Memorias de una niña llamada Suad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Géneros
تخنقها الأنفاس برائحة التراب والعرق والفطير، لكن فرح جدتها وعماتها يهز قلبها، وهي تقف بين أولاد عماتها الحفاة بحذائها الجلدي اللامع وفستانها الحريري، وتشعر أنها ست سعاد، وأبوها بيه حقيقة، وتمشي إلى جوار أبيها ممسكة بيده وتحمد الله بينها وبين نفسها لأن الله جعلها ابنة أبيها، ولم يجعلها ابنة عبد الله الفلاح أبو زكي.
لكن هذا الزهو لم يدم طويلا، فقد ذهبت سعاد مع أمها وأبيها إلى دوار جدها، وهبط أبوها فجأة من حسن بيه إلى حسن أفندي، وهبطت هي من ست سعاد إلى سعاد أو البنت سعاد، وبيت جدها واسع به حجرات كثيرة، وأرضه ليست تراب فوقها حصيرة وإنما مفروشة بالسجاجيد، وحجرة النوم بها سراير ودواليب، ودورة المياه فيها صنبور وماء، وجدها جالس في الصالة الواسعة مرتديا بيجاما حريرية، وجدتها جالسة صامتة لا تقبلها ولا تكلمها، وخالتها لم تعانقها ولم تقبلها وعانقت أمها وقبلتها، وخالها صافحها بيده البيضاء السمينة وقال لها: أهلا يا سعاد، ثم جلس يتحدث مع أبيها وجدها.
وظلت «سعاد» جالسة في ركن الصالة، عيناها تتنقلان من جدها إلى خالها إلى أبيها، وكان أبوها يرتدي الجلباب الأبيض الذي ينام فيه، وبدأ بجلبابه إلى جوار جدها وخالها كفلاح فقير، ولا أحد هنا يفرح بقدومهم، ولا أحد يقول الدنيا نورت.
وسمعت جدها يتكلم عن الحرب والقنابل، وخالها يقول إنه يكره الإنجليز ويحب الألمان، وأبوها يقول إنه يكره الإنجليز ويكره الألمان، وقال خالها إن الألمان أفضل من الإنجليز، وأن الملك مع الألمان ويريدهم أن ينتصروا في الحرب، وقال أبوها أن الملك لا يعمل من أجل البلد وأن النحاس يعمل من أجل البلد، وجاءت خالتها وقالت إنها تحب الملك لأن شكله حلو، ولا تحب النحاس لأن شكل عينيه لا تعجبها، وإحدى عينيه لا تنظر إلى الأمام كالعين الأخرى، ويبدو لها في الصور وكأنه ينظر بعين واحدة.
ولم تكن سعاد تعرف بعد من هو «النحاس»، لكنها كانت تريد أن تذهب إلى بيت جدتها حيث عماتها وأولاد عماتها، وقالت لها أمها أن تبقى في بيت جدها لتنام على سرير مريح نظيف، وأنها في بيت جدتها ستنام على الحصيرة، والبراغيث تلدغها طول الليل، لكن سعاد قالت لأمها إنها لا تريد أن تبقى في بيت جدها، وتريد أن تذهب إلى بيت جدتها وتنام على الحصيرة وتذهب إلى الحقل مع زكي ابن عمتها، وتأكل الفطير الساخن الذي تخبزه جدتها في الفرن، وسمعتها خالتها فقالت لها: يا فلاحة، وانتابها شعور قديم بالخزي، وأحست أن كلمة فلاحة هي نوع من الإهانة أو السباب. •••
تربعت جدتها الحاجة آمنة على الأرض في فناء الدار، وأمامها حصيرة فرش عليها القمح، تلمع حباته الصفراء تحت الشمس، تمد جدتها يدها وتملأ كفها بالقمح، ثم تقربها من عينيها لتلتقط حبات الحصى السوداء، تلتقط الحصوة بالسبابة والإبهام وتلقي بها بعيدا على الأرض، حصوة وراء الحصوة.
عيناها وهي جالسة إلى جوارها تتابعان حركة أصابعها، كأصابع أبيها طويلة وسمراء، لكن جلدها مجعد وعروقها نافرة كالثعابين الرفيعة، جلبابها الأسود الواسع مغلق عن عنقها المعروقة بزرار أحمر، ولا يظهر من تحت الجلباب وهي متربعة إلا قدميها الكبيرتين المشققتين، وأصبع قدمها الكبير يشبه أصبع قدم أبيها، غليظ وطويل، والأصابع الأخرى قصيرة ومقوسة.
