Diálogos de Platón: Eutifrón - La defensa - Critón - Fedón
محاورات أفلاطون: أوطيفرون – الدفاع – أقريطون – فيدون
Géneros
لمكان فسيح يا سيبيس، وفيه كثير من طيبي الرجال، وهناك غير قليل من القبائل المتبربرة، فابحث عنه في طول البلاد وعرضها، بين هؤلاء جميعا، ولا تدخر في البحث جهدا ولا مالا؛ فليس من سبيل أفضل من استخدامك المال، ولا يفتك أن تبحث عنه كذلك بين أنفسكم، فوجوده ها هنا أرجح منه في أي مكان آخر.فأجاب سيبيس: لن نتردد في القيام بهذا البحث، ولنعد الآن إذا شئت في الحوار إلى النقطة التي استطردنا منها.فأجاب سقراط: طبعا، وماذا أريد غير هذا؟فقال: حسنا جدا.قال سقراط: أفلا ينبغي أن نساءل أنفسنا سؤالا كهذا: ما هو الشيء الذي تظنه عرضة للبعثرة، ونحن عليه حريصون؟ ثم ما هو الشيء الذي لا نحرص عليه؟ وبعدئذ نستطيع أن نمضي في البحث عما إذا كان ذلك الذي تمتد إليه يد البعثرة، من طبيعة الروح أم لا. فعلى ذلك سنقيم ما نكن لأرواحنا من آمال ومخاوف.فقال: هذا صحيح.- فقد نفرض أن الشيء المركب، أو الذي يتكون من أجزائه، أنه بطبيعته يمكن أن يتحلل، كما أمكن له أن يتركب، أما ذلك الذي لم يتركب من أجزاء، فيلزم أن يكون وحده غير قابل للتحلل، إذا كان ثمة شيء كهذا.فقال سيبيس: نعم؛ فهذا ما قد أتصوره.- وقد يزعم أحد غير المركب، يظل كما هو، ولا يخضع للتغير، بينما يكون المركب دائم التغير، لا يظل أبدا كما هو؟فقال: إني أظن ذلك أيضا.- وإذن فلنعد الآن إلى حوارنا السابق: هل يتعرض ذلك المثال، أو الجوهر، الذي نعرفه في سياق الكلام، بأنه كنه
17
الوجود الحقيقي - سواء في ذلك كنه المساواة أو الجمال أو أي شيء آخر - أقول هل تتعرض هذه الجواهر على مر الزمن إلى شيء من التغير؟ أم أن كلا منها يبقى هو ما هو دائما، له نفس ما له من صور توجد بنفسها، لا تتغير ولا تقبل التحول بتاتا، كيفما كان، أو في أي وقت كان؟فأجاب سيبيس: إنها لا بد أن تكون دائما كما هي يا سقراط، وماذا أنت قائل في تعدد الجميل، سواء أكان أناسا، أم لباسا، أم جيادا، أم أي شيء آخر يمكن أن يسمى متساويا أو جميلا، أهي كلها لا تخضع للتغير، وتبقى كما هي دائما، أم أنها نقيض ذلك تماما؟ أليس الأولى أن توصف بأنها متغيرة في الأغلب، وأنها لا تكاد تبقى أبدا كما هي، سواء مع أنفسها، أو بعضها مع بعض؟فأجاب سيبيس: إنها الأخيرة. إنها دائما في حالة من التغير.- وأنت تستطيع أن تلمسها، وأن تراها، وأن تدركها بالحواس. فأما الأشياء الثابتة، فلا يمكنك إدراكها إلا بالعقل. إنها تخفى على الأبصار فلا ترى.فقال: هذا جد صحيح.فأضاف: حسنا، لنفرض إذن أن ثمة ضربين من الوجود، وجودا مرئيا ووجودا خفيا.- لنفرضهما.- والمرئي هو المتغير، والخفي هو الثابت .- يمكن فرض ذلك أيضا.- أليس الجسد، فضلا عن ذلك، جزءا منا، وما يبقى هو الروح؟- ليس في ذلك شك.- ترى إلى أي نوع من هذين يكون الجسد والجلد أشبه؟