذه الوحدات على أساس التشابه بينها، وهذا درس علمي حقيقي قوامه التحليل أولا ثم الربط والتأليف بين أجزائه، ثم المقابلة والاستدلال القياسي.
على أن ظروف المؤرخ في الواقع، تختلف كل الاختلاف عما تقدم؛ فحقائقه المفردة هي غير الحقائق المفردة في العلوم الطبيعية؛ إذ جل ما يمكنه الاعتماد عليه، في مثل هذه الظروف، هو كلام الغير عن وقائع الماضي لا الوقائع نفسها، وليس بإمكانه أن يشاهد المجموع الذي تفرعت عنه مفردات الحقائق، كما وأنه يجهل الأسس التي كانت تربط مثل هذه الحقائق لتؤلف منها الكل؛ وإذا فمن العبث أن نربط الحقائق المفردة في التأريخ كما يربط علماء الطبيعة حقائقهم، وعلينا، والحالة هذه أن نستنبط طريقة خصوصية لربط الحقائق المفردة نتذرع بها للوصول إلى اليقين أو ما يقارب اليقين.
ولنذكر أن الحقائق المفردة التي تثبتنا من صحتها، تكون إما آثارا حقيقية تخلفت عن السلف كالأهرام في مصر مثلا، أو وقائع السلف كعمل معين أو قول معروف، أو دوافع معنوية كانت مكنونة في صدور الناس أفرادا وجماعات، وبعبارة أخرى، إن ما تثبتنا من صحته من الحقائق المفردة يكون واحدا من ثلاثة؛ إما أثرا ملموسا، أو عملا محدودا، أو دافعا نفسيا معينا، ولو كانت العلوم النفسية والاجتماعية قد ماشت العلوم الطبيعية في تقدم أساليبها وأبحاثها ونتائجها لما كان عسيرا علينا اليوم، أن نهتدي بشكل علمي جازم إلى معرفة الأعمال والدوافع الماضية التي أشرنا إليها، وربما كنا لا نفرق التاريخ عن العلوم الجازمة. أما وحالة العلوم الاجتماعية والنفسية لا تزال قاصرة، فلا يبقى سوى تخيل الماضي وفرض استمرار بعضه وتكراره في الحاضر. فنقول مثلا بعامل الجوع في الماضي، ونتوقع تأثيره في ظروف معينة كما نفعل في الحاضر، وننظر في الإقليم وأثره في المجتمع كما يتبين لنا بعض ذلك من الظروف الحاضرة، ونفرض التعاون بين الأفراد في بعض الأزمنة الغابرة لدرء الأخطار كما يفعل بنو جنسهم في هذه الأيام، وهلم جرا، ولولا هذا لما جرؤ البعث على القول بأن بعض التاريخ يعيد نفسه؛ نعم بعضه لا كله، ولو كان التاريخ يعيد نفسه لما أقدم العلماء على درسه وتعميم فوائده، وإذا فهنالك فروق بين الماضي والحاضر لا بد من تبيانها أيضا والانتباه إليها.
ولهذا يترتب على المؤرخ عند بدء العمل في ربط الحقائق المفردة وتأليفها أن يتخيل لنفسه من مظاهر المجتمع الحاضر ما يفترض وجوده في الماضي، ثم ينظم حقائقه المفردة حول أساس ما تخيل وجوده بالقياس، وإذا فعل هذا فسرعان ما يرى أن الحقائق المفردة تتوفر في بعض النواحي، وتعدم في البعض الآخر، فيحدث هذا فراغا في بعض الأحيان لا بد من تلافيه، ولدى الانتهاء من هذه المرحلة يبدأ في المقابلة والمقارنة بين الحقائق التي تكتلت حول مواضيعه، فينتقل إلى تعليلها وإيضاحها وإصدار الأحكام العامة عنها.
وليس في وسعنا بهذه المناسبة؛ إلا أن نلفت النظر إلى وجوب التعاون بين عدد من المؤرخين، لأجل البحث في موضوع تاريخي واحد؛ وذلك لأن ما يتطلبه مصطلح التاريخ من شتى أنواع البحث والتنقيب قد لا يتمكن شخص واحد من القيام بأعبائه، وأقل ما يجب الالتفات إليه، هو التمحيص والتدقيق في استنتاجات المؤرخين المعاصرين وأساليبهم في البحث، قبل قبول أقوالهم والاعتماد عليها.
الانتقاء
ولا مفر من المفاضلة بين الحقائق المفردة، والاستمساك ببعضها، وصرف النظر عن البعض الآخر. فإنها تكثر في غالب الأحيان، فتربو على الألوف وعشرات الألوف، ويضطر المؤرخ إما لضيق وقته أو لقلة مورده أن ينتقي مما تجمع لديه من الحقائق ما يؤثره على غيره، فيجدر به أن يتبع خطة معينة في الانتقاء.
