أما كرسي أورشليم فيظهر أنه بعد وفاة توافان في أوائل القرن الثالث عشر لم يقم عليه بطريرك إلا في نحو سنة 1260، إذ قام عليه غريغوريوس الثاني في أيام الملك ميخائيل باليولوغوس الذي ملك سنة 1260، وله كتاب رد به زعم رأي يوحنا بكخوس الذي كان يدافع عن تعليم الكنيسة الغربية واللاتين، وبعد وفاة غريغوريوس صير باسيليوس الثالث وقتل في إحدى مواقع الحرب بين المسلمين والإفرنج، فصير بعده تادي الفرمي وله كتاب في الرد على اليهود كتبه سنة 1298، وهذا الكتاب محفوظ في المكتبة الملكية ببريس.
وكان في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بطاركة على أنطاكية وأورشليم من اللاتين لم يسع هذا الموجز الكلام فيهم. (2) في المشاهير الدينيين في القرن الثالث عشر
أشهر المشاهير بالمشرق في هذا القرن غريغوريوس بن العبري المعروف بأبي الفرج، ولد بملطية ببلاد الأرمن سنة 1227، ورحل به أبوه إلى أنطاكية سنة 1234، وبرع باللغات السريانية والعربية واليونانية، وعكف على دراسة الطب عند أبيه الذي كان طبيبا، ثم استأذن أباه بهجر العالم، وانقطع إلى النسك بمغارة جبل أنطاكية فأقام على ذلك سنة، ثم خرج إلى أطرابلس فدرس العلوم الأدبية والرياضية على رجل اسمه يعقوب من علماء النساطرة، وتعارف هناك بصليبا بن يعقوب من ملته، ثم استقدمهما أغناتيوس سابا بطريرك اليعاقبة، فرقاهما إلى الأسقفية، صليبا على عكا، وابن العبري على جوباس، ثم نقله إلى أسقفية لاقابين من أعمال ملطية، واستمر في هذه الأسقفية خمس سنوات، ومات البطريرك أغناطيوس سابا سنة 1251، فكان خلاف في الملة اليعقوبية إلى سنة 1263، وكان لهم بطريركان ديوانيسيوس عنجور ويوحنا بن المعدني، فأرسل ديوانيسيوس ابن العبري إلى حلب وأقام فيها ابن المعدني متى الجومي، فلجأ ابن العبري إلى الحكومة فاستبد بمطرانية حلب، ولما قام أغناتيوس الثالث بطريركا على اليعاقبة رقي ابن العبري سنة 1264 إلى مقام مفريان بمعنى الأسقف العام، أو كبير الأساقفة إلى أن توفي سنة 1286.
وعدد أخوه برصوما مؤلفاته، فكانت واحدا وثلاثين مؤلفا وقال السمعاني: إنه فات برصوما أن يذكر لأخيه ثلاثة كتب، ومن هذه الكتب كتابه كنز الأسرار مشتملا على تفسير الأسرار المقدسة، وكتابه منارة الأقداس في اللاهوت، وكتاب الأشعة في اللاهوت أيضا، وكتابه الهدايات جمع فيه القوانين البيعية، وكتابه في الآداب وتهذيب الأخلاق، وكتابه في التاريخ بدأ فيه من خلق العالم إلى أيامه مقسوما إلى ثلاثة أقسام: الأول في تاريخ الآباء والملوك من الكلدان والفراعنة واليونان والرومان، ثم خلفاء المسلمين إلى أيامه، وهذا القسم ترجمه المؤلف نفسه إلى العربية، وسماه مختصر تاريخ الدول وزاد عليه زيادة هامة واختصره، والقسم الثاني في تاريخ بطاركة أنطاكية واليعاقبة، والثالث في تاريخ الجثالقة والمفريانات، وله في الفلسفة كتابه الموسوم بزبدة الحكمة وكتاب في النفس البشرية، وله ترجمة كتابين في الفلسفة: أحدهما لابن سينا والثاني لأثير الدين الأبهري، وله في الرياضيات حل كتاب إقليدس، وفي الفلك كتاب ارتفاع العقل، وله في اللغة السريانية كتاب الصمحي أي: كتاب الأشعة أو اللمع وكتاب مقتطف عنه في نحو هذه اللغة منظوم بالشعر، وله قصيدة تزيد على ستمائة بيت جمع بها الألفاظ السريانية المتشابهة، وله ديوان شعر بالسريانية طبع برومة سنة 1877 إلى غير ذلك من مؤلفات هذا النابغة النادرة.
