وكتب للقنصل الإنجليزي بالقاهرة ليبلغ محمد علي «اعتراض الحكومة الإنجليزية على أخذه على عاتقه تنفيذ هذا المشروع تحت الرعاية الفرنسية»، وعلى القنصل أيضا أن يؤكد لمحمد علي الصداقة التي أملت هذه النصيحة، ولما أبلغه القنصل الرسالة أجاب محمد علي بأن الاعتراض لا لزوم له، وشرح له موقفه في الأمر كله، وكان مشروع بولينياك الكبير في تلك الأثناء قد انتهى إلى لا شيء، فلم تؤد المفاوضات الأساسية مع الروسيا إلى نتيجة ما، كما أن بروسيا أعلنت أنها يستحيل عليها أن توافق على امتداد فرنسا لحد الرين الأيسر، وانصرف الوزير إلى تصفية أمر الداي مستغنيا عن محمد علي كما كان محمد علي مستغنيا عن المشروع كله.
ولكن الفصل لم يخل من فائدة: زادت السياسة الإنجليزية له وضوحا، انجلى له مقتها لسياسة الحركة وإيثارها بقاء كل شيء على حاله وتأجيل التغيير فيه ما أمكن التأجيل، فهم ذلك فعدل، وما ألبقه أسلوب الحديث ! إنجلترة تريد المحافظة، تريد بقاء السلطنة ، تعمل على أن تقيها غوائل الزمن وأن تدفع عنها شر المطامع الروسية، ومن تستطيع أن تجد ليتولى ذلك سوى محمد علي، قال للقنصل الإنجليزي عندما قدم ليحدثه في موضوع الداي: ألا ترى استحالة المحافظة على الدولة العثمانية، قد ترقع هنا وقد ترقع هناك ولكن بلا جدوى، وماذا تتوقع لحكومة فقدت ثقة شعبها بها؟ ومن إضاعة الوقت أن تنتظر منها أن تحول دون التقدم الروسي، وفي منع تقدم الروسيين مصلحة إنجليزية كبرى، وليست هناك وسيلة لتقوية السلطنة سوى تأييدي أنا، أنا الذي يستطيع أن يضع تحت طلب السلطان مائة وخمسة وعشرين ألف جندي على أهبة الاستعداد لصد الروسيين تحت أسوار القسطنطينية وفي إيران ... إن الدولة قد انتهت وعلى إنجلترة أن تؤلف قوة أخرى لمواجهة الروسيا، وأين تجد هذه القوة إلا في وفي ابني من بعدي؟
ثم أفاض في شرح موارده وأن الحكومة الإنجليزية تنقص من قدرها، وختم حديثه بأنه أينما اتجه يجد إنجلترة أمامه، وهذا الحديث أيضا لا يخرج إنجلترة عن مقت سياسة الحركة، لم تتعهد بشيء ما، لم تقيد حرية العمل، لم تسابق الحوادث «ليكف كل يوم شره»، ومحمد علي أيضا من جانبه لم يتعهد بشيء ولم يقيد حريته في شيء. •••
وقد تكونت لديه في خلال السنوات العشر التي عرضنا حوادثها وعبرها اعتبارات أساسية، يسترشد بها في وضع خططه وتنفيذها في السنوات العشر الأخرى التي بدأت بسنة 1830، قل وثوقه بإمكان وضع سياسة مشتركة بين القاهرة والقسطنطينية، وزاد إيمانه بأن محمودا ورجاله يسيرون قدما نحو الهاوية، وتأكد من أن نجاح اليونان في نيل استقلالهم ستتلوه حركات وثورات في الولايات الأوروبية من العالم العثماني، وأن العطف الأوروبي على هذه الحركات سيكون عاملا هاما في نجاحها، ورأى أن فرنسا قد أخذت في توسيع دائرة الفتح في الجزائر، فانتقل العمل من تأديب الداي حسين إلى فتح منظم لتلك النيابة العثمانية الهامة، ومن يدري أين يقف الفتح؟ كما رأى أن الروسيا توطد نفوذها وتملي إرادتها على الباب العالي، ولا يتردد القيصر نقولا لحظة في اتخاذ ما يراه كفيلا بإعلاء كلمته في القسطنطينية، الحرب إن كان لا بد منها، الوعد بوضع السلطان في كنفه وفي ظله الظليل إن كان هذا أجدى، وفي حالتي الحرب والسلم - على حد سواء - يتقدم النفوذ الروسي فيما بين البحرين الأسود والقزويني في اتجاه إيران والخليج الفارسي بالإضافة إلى توغله في أواسط آسيا نحو أفغانستان والهند، أما والأمور كذلك ماذا يصنع محمد علي؟
يشير عليه الإنجليز ويشير عليه الفرنسيون ألا يكون هو الفاتح للأزمات الشرقية، ويشير عليه الأول - بصفة خاصة - أن يقبع في داره، وأن يوجه مواهبه التي لا شك فيها في تنمية الموارد ورفع لواء العدل والإنسانية وحسن الإدارة وإسعاد شعبه، أن يتجنب الحركة، وأن يخلد للسكون، وحسن جدا أن تلزم إنجلترة خطة المحافظة، وحسن جدا أن تفعل ذلك عندما يكون بين يديك كل ما تريد، فهل ينطبق ذلك الوصف على محمد علي؟ لم يكن لديه كل ما يلزمه، بل لم يكن لديه ما يلزمه لسلامة بلاده وإنقاذ عمله، كانت تملأه الحسرة ويتقطع فؤاده أسى كلما تقدمت به السن وكلما خطر أمام عينيه شبح الزوال! زوال ماذا؟ زوال دور الصناعة والأساطيل والمصانع والمدارس والمعاهد والترع والجسور والقناطر، وزوال كل ما أنشأه هو وشعبه بعرق الجبين بل بعرق الدم، أيستطيع أن يسمح بانتقال هذا التراث لباشا من بشاوات السلطنة يبدده ويخربه كعادة الباشوات، لا بد من الضمانات ضد الزوال، لا بد من الحركة.