ولا نرى في مثل هذه الظروف أفضل من تنسيق الحقائق المفردة على أساس علاقتها بالحاضر. فما يعاوننا منها على فهم الحاضر هو أهم بدرجات من غيره؛ إذ القصد من درس الماضي، إنما هو فهم الحاضر وإعداد العدة للمستقبل. هذا؛ ولا نرى مبررا لما وقع من المشادة بين المؤرخين المعاصرين في أمر الانتقاء، ولعل القارئ يعلم أنه قام في ألمانية في القرن الماضي من قال بوجوب الاعتناء بتاريخ الحضارة، وصرف النظر عن الحروب والحوادث السياسية، وأنه قام في الوقت نفسه من استمسك بالتاريخ السياسي، ونوه بمنافعه، ومثل هذا جرى أيضا في فرنسا وإيطاليا وأميركا وبلاد الإنكليز، والواقع أن الطرفين كانا محقين في بعض ما ذهبا إليه، وأنهما تطرفا في القول في آن واحد. ففي تاريخ الحضارة ما لا يستغنى عنه لفهم الحاضر، وفي تاريخ الحروب والحوادث السياسية، ما لا بد من إيضاحه لتفهم الأحوال والظروف التي نعيش فيها.
ومثل المؤرخ في هذا هو مثل طبيب يحاول شفاء مريض له. فأول ما يفعل لتشخيص المرض هو تفهم تاريخ الحادثة. فمن سؤال عن سير الحرارة، إلى آخر عن حركة الأمعاء، فنوع الأكل، وما شاكل ذلك من الأسئلة عن الماضي التي تعين الطبيب في فهم الحاضر.
على أنه لا بد من الاعتراف بأن ما يحسبه المؤرخ يتوقف على الفلسفة التي يدين بها. فقد يقول بآراء هيكل وقد يؤيد البلشفية أو النازية أو ما يسميه فلاسفة ألمانية اليوم الفينومنولوجية. فيضطر؛ والحالة هذه أن ينتقي على أساس فلسفته في الحياة، وليذكر المؤرخ المستجد أن الفلسفة هي من أهم العلوم الموصلة، وأنه لا بد للمؤرخ من تفهمها في ماضيها وحاضرها، وأن الفيلسوف المؤرخ الإيطالي غروتشي ذهب إلى أكثر من هذا، فقال بأن التاريخ هو الفلسفة وأن الفلسفة هي التاريخ.
أما إذا قال بعضهم: إنما العلم لمجرد العلم فنقول نحن: إن مثل هذا الموقف هو نظري صرف لا يمكن تطبيقه، وأقل ما يقال فيه أنه يتطلب نفقات باهظة يصعب على فرد واحد تحملها، وقد يتعذر ذلك على المؤسسات الكبيرة. ثم في حال درس الماضي لمجرد العلم لا بد من أخذ موقف وسط بين العلماء المتطرفين. فالماضي مزيج من حضارة وسياسة، ولا بد من أخذ النوعين بعين الاعتبار.
وقد يقول المؤرخ بوجوب انتقاء الحقائق المفردة على أساس علاقتها بالحاضر، ولكنه يبقى في حيرة من أمره، إما لكثرة الحقائق الباقية أو لشدة اختلافها من حيث النوع أو الموضوع أو الاثنين معا، أو ما شاكل ذلك. فيجدر به عندئذ أن يعيد النظر فيها ليتأكد من شدة علاقة بعضها بالحاضر، فيؤثره على غيره، وحيث تختلف في النوع أو الموضوع، يحسن به أن يقدم ما يتعلق منها بالمجتمع الكبير على الجماعات التي تؤلفه، وما يتعلق بالجماعات على الأفراد. هذا؛ ولا يغرب عن البال بأن سير الأفراد تتفاوت في شدة ارتباطها بحياة المجموع. فحياة نابليون الشخصية، وآراء فولتير الفردية، هي أهم للمؤرخ من أخبار غيرهما وأشد تأثيرا في حياة المجموع من أخبار بعض الجماعات.
التنظيم والتأليف
وبعد المفاضلة والانتقاء يبدأ المؤرخ بالتنسيق والتنظيم. فيجد أنه بإمكانه أن ينظر إلى كل حقيقة من حقائقه المفردة من ناحيتين مختلفتين. فإذا نظر إليها من حيث وقوعها، في زمن محدود، وتعلقها بشخص معين، رآها فريدة في بابها لا تشاركها في ذلك حقيقة من الحقائق، وإذا ذكر أن الناس جميعهم خلق الله، وأنهم كثيرا ما يتشابهون في أغراضهم وحاجتهم وأعمالهم، قال بالتشابه بين الحقائق التاريخية المفردة وبتكرار وقوعها.
وهكذا؛ فإن بعض المؤرخين الذين ينظرون إلى الحقائق المفردة من الناحية الأولى، فيرونها مجموعة من الحقائق الفريدة في بابها يستمسكون بالتنظيم القصصي، ويؤثرونه على غيره، والبعض الآخر ينظر إلى التشابه بين الحقائق المفردة وإلى تكرار وقوعها، فيهتم بعادات الجماعات في الماضي، وعرفهم، ومؤسساتهم، وما إلى ذلك من المظاهر المشتركة بين الأقوام والجماعات، والواقع أنه بإمكان المؤرخ أن يعتبر حقائق مجموعة من الوقائع الفذة، فينظمها بموجب تسلسلها الزمني، ويقدم لقرائه قصة كسائر القصص، وبإمكانه أيضا أن يحصر عمله في التشابه، ووقوع التكرار، فينظم حقائقه بموجب محتوياتها، وإليك الآن مثالا لهذا النوع ننقله لك عن كتاب الأستاذ سنيوبوس الذي أشرنا إليه واعتمدنا عليه غير مرة.
