كم من مرة، وأقسم لكم بحق من بهدلني، في زمن أكثر رفاقي فيه أصحاب مراكز، تسمح لهم أن ينادوني قائلين: استنى يا أسطى، نزل الكبوت، دور على شبرا، فوت على الخياط، أقسم لكم بهذا أني كثيرا ما وقفت بزبائن لي على دخاخنية ومحلات ماني فاتورة وقهاوي تباع بها هذه المادة السامة جهارا نهارا - ادفع الثمن تاخد الجرام - والحكومة تسمع وترى، لكن العين بصيرة واليد قصيرة.
وكم حدثت أزمات «كالأزمات الوزارية مثلا» يكون العثور فيها على جرام أصعب من وجود رئيس وزارة، فنظل نبحث أنا ومن معي من الشباب الناهض، نطرق بيوتا نام سكانها وغفا أهلها، فيكون ثمن الجرام مضاعفا، إذ يضيف إليه حضرة البائع المحترم مبلغ بسيط هو بدل إقلاق الراحة. وينزل البيه قابضا بيده على بغيته، على الزجاجة البيضاء، وهو يقول: دلوقت الواحد يقدر يتنفس بسهولة، دنا دماغي كانت فاضية يا ناس.
فيجيبه زميله قائلا: متعي متع، ثم تفتح الزجاجة ويدور السم القاتل، فلا تسمع إلا حركة الشم وهم يبتلعون ذلك الموت البطيء، يدخل في فتحتي الأنف الضيقتين كما يتسرب الطاعون من موبوء إلى أهل بلد آمن مطمئن، جالبا معه الخراب فالدمار فالموت.
والله يا أسيادي لقد رأيت بعيني رأسي تجار الكوكايين في بيوت وعمارات، لا يسع الإنسان منا إلا أن يقف أمامها وقفة الاحترام والخشوع؛ لأنه يظن مثلا - وبعض الظن إثم - أن الغش والخداع اللذين حرمتها القوانين السماوية والوضعية لا يعيشان تحت هذه الأسقف الطاهرة الفاخرة، فإذا بي أعرف من بوابي هذه البيوت وخدمها أن أسيادهم يعيشون من تجارتهم بهذا الموت السريع ، ولا أنسى قول أحدهم ذاكرا أحد أسياده بكل احتقار قائلا: يلبس نضيف، ياكل نضيف، يركب نضيف، مناخيره في السما، لكن اسمه وسخ وإيده وسخ.
هؤلاء القوم - سواء كانوا أجانب قذفتنا بهم اليونان إيطاليا أو فرنسا، أو شرقيين رمتنا بهم سوريا أو سواحل الأناضول - تقابلهم مصر على الرحب والسعة، وتكرم وفادتهم، وتنزلهم منزلا أرحب مما تنزل به أبناءها، ثم يكون اعترافهم بهذا الجميل استيراد الحشيش، وفتح الخمامير، والمتاجرة بشر المكيفات الكوكو، وإضعاف عقول الشباب، وهكذا يكون الجزاء الحسن.
فإذا عجبت من تقلبات الدهر؛ فاعجب لشخص كان منذ سنين معدودات يتسكع بالقهاوي متسترا؛ مخافة أن يراه آدمي، فيشمئز من منظره القذر، وهو يعرض الجرام بثلاثة قروش صغيرة - رحم الله الأمس - أما اليوم فلعنة الله عليه، لقد أرانا أمثاله في ملابسهم النظيفة، ونفوسهم القذرة أصناما لا يتكلم الواحد منهم إلا بالرجاء والالتماس! ولماذا؟ لأنهم أصبحوا أغنياء من دم هذا الشباب المسكين الذي يشتري موته مقسطا الجرام بنصف جنيه.
تصور معي - أيها القارئ - مدينة القاهرة، وقد أرخى الليل سدوله، ودقت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، وتحكم الكيف في أدمغة من كانوا معي، فصاحوا جميعا في طلب الكوكايين، وصدر الأمر إلي أن أيمم شارع قصر النيل، ووصلنا، وهناك أمام الأجزخانة وقفت بعربتي، وهي كبرج بابل، بجانبي وجيه نظيف لطيف، قيل لي: إنه موظف بالمالية، وبالعربة خمسة آخرون: موظف وصاحب أملاك، وأونطجي، وفتوة، ومحضر في محكمة مصر.
كنا بالاختصار كالسردين والفانوس الأحمر، يادوبك ينير لنا الرصيف، ونحن ننتظر الموظف «النوباتجي» والغفير يوقظه ليعطينا طلبتنا.
وتعب الغفير من النقر على النافذة الصغيرة، وموظف الأجزخانة نائم، فقال صاحب الملك: خبط يا خفير خبط، أنا أبيع أطياني على شمة، دماغي فاضية يا هوه!
وقال الفتوه: وحيات راس أبوك إن ما فتحت لافتح لك مخه.
Página desconocida