- ظاهر أنهما أشبه بالمرئي، إن أحدا لا يشك في ذلك.- وهل الروح مرئية أم خفية؟- لم يرها إنسان يا سقراط.- وهل نقصد «بالمرئي» و«الخفي» ما تراه عين الإنسان وما لا تراه؟- نعم، بالنسبة إلى عين الإنسان.- وماذا تقول عن الروح؟ أهي مرئية أم خفية؟- إنها لا ترى.- هي خفية إذن؟- نعم.- وإذن فالروح أشبه بالخفي، والجسد أشبه بالمرئي؟- إن ذلك مؤكد جدا يا سقراط.- ألم نكن نزعم منذ عهد بعيد، أن الروح حين تتخذ من الجسد أداة للإدراك؛ أعني حين تستخدم حاسة الإبصار، وحاسة السمع، أو غيرهما من الحواس (لأن معنى الإدراك خلال الجسد، هو الإدراك بواسطة الحواس)؛ ألم نكن نزعم أن الجسد بذلك يجر الروح أيضا إلى منطقة المتغير، وأنها تضل وترتبك؟ فإن الدنيا عندئذ تضرب حولها نسيجا، فتكون الروح عند خضوعها لتأثير الحواس كمن أثملته الخمر؟- جد صحيح. - ولكنها إذا ما ثابت إلى نفسها، فإنها تفكر، وبعدئذ تدخل عالم النقاء، والأبدية، والخلود، والثبات. فهؤلاء عشيرتها، وهي تعيش معها أبدا، إذا ما خلت إلى نفسها دون أن يعطلها معطل، أو يحول دونها حائل، وعندئذ لا تعود تسلك سبلها الخاطئة. فإنها إذا ما خالطت ما هو ثابت، كانت هي كذلك ثابتة، وتسمى هذه الحالة التي تكون فيها الروح بالحكمة.أجاب: هذا صحيح، فحق ما قلت يا سقراط.- وبأي نوع ترى الروح أشد شبها وقربى؟ استنتاجا من هذا التدليل ومن سابقه؟- إني أظن يا سقراط أن كل من يتتبع هذا التدليل، يعتقد أن الروح ستكون الشبه بالثابت قربا لا نهاية له؛ ولن ينكر هذا أحد حتى أشد الناس غباء.- والجسم أقرب شبها بالمتغير؟- نعم.- انظر بعد ذلك إلى الأمر مرة أخرى مستضيئا بهذا: حينما تتحد الروح مع الجسد، تأمر الطبيعة الروح أن تحكم وأن تسيطر، والجسد أن يطيع وأن يعمل؛ فأي هذين العملين أدنى إلى الإلهي؟ وأيهما أقرب إلى الفاني؟ أليس يبدو لك الإلهي أنه ما يأمر وما يحكم بطبيعته، وأن الفاني هو الخادم الخاضع؟- حقا.- وأيهما يشبه الروح؟- إن الروح تشبه الإلهي، أما الجسد فيشبه الفاني. ليس إلى الشك في ذلك سبيل يا سقراط.- إذن فانظر يا سيبيس، أليست هذه هي خلاصة الأمر كله؟ إن الروح على أشد ما يكون الشبه بالإلهي، وبالخالد، وبالمعقول، وبذي الصورة الواحدة، وبغير المتحلل، وبغير المتحول، وإن الجسد على أشد ما يكون الشبه بالإنساني، وبالفاني وبغير المعقول، وبذي الصورة المتعددة، وبالمتحلل، وبالمتحول. هل من سبيل إلى إنكار ذلك، أي عزيزي سيبيس؟- لا، ولا ريب.- ولكن إن صح هذا، أفلا يكون الجسد عرضة للتحلل السريع؟ ألا تكون الروح غير قابلة للتحلل، في أغلب الحالات، بل فيها جميعا؟- يقينا.