إلى الأستاذ فكري بك أباظة
من الأستاذ فكري بك أباظة
المذكرة الأولى
المذكرة الثانية
المذكرة الثالثة
المذكرة الرابعة
حول مذكراتي
المذكرة الخامسة
المذكرة السادسