أمسينا بعد ذلك في ظلمة مخيفة، فما لبثت لحظة حتى سمعت أنفاسها تتردد في صدرها علامة النوم الهادئ المطمئن، حينذاك سكن روعي ورحت في أفكار متناوبة حملتني معها أنا كذلك إلى عالم السكون.
قضيت بقية ليلي بين النوم واليقظة أغيب عن نفسي أحيانا كأني نائم حقا ثم أرجع إليها وهي خادرة عمل فيها هواء تلك الغرفة الممتلئ كسلا وخمولا.
ثم تبنيت من خلال الستار كأنما تبددت ظلمة الجور وما كدت أرفعه حتى صدق النهار الوليد ظني، وتبدت أمامي الحقول تذهب منخفضة مرتفعة وتضيع دون الأفق، وتهبط الأرض أحيانا فأحدق من الهضاب التي يرمح القطار فوقها ثم إذ الأرض ارتفعت ودخلنا بين جبلين نسير بينهما مستكينين مستسلمين حتى يقذفا بنا في ظلمة النفق.
أخذت هاته المناظر البديعة بعيني وجلست معجبا بها لا أستطيع أن أتحول عن النافذة، جلست بشعري المنكوش وعيوني المتعبة وأنا تائه أريد أن آخذ هذا الجمال لصدري وأملأ منه ناظري فيحول دون ما أريد القطار الطائر إلى غايته، وأرسلت بأحلامي في الجو الفسيح أمامي وهو لا يزال في رداء من الشك مملوء بأحلام الليل وآمال النهار.
ثم التفت فإذا صاحبتي هي الأخرى منكوشة الشعر وإن تكن عيناها الزرقاوان الضاحكتان أكثر يقظة وانتعاشا من عيني، فلما تقابلت نظراتنا ابتسمت عن شفاه رقاق وأسنان ناصعة بديعة الترتيب ثم قالت: آمل أن تكون نمت نوما طيبا يا سيدي.
وبالرغم من قلة معرفتي للفرنساوية فقد استطعنا أن نتفاهم، وسألتني إن كنت رأيت باريس من قبل، واستمر الكلام بيننا حتى تركتني وذهبت ترتب نفسها.
2
فلما جاءت رحت أنا الآخر، وعند رجوعي وجدت أصحابي أيقاظا يتكلمون وينكتون ويضحكون، فلما وصل القطار وخرجنا من الحجرات ودعتني السيدة التي كانت معي بابتسامه وحنيت لها رأسي ثم خرجنا جميعا إلى جوف باريس.
الفصل الثاني
باريس وضواحيها
Página desconocida