232

لكم بعد هذا أن تسألوني عن كيفية التجديد إذن وعن مدى آثار المجددين؟

والواقع أنه حين يعرض هذا السؤال تعرض للنفس مسألة أخرى: ترى الأذواق هي التي تؤثر في الفنون؟ أم الفنون هي التي تؤثر في الأذواق؟

لقد سبق القول في أن منشأ الفنون الجميلة إنما هو الذوق أولا، وهي إنما تصطنع لتنعيم الذوق وتلذيذه آخرا، فهي منه تبدأ وإليه تعود، ولكن ليس معنى هذا أن الفنون لا أثر لها ألبتة في تكييف الأذواق، بل إني لأزعم أنه قد يكون لها في بعض الأحيان الأثر البعيد، إذن فهناك تفاعل من الجانبين، أعني بين الأذواق والفنون، ونحن إذا عبرنا في هذا المقام بكلمة «الفنون» فمن الواضح أننا إنما نريد أثر المفتنين، أو على الصحيح أثر العبقريين من جماعات المفتنين.

ومن الجلي أن العبقري هو الذي يرتفع على مجموع قومه، وأحيانا على أهل عصره في صفة أو في أكثر من صفة، بحيث يتهيأ له أن يدرك في بعض الأمر ما لا يدركون، ويشعر بما لا يتعلق لهم به حس ولا شعور، ولنقصر الحديث على عباقرة المفتنين، ما دام الحديث في الفن والمتفننين.

المفتن الموهوب إنسان أوتي كمال الذوق، ودقة الشعور، ورهافة الحس، وحدة العاطفة، والقدرة القادرة على الأداء والتصوير، وليس يشترط فيه أن يكون واسع العلم غزير المادة، بل بحسبه أن يحصل من قضايا فنه صدرا لا يزل معه ولا يضل.

ولقد قلنا إنه يسبق بتلك المواهب جمهرة قومه، ولقد يسبق أهل عصره؛، إذ تهديه فطنته إلى أشياء لم يفطنوا لها، وتذيقه رهافة حسه ألوانا من الشعور لم يتذوقوها، فينفضها بما رزق من براعة الأداء كما أحسها، ويحاول أن يذوقها غيره كما تذوقها، وكذلك تزيد ثروة الفنون وتشحذ الفطن، وترهف الأحاسيس على اطراد الأيام.

نعم، لقد ينصب بعض هؤلاء العباقرة للعدول بالفن عن مذهبه، وقد يقلبه رأسا على عقب، وتلكم هي الثورة بعينها، والثورات كما تعلمون حالات شاذة لا ينبغي أن تجري على مظاهرها الأحكام العامة.

وكيفما كان الأمر، فإن ما تجيء به الثورات إما أن يختفي ويزول جملة بعد الدعة والاستقرار، وإما أن يتخلف منه صدر ترى الطبيعة أنه صالح للبقاء، وهذا القدر بالنسبة إلى الفنون، مهما يكن في مبتدأ الأمر نابيا عن بعض الأذواق، فإن مما لا شك فيه أنه مع طول الزمن وكثرة تقليبه على الذهن أو السمع أو البصر، وانعقاد الإلف، تتكيف به الأذواق وتتلون، ولقد يكون تكيفها به وتلونها إلى حد بعيد.

بقيت مسألة دقيقة أحب أن يجيل الرأي فيها سادتنا المتصدون للتجديد شعراء كانوا أم كتابا أم موسيقيين أم مصورين، وهذه المسألة أن المرء مهما يكن على حظ من المواهب، وخاصة فيما يتعلق بالأذواق والعواطف، فإنه لا بد متأثر بقدر غير يسير، بالبيئة التي درج فيها، وبعادات قومه، ومنازع عواطفهم وما ألفوا بطول الزمن، وغير أولئكم مما انحدر إليهم من التاريخ البعيد، هو متأثر بكل هذا حتى ليكاد يتصل بطبعه وغريزته، فالأصل فيه أن يحس الأشياء كما يحسها قومه، وأن يذوق ألوان المعاني كما يتذوقها معشره، وذلكم بحكم ضرورة الاشتراك في الجملة، في عناصر تكوين الذوق العام، فهو على هذا إذا ابتدع طريفا، واستحدث في الفن جديدا، ففن قومه القائم هو ولا شك أساس ابتداعه، وملاك ابتكاره واختراعه.

وهذا إلى أنه إنما يسعى في هذه السبيل سعيه ليرفه عن قومه أولا، ولينعمهم ويدخل الطرب والسرور عليهم، فينبغي له بالضرورة ألا يسقط من حسابه في تجديده ألوان عواطفهم، وما تستريح إليه من صور الجمال أذواقهم.

Página desconocida