233

نعم لقد تفتر الأذواق في مبتدأ الأمر عن الجديد، ولكنها سرعان ما تألفه وتتذوقه وتلتذه، ما دام يمت إلى فن القوم بسبب، ويدلي إليه بنسب، ولا حرج على المفتن، بل إن من واجبه أنه إذا حرك عواطفه، وهز مشاعره شيء من آثار فنون الأمم الأخرى، أن يبادر إلى اقتناصه، يسرع إلى معالجته بالتسوية والتثقيف، حتى يتسق لفن قومه، ويطبع بطابعهم ويسوغ في مذاقهم، حتى ليترجم عن بعض ما يعتلج من العواطف في نفوسهم.

أما أن يهجم على القطعة من فن غيره فينتزعها انتزاعا، ويمتلخها امتلاخا، على حين لا يتذوقها هو نفسه ولا يسيغها، ولا هي مما يمكن أن يسيغه قومه ويتذوقوه، ومع هذا يأبى إلا أن يستكره استكراها على فنهم باسم التجديد، فذلكم لعمري هو المسخ والتشويه!

سيداتي، سادتي

ليس في هذا اللون من «التجديد» إساءة إلى الفنون، وإساءة إلى الناس بما يفوت عليهم من الاستمتاع بالفنون الجميلة فحسب، بل إن من شأنه أن يبلبل أذواق الجمهرة ويشتتها تشتيتا!

اللهم إن براعة المفتن هي في أن يطبع ما يسنح له بطابع فنه، وينظمه في سمطه، فلا يشوه به الفن ولا يتنكر، بل يظل هو هو، على ما زيد في ثروته، ووسع في آفاقه، ومد له في تلطيف العواطف وإرهاف الأحاسيس، وحسبكم ما صنع المرحوم عبده الحامولي بالموسيقى المصرية، وما كان له في التجديد البارع حقا من أثر بعيد.

وبعد، فإذا كان عندنا بفضل الله، نوابغ أكفاء للتجديد الصحيح في الآداب والفنون، فإن فينا مع الأسف العظيم، من يعبثون أشد العبث بالآداب والفنون، ليظفروا هم الآخرون بلقب «الأبطال المجددين»، وما أرخص الألقاب، إذا كانت لا تنال إلا بمثل هذا الإغراب!

إن بعض هذا الذي تقع عليه أسماعنا وأبصارنا في الفنون والآداب ليس تجديدا، ولكنه مسخ وتشويه، وما ظنكم بمن كل جهده هو محض الإغراب، والإتيان بكل ناب عن الطباع ناشز على الأذواق، وكيف لمن لا يحس شيئا بأن يشعره غيره، وقد قال الأقدمون: إن فاقد الشيء لا يعطيه؟!

هؤلاء رأوا أن فلانا ذهب له صيت وذكر لأنه أتى في الفن بما لم يكن يعهد الناس، فما لهم هم أيضا لا يغربون، واقعا هذا الإغراب حيث وقع، ليذهب لهم كذلك في الفن ذكر وصيت؟ •••

لقد عبرت في صدر حديثي بكلمة «الثورة»، وخشيت أن أكون في هذا التعبير من المتجوزين، فالثورة كما تعلمون، إنما هي الانفجار من أثر فكرة تغلي في الصدر، غليان الماء في القدر، ثم إنها تضطرم وتحتدم في سبيل تحقيق غاية معينة، فهل بعض هذا الذي نرى ونسمع في الأدب والفن كذلك؟ أي أن الفكرة قد ملكت على هؤلاء جميع مذاهبهم، وغلت في صدورهم فثاروا بالقديم، وراحوا يقيمون فنونا جديدة واضحة المعارف بينة الرسوم! أم أن الأمر كله لا يعدو التلفيق من هنا ومن هنا تلفيقا كله تعسف واستكراه، حتى تبدت للفن صورة متناكرة الأعضاء، متنافرة الأجزاء، وذلك في سبيل الإغراب طلبا للظفر كما قلنا بلقب «البطولة في التجديد»؟!

إذا كان الأمر كذلك، فليس ما نحن فيه بثورة، ولا هو من الثورة في كثير ولا قليل، إنما هو الفوضى بأجمع معاني الكلمة، فحذار أيها الإخوان حذار، وإلا لحق الفنون البوار، وحقت عليها «بتجديدكم» كلمة الدمار!

Página desconocida