1
تنظيم الحقائق التاريخية بموجب محتوياتها (1)
الأحوال المادية: (أ)
درس الجسد:
النظر في أجناس البشر وعلم التشريح والفيزيولوجيا وغير ذلك.
النظر في التكاثر، وما يقع تحته من دروس في الزواج والتوالد والوفيات وما إلى ذلك. (ب)
درس المحيط:
المحيط الطبيعي، والنظر في شكل الإقليم ومناخه ومياهه وتربته ونباته وحيوانه.
المحيط المصطنع، والنظر في الفلاحة والتشجير وإنشاء الطرق وغير ذلك. (2)
العادات العقلية: (أ)
اللغة وما يتفرع منها. (ب)
الفنون من يدوية وغيرها. (ج)
العلوم. (د)
الفلسفة والأخلاق. (ه)
الدين. (3)
العادات التي تتعلق بالمادة: (أ)
الحياة المادية والطعام واللباس والمنزل. (ب)
الحياة الخصوصية والعناية بالجسد وعوائد الاجتماع ووسائل التسلية. (4)
العادات التي تتعلق بالاقتصاد: (أ)
الإنتاج والزراعة والتعدين وما شاكل ذلك. (ب)
الصناعة والمواصلات. (ج)
التجارة. (5)
المؤسسات الاجتماعية: (أ)
العائلة وتشكيلها. (ب)
التعليم. (ج)
الطبقات الاجتماعية. (6)
المؤسسات العمومية: (أ)
الحكومة والمؤسسات السياسية. (ب)
الكنيسة والمؤسسات الدينية. (ج)
المؤسسات الدولية، والسياسية، العامة، والحرب، والقوانين التجارية الدولية.
وليس في وسعنا قبل الانتهاء من هذا الموضوع إلا أن نلفت النظر إلى ما يلي: (1)
أنه لا يستغني في تنظيم الحقائق المفردة بموجب مضمونها عن اتباع التسلسل الزمني؛ وذلك لإظهار تطور الحقائق التي ندرس. كما وأنه لا يستغني عن الالتفات إلى مثل هذه المواضيع التي وردت في الدول في أعلاه إذا ما أراد المؤرخ أن ينظم حقائقه المفردة على أساس القصة. (2)
إن اتباع الأسلوب القصصي في التأريخ يتطلب شيئا أكثر من ترتيب الحقائق المفردة بموجب زمن وقوعها، ولو اكتفينا بذلك وحده لأصبح التاريخ مجرد ضم الحقائق بعضها إلى بعض. فلا بد للمؤرخ في مثل هذه الظروف من النظر في الأسباب والمسببات، وإظهار العلاقات المنطقية التي تربط حقائق الماضي بما قبلها وما بعدها، وذلك لأجل تبيان التطور في التاريخ، وهو من أهم أهداف المؤرخ وأنفع الوسائل التي يتذرع بهم لفهم الحاضر. (3)
إن للظروف أحكاما، والمؤرخ مربوط بقرائه. فقد يؤثر القصة في مخاطبة الجمهور، وقد ينظم حقائقه على أساس مضمونها، إذا هو خاطب طبقة معينة من طبقات القراء، وقد يرى في ترتيب حقائقه على أساس جغرافي ما يضمن له نجاحا باهرا في بعض الظروف. (4)
على أنه لا بد من التصريح بأفضلية الأسلوب القصصي في غالب الأحيان؛ وذلك لأن وقائع الماضي حدثت على هذا الشكل. فإذا ما حاول المؤرخ أن يرويها كما وقعت فإنه يكون أقرب للحقيقة، والتاريخ علم من هذه الناحية؛ وكعلم يتطلب الحقيقة كما هي لا كما نريدها أن تكون.
الباب التاسع
الاجتهاد
وقد تتوفر الحقائق المفردة في ناحية من نواحي الماضي وتعدم في الناحية الأخرى؛ فيجتهد المؤرخ في تلافي ما قد يقع من فراغ، والاجتهاد في اللغة كما قال أبو حامد الغزالي: «هو عبارة عن بذل الجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد. فيقال: اجتهد في حمل حجر الرحا، ولا يقال: اجتهاد في حمل خردلة. لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة، والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد الطلب.»
1
وقد يقع مثل هذا الفراغ في علم من العلوم الطبيعية، فيتلافاه العلماء بالتجربة والاختبار وإعادة المشاهدة، فلا ينفكون عن ذلك حتى يتم لهم ما أرادوا، فيضيفونه إلى سائر المعلومات، ويسدون الثلم. أما المؤرخ فإنه بعيد عن المشاهدة عديم التجربة؛ فيضطر، والحالة هذه، أن يجتهد في الأمر فيتذرع بالمنطق، ويعمل أحيانا بما نريد أن نسميه الاجتهاد السلبي، وأحيانا أخرى بالاجتهاد الإيجابي.