وكان في هذا القرن بمصر أبو إسحق بن العسال، وهو يعقوبي المذهب اشتهر بعلمه شهرة كبرى حتى كناه النصارى أبا الفضائل، وله كتاب جمع فيه قوانين الكنيسة، وكتاب آخر في تفسير الأسفار المقدسة عنونه مجموع أسس الدين ورد فيه على الوثنيين واليهود، وزيف أقوال الفلاسفة غير المسيحيين، وأثبت بأدلة جلية سري التثليث والتجسد وسائر أسرار الدين المسيحي، وتوفي بعد سنة 1239.
الفصل الخامس
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الرابع عشر
في أهم الأحداث التي كانت في هذا القرن (1) في تتمة ما كان من الأحداث في أيام الملك الناصر
في سنة 1302 توفي كتبغا نائب السلطان بحماة ونصب السلطان مكانه سيف الدين قبجق، وكان الحق لأبي الفداء صاحب التاريخ المشهور؛ لأنه من البيت الأيوبي، وقد أخذ بعد ذلك هذا المنصب، ومذ سنة 1292 وكان الأمير بيدرا قائد عساكر السلطنة بمصر قد توجه إلى جبال كسروان، وصحبته كثير من الأمراء فتغلب أهل تلك الجبال على العساكر وقتلوا كثيرين منهم، روى ذلك المقريزي في تاريخ الممالك، وصالح بن يحيى في تاريخ بيروت.
وفي سنة 1302 جمع جمال الدين أقوش الأخرم نائب دمشق بعض العمال والعساكر، وساروا لمقاتلة الجرديين وأهل كسروان فالتقى مقدمو الجبال الجيش، فهزموه وقتلوا كثيرين وغنموا غنائم كثيرة، وقتل في هذه الموقعة بعض الأمراء التنوخيين أصحاب بيروت وغزا الجرديون بلادهم، وأحرقوا بعض قراها ... ذكر ذلك صالح بن يحيى المذكور وابن الجوزي، ثم قال صالح المذكور ومما نقلناه عن النويري والصلاح الكتبي في فتوح كسروان في سنة 705ه/1305م: توجهت العساكر الشامية إلى جبال كسروان وإبادة أهلها، وهي النوبة الثانية في أيام الملك الناصر، فإن أهل كسروان كانت شوكتهم قد اشتدت، وتطاولوا على أذى العسكر عند انهزامه من التتر، وأغض السلطان عنهم، وأظهروا الخروج عن الطاعة واعتزلوا بجبالهم المنيعة ووثقوا بجموعهم الكثيرة، ففي سنة 1304 جهز جمال الدين آقش (يسمى آقوش أيضا) الأخرم، وتوجه بعده تقي الدين قراقوش وأنذرهم بالرجوع إلى الطاعة، فأبوا فأمر حينئذ بتجريد العساكر إليهم من ممالك سورية، وتوجه آقش الأخرم نائب السلطنة فيها بسائر الجيوش، وجمع جمعا كبيرا من الرجالة نحو خمسين ألفا وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين والجرديين، وتوجه نائب أطرابلس من جهة هذه المدينة ، فدخل كسروان من أصعب مسالكه واجتمعت على أهله العساكر، فوطئت أرضا لم يكن سكانها يظنون أحدا يطأها وقطعت كرومهم، وأخربت بيوتهم وقتل منهم خلق كثير وتفرقوا في البلاد، واستخدم نائب أطرابلس جماعة منهم وأقطع بعضهم أملاكا، وعن ابن سباط أن العساكر بلغت أولا إلى الجرد التي بجبال بيروت (أحد أعمال الشوف)، فجمع الدروز رجال الجرد وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل، والتقت الجموع عند عين صوفر، فكان قتال شديد دارت به الدائرة على الأمراء، فهربوا بحريمهم وأولادهم ونحو ثلاثمائة نفس، واحتموا في غار يعرف بمغارة نيبية فوق إنطلياص، فدافعوا عن أنفسهم حتى لم يقدر الجيش أن ينال منهم، وبذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا، فأمر نائب دمشق أن يبنوا على الغار سدا من الحجر والكلس، وهالوا تلا من التراب عليه، وأقاموا حارسا عليهم مدة أربعين يوما حتى هلكوا جميعا، ثم أحاطت العساكر بجبال كسروان كما روى النويري والصلاح الكتبي، فقتلت أهلها وأخربت بيوتهم ودكت معابدهم وانهزم أكثرهم، ثم توجه بعض مأموري الحكومة لأجل عمارة الجبل بتأمين السكان الذين لم يستطيعوا الفرار، وإسكان عشائر من المسلمين في السواحل، وأمر الملك الناصر تركمان الكورة أن ينزلوا في ساحل كسروان، وهم آل عساف الآتي ذكرهم.
Página desconocida