بعد هذا جعل أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز المتوفى سنة (296) يتفقد ألوان البديع التي أصابها في الكتاب العزيز، وفي كلام من سبقه ومن عاشره من أعلام البيان، فأحصى منها بضعة عشر نوعا ضمنها رسالة لطيفة، نشرها مطبوعة من عهد قريب أحد كبار المستشرقين .
قدامة بن جعفر
ثم يجيء أبو الفرج قدامة بن جعفر المتوفى سنة (337) على أرجح الأقوال فيصنف فيما يصنف كتابيه «نقد الشعر» و«نقد النثر».
ولقد يغنيني عن الإطالة في الإبانة عن أثر هذا الرجل في وضع الأسس الأولى لقواعد علوم البلاغة، ومحاولة إجراء هذه الأسس على نهج علمي - إذا صح هذا التعبير - لقد يغنيني عن هذا تلك الرسالة البديعة التي وضعها في الفرنسية صديقي الدكتور طه حسين، وأداها في العربية صديقي الأستاذ عبد الحميد العبادي، وصدر بها كتاب «نقد النثر».
وقد صرح الدكتور طه في رسالته هذه بأن قدامة إنما وضع ما وضع من أسس علوم البلاغة العربية متهديا بكتب أرسطاطاليس، وهذا حق لا شبهة فيه، ولا يتخالج الشك فيه من يقرأ كتاب «نقد النثر»، بل إن المؤلف نفسه ليصرح في بعض المواطن من كتابه بأن أرسطاطاليس قال في هذا الموضع كذا ونص على كيت.
على أن من أظهر ما يخرج به متصفح هذا الكتاب، أن الرجل في تدوينه لعلوم البلاغة، أو على الصحيح في محاولته تدوين هذه العلوم، إنما كان - برغم ما بين يديه من قضايا أرسطو - كالساري في بيداء مجهل، فهو لا يفتأ يلتمس الأعلام ويتحرى المسالك والدروب، أو هو كالطائر المهاجر يسقط حيث يلوح له الحب، وتترقرق لعينه صفحة الماء، فما إن تسنح له الجزئية يحسبها مما يتصل بما هو بسبيله إلا تراه قد هجم عليها، ومثل لها بآية من آي القرآن الحكيم، وتارة يتمثل بالبيت أو بالبيتين من الشعر، مترفقا شديد الترفق في وجوه التعليل والتأويل.
وهو إنما يتصيد أسباب البلاغة نثارا حتى إنه لم يفصل بين فنونها الثلاثة، فقد يأتي بالمسألة من مسائل البديع في إثر القضية من قضايا المعاني أو البيان.
ثم لقد يميل في بعض الطريق إلى بحث فلسفي، أو يأخذ في شيء من المنطق أو الأصول أو النحو أو الصرف، أو يعدل بالحديث إلى قوانين الجدل، وهي التي دعيت بعد بآداب البحث والمناظرة، وللرجل حق العذر في هذا فإنه لم يعد سنة من نشأوا العلوم، وخاصة منها ما كان مرده إلى الأذواق، وهذا ما نعبر عنه اليوم بالفن الجميل.
وكيفيما كانت الحال، فإن هذا قدامة حتى في القليل من المعاني التي وقع عليها من فنون البيان، لم يضع لشيء منها قاعدة كلية، إنما جهده كله كما أسلفنا أن يلتمس لما يتمثل له من الجزئيات وجوه العلل التي تشرف بها رتبة الكلام.
عبد القادر الجرجاني
Página desconocida