والاجتهاد السلبي هو ما عبر عنه المناطقة بقولهم: «السكوت حجة.» ومعناه أن يتمكن المؤرخ من القول بأن كذا وكذا لم يحدث لأن الأصول خالية، وهو أمر خطير للغاية؛ فقد يكون السكوت حجة وقد لا يكون، ولا بد من التثبت من أمور ثلاثة قبل التذرع بمثل هذه الحجة، وهي ما يأتي: (1)
أن يكون المؤرخ على يقين جازم من أمر اطلاعه على جميع الأصول. (2)
أن لا يعتريه شك في أن ما لديه من الأصول هو جميع ما دونه السلف في الموضوع الذي يبحث، وأنه لم يضع منها شيء. فإنه بضياع الأصول يضيع التاريخ معها، وليس من حق المؤرخ إذا فقدت الأصول أن يقطع برأي ما، وهكذا فإن التذرع بمثل هذه الحجة هو أشد خطرا في التاريخ القديم مما هو في التاريخ المعاصر؛ وذلك لأن إمكانية الضياع في الأصول القديمة هي أشد بكثير منها في الأصول المعاصرة. (3)
أن يتأكد من استحالة السكوت في الأصول عن الموضوع الذي يدرس؛ فقد تسكت الأصول عن أمور شتى تكون قد وقعت في الماضي، وذلك لأسباب منها جهل الراوي لها، ومنها قلة اعتنائه بها، ومنها تحذير الحكومة نشرها. فإذا ما سكنت الأصول مثلا عن فسق وزير من الوزراء، لا يجوز للمؤرخ أن يستنتج أنه كان شهما فاضلا أو أنه كان غير فاسق.
وهكذا فإن حجة السكوت لا تتم إلا إذا اقترن بالراوي حالتان لا تنفصلان. أولاهما: أن تكون الوقائع التي يمكن أن يكون قد سكت عنها وقائع يهتم بها اهتماما شديدا؛ والثانية: أن يكون الراوي قد صمم على تدوين جميع الأخبار التي أحاط علما بها.
ومما اختبرناه من هذا القبيل، أننا منذ أعوام عديدة، بينما كنا نقلب صفحات «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس، للوقوف على أخبار الفتح العثماني، لم نجد ذكرا فيها لتخلي المتوكل على الله، آخر الخلفاء العباسيين، عن حقوقه في الخلافة للسلطان سليم العثماني. فرأينا أن نتابع البحث قليلا لنتأكد من هذا الأمر، ولا سيما، والحكومة التركية كانت قد أثارت البحث في هذا الموضوع بعد خلع آل عثمان وإعلان الجمهورية.
فأعدنا النظر في كلام ابن إياس، وقرأنا فيه ثانية أخبار واقعة مرج دابق واحتلال حلب ودمشق وغزة وواقعة الريدانية، ودخول العثمانيين القاهرة وخروجهم منها ورجوعهم ظافرين للقسطنطينية. قرأنا هذا كله ولم نجد ذكرا للخلافة فيه ولا لتخلي المتوكل عنها، ولم يكن ابن إياس ممن يعتسف الأمور، فيأتيها بغير علم، ولا ممن يغفل عن الحوادث، ولا سيما إذا كانت ذات شأن. فإنك لو قرأت ما كتبه من أخبار سنة 1516 و1517 عن السلطان سليم وعن علاقته بالمتوكل، ظننت أنه كان يتعقب خطواتهما، ويسأل عنهما كل وارد وصادر. تراه يذكر ما تحادثا به في حلب، بعد معركة مرج دابق، وما دار بينهما في القاهرة بشأن ابن العداس، وبشأن زوجة السلطان طومان باي وبشأن القاضي شمس الدين وحيش، وتراه يصف خروج الخليفة من مصر وذهابه إلى القسطنطينية، ووصوله إليها، وسكناه فيها، ويدون الأدعية التي تليت في مصر بعد فتحها. تقرأ كل هذا ولا تجد شيئا في تخلي المتوكل على الله عن الخلافة. ثم طلبنا مخطوطة ابن زينل الرمال في السلطان سليم والجراكسة وكتاب النجوم الزاهرة في ولاة مصر والقاهرة لبدر الدين المنهاجي، فلم نجد فيهما ذكرا لهذا التخلي.
وبعد أن فرغنا من مطالعة الأصول العربية رجعنا إلى روايات الأتراك أنفسهم، وقرأنا مجموعة فريدون، واطلعنا على كتاب السلطان سليم نفسه إلى ابنه سليمان بتاريخ كانون الثاني سنة 1517، وكتب شاه شروان الشيخ إبراهيم، ومظفر شاه الثاني، وكلاهما معاصر لهذه الحوادث، فلم نجد ما يؤيد التخلي، ومما هو جدير بالذكر، أن أحمد فريدون بك يذكر ستة عشر لقبا للسلطان سليم وابنه سليمان، في بيروت والقدس والقاهرة، ولا في النقود التي سكت في عهدهما، ما يثبت التخلي عن الخلافة.
وبعد أن أتممنا جميع ما تقدم، كتبنا إلى صديقنا المرحوم أحمد زكي باشا نستشيره في الأمر، فأصدر، رحمه الله، حكما مبرما نفى فيه أمر التخلي بناء على سكوت المصادر. أما نحن فإننا ترددنا في الأمر كثيرا وذلك لسببين: أولهما: أنه لا يمكننا أن نجزم بأن ما رجعنا إليه من المصادر هو جميع الموجود منها، وثانيا: لأنه من الممكن أن يكون خبر التخلي دون في أصل أو أصول فقدت فيما بعد، وجل ما في إمكان المؤرخ أن يفعله في هذا الصدد هو السكوت عن التخلي؛ لأن المصادر ساكتة عنه.
وبواسطة الاجتهاد الإيجابي يحاول المؤرخ أن يستنتج أمرا معينا عن الماضي من مجرد تثبته من أمر آخر تنص عليه الأصول؛ وذلك لأنه يرى ارتباطا وثيقا بين مثل هذين الأمرين في الحاضر الذي يعيش فيه، وكثيرا ما يلجأ مؤرخو العصور القديمة إلى مثل هذا الاجتهاد، إما لقلة الأصول أو لجهلهم قواعد المصطلح. فترى الواحد منهم يجزم بأن بلدة من البلدان هي يونانية أو فينيقية لأن اسمها يوناني أو فينيقي، ويستند في ذلك إلى ارتباط الاسم بالمسمى في الوقت الحاضر.
والواقع، أن هذا الاجتهاد لا يصح إلا في أحوال منطقية معينة. فلا بد من كلية معترف بصحتها. كأن نقول مثلا: إن اللغة التي ينتمي إليها اسم بلد من البلدان هي دائما لغة الشعب الذي أسس هذا البلد، ولا بد من جزئية صحيحة أيضا. كأن يقال: إن البلد الفلاني كان يحمل اسما يونانيا أو فينقيا. فتلزم النتيجة بطبيعة الحال، فكل ما صدق على حد صدق على كل ما يصدق عليه ذلك الحد إيجابا أو سلبا.
وليس على المؤرخ في مثل هذه الظروف إلا أن يذكر القواعد التي وضعها منذ أكثر من ألفي سنة أرسطو الفيلسوف، والتي يعرف بها القياس الصحيح، وهي ما يأتي: (1)
أنه لا بد للقياس من ثلاثة حدود لا أكثر ولا أقل. (2)
أنه لا بد للقياس من قضيتين هما: مقدمتاه وثالثة تلزم عنهما وهي النتيجة. (3)
أنه لا بد من أن يكون الحد الأوسط كلي المصدوق ولو في إحدى المقدمتين. (4)
أنه لا يكون في النتيجة حد كلي المصدوق ما لم يكن كذلك في إحدى المقدمتين. (5)
أنه لا نتيجة من سلبيتين. (6)
أنه إن كانت إحدى المقدمتين سالبة فالنتيجة سالبة، ولا نتيجة سالبة إن لم تكن إحدى المقدمتين سالبة.
وهنالك ملاحظات عمومية تشمل النوعين من الاجتهاد أهمها ما يأتي: (1)
أن إثبات الحقائق التاريخية شيء، والاجتهاد فيها شيء آخر. فلا بد من فصل الحقائق الثابتة عن الحقائق المستنبطة، وإظهار ذلك بصورة جلية واضحة أمام القارئ. (2)
على المؤرخ أن يحذر كل الحذر من الاستنتاجات التي لا تصدر عن وعي وروية، وليس عليه في مثل هذه الظروف إلا أن يعطي حكمه شكلا منطقيا حتى يتأكد من وقوعه في الخطأ.
الباب العاشر
التعليل والإيضاح
وليس بإمكان المؤرخ أن يقف عند هذا الحد من البحث والتنقيب؛ إذ لا بد له من الإجابة عن سؤال هو من الأهمية بمكان. كأن يقال: لقد تثبت من الحقائق الماضية فأخبرتنا عما جرى ولكنك لم تقل كلمة حتى الآن في أسباب ما تروي لنا من حوادث الماضي. فإذا ما أجبت عن السؤال ماذا جرى، عليك أن تزيدنا فهما للماضي، فتجيب عن سؤال آخر، هو لماذا جرى ما جرى؟
وكثيرا ما يعتذر المؤرخ عن الإجابة فيقول: إن البحث في مثل هذا السؤال هو من واجب الفيلسوف لا المؤرخ.
ولكن القارئ أو السامع هو طلعة ملح يريد أن يعلم لماذا سقطت روما؟ ولماذا هجمت القبائل البربرية على أطرافها؟ ولماذا وقعت حروب الفتح الإسلامي؟ ولماذا قامت أوروبا بالحروب الصليبية؟ ولماذا نشأ الحكم الإقطاعي؟ ولماذا خرج لوثيروس عن طاعة الكنيسة؟ ولماذا اندلعت نيران الثورة الإفرنسية؟ ولماذا خسر نابليون موقعة وترلو؟ وما إلى ذلك من الأسئلة عن أسباب وقائع الماضي.
