Memorias de una niña llamada Suad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Géneros
وكفت جدتها عن الكلام والغناء بعد بضعة أيام، وأصبحت تجلس صامتة تنظر إلى السماء بعينين شاردتين، وتمصمص شفتيها الجافتين، ثم لم تعد تخرج من حجرتها إلى الفناء، ولم تعد تنقي القمح، كانت تلمحها من الباب راقدة فوق الحصيرة، عيناها مفتوحتان وفمها مفتوحا وشفتاها تتحركان وكأنها تكلم أحدا، وقال لها أبوها أن جدتها مريضة وتريد أن تراها، لكن قشعريرة غريبة سرت فوق جسدها، وأصبحت تخاف من الاقتراب من حجرتها، ويخيل إليها أنها ليست نائمة، وإنما هي ماتت، وسوف يظهر عفريتها بالليل.
وكان الليل في كفر الباجور مظلما مخيفا، وليس في الدار «كلوب» نور كالذي في دوار جدها، وإنما لمبة صغيرة لها لهب طويل تملأ الجدران السوداء بظلال الأشباح والعفاريت، وعلى الجدران تزحف حشرات سوداء كالخنافس، والضفادع تنقنق، والناموس يزن، وطنين الصراصير كالصفارات الحادة، والخفافيش تدخل من النوافذ وترتطم بالجدار، وتقول لها عمتها خديجة أن تخفي وجهها بيديها؛ لأن الخفاش أعمى ويلتصق أحيانا بوجه الإنسان.
وكانت تسمع أمها تصرخ إذا ما رأت صرصارا يجري، وتضحك عمتها وتخفي فمها بطرحتها وهي تضحك بغير صوت، وتقول إن أولاد البندر يخافون من الصراصير ، والصراصير لا تعض ولا تلدغ مثل الثعابين، ولم تكن سعاد رأت ثعبانا، لكن زكي ابن عمتها خديجة قال لها إن الثعبان طويل وذيله رفيع كالكرباج، ويزحف على بطنه فاتحا فمه وأنفاسه لها صوت بالليل كالصفارة الخافتة.
تلك الليلة انتفضت سعاد من نومها فجأة، وقد سمعت الصفارة الخافتة، وحملقت في الظلام مذعورة، ورأت صرصارا كبيرا يزحف إلى جوارها، وأصبحت تخاف من الصراصير وتصرخ كما تصرخ أمها كلما رأت صرصارا، وتضحك عمتها خديجة حين تسمعها تصرخ وتخفي فمها بطرف طرحتها، تضحك بدون صوت حتى تدمع عيناها من شدة الضحك، ويخيل إليها أنها تبكي، وتمسح عينيها بطرحتها، وهي تقول: اللهم اجعله خير يا رب، وتسألها: ماذا تعني؟ فتقول لها إن الضحك يجلب الشر دائما، وهي تدعو الله أن يجعله خيرا.
وأدركت سعاد من بعد أن كل أقاربها الفلاحين لا يضحكون، وإذا ضحكوا فهم يضحكون بغير صوت ويتوجسون شرا من الله بعد الضحك، وكأنما الضحك نوع من الإثم، يستحقون عليه العقاب تكفيرا عن الذنب. •••
في القطار العائد إلى دسوق لم تكن سعاد مبتهجة كعادتها، فهي تحب كفر الباجور رغم العفاريت والبراغيث، وهي تحب أقارب أبيها الفلاحين رغم جلاليبهم المتسخة بالطين وأيديهم السمراء المشققة، وهي تحب زكي ابن عمتها وتحب ركوب الحمارة والذهاب إلى الحقل، وأكل الذرة المشوي على نار الحطب، والفطير الساخن لحظة خروجه من الفرن، وهي تكره دسوق؛ لأن العودة إلى دسوق تعني العودة إلى المدرسة والمذاكرة والانغلاق داخل حجرتها، أو داخل الدرج الخشبي، رأسها منكفئ فوق الكتاب، وجسدها محنط فوق المقعد، منضغط بين المسند عند ظهرها من الخلف، والمكتب عند بطنها من الأمام.
وتدخل أمها إليها بصينية الطعام وتقول لها: ارفعي ظهرك وأنت جالسة وإلا طلع لك سنام، وتتحسس ظهرها بيدها متصورة أن سناما برز في ظهرها كسنام الجمل، وتقول لها إنها تريد أن تخرج وتلعب في الحقل مع صبري، وتسمح لها بالخروج واللعب بشرط أن تعود قبل أن يعود أبوها.
وتقفز سعاد من فوق مكتبها وتنطلق إلى الحقل كالصاروخ، تجري وتلعب وتحرك ذراعيها وساقيها في الهواء، تود لو تطير كما تطير العصافير وتهرب من بيتها وأبيها والمدرسة، لكن سرعان ما تلمح أباها قادما من بعيد، تتعرف عليه من بعيد بقامته الطويلة ومشيته البطيئة، وحركة ذراعيه إلى الأمام وإلى الخلف والمنشة تهتز في يده اليمنى، ويده اليسرى ثابتة داخل جيبه.
في قفزة واحدة تصبح سعاد داخل البيت، وفي قفزة أخرى تصبح داخل حجرتها، جالسة فوق المقعد إلى مكتبها ورأسها منكفئ فوق الكتاب بغير حراك.
يبتسم أبوها حين يراها، ويربت على كتفها ويقول لها إن الله سينجحها؛ لأنها تواظب على المذاكرة وتواظب على الصلاة، وتطيع أباها وأمها، ولا تضيع وقتها في اللعب.
Página desconocida