هذه الضمانات حسية ومعنوية؛ توطيد النفوذ المعنوي في العالم العثماني، ولدى الحكومات الأوروبية بالاستمرار في سياسته العمرانية، ونشر سلطانه المباشر في أقطار أخرى من العالم العثماني يقيه ملكها شر حكومة السلطنة وخبث طويتها نحوه ونحو عمله، ويعطيه ملكها الموقع الآمن والموارد التي يستطيع بها أن يكون على حال من القوة والاستعداد تمنع عنه أطماع الطامعين، ويخرج بذلك أقواما من عبث الحكام وفسادهم، ومن ركود الفقر والفوضى إلى حركة اليسر والنظام، لا بد له من أن يتخذ هذه الضمانات سريعا إن أراد أيضا أن يسبق اتجاه الدول الأوروبية نحو تلك الأقطار.
ما هي تلك الأقطار؟ الولايات الشامية الأربع: حلب وطرابلس ودمشق وصيدا وبعض المناطق الساحلية في الجزيرة العربية على البحر الأحمر والخليج الفارسي، هذا أكيد، والعراق والمناطق فيما بين الشام والأناضول هذا مما يترك للظروف، والأقطار - كما ترى - هي في الجملة مما يكون - على حد تعبير محمد علي - عربستان أو ما نسميه دار العروبة، فهل تصور لها كيانا سياسيا، أو ما نسميه وحدة عربية؟ سؤال كبير، إن أجبنا عنه سلبا عدونا الصواب ونسبنا إليه قلة إدراك لعناصر وروابط بارزة؛ لغة واحدة وثقافة واحدة، ودين واحد ومصالح مشتركة، وبالنسبة لحياة العالم الاقتصادية كتلة واحدة. وإن أجبنا عنه إيجابا عدونا الصواب أيضا بعض الشيء ونسبنا لعصر سابق ما هو - على وجه التحقيق - من خلق العصور اللواحق، وأخفينا إخفاء لا يبرره الواقع عناصر وعوامل تدفع نحو التفرقة؛ اختلافات جغرافية واجتماعية، اختلافات في طرق التفكير وفي مستوى المعيشة، اختلافات مذهبية طائفية، صعوبات المواصلات، ضعف وسائل الاتصال العقلي والحسي، وهكذا.
وقد لا نعدو الصواب إن قلنا: إن محمد علي أدرك الفكرة في عمومها، وأنها مما يمكن التشييد عليه في حالة الانفصال عن السلطنة، وهذا ما لم يقرره بعد، بل ترك تقريره تبعا لظروف الحال، إن حتمت تلك الظروف تقسيم العالم العثماني أمكنه نقض ما حدث في القرن السادس عشر وبناء العالم العربي من جديد، ولكنه لم يكن قد يئس بعد من مستقبل الوحدة العثمانية وإن كان قد يئس من مستقبل السلطنة، فلنقتصر إذن على الباعث الأول الدافع لاتخاذ العمل الإيجابي، باعث الاستيلاء على الضمانات.
دخل الجيش المصري بقيادة إبراهيم أراضي ولاية صيدا - وقاعدتها عكا - ومهمته الصغرى وضع حد لخطة «وخز الإبر» على طريقة الباشوات التي سار عليها عبد الله الجزار صاحب تلك الولاية، ومهمته الكبرى الاستيلاء على الباشويات الأربع، كان ذلك في سنة 1831 وتقدم الجيش والأسطول نحو عكا وحاصراها حصارا طويلا، وقاوم عبد الله ببسالة وقوة قلب، وفي مايو اقتحم إبراهيم الأسوار ودخل المدينة واستولى على دمشق في يونيه بدون مقاومة، ومنها تقدم شمالا وهاجم الجيش العثماني عند حمص - مفاجأة - وهزمه بعد واقعة قصيرة، واحتل حلب بعد ذلك بقليل، ثم هزم جيشا عثمانيا ثانيا في بيلان. أمام محمد علي إحدى خطتين؛ إما التقدم لتهديد السلطان في قاعدة ملكه وحمله على التسليم بما يريد، أو التريث وانتظار تسوية تقرها الدول الأوروبية.
نصح إبراهيم بالخطة الأولى وبالانفصال، واقترح أن تضرب السكة باسم أبيه، وأن يدعى له على المنابر، ورد عليه أبوه أنه بلغ ما بلغه بالاعتدال وأنه ليس بحاجة لألقاب التشريف، وذكر ابنه بأن هناك دولا أقوى من السلطنة وأنه لا بد من نيل موافقتها إذا أراد تسوية مستقرة، وأن تقدم إبراهيم نحو القسطنطينية لا بد وأن يلزم الدول بالتدخل، وقد سبق ذلك في المسألة اليونانية، أما الخطة الثانية، فضررها أنها تتيح للسلطنة فرصة الإفاقة من غشيتها فتجمع جيوشها لحماية العاصمة، عرف ذلك محمد علي ولكنه يعرف أيضا أنه يستطيع أن يتغلب على تلك الجيوش كما تغلب على أخواتها من قبل، وهذا ما حدث.
Página desconocida