والواقع أنه ليس بإمكان المؤرخ أن يقنع زملاءه في مثل هذا الموضوع إلا بالفلسفة. فجوابه يتوقف على مذهبه الفلسفي؛ والبحث في هذا يكون بطبيعة الحال فلسفيا أيضا، وقد يصعب التفريق من هذه الناحية بين الفلسفة والتاريخ كما أبان ذلك الفيلسوف المؤرخ غروتشي الإيطالي وغيره.
على أن بإمكان المؤرخ أن يوضح الوقائع الماضية على طريقة علماء الطبيعة. فإنك لو طلبت إلى أحد هؤلاء أن يوضح أو يعلل لك ظاهرة من ظواهر هذه العلوم، لبدأ بوصفها ثم استطرد إلى ذكر خصائصها وعلاقاتها بمثل غيرها من الظواهر. غير أن هذه الأمور كلها لا تخرج عن أنها وجوه مختلفا لحقيقة واحدة، وليس علمنا بها إلا مجموعة لهذه الوجوه، فتعليل علماء الطبيعة لظواهر الطبيعة ليس إلا وصفا لخصائصها ومميزاتها، والآن إذا بدلنا الوصف بالقصة قلنا: إنه بإمكان المؤرخ أن يوضح الوقائع الماضية على طريقة علماء الطبيعة؛ فحيث تضطره الظروف لإيضاح بعض الحقائق يأتي بحقائق أخرى توضح ما سبق سرده من حوادث الماضي. فأما أن يزيدنا علما ببعض الحوادث التي سبقت وقوع ما يروي أو أن يذكر حوادث أخرى وقعت في الوقت نفسه، وأثرت فيما يروي. مما يسوقنا إلى القول بأن الفرق بين التاريخ وإيضاح التاريخ من هذه الناحية إنما هو فرق في الكم لا الكيف.
بيد أنه لا بد للمؤرخ المتعمق من التذرع بالفلسفة، إذا ما أراد أن يقف على أسرار الحياة البشرية في الماضي، وإن هو وقف عند هذا الحد من الإيضاح والتعليل يكون مثله مثل ولد تأخر عن الذهاب إلى المدرسة، فإذا سئل عن سبب التأخر أجاب لأني لم أجد كتبي، وإذا قيل له: لماذا؟ قال: لأني كنت في الجنينة وراء البيت، وهلم جرا، وقد يكون السبب الحقيقي أعمق من هذا وذاك؛ إذ لا بد من درس الولد درسا علميا فلسفيا عميقا قبل البت في سبب التأخر.
ولقد صدق ابن خلدون؛ حيث يقول: «أما بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى في فهمه العلماء والجهال؛ إذ هو في ظاهره، لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيه الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصبها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع الدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر، وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها، دقيق وعلم بكيفيات الوقائع، وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق وأن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام، وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر، وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل، وهموا فيها وابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها، ووضعوها، واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم، واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال، ولم يراعوا، ولا رفضوا ترهات الأحاديث، ولا دفعوها؛ فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل، والتطفل على الفنون عريض طويل، ومرعى الجهل بين الأنام وخيم، وبيل ، والحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح، إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل.
هذا، وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم، وسطروا، والذين ذهبوا بفضل الشهرة والإمامة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة، هم قليلون، لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي، ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير، وإن كان في كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات، ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف، واتباع آثارهم، والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم، فيما ينقلون أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل عليها الروايات والآثار، ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج، والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك، وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك، ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة من الدول والأمم، والأمر العمم كالمسعودي ومن نحا منحاه وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلى التقييد، ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد، فقيد شوارد عصره، واستوعب أخبار أفقه وقطره، واقتصر على تاريخ دولته ومصره، كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها، وابن الرفيق مؤرخ أفريقية والدولة التي كانت بالقيروان، ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل، أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال، ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، فيجلبون الأخبار عن الدول، وحكايات الوقائع في العصور الأولى، صورا قد تجردت عن موادها، وصفاحا انتضيت من إغمادها، ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتالدها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها، وأنواع لم تعتبر أجناسها، ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتها الأخبار المتداولة بأعيانها اتباعا لمن عني من المتقدمين بشأنها، ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها، فتستعجم صحفهم عن بيانها، ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقا محافظين على نقلها، وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متطلعا بعد إلى افتقاد أحوال مبادئ الدول ومراتبها، مفتشا عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثا عن المقنع في تباينها أو تناسبها، حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب، ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك، والاقتصار مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل، ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل وليس يعتبر لهؤلاء مقال، ولا يعد لهم ثبوت، ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد، وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين «والعوائد».
وهكذا فإنه يفترض في التعليل والتوضيح ما يأتي: (1)
إن التاريخ يشمل جميع أخبار الماضي على أنواعها وفروعها، وإنه لا بد من الالتفاف إلى الحياة الماضية من جميع نواحيها كي نحسن الإيضاح والتعليل. (2)
وجوب التضلع من الفلسفة والعلوم الاجتماعية والجغرافية للاستبصار بنورها، والتذرع بوسائلها واستنتاجاتها في فهم الماضي وإيضاحه. فلا بد للمؤرخ من فهم العقل البشري فهما وافيا كافيا، وعليه أن يتعرف إلى المحيط الذي عاش أو يعيش فيه الإنسان من وجهتيه الجغرافية والمادية.
