في ذلك الوقت، فلم يكن ضجيجهم ليزعج سكون الوجود، ولم أبتعد عن مقامي كثيرا حتى إذا متكلم يخطب بعض عجائز أمامه لا يجاوزون الخمس أو الست، وهو محتد كأنما يكلم جمعا كبيرا، فوقفت أزيد عدد السامعين واحدا وأمتع الأذن بصراخ الخطيب فإذا هو يكرر القصة بعينها التي يخطبون لها في هيد بارك وفي أماكن شتى ... مسائل الدين، قال: ... ولأدلكم ببرهان بسيط على قوة المسيح وسلطانه، أضرب لكم عن ذلك مثلا أعرفه أنا شخصيا، وإنكم بعد ذلك لتحكمون من غير تردد كم تصيب النفس التي تخدمه من الهدوء والتي لا تخدمه من الأسى والألم.
كانت بنت تقرأ في الكتاب المقدس - في الإنجيل - ولما أمسى الوقت وأرادت أن تذهب إلى سريرها وضعته على حرف مكتبها، وقامت فذهبت إلى النور وأطفأته وراحت لتنام، غير أنها في طريقها لمست الكتاب المقدس بطرف فستانها فسقط إلى الأرض ولم تأخذ هي بالها، وتمطت في مضجعها، ولكن كيف يسمح المسيح لمثلها أن تنام! ليست كلمة المسيح للأرض، فلا بد أن ترفع على الأرض؛ لذلك بقيت البنت في قلقها، ولا يقفل عينها النوم أبدا، وكلما طال بها الوقت ازدادت تألما وقلقا.
إن هاته الكسلانة التي لا تحفظ كلمة المسيح لا تستحق النوم، وأخيرا لما تولاها الضجر قامت وفتحت النور من جديد فرأت الكتاب المقدس على الأرض، فبادرت لرفعه وبعد ذلك أقفلت النور وراحت إلى سريرها، فلم تك إلا لحظة حتى كانت في نوم عميق.
ومن بعد ذلك تركته وقد اكتفيت بحكايته.
2 أغسطس
أردت أن أذهب من برايتن إلى ورذنج لأسباب شتى، منها مجرد الرياضة والسير على شاطئ المانش كل هذه المسافة الطويلة، ثم أن آخذ صورة الپير (worthing)
فبدل أن آخذ الأتوبيس إلى هناك استأجرت دراجة من برايتن حسبتها تصل بي وتردني سريعا.
كنا إذ ذاك نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، وشمس أغسطس ممتدة على الوجود، وقد انطرح نورها يملأ الجو بعظيم لجته ويغطي صحيفة البحر فتتقلب تحته الأمواج وتلعب به وتتفاذفه، والناس لا يزالون في بيوتهم منتظرين ساعات النسيم فالسكة خالية أو تكاد؛ لذلك لم أجد عقبة في سبيل أن أسرع في السير، وعلى هذا تركت للعجلة أن تذهب بأسرع ما تطيقه، ولكن سرعان ما انحرف بنا الطريق عن شاطئ البحر وأحاطت بي بيوت عن الجانبين بينهما طريق واسع مفروش بالأسفلت قد امتد على نصفه الظل، وبعد بضع دقائق ظهر البحر من جديد تفصل بيني وبينه مستنقعات واسعة أولا ثم تضيق شيئا فشيئا، وعن يسار الذاهب يقوم حانوت صغير فقير تباع فيه البيرة والمشروبات الأخرى القليلة الثمن، وصحيفة المانش مجلوة بشعاع الشمس تبين هادئة مصقولة لا يحركها نسيم ولا تهيجها الأمواج.
رأيتني بعد ذلك دخلت بين جدران قرية لم أعرف اسمها، وأردت تعرف الطريق فملت إلى غلام يبلغ العاشرة أو الثانية عشرة من عمره أسأله، فأشار بيده إلى أذنه إشارة لم أفهمها، وأخيرا ناداني: «إنني أصم فلا أستطيع أن أسمعك»، ولم أجد بعده بين جدران هذه القرية إنسا.
بدأت أحس كأن همه دراجتى تفتر، فشجعت نفسي ودفعت جهد طاقتي، ونفذت إلى طريق معتدل بقيت فيه أمدا غير قصير، ووصلت منه إلى شاطئ البحر من جديد، وبقيت الدراجة تتلوى مع الطريق حتى بلغت ورذنج، وهي لا تزال هي الأخرى في صمت الظهيرة، والقليلون الواقفون على الشاطئ مبعثرون هنا وهناك وفي كل مكان، ولما كنت على مقربة من الپير أخذت صورته ورجعت أمشي الهوينا ودراجتي بيدي أتفرج على ما حولي وأرفع نظري فأرى الأبنية القائمة ينظر أصحابها من نوافذها، فإذا ما تعدت عينهم ما أمامهم من الأرض والأشجار والناس إلى البحر راحت معه حتى ينطبق الماء والسماء، ويرسم الأفق خطه يحد به القليل الذي نرى والعظيم الهائل الذي يغيب عنا علمه.
Página desconocida