وتحدث إليه قنصلهم في مصر بتعليمات من السفير في القسطنطينة معرضا بأن الأولى به أن يقنع بباشوية سورية لإبراهيم بدلا من تبديد جنوده وأمواله في مشروع تكرهه أوروبا، ورد عليه محمد علي رافعا الحديث من مستوى الباشويات إلى مستوى سياسة الممالك، ومن النطاق الضيق: نطاق الجلاء من المورة إلى النطاق الفسيح العالمي الذي يسع مصالح إنجلترة ومصالحه، وختم كلامه بالإشارة إلى أنه سوف يؤجل رحيل النجدات البرية والبحرية التي طلبها إبراهيم لتصفية الثورة نهائيا حتى يعرف مبلغ استعداد الحكومة الإنجليزية للعمل معه، ثم حضر بعد ذلك رسول نمسوي لسعي آخر، لدعوة محمد علي للإسراع في سحق، الثورة وحذره من أن الإنجليز لا غرض لهم إلا استغلاله في هذه المسألة اليونانية بالذات وكفى، ومضت الأيام، وعمل محمد علي في فترة الانتظار على أن يرغم حكومة السلطنة على عزل خسرو وجعل مقاليد القيادة بحذافيرها في يد ابنه، وتم له ذلك.
وأخيرا لما طال الانتظار أمر بالرحيل، فسافر الأسطول في 6 أغسطس، وبعد يومين من سفره وصل ضابط إنجليزي موفدا من قبل حكومته، وأبلغ هذا الضابط محمد علي - متجنبا التهديد - ضرورة الجلاء عن بلاد اليونان؛ لأن الدول قد أجمعت كلمتها على فض الموضوع، وأنها سوف ترسل للبحار اليونانية قوات كفيلة بتحقيق ذلك، هذا رد إنجلترة على نطاق التعاون الواسع وسع العالم، وهذا درس آخر يتلقاه محمد علي من حوادث تلك الثورة اليونانية الكاشفة عن الخفايا المنيرة لمعالم الطريق، وأخذ يعمل على تجنب كارثة الاصطدام بالقوات الأوروبية في اليونان وبحارها مستخدما كل ما يستطيع استخدامه لدى رجال السلطنة من حجج الإقناع والتحذير والإنذار، ولكن بدون جدوى: وهذا درس ثان من دروس حوادث تلك الثورة في إمكان توجيه سياسة واحدة للعالم العثماني من القاهرة والقسطنطينية، وحدث ما كان يخشاه: صمم قواد الحلفاء على وقف القتال وأرغموا الأساطيل المصرية والتركية على البقاء داخل خليج نافارينو ثم انتهزوا فرصة اصطدام بين رجال البحر لتحطيم تلك الأساطيل التي حاربت إلى أن انتهت، لم ترفع سفينة منها علما أبيض، ولم يغادرها رجل واحد من رجالها، وأعلنت الروسيا الحرب على الدولة العثمانية ودخلت جيوشها الولايات العثمانية؛ وأنزلت فرنسا تجريدة فرنسية على ساحل المورة، فلم يبق لمحمد علي من سبب للبقاء فيها فأمر إبراهيم بالانسحاب والعودة.
ومضت الثورة اليونانية بعبرها، وبان لمحمد علي أن حكومة السلطنة تفهم العمل معه على وجه استغلاله إلى أقصى حدود الاستغلال، وليتها تحسن ذلك، فهو لا يكره إطاعة حكومة عليا رشيدة تعمل على بلوغ أهداف العزة والكرامة والرفاهية، ولكن ماذا أثبت السلطان ورجاله في أزمة نافارينو وفيما قبلها وبعدها؟ أثبت السلطان - كما قال محمد علي - أنه يتشبث تشبث الخنزير، وأثبت رجاله أنهم أبلد من الحمير، وبان له أيضا أن أوروبا على اختلاف الأهواء قد تتحد ، وبان له ثالثا أنه لكي يساوم ينبغي أن يكون بيديه ما يساوم به وعليه، فلم يكفه الاستعداد للجلاء عن المورة للمساومة، وبان له أخيرا أن إنجلترة لا تتحمس كثيرا في الأحوال السياسية العادية لإخراج المباحثات السياسية من نطاق المسائل المحددة إلى نطاق المبادئ السياسية العامة، وكان شعارها: ليكف كل يوم شره. •••
وأما المفاوضات بين فرنسا ومحمد علي في أمر إخضاع داي الجزائر فحديثها طريف، تختلط فيه الأوهام بالحقائق اختلاطا عجيبا، ولم يكن فيه من رجل فصل بين الحقائق والأحلام سوى محمد علي.
وأصل الموضوع فساد العلاقة بين حسين داي الجزائر والقنصل الفرنسي، واحتد الداي يوما ما وضرب وجه القنصل بمذبته، فانسحب القنصل ورفض الداي إعطاء الترضية المطلوبة وحاصرت القوات البحرية الفرنسية بلاده، وهاج الرأي العام في فرنسا مطالبا باتخاذ ما ينبغي اتخاذه لغسل الإهانة ... إلى آخره، وحكومة فرنسا إذ ذاك حكومة شارل العاشر، بينها وبين الأمة حساب آخر على مسائل أخرى لا تتعلق بحسين ولا بمذبته، بل تتعلق بأصول السلطان: أهو بتفويض من الله لا شأن لأحد به - كما يزعم شارل - أم بإرادة الأمة كما تزعم الأمة، فالأعصاب متوترة، والقلوب متنافرة، ولا بأس في صرف الخواطر عن المسائل الدستورية إلى طلب المجد، لا نقصد طلب المجد الرخيص عن طريق تأديب حسين، بل طلب مجد براق لامع عن طريق محو ما فرض الحلفاء المتألبون ضد إمبراطورية نابليون على فرنسا في سنتي 1814 و1815 وأن الحكومة التي تستطيع نيل ذلك تزيل عن تاج شارل العاشر وصمة ما فتئ خصوم بيته منذ 1815 يكررونها، وصمة اقتران عودة البيت المالك للعرش بهزيمة فرنسا، ومما يزيد الأمر جاذبية أنه لن يكلف الأمة تضحية ما؛ فهو يقوم على العقل وحده ولا دخل للقوة فيه إلا من بعيد.