وهل تلاحظ فوق هذا، أن الجسد بعد موت الإنسان لا يتحلل أو يتفكك دفعة واحدة، بل قد يبقى أمدا طويلا، إذا كان قوي البنية عند الموت، ووقع الموت في فصل ملائم من فصول السنة، مع أن الجسد هو الجزء المرئي من الإنسان، وله مادة تراها العين، تسمى جثة، ستنتهي بطبيعتها إلى التحلل، فتتفرق أجزاؤها وتتبدد؛ لأن تقلص الجسد وتحنيطه، كما جرت بذلك العادة في مصر، يعملان في أغلب الأحيان على حفظه أبدا لا يبيد، وحتى إذا أصابه الفساد، فإن بعض أجزائه تظل باقية، كالعظام وبعض الأعصاب التي تستعصي على التحلل بطبيعتها. هل تسلم بهذا؟- نعم.- وهل يجوز لنا أن نفرض أن الروح الخفية، عند انتقالها إلى عالم الأموات الحقيقي، وهو مثلها في خفائها، ونقائها، ونبلها، وأنها إذ تكون في طريقها إلى الإله الخير الحكيم، الذي توشك روحي أن تنتقل إليه إن شاء الله بعد حين، أقول: هل يصح الفرض أن الروح، إن كانت هذه طبيعتها، وذاك أصلها، تتبدد وتفنى عند فراق الجسد، كما تقول جمهرة الناس؟ يستحيل أن يكون ذلك، أي عزيزي سمياس وسيبيس، وأولى أن تكون الحقيقة هي الروح، وهي نقية، لا تجر في ذيلها عند انتقالها أية صبغة جسدية، ما دامت لم تتصل قط بالجسد اختيارا، بل إنها لتتجنبه دائما، وما دامت قد انحصرت في نفسها (فقد كان مثل هذا التجريد موضوع دراستها في الحياة). وماذا يعني هذا إلا أن الروح قد كانت تابعة مخلصة للفلسفة، وأنها قد مرنت على كيفية الموت بغير عناء؟ أفليست الفلسفة مرانا على الموت؟- يقينا.- أقول إن تلك الروح في خفائها، تنتقل إلى العالم الخفي، إلى الإلهي والخالد والعاقل. فإذا ما بلغته، رفلت في نعيم، وتخلصت من أوزار الناس وحمقهم، ومن مخاوفهم وعواطفهم الحوشية، ومن النقائص البشرية جميعا، ورافقت الآلهة إلى الأبد، كما يروى عن العالمين بالسر. أليس ذلك صحيحا يا سيبيس؟فقال سيبيس: نعم، وليس إلى الشك فيه من سبيل.- ولكن الروح التي قد أصابها الدنس، والتي تكون كدرة عند انتقالها، والتي ترافق الجسد دائما، وتكون خادمته، والتي تغرم وتهيم بالجسد ورغبات الجسد ولذائذه، حتى ينتهي بها الأمر إلى العقيدة بأن الحقيقة لا تكون إلا في صورة جسدية يمكن الإنسان أن يلمسها وأن يراها وأن يذوقها، وأن يستخدمها لأغراض شهواته. أعني الروح التي اعتادت أن تنفر من المبدأ العقلي، وأن تخافه وتتحاشاه، ذلك المبدأ الذي هو للعين الجسمانية معتم تستحيل رؤيته، والذي لا يدرك إلا بالفلسفة وحدها، أفتحسب أن روحا كهذه سترحل نقية طاهرة؟فأجاب: يستحيل أن يكون هذا.- إنها قد استغرقت في الجسدي، وقد أصبح طبيعيا بالنسبة لها؛ لاتصالها المستمر بالجسد، وعنايتها الدائمة به.- جد صحيح.- ويحق لنا يا صديقي أن نتصور أن هذه هي تلك المادة الأرضية الثقيلة الكثيفة، التي يدركها البصر، والتي بفعلها تغشى الكآبة مثل هذه الروح، فتنجذب هبوطا إلى العالم المرئي مرة أخرى؛ لأنها تخاف مما هو خفي، وتخاف من العالم الأدنى؛ فتظل محومة حول المقابر واللحود؛ إذ ترى بجوارها - كما يحدثوننا - أشباح طيفية لأرواح لم تكن قد رحلت نقية، ولكنها ارتحلت مليئة بالمادة المنظورة فأمكن رؤيتها.
