كان في عزم المطالبات بحق الانتخاب أن يقمن بمظاهرة عامة لهن من شهرين مضيا، ولكن وفاة الملك إدوارد السابع وحداد الأمة عليه حال دون ذلك، فأجلن مظاهرتهن إلى الوقت الذي يكون الحداد الكبير قد انتهى فيه، ولما تم ذلك رجعن إلى فكرتهن الأولى ، وأعلنت الجرائد عزمهن على القيام بمظاهرة كبرى، وقمن بها هذه الأيام الأخيرة، وتكلمت كل الجرائد على مختلف لهجاتها وآرائها عنها، وما بالك بمظاهرة جمعت أكثر من عشرة آلاف امرأة كلهن عن رأي واحد في مسألة تمسهن جميعا عن قرب؛ لذلك لم يك موضع لصحيفة أن تتوانى في الكتابة طويلا عن الحفلة التي جمعت إلى مظهر القوة والعظمة معاني الجمال والنظام.
شهدت هذه المظاهرة وهي من أكبر وأبهى المظاهرات التي شهدت في حياتي، فذهبت وجماعة من أصدقائي إلى (هيد بارك كرز) وانتظرنا عنده في الصفوف الأولى حتى مرت المظاهرة كلها، مرت يحوطها صمت مهيب وهي تحمل شارات كثيرة تدل بعضها على أسماء الطوائف التي تحملها، وعلى أخرى كلمات وأمثال، وأنسب هذه ما كتب على إحداها: «إنما ينصر الحظ الشجاع ... نعم إنما ينصر الحظ الشجاع، والموت أنفى ما يكون للموت، والناس من خوف الذل في الذل، واليوم الذي يريد الإنسان فيه أن يعيش شريفا أو أن يموت هو اليوم الذي يحيى فيه شريفا عظيما».
وأسعد هاته المظاهرة طقس جميل وشمس لألاءة وريح طيبة تنعش النفس، واستقبلها الناس بالإجلال والإعظام الذي تستحق.
وفي أول الصفوف تقدمت موسيقى كانت غاية في الرقة قام بها جماعة من الفتيات لبسن لبوس الجنود الإيقوسية، فظهرت من تحت أرديتهن القصيرة سيقانهن الممتلئة، وهن جميعا يصدحن بنغم شجي بديع، وشارك في المظاهرة كثير من الرجال ذوي الدرجات الرفيعة.
لم أقيمت هذه المظاهرة؟ ولم يريد هؤلاء النسوة مشاركة الرجال في الحكم؟ ولم يعارضهم الرجال بقوة قاسية فيما يطلبن؟
ليس من السهل البت في أمر مطالبهن ولا فيما يقيمه الرجال في وجوهن من المقاومات، ولكني أراني أميل للاعتقاد بأن دخولهن في الانتخاب يجعله أقرب للنظام والعدل والحرية وأبعد عن تأثير النساء.
ربما كان هذا التعبير الأخير غريبا، ولكنه صحيح، إن النساء أكثر أثرا اليوم في الانتخاب مما لو كن منتخبات، ومن أجل امرأة غير كاتب كبير من كتاب فرنسا رأيه فأصبح ملكيا بعد أن كان جمهوريا، فإذا ظهرت النساء في عالم السياسة لم يكن هناك موضع لأن ينخدع أحد في مظاهرهن أو يدخل في تقدير جماعة الرجال لهن ومبلغ عقلهن ورأيهن في السياسة.
كما أن العدالة لا تأبى عليهن المشاركة في الانتخاب، وما يقال تهكما بهن مما يلازم حالهن الطبيعية من الموانع لا يزيد قوة عما قد يقال مما يلازم أحد الرجال من الأمراض، ويظهر مبلغ ذلك من الصحة حين ترى أن المنتخبات اللائي يجلسن بين النواب سيكن دائما من اللائي ارتفعن عن صف الولادات، مع هذا فإني أفهم كثيرا معارضة الرجال لهن في مطالبهن، هذه المعارضة تجيء من حب الأثرة الطبيعي في نفس كل منا، والذي يسير على مقتضى ما توصي به طبيعته غير ملوم.
ولو كان لى مطمع في الانتخابات الإنكليزية، وكنت أرى مما يعرقلني أن يدخل النساء في الانتخاب لكنت أول متهكم بمطالبهن منا وضدها.
هيد بارك ... هيد بارك! كم كان لهذا الاسهم من معنى غريب في نفسي، وكم بهت حين رأيت بعيني هيد بارك: هيد بارك هو موضع المتناقضات ومكان العجائب أمام المصري، هو بؤرة الفساد ومستقر الفحش وموضع الفسق ومستنزل غضب الله، فيه تهتك الحرمات ويفتك بالأعراض وتقع النساء في حبالات الشياطين، فيه الشر كله ... هو كذلك مرسح الخطباء تظهر فيه بلاغات المتكلمين ويرتقي منابره عظماء الرجال كل آن وحين، وينشر على الملأ المستمتعين فيه كل وزير خطته، وكل طالب انتخاب ما ينوي عمله، ذلك هو هيد بارك أمام عين المصري أو على الأقل من تلقى علمه من جرائدنا وأصحابنا.
Página desconocida