ويجدر بالمؤرخ، بعد هذا القدر من الاستعداد؛ أي بعد أن يكون قد درس الفلسفة على رجالها، وتمكن من العلوم الاجتماعية على أنواعها ومنها علم النفس، يجدر به أن ينسج على منوال علماء الطبيعة مرة أخرى، فيتذرع بطريقتهم في فهم ما يجهلون، ويبدأ عمله بفرض يفترضه. ثم يمتحن هذا الفرض على ضوء الحقائق بين يديه، فإن أحسن التعليل وتناصرت حقائق الماضي على تأييد فرضه اطمأن عقله وأعلن رأيه، وإلا تراجع وافترض فرضا آخر، وهلم جرا.
هذه هي طريقة علماء الطبيعة في البحث عن النواميس وما شاكلها من النظريات العامة في علومهم، فإنهم يبدءون بفرض قد يصح وقد لا يصح. قال أدوارد لانكستر : إن الطبيعة لا تلبي نداء لطالب بحث من تلقاء نفسها، بل لا بد له من أن يوجه إليها أسئلة معينة محدودة تتضمن الجواب الذي يريده منها.
1
وقال دارون بالمعنى نفسه ما محصله: كانوا يقولون منذ عهد غير بعيد إن على علماء طبقات الأرض أن يشاهدوا ويدونوا ملاحظاتهم دون أن يكون في نفوسهم أي غرض أو فرض. كأن يعتمد أحدهم إلى حضرة، فيحصي حصاها ويصف حصاها ويصف ألوانها، ومن السخف أن لا يرى العلماء أن شيئا مثل هذا هو ناقص من أساسه، وأنه لا بد أن يكون رائد الباحث نظرية يريد التثبت منها أو العدول عنها.
2
وزعم هكسلي أن تقدم العلوم الطبيعية لم يتأت له أن يصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل فرض النظريات، سواء أكانت تقوم على أسس متينة أو ضعيفة، وليس من اللازم أن يؤدي البحث إلى دعم هذه النظريات. فكم من محاولة أدت إلى نقض النظرية من أساسها.
3
وقد يقول المؤرخ: ولكن التاريخ شيء والعلوم الطبيعية شيء آخر. فعلماء الطبيعية يبحثون في المادة؛ والمادة حيادية. أما المؤرخ، فإنه يبحث عن أمور حيوية قد لا تنفصل عن العاطفة. فعليه إذا أن يبتعد عن الغرض والهوى ويحرر عقله من جميع أنواع المؤثرات.
وهو قول، على ما في ظاهره من حق، مردود. فنحن لا ننكر أن على العالم أن يكون خالي الهوى والغرض، ولكن هذا يجب أن لا يعني أن يكون خالي العقل. إذ لا يمكن للإدراك النشيط أن يتجرد من الفكر وأثر الاختبارات، وأن العقل الذي يخلو من الاتجاهات لكالبيت الذي ينقصه الأثاث، ومن يزعم من المؤرخين أنه باستطاعته أن يمحو ما بذهنه من الإدراك والاختبار، كما يمحو بالإسفنجة ما يكتب على لوحه الحجري، لهو مخدوع قد جهل أبسط حقائق الإدراك.
فالذي يجب على المؤرخ أن ينكره هو ليس الغرض العلمي الذي نبدأ به بحثنا، بل النظرية المغرضة أو المغررة التي تسيطر عليه. فقد جرت هذه كثيرا من مؤرخي عصرنا إلى الضلال المبين. فزعم بعضهم أن العوامل الاقتصادية مثلا هي الكل في الكل. ثم أخذ يدفع الحقائق ويسيرها طبقا لهواه.
وخلاصة ما نريد أن نقوله هنا هو أنه على المؤرخ أن يبدأ باستعراض الحقائق وإدراك كنهها، ثم يكون في نفسه فكرة عنها أو نظرية تخليها من ظواهر هذه الحقائق. ثم يتابع درسه جاعلا هذه النظرية أو «الغرض» أساسا يبني عليه عمله في التعليل والإيضاح. حتى إذا بدا له أن هذا الأساس لا يصلح للبناء الذي يريد أن يقيمه عليه، عاد فنقضه، وبحث عن فرض آخر، يقيم عليه بناء عمله، وهكذا دواليك، حتى يرى أن أساسه ثابت وأن بناءه متين.
وقد يعترض البعض على هذا، فيزعمون أن المؤرخ بتبنيه فرضا خاصا قد أصبح بحكم هذا التبني ميالا إليه يعطف عليه عطف الأبوة، وهنا يرد عليهم آخرون في أنه ليس من المحتم أن يكون في نفس المؤرخ فرض واحد، بل لا مانع من أن يضع فروضا متعددة في آن واحد. ثم يمضي في عمله حتى يتوصل إلى أحسنها ملائمة للحقائق التي يستعرض، وبهذا يترفع عن الغرض المزعوم، ويبعد عامل العطف الذي تالف في التبني.