18 - يغلب جدا أن يكون ذلك يا سقراط.- نعم يا سيبيس؛ فأغلب الظن أن يكون ذلك، ولا بد أن تكون هاتيك أرواح الفجار لا أرواح الأبرار، هؤلاء الفجار الذين كتب عليهم أن يضلوا في مثل تلك المواضع جزاء وفاقا بما اقترفوا في الحياة من إثم، فلا ينقطع تجوابهم، حتى تشبع الرغبة التي تملؤهم، ثم يسجنون في بدن آخر، وقد يظن أن تلازمهم نفس الطبائع التي كانت لهم في حياتهم الأولى.- أي الطبائع تريد يا سقراط؟- أريد أن أقول إن من اندفعوا وراء الشره والفجور والسكر، ولم تدر في خلدهم فكرة اجتنابها، سينقلبون حميرا وما إليها من صنوف الحيوان. فماذا ترى أنت؟- أرى أن ذلك جد محتمل.- وهؤلاء الذين اختاروا جانب الظلم والاستبداد والعنف، سينقلبون ذئابا أو صقورا أو حدأ، وإلا فإلى أين تحسبهم ذاهبين؟فقال سيبيس: نعم، إن ذلك، ولا ريب، هو مستقر تلك الطبائع التي تشبه طبائعهم.فقال: وليس من العسير أن نهيئ لهم جميعا أمكنة تلائم طبائعهم وميولهم المتعددة.فقال: ليس في ذلك عسر.- وحتى بين هؤلاء ترى فريقا أسعد من فريق؛ فأولئك الذين اصطنعوا الفضائل المدنية والاجتماعية التي تسمى بالاعتدال والعدل، والتي تحصل بالعادة والانتباه، دون الفلسفة والعقل، أولئك هم أسعد نفسا ومقاما. ولم كان أولئك هم الأسعد؟لأنه قد يرجى لهم أن يتحولوا إلى طبيعة اجتماعية رقيقة تشبه طبيعتهم، مثل طبيعة النحل أو النمل، بل قد يعودون مرة ثانية إلى صورة البشر، وقد يخرج منهم أناس ذوو عدل واعتدال.- ليس ذلك محالا.- أما الفيلسوف، أو محب التعلم، الذي يبلغ حد النقاء عند ارتحاله؛ فهو وحده الذي يؤذن له أن يصل إلى الآلهة، وهذا هو السبب، أي سمياس وسيبيس، في امتناع رسل الفلسفة الحق عن شهوات الجسد جميعا؛ فهم يصبرون ويأبون أن يخضعوا أنفسهم لها، لا لأنهم يخشون إملاقا أو يخافون لأسرهم دمارا كمحبي المال ومحبي الدنيا بصفة عامة، ولا لأنهم يخشون العار والشين الذين تجلبهما أعمال الشر كمحبي القوة والشرف.قال سيبيس: لا يا سقراط، إن ذلك لا يلائمهم.فأجاب: حقا إنه لا يلائمهم؛ وعلى ذلك فأولئك الذين يعنون بأرواحهم، ولا يقصرون حياتهم على أساليب الجسد، ينبذون كل هذا؛ فهم لن يسلكوا ما يسلك العمي من سبل، وعندما تعمل الفلسفة على تطهيرهم وفكاكهم من الشر، يشعرون أنه لا ينبغي لهم أن يقاوموا فعلها، بل يميلوا نحوها، ويتبعوها إلى حيث تسوقهم.- ماذا تعني يا سقراط؟قال: سأحدثك. إن محبي المعرفة ليدركون عندما تستقبلهم الفلسفة أن أرواحهم إنما شدت إلى أجسادهم وألصقت بها، ولا تستطيع الروح أن ترى الوجود إلا خلال قضبان سجنها، فلا تنظر إليه وهي في طبيعتها الخاصة، إنها تتمرغ في حمأة الجهالة كلها، فإذا ما رأت الفلسفة ما قد ضرب حول الروح من قيد مخيف، وأن الأسيرة تنساق مدفوعة بالرغبة إلى المساهمة في أسر نفسها؛ لأن محبي المعرفة يعلمون أن هذه كانت الحالة البدائية