وكانت تفعل مثلها، تملأ كفها بالقمح ثم تلتقط الحصوة السوداء وتلقي بها بعيدا، وتسابق جدتها، فهي ترى الحصوة بأسرع مما تراها، وتلقي بأربع أو خمس حصوات في الوقت الذي تلقى هي فيه حصوة واحدة، لعبة لذيذة تستهويها، وحبات القمح تتراقص ذهبية تحت الشمس، والعصافير تطير وتصوصو، تتسابق لتلتقط بمنقارها حبة قمح، وصوت جدتها الخافت يصل إلى أذنيها تحكي وتحكي دون أن تتوقف: أبوكي وهو صغير كان مثلك، يحب أن يجلس معي ويساعدني وأنا أنقي القمح، كنت أقول له: قم يا ابني وذاكر دروسك لتنجح وتتفوق، فيقول لي: إنه ناجح ومتفوق وإنه الثاني على فصله، وأقول له: ولماذا لم تكن الأول؟ وهل الأول أحسن منك؟ ألم تلده امرأة مثل أمك؟ وفي الكفر كله لا توجد امرأة مثل أمك، تشتغل في الحقل والدار وتساوي عشرة رجال، جدك مات وهو شاب صغير وترك لي ولدا واحدا على ست بنات، ولم يترك لنا إلا هذه الدار وثلاثة فدادين بور، والكل قال لي يا آمنة خلي ابنك يطلع فلاح مثل أبيه، يمسك الفأس ويشيل عنك الشغل في الحقل، لكن أنا قلت ابني لا يمكن يكون فلاح، كفاية أبوه مات ناقص عمر من وقفته طول النهار تحت الشمس، قلت لنفسي: يا آمنة، طول ما أنت عايشة وفيك نفس لا يمكن ابنك يمسك الفأس، أرسليه إلى مصر يتعلم ويتوظف ويبقى أفندي محترم مثل إبراهيم أفندي ابن جارتك حسنية، وهي حسنية أحسن منك يا آمنة؟ حسنية امرأة وحيدة مثلك لا راجل ولا أرض ولا ضهر، وباعت كردانها وخلخالها وعلمت ابنها في مصر، ولبس البدلة والطربوش، وينزل الكفر في سيارة لها زمارة، والكل يشاور عليه ويقول إبراهيم أفندي ابن حسنية.
عيناها لا تزال ترقبان لمعان الحبوب الذهبية، ورفرفة أجنحة العصافير تحت الشمس، وحركة السبابة الطويلة المعروقة والإبهام الغليظ المجعد، يلتقطان الحصوة بعد الحصوة، وصوت جدتها الخافت مستمر متصل كأنفاسها وهي تنفخ القش من القمح الذي يملأ كفها، شفتاها مليئتان بالكراميش والتجاعيد، وأنفها طويل مرتفع كأنف أبيها، وعيناها الضيقتان بغير رموش تتطلعان إليها تملأ عينيها من وجهها الأبيض المستدير كوجه أمها، وعيناها الواسعتان السوداوان كعيني أبيها، ويدها الصغيرة تلعب بحبات القمح وتلقي بها إلى العصافير، وأذناها تسمعان صوت جدتها البطيء كأنفاسها، والكلمات أصبحت تعرفها وتحفظها عن ظهر قلب، فهي تكررها كل يوم بغير انقطاع وبغير تعب أو ملل، وما أن تبلغ نهايتها حتى تبدأ من جديد، كبكرة من الخيط تدور وتدور، فلا البكرة تنتهي ولا الخيط ينقطع، وحبات الحصى فوق حصيرة القمح لا تنتهي، وأصابع جدتها لا تكف عن الحركة كشفتيها وهي تنفخ القش والكلمات معا: كان أبوك هادي ومطيع، وكنت أقوله ذاكر يا ابني لأجل ربنا ينجحك ويتوب عليك من عيشة الفلاحين، ويبقى لك «حس» في الدنيا، وتفتح بيت وتتجوز واحدة من بنات البندر أبوها بيه، وأخواتك البنات يعيشوا على «حسك»، وإذا واحدة منهم غضبت من جوزها أو جوزها طلقها تلاقي بيتك مفتوح.
لم تكن ترى جدتها إلا وهي جالسة في فناء الدار تنقي القمح، وتحكي الحكاية لها، أو لنفسها إذا لم تكن جالسة إلى جوارها، تسمعها تكلم نفسها كما تكلمها، وأحيانا تغني لنفسها بصوت خافت وتهز رأسها وتقول: عطشان يا صبايا دلوني على السبيل، أو تكور يدها وتلوح بقبضتها في الهواء وتغني: يا عزيز يا عزيز كبة تأخذ الإنجليز، وتضحك سعاد وتقول لها: أرأيت الإنجليز يا ستي الحاجة؟ وتقول لها: أنا لم أرهم يا ابنتي، لكن أبوكي رآهم وضربهم في ثورة 19 بالحجارة والطوب، وضربوا عليه الرصاص، ضربة في قلوبهم، وهرب أبوكي منهم النبي حارسه وجاء إلى الكفر على عربة كارو، ولم يذهب إلى مصر إلا بعدما أفرجوا عن سعد زغلول، وندر أبوكي ربنا أن أول ابن له يسميه سعد.
Página desconocida