فإذا اعترض معترض، في أن العقل لا يمكن أن يشغل نفسه في أكثر من فرض واحد في آن واحد، عدنا إلى الأخلاق. فإنها أساس العلم كما أنها أساس العمران، والعالم من يبتعد عن الهوى، ويتنزه عن مظان الزور ويخفض للحق جناح الذل والطاعة.
الباب الحادي عشر
العرض
لقد انتهينا من التحليل والتحقيق والتنسيق والتنظيم والتعليل والإيضاح، ولم يبق أمامنا سوى أمر واحد هو العرض، والعرض في عرف المؤرخين يتوقف على مكانة القارئ واستعداده لتقبل ما نكتب، وهو نوعان ما يدون للعلماء ورجال الاختصاص وما يقدم لجمهور القراء.
فحيث نعنى ببحث علمي دقيق ونكتب لزملائنا المؤرخين يجدر بنا أن ننتبه إلى أمور، منها ما يأتي: (1)
أن تكون رسالتنا وحدة تامة المعنى مرتبطة الأجزاء، وهو سهل المنال لمن يتبصر في الأمر، فيبدأ العمل بهيكل منطقي كامل شامل لجميع نقاط البحث، ثم يتروى في الكتابة، فيبدأ كل فصل من فصوله وكل فقرة من فقراته بملخص عام يستعرض فيه آراءه العمومية، ثم ينتقل إلى النقاط الفرعية والمواد الجزئية، وعليه أن يحسن الانتقال من فقرة إلى أخرى ومن فصل إلى فصل بجمل معينة تعيد ما قاله أولا وتبين علاقته بما يليه من الأقوال. (2)
أن نفرق ما أمكننا بين المتن والهامش. فلا نورد في المتن ما قد يزعزع وحدته أو يفصل أجزاءه بعضها عن بعض. (3)
أن تتجلى أقوالنا بالأمانة والنزاهة، بحيث تظهر بمظهر التعليل والإيضاح، حينما تكون تعليلا أو إيضاحا منا، وتنص بالحقيقة المجردة حينما تكون حقيقة صرفا خالية من الرأي أو الإيضاح أو التعليل. فيتمكن القارئ من التفريق بين آرائنا وبين الحقائق التاريخية المثبتة. (4)
أن نؤيد كل حقيقة من الحقائق المفردة التي نأتي على ذكرها في المتن بإشارة في الهامش إلى المرجع الذي أخذت عنه، وذلك بالتفصيل التام وبصورة جليلة واضحة تسهيلا لمتابعة البحث والتدقيق؛ فقد يخالفنا أحد رجال الاختصاص فيما نذهب إليه من الاستنتاج أو الاجتهاد، ومن المستحسن أيضا أن نذيل الهامش بشيء من التقدير العلمي للأصل الذي أخذنا عنه، وإذا ما أشرنا إلى مرجع من مراجعنا فعلينا أن نذكر أولا: اسم المؤلف، ثم عنوان المؤلف، ثم المجلد، فالصفحة، والطبعة. (5)
أن نعرض الحقائق في المتن بترتيبها التاريخي، كي نتأكد من صحة الاستنتاج، ولا سيما في أمر الأسباب والمسببات.
بقي علينا أن نقول كلمة في التواريخ التي تصنف خصيصا لجمهور القراء. فإنها يجب أن لا تختلف عن سواها في صحة القول وسلامة الاستنتاج، ولكن وجه الاختلاف بينها وبين ما يكتب لرجال الاختصاص أن على المؤلف في الأولى: أن يتبسط ما أمكنه في عرض الحقائق بحيث تصبح قريبة من متناول أفهامهم، ولا بد أيضا من عرض هذه الحقائق بصورة جذابة محببة إلى القراء ترغبهم في الاستطلاع، ويراعى فيها انتقاء الموضوع الذي يلذ لأمثالهم.
وهناك خطر نريد أن ننبه إليه، ذلك أن بعض المحدثين من العلماء كادوا يذهبون إلى أن من شروط الطريقة العلمية في البحث أن لا يعمد المؤلف إلى هذه الأساليب الشيقة في عرض الحقائق. كأنهم يزعمون أن العلم يتنافى معها، والواقع أنه بإمكان العالم أن يكون دقيقا في كلامه واستنتاجه، وجذابا في أسلوبه وعرضه في آن واحد، ومن يدري فلعل الدافع عند هؤلاء إلى مثل هذه الأحكام ضعفهم في الأداء، وعدم تمكنهم من ناحية اللغة، وقصورهم عن إيجاد التعابير الشيقة، وهل يضير الحسناء إذا ظهرت بزينتها الكاملة! فواجب المؤرخ إذا أن يجيد اللغة التي يصطنعها لتدوين حقائقه، وعرضها، بحيث لا تعوزه معرفة قواعد اللغة ومفرداتها وبيانها وأساليبها، وعليه أن يتقن فن الرواية، وقص القصص في اللغة التي يكتب بها حتى إذا قص أخباره وقعت موقعا حسنا في قلوب القراء.
Página desconocida