للروح، وأنها حين كانت في تلك الحال، تسلمتها المعرفة ونصحتها في رفق، وأرادت أن تحررها، مشيرة لها بأن العين مليئة بالخداع، وكذلك الأذن وسائر الحواس، لتحملها على التخلص منها تخلصا تاما، إلا حين تدعو الضرورة إلى استخدامها وأن تتجمع وتتفرغ إلى نفسها، وألا تثق إلا بنفسها وما توحي به إلى بصيرتها عن الوجود المطلق، وأن تشك في ما يأتيها عن طريق سواها، ويكون خاضعا للتغير؛ فالفلسفة تبين لها أن هذا مرئي ملموس، أما ذلك الذي تراه بطبيعتها الخاصة فعقلي وخفي، وروح الفيلسوف الحق تظن أنه لا ينبغي لها أن تقاوم هذا الخلاص؛ ولذا فهي تمتنع عن اللذائذ والرغبات، والآلام والمخاوف، جهد استطاعتها، مرتئية أن الإنسان حينما يحوز قدرا عظيما من المسرات أو الأحزان أو المخاوف أو الرغبات؛ فهو لا يعاني منها هذا الشر الذي تقدره الظنون - كأن يفقد مثلا صحته أو متاعه، مضحيا بها في سبيل شهواته - ولكن يعاني شرا أعظم من ذلك، هو أعظم الشرور جميعا وأسوأها، هو شر لا يدور في خلده أبدا.قال سيبيس: وما هو ذلك يا سقراط؟- هو هذا، حينما تحس الروح شعورا شديد العنف، بالسرور أو بالألم، ظننا جميعا بالطبع أن ما يتعلق به هذا الشعور العنيف يكون عندئذ أوضح وأصدق ما يكون، ولكن الأمر ليس كذلك.- جد صحيح.وتلك هي الحال التي يكون فيها الجسد أشد ما يكون استعبادا للروح.- وكيف ذلك؟- لأن كل سرور وكل ألم يكون كالمسمار الذي يسمر الروح في الجسد، ويربطها به، ويستغرقها، ويحملها على الإيمان بأن ما يؤكد عنه الجسد أنه حق فهو حق، ومن اتفاقها مع الجسد، وسرورها بمسراته ذاتها، تراها مجبرة على أن تتخذ عادات الجسد وطرائقه نفسها، ولا ينتظر ألبتة أن تكون الروح نقية عند رحيلها إلى العالم الأدنى، فهي مشبعة بالجسد في كل آن، حتى إنها سرعان ما تنصب في جسد آخر، حيث تنبت وتنمو؛ ولذا فهي لا تساهم بقسط في الإلهي، والنقي، والبسيط.فأجاب سيبيس: ذلك جد صحيح يا سقراط؟- وهذا يا سيبيس هو ما دفع محبي المعرفة الحق أن يكونوا ذوي اعتدال وشجاعة؛ فهم لم يكونوا كذلك؛ لما تقدمه الحياة الدنيا من أسباب.- لا، ولا ريب.- لا، ولا ريب! فليست تفكر روح الفيلسوف على هذا النحو، إنها لن تطلب إلى الفلسفة أن تحررها، لكي تستطيع، إذا ما تحررت، أن تلقي بنفسها مرة أخرى، في معترك اللذائذ والآلام، فتكون بذلك كأنها تعمل ما تعمل، لا لشيء إلا لكي تعود فتنقضه، وكأنها تنسج خيوطه - كما فعلت بنلوب
19 - بدل أن تعمد إلى حلها، ولكنها ستتخذ من نفسها عاطفة راكدة ستتأثر خطو العقل، فتلازمه لتشاهد الحقيقي والإلهي (وهو ليس موضوعا للرأي)؛ ومن ثم تستمد غذاءها، وهي تحاول بذلك أن تحيا ما دامت في الحياة، وتأمل أن تلتمس ذوي قرباها بعد الموت، وأن تتحرر من النقائص البشرية، فلا تخشيا أي سمياس وسيبيس أن تتبدد روح كان ذلك غذاءها، وكانت تلك آمالها المنشودة، عند انفصالها عن الجسد فتذروها الرياح، وتصبح عدما ليس له وجود.