أيامنا على الأرض قصيرة جدا تمر وتجري بغير قرار، ثم تأتي علينا لتسلم نفسها لمن بعدنا، هي كالبغي تريد أن تأخذ من كل شخص أكبر حظ تستطيع منه، وأعقلنا من أخذ منها ولم يعطها إلا ما تجود به نفسه إشفاقا عليها أن تفنى وتذبل تلك الزهرة الجميلة، ولكن لا لنلقي بأنفسنا بين يديها تصرفنا كما تشتهي، أو نعطي حظنا إليها فتلعب بنا كما يحلو لها، بل يجب أن نجلس إلى جانبها ونريها ما عندنا، فإن أعطت أعطينا وإلا فأمرها بيدها.
ولكن لم تكون هذه الحياة الخامدة خير أنواع الحياة؟ لم يكون هذا الجامد خيرا ممن يترك نفسه لحظوظها تستوفي من الأيام كل ما تقدر على استيفائه، وتفنى هي في الأيام من غير ما حذر؟ ولم يكون خيرا من أي إنسان آخر؟ كل الناس يعيشون تتوازن آمالهم وآلامهم مسرورين بأنفسهم حانقين على الآخرين، ويقضون كذلك أيامهم في الفروق بينهم، لا فرق إلا الخيال الذي يدور برؤوسهم ويجعلهم يعتقدون أن غيرهم أسعد منهم، والواقع أن لا أحد أسعد من صاحبه بل كل الحياة مشاغل كاذبة لا حقيقة تحتها.
19 يناير
للباقين على عهد الحجاب ممن يحضرون إلى أوربا حجة يحاجون بها كل من كلمهم، تلك هي الكثرة لعدد البغيات ومن يبعن عرضهن من فتيات هذه البلاد، ولو أن هؤلاء كانوا أبعد نظرا لما أحوج الحال أن نقول لهم أن في كثرة الحاجيات وغلاءها هنا ما يدفع هاتيك البائسات لعملهن. كما أن التربية التي يربين عليها والحظ من التعليم الذي نلنه والقراءة والمطالعة التي تفتح نفوسهن وقلوبهن، وتجعلهن يطلبن الجمال من كل وجه ممكن، هذا كله يدفعهن رغم إرادتهن إلى ذل نفوسهن لمن يمسك بيده الذهب ويعمل لقضاء أغراضهن، والحقيقة التي لا شك عندي فيها أن هاته المدنية الغربية بما خلقت من كثرة الحاجيات وغلاء المعيشة، وتفننت فيه من أمور الزينة والجمال، وبما أودعت في الأشياء من السر وفي الحياة من السحر تجرف بسيلها كل من جاء في طريقها ولا تدع لأحد من أهلها ما يريد من تقشف أو زهد.
هذه المدنية القوية على ما فيها من فساد وشر تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتعطي لأصحابها من الغلب على غيرهم ما لا يستطيع معه ذلك الغير إلا أن يندمج فيهم ويأخد مأخذهم، ورغما عن أملي أن توجد أمة تأخذ من مدنيتهم بأسباب القوة والدفاع عن نفسها وأفرادها وتذر مجالب الشقاء من مواد الترف المتناهية في الكثرة، فإني ناصح كل أمة لا تستطيع هذا أن تصبغ المدنية الغربية بصبغتها ثم تأخذها إليها. •••
حبس فريد بك: قرظ كتاب الغاياتي «وطنيتي» كل من الشيخ شاويش وفريد بك، فأخذ الأول وزج به في السجن ثلاثة أشهر في حين كان الثاني يتجول في عواصم أوربا المختلفة، فلما رجع إلى مصر وطلب للمحاكمة كان حسابنا جميعا أن سيحكم عليه بحكم موقوف التفيذ مدة بين ثلاثة أشهر وأربع، ولكن حسابنا خرم وحكم عليه بستة أشهر معجلة التنفيذ.
مرت هذه الحادثة كغيرها من الحوادث التي تمر، وصاحت جرائدنا في وجه الحكومة صيحاتها المعتادة، وطلب بعضها العفو عن السجين وآخرون لم يطلبوه، ثم دخلت جراب الماضي وجاء عليها النسيان، ولكني أرى فيها من جانبي الحكومة والأمة أكثر مما رأوا، أرى فيها فساد نية الرؤساء وضعف إرادة المرؤوسين، ولو أن البلد لتلقي كل هذه الحوادث وكل ما تعمله أن تعلن الصياح والشكوى فيا طول ذلتها ويا عظيم ما ستلاقي!
إنني أنظر إلى الحوادث هنا وأنا بعيد عنها وبعيد عن تأثيرها الوقتي الذي تهيج له الأعصاب، فأراها أكبر بكثير مما يقدرها به أهل مصر؛ لأنني أراهم هم أيضا معها يصرخون ويصيحون، وذلك يدل على أن الألم لم يبلغ بعد أن يكون الألم المميت، الألم الذي تتوتر معه الأعصاب وتقف دقات القلب وتثبت العين ويتصلب الجسم، ثم يقذف صاحبه بنفسه على ظالمه قذفة اليائس الذي يريد الحياة الطيبة أو الموت الأخير.
في هذا اليوم فقط حين لا يكون من أثر الحوادث إلا بريق العيون وازدياد الجسوم تصلبا، يمكن لأي بلد مظلوم أن ينال حريته واستقلاله وحلاوة الذكر. •••
نرى منظرا أو نعرف شخصا أو تروقنا فتاة لأول مرة وقعت عليها عيننا، ويبقى لذلك من الأثر في النفس، ثم تكر الأيام ويدخل ما أعجبنا تحت ستار الماضي، ولكنا لا ننساه، بل يبقى عندنا في عالم الخيال والذكر، هاته الأيام التي مرت عليه لم تمر عبثا، بل هو يتجلى لنا في عالم الجديد وقد لبس جمالا غير جماله الأول، وإن أصبح غير هذه المزرعة أو الفتاة التي كنا نرى محسنين أمام أعيننا قائمة بين الأشياء الأخرى المبتذلة، بل يكون هو ومحيطاته والعالم الذي يعيش فيه مكسوا بقميص شفاف يستر العيوب وتبين المحاسن من ورائه مضاعفة ، كأنما أنماها الزمان، فالوردة التي كنا نرى محاطه بالشوك وقد ذبلت بعض أوراقها تظهر في أكمل ما تكون وردة صابحة عذبة، والمرأة التي عمل الكورسيه في جسمها نتصورها تمثالا أملس من الرخام النقي، والكلمات البسيطة تأخذ أمامنا روحا جديدة، وتحسبها تساقط من فم الحسناء التي تحب كأنها أشجى الأنغام، وكل شيء في هذا العالم يظهر كأحسن ما يمكن أن يكون.
Página desconocida