افترض بولينياك وزير خارجية الملك شارل العاشر أن الروسيا والنمسا سوف تقتسمان فيما بينهما الولايات العثمانية في أوروبا - وهذه دائما نقطة البدء في مثل هذه المشروعات - ولا بد من أن تعوض فرنسا عن ذلك لحفظ التوازن؛ وليكن التعويض ضم الأراضي البلجيكية حتى حدي الماز والرين - وكانت تلك الأراضي إذ ذاك في مملكة الأراضي المنخفضة وعلى عرشها الملك وليم الهولندي - هنا تحتج بروسيا: فلتعط الأراضي السكسونية وما بقى من مملكة الأراضي المنخفضة، وهنا لا بد من تدبير شيء ما للملك وليم، فليعط عرش القسطنطينية وشيئا من الأراضي التركية الأوروبية، بعد ذلك لا بد من الفصل في أمر مستعمرات الهولنديين في الشرق، هذه تعرض على الإنجليز، وهم أحرار في القبول أو الرفض. أما طريقة التنفيذ فأمرها هين؛ تتفق الروسيا وفرنسا أولا على المشروع ثم تجردان جيوشهما، فلا يسع النمسويين والبروسيين إلا الإذعان والاقتناع، أما إنجلترة فلتفعل ما تشاء، إن أرادت أن تنتفع فلها المستعمرات الهولندية وإن أرادت غير ذلك فهي حرة.
إن الاشتغال بهذه السياسة العالية علوا كبيرا يقتضي من بولينياك ألا ينصرف إلى تأديب الداي حسين وأن يبقي الجيوش الفرنسية والأساطيل الفرنسية متجمعة مستعدة لما هو أهم، ولكن لا بد من تأديب الداي، فليؤدبه محمد علي «على حساب» فرنسا.
والظاهر أن هذا كان من بنات أفكار قنصل فرنسا في مصر، الإيطالي الأصل دروفتي، وملك المشروع عليه قلبه ولسانه، ولكننا لا ندري أشغله عن الإتجار في الآثار المصرية فقد كان من أكبر تجارها، وعرض الأمر على حكومته وعلى محمد علي، بل وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ أبلغ حكومته موافقة محمد علي على المشروع بشرط. والواقع أن محمد علي لم يوافق ولم يرفض بل أصغى إلى كل ما قيل ولم يقفل الباب؛ شأن الرجل العاقل، ولا بد أن دهشته كانت كبيرة لما عرف أن الملك شارل العاشر قد أقر فكرة استخدام قوات محمد علي لإخضاع الداي؛ بناء على ما عرضه عليه وزيره بولينياك بدون علم زملائه في الحكومة، وأنه أمر سفيره في القسطنطينية بنيل موافقة الباب العالي على اشتراك محمد علي - كأن الباب العالي يمكن استئذانه في مثل هذا الأمر - كما أمر قنصله في مصر، القنصل ميمو - وقد حل محل دروفتي - أن يبلغ محمد علي استعداد فرنسا لإعطائه 10 مليونات من الفرنكات ومعاونة الأسطول الفرنسي إذا قام بالأمر بدون إبطاء.
اندهش محمد علي وحق له أن يندهش لهذا الخلط كله؛ اندهش لفتح الموضوع في القسطنطينية، واندهش من منع فرنسا في عرضها الشيء الوحيد في نظره الذي أعطى الموضوع أية قيمة «أربع سفن حربية كبيرة يضمها لأسطوله» ودارت المفاوضات من جديد وانتهت إلى عرض مبلغ 20 مليون فرنك على محمد علي ومبلغ 8 ملايين لبناء السفن الأربع في فرنسا له.
وكانت الحكومة الإنجليزية تعلم بكل هذا في وقته، علمته من تقارير قنصلها بالقاهرة، فإن دروفتي لم يطق إلا أن يتحدث فيه مع زميله الإنجليزي، وعلمته من صور للوثائق الأصلية الفرنسية أهدتها إياها الحكومة النمسوية، وعلمته أخيرا من الباب العالي نفسه وقد أسرع لإفساد المشروع بإبلاغه للإنجليز، فاعترضت عليه لدى الحكومة الفرنسية ولدى محمد علي، وكتب وزير الخارجية للسفير الإنجليزي بالقسطنطينية: «سواء وافقت الحكومة العثمانية المشروع أو لم توافق فإن الحكومة الإنجليزية لا يسعها إلا أن تهتم بتغيير خطير يحدث في الولايات الأفريقية تحت النفوذ الفرنسي وبواسطة وسائل فرنسية ومن أجل مصالح فرنسية، فيما يصح لنا أن نفترض.»
Página desconocida