وما إن انتهى سقراط من هذا الحديث حتى ساد الصمت فترة طويلة، فبدا هو نفسه، كما بدا معظمنا، كأنما نفكر فيما قيل، إلا أن سيبيس وسمياس تهامسا بكلمات قليلة، فلما لحظ ذلك سقراط، استنبأهما عما ارتأيا فيما أقيم من دليل، وهل لم يزل يعوزه التدعيم، وقال: إن كثيرا منه لا يزال عرضة للشك والطعن، إذا ما صحت من أحد عزيمته، أن يقلب النظر في جوانب الموضوع كلها. وإن كنتما تتحدثان عن شيء آخر، فخير ألا أعترضكما. أما إن كنتما لا تزالان تشكان في الدليل، فلا تترددا أن تصرحا بكل ما تريانه، ولنأخذ بما قد تقترحانه، إن كان خيرا مما قلنا، واسمحا لي أن أعينكما إن كان يرجى لكما مني نفع.قال سمياس: لا بد أن أعترف يا سقراط بأن الشكوك قد ثارت في عقولنا، وكان كل منا يحفز الآخر ويدفعه ليلقي السؤال الذي أراد أن يستفسر عنه والذي لم يرد منا أن يلقيه؛ خشاة أن يكون إلحاحنا مضنيا لك في حالتك الراهنة.فابتسم سقراط وقال: ألا ما أعجب ذلك يا سمياس! أحسبني في أرجح الظن مستطيعا إقناع سائر الناس بأنني لا أجد رزءا في موقفي هذا، ما دمت عاجزا عن إقناعكم أنتم وما دمتم على ظنكم أنني الآن أكثر مشغلة مني في أي وقت آخر. ألا تريان عندي من روح النبوة ما عند طيور التم؟
20
التي إذا أدركت أن الموت آت لا ريب فيه ازدادت تغريدا عنها في أي وقت آخر، ومع أنها قد أنفقت في التغريد حياتها بأكملها، وذلك اغتباطا منها بفكرة أنها وشيكة الانتقال إلى الله، الذي هي كهنته، ولما كان الناس يشفقون هم أنفسهم من الموت، تراهم يؤكدون افتراء أن طيور التم إنما تنشد مرثية في ختام حياتها، ناسين أن ليس من الطيور ما يغرد من برد أو جوع أو ألم، حتى البلبل والسنونو، بل حتى الهدهد، الذي يقال عنه بحق إنه يغرد تغريدة الأسى، وإن كنت لا أومن أن ذلك يصدق عليه أكثر مما يصدق على طيور التم، فهي إنما أوتيت موهبة التنبؤ لقداستها عند أبولو، فاستطلعت ما في العالم الآخر من طيبات، فطفقت تغني لذلك وتمرح في ذاك اليوم أكثر مما فعلت في أي يوم سابق. كذلك أنا، فإني أعتقد في نفسي بأنني خادم قد اصطفاه الله نفسه، وإني رفيق لطيور التم فيما تعمل؛ فأنا أظن أن قد أتاني سيدي من التنبؤ موهبة ليست دون مواهبها مرتبة، فلن أغادر الحياة أقل مرحا من التم.
21
فلا تحفلا بعد بهذا، وتكلما فيما تشاءان، وسلا عما تشاءان، في هذه الفترة التي يسمح فيها حكام أثينا الأحد عشر بالكلام.قال سمياس: حسنا يا سقراط؛ إذن فسأفضي إليك بمسألتي وسينبئك سيبيس بمشكلته، فإني لأقول مجترئا إنك تحس يا سقراط، كما أحس أنا، كم هو عسير أو يكاد يستحيل أن تبلغ في مثل هذه المسائل يقينا، ما دمت في هذه الحياة الحاضرة، ومع هذا فإني لأتهم بالجبن كل من لا يدلل عليها ما وسعه الدليل، أو كل من خار به قلبه قبل أن يخبرها من كل جوانبها.
22
Página desconocida