لم يكن هينا أن نميز الأراضي التي نمر بها، لقد بقي النوم يلعب برأسي حتى وصلنا، ولم أكد أبلغ المكان الذي أنا فيه اليوم وأختار مكانا أحسب للتعب في اختياره نصيبا حتى نمت لأستيقظ الساعة الثالثة إلى محل كوك لبعض ما أريد.
أردت بعد طعام العشاء أن أخرج من جديد، معتقدا أن نوم النهار يفسد علي نوم الليل، ولكني شعرت الساعة العاشرة بما يجذبني إلى سريري وقضيت فيه إلى الثامنة صباحا.
الفصل السابع
في لوسرن
لسويسرا نشوة غريبة فيها ينسى الإنسان نفسه وسط الجمال المحيط به، ولوسرن من أجمل بلاد سويسرا؛ فلا بدع اذا سحرت الإنسان عن الفكر وعن الكتابة وعن كل شيء.
أقمت بلوسرن ثلاثة أسابيع لم أكتب فيها مذكرات مطلقا، هذا الذي أكتب اليوم إنما هو ذكر لما كان يومئذ لساعة لذيذة من ساعات الحياة، ساعة نسيت فيها الحياة وتهت عن كل همومها ومشاغلها لأمتع بما كان يحيط بي من جمال ومن أحاديث عذبة ومن رياضات ونزه لا عدد لها.
تحيط بلوسرن جبال شامخة تكتنف بحيرتها البديعة وتقدم هي والجبال والماء والسماء الرائعة، والناس المختلفي الجنسيات والملل، والمناظر المتباينة على جمالها جميعا صورة تملأ الذهن ولا يبقى للخيال معها مجال، بل ترى الإنسان مكتفيا بهذا الذي حوله ينتقل فيه كما يحلو له، ويسبح منه على لجة تبهر النظر والفؤاد ويصبح شاعرا من غير جهاد ولا تكلف ويبقى كذلك نهاره.
فإذا ما أقبل الليل رأى المدينة الصغيرة دخلت في جوفه الهائل، وقامت الجبال على مرمى النظر أشباحا هائلة مخوفة، واشتد الماء بالسواد وحكم الصمت على الوجود، ثم تألق في الجو البدر البديع يحبو أولا من هناك فوق المرتفعات الهائلة، ويتسلق الأفق، ثم يبعث على لجة البحيرة أشعته الهادئة فتبسم لها الموجات الصغيرة يحركها النسيم ويخرج الوجود من حلكته، ويترنح كل ما في الجو كأنه ثمل بهذه الأشعة الفضية، وعلى شاطئ البحيرة قام الكرسال رشيقا بأنواره والضجة داخله والقمار والموسيقى والتياترو والمتفرجون ودخان السجائر، وإذا ما دخلت صالة اللعب رأيت جماعة المقامرين وكلهم ثابت النظرات قلق البال تلعب نفسه مع دورات كرة الملعب وينتظر العدد الذي تريد أن تقف فوقه بفارغ الصبر ونافد الانتظار، وفي صالة الموسيقى ترن أصوات بديعة أوحت بها نفوس كبار الموسيقيين فتملأ الآذان سرورا والنفوس بهجة، أو هي تحملنا وإياها على جناح الفكر أو الأتراح أو الهموم، وتطير بنا في جو خافت لا تكاد تسمع فيه الأصوات إلا همسا، ومن وقت لآخر تمر من أمامك سيدة أو شابة حسنة اللباس سليمة الذوق معتدلة القوام دقيقته، فتبعث للنفس مع لذة السمع لذة أخرى لا يمكن تكييفها لأنها تمثل جميع الحواس وتصل إلى أعماق القلب، فإذا ما اختفت السيدة وما تلبس تركت لك منها خيالا سرعان ما يطير وترجع مصغيا بقلبك إلى نداء الموسيقى، أنت تتوه بأفكارك وأحلامك في عالم تنسى معه كل الوجود، وعلى الجانب الثاني من البحيرة وعلى مقربة من محطة السكة الحديد يقوم مكان كبير (للباتناج)، ولقد دخلته مرة واحدة مدة مقامي بلوسرن، وجاهدت لأتعلم فأخفقت ولم يجد جهادي فتيلا، في هذا المكان ترى حركات الشبان والفتيات وهن ينزلقن على عجل، والأولون يقابلونهم أو يسيرون معهن ويتحادثون ويتضاحكون حتى اذا أحسوا بالنصب رجعوا إلى مقاعدهم يستريحون.
أعلى الجبال التي تحيط بلوسرن وأصعبها مرتقى جبل البيلات، ولقد أعد فوقه فندق ينزل فيه الصاعدون فيمضون ليلهم ويوقظهم الخدم قبل مطلع الشمس ليمتعوا النظر بمشرقها، ولقد استغرق بنا مسير القارب من عند لوسرن ليصل إلى محطة (الفنكيلير) الصاعد فوق الجبل أكثر من ساعة قضيناها متفرجين على ما يحيط بالشواطئ البديعة الرفيعة من المنازل والقرى ومن الأشجار والخضرة، ووصلنا حوالي الظهر وشمس يولية قد اعتلت السماء وإن هدأ من حرها رذاذ تساقط سويعة، فأرسل إلى الجو بردا وسكينة، وصعدنا قليلا فوصلنا عربة (الفنكيلير) وتحركت صاعدة تجاه القمة ببطء كأنها السلحفاء، والمرتفع عنيف شاق يكاد يكون قائما ثم اخترقت صخرا هائلا بقيت تحته زمنا نفذت منه وجعلت تحبو فوق ظهر الجبل العنيد، وأخيرا اختطت طريقها على سكة ضيقة يرتفع عن يمينها الصخر وتنحدر عن يسارها وهدة عميقة مخوفة، رأينا راجلا يسير على بعض طرقها الضيقة وبعد ساعة ونصف من هذا الحبو العنيف وصلنا إلى قمة البيلات وذهبنا إلى الفندق.
جعلت أدور في الجوانب فوجدت قطعة جسيمة من الثلج مستترة في ظل بعض الصخور، فتلهيت بأن أنكش فيها بعصاي مدة ثم تركتها ودخلت في ممر ضيق مظلم منحوت في الصخر، وخرجت بعد ذلك أبغي أعلى قمة في الجبل وهي على ارتفاع نحو مائتي متر من محطة (الفنكيلير)، وصعدت إليها فانكشفت أمامي قمم لا عدد لها من جبال سويسرا وتبينت على البعد صغيرة حقيرة لوسرن الجميلة، والبحيرة مسطوحة متواضعة يتعالى النظر عن الإعجاب بشيء منها، والمنخفضات كأنها رسوم الأطلس مسطوحة بطولها ووهادها لا تفترق أمام العين إلا في لونها، وحولي وقف جماعة يحدقون مثل ما أحدق للوسرن وللمنخفضات وللجبال وما عليها من ثلوج.
Página desconocida