وأما ألفاظهم في الجرح فهي أيضا على مراتب: أولاها: قولهم: بلين الحديث. قال ابن أبي حاتم: إذا أجابوا في الرجل لين الحديث فهو ممن يكتب حديثه، وينظر فيه اعتبارا. قلت: وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام. فقال له: إذا قلت: فلان لين إيش تريد به؟ قال: لا يكون ساقطا متروك الحديث، ولكن مجروحا بشيء لا يسقط عن العدالة. الثانية: قال ابن أبي حاتم: إذا قالوا: ليس بقوي، فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه إلا أنه دونه. الثالثة: قال: إذا قالوا: ضعيف الحديث، فهو دون الثاني لا يطرح حديثه، بل يعتبر به. الرابعة قال: إذا قالوا: متروك الحديث وذاهب الحديث، أو كذاب فهو ساقط الحديث، لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الرابعة.
قال الخطيب أبو بكر: أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال حجة أو ثقة، ودونها أن يقال: كذاب ساقط. أخبرنا أبو بكر بن عبد المنعم الصاعدي الفردي، قراءة عليه بنيسابور، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الفارسي، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ، أخبر الحسين بن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: سمعت أحمد بن صالح. قال: لا يترك حديث حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه. قد يقال: فلان ضعيف، فإما أن يقال: فلان متروك فلا، إلا أن يجمع الجميع على ترك حديثه، ومما لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب، قولهم: فلان قد روى الناس عنه، فلان وسط، فلان مقارب الحديث فلان مضطرب الحديث، فلان لا يحتج به، فلان مجهول، فلان لا شيء فلان ليس بذاك، وربما قيل: ليس بذاك القوي، فلان فيه أو في حديثه ضعف، وهو في الجرح أقل من قولهم: فلان ضعيف الحديث. فلان ما أعلم به بأسا، وهو في التعديل دون قولهم لا بأس به، وما من لفظة منها ومن أشباهها، إلا ولها نظير، شرحناه أو أصل أصلناه ننبه إن شاء الله به عليها، والله أعلم.»
9
ولم يغفل ابن خلدون عما توصل إليه علماء الحديث في هذا المضمار، ولا عن تطبيقه على الروايات التاريخية. فإنه نظر في أمر العدالة والضبط، وذكر شيئا من هذا القبيل في مقدمته الشهيرة، ثم ذهب مذهبا خاصا في تمحيص الأخبار، لا ينفصل عن آرائه الفلسفية في الاجتماع والتاريخ، وإليك الآن بعض ما قاله في هذا الموضوع: «اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر، بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش، والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.
ولما كان الكذب متطرقا للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها: (1)
التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار، لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتحميص، فتقع في قبول الكذب ونقله. (2)
ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضا الثقة بالناقلين، وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. (3)
ومنها الذهول عن المقاصد. فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع، وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. (4)
ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. (5)
ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كما رآها ؛ وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. (6)
Página desconocida