في منتصف شهر سبتمبر الماضي نشرت إعلانا في الجرنال أسأل فيه عن عائلة أسكن معها، وجاءتني الردود بعد ذلك تترى لا عدد لها ... ومر بالبيت سيدات يردن مخاطبتي في الأمر وجها لوجه، وكل تسعى لتجذبني إليها بكل طريق ممكن، فوحيدة عجوز تصف مقدار ما سأجده من الراحة والحرية معها، وأم بنين تمدح لي في لطف أبنائها، وصاحبة بيت تخبرني عما يلاقيه السكان عندها من الهناء والسعادة، وخطاب تخبرني فيه صاحبته بأن عندها أبناء وبنت في العشرين وصفتها بأنها
une charmante jeune fille
مررت بكثيرين ممن كتبوا إلي ومررت ببيت هاته السيدة، فلما تحادثنا أخبرتني أنها يقيم معها ابناها وبنتها وزوجها، ولكن هذا الأخير كثير التغيب وعلى ذلك فهو لا يضايق في شيء، ولما كان البيت الذي يسكنون جديدا نظيفا جعلني ذلك أفكر في أن أكون معهم.
عرضت مسألة مؤتمر باريس المصري في هذه الأيام والصعوبات التي أقامتها الحكومة الفرنساوية في وجهه، والتصميم على عقده في بروكسل، وبعد تردد طويل قبلت أن أذهب إليه، على هذا لم أقطع في أمر السكنى بشيء.
التردد مرض من أمراضي، لا أجزم بشيء ولا أبت في مسألة إلا بعد إحجام عنها طويل، ولو كان ذلك من باب التحرز أو إعمال الفكر لهنأت نفسي ببعد النظر ولكني أقبل الأمر أخيرا أو أرفض بغير سبب جدي، وكثيرا ما تؤثر علي مطالبة الغير وضراعته، ذلك نتيجة ضعف طبيعي عندي يظهر أحيانا في مسائل تستحق الشدة، ولولا أن الصدف إلى اليوم لم تقدم أمامي مسألة ذات بال ونتائج كبيرة لكنت قاسيت من وراء هذا الضعف كثيرا، ومهما كنت قد جاهدت للقيام في وجهه ونجحت في أحيان متعددة فلم أصل حتى اليوم إلى الغاية التي ترضيني، كما أن هذا الجهاد ألجأني في موضع لأن أظهر شدة لا لزوم لها.
ذهبت إلى بروكسل وحضرت جلسات المؤتمر مع المصريين الكثيرين والأجانب القليليين الذين حضروها.
وكتبت عنه بعد ذلك بكل ما استطعت أن أجيء به في جانبه وملاحظاتي الشخصية عن بعض مسائل اجتماعية إلا أن ما لاحظته ولم أكتبه كان كثيرا، ولا شيء يؤسف عليه أكثر من الروح التي عملت بها خطب المؤتمر، روح خفيفة لا تعرف الثبات تمر على الأشياء والحوادث فتظهر منها جهتها الشعرية غير ذاهبة بعد ذلك إلى أعماق ما تتكلم عنه، ولا مقتضية بأن تؤيد قولها بحجة ثابتة، كان من أكثر الذين نالوا الاستحسان العام فؤاد أفندي حسيب، ولا أنكر عليه أن خطبته كانت مثال بلاغة في اللغة يقتدى به، ولا أنكر عليه تحمسه حين ذكر يوم 14 سبتمبر، ولكن الخطبة كلها خالية من دليل علمي أو تاريخي يؤيد الخطيب به مطلبه العام وهو حرية مصر، قام الخطباء الكثيرون من بعده وكلهم كرروا ما يقال وما يعاد كل يوم على ألسنة العامة، دنشواي ومسألة السودان وقانون الصحافة والنهب والسلب الحاصلين في البلد، كرروا هذه الحوادث وقرروا هذه الأشياء من غير دليل جدي يؤيدونها به حتى يقتنع كل سامعيهم.
بروكسل هي كما سماها بعضهم باريس الصغيرة، بلد خفيف الروح لطيف النفس، تأخذ ترموايه الذي هو أشبه الأشياء بتراموي مصر فيؤدي بك إلى أطراف البلد المختلفة ويصل بك إلى المعرض العام، في المعرض قضيت ساعات كثيرة طيبة، فيه رأيت مظهر كل بلد من البلاد، فألمانيا بوابوراتها ومدافعها وفرنسا بحرائرها الجميلة ومصر بقلعتها. •••
رجعت من بروكسل واهتممت من جديد بمسألة السكن، ولكني لم أصل منها لشيء، وأخيرا تركت لوكاندة شارع (جاليلي) وذهبت إلى لوكاندة
Avenve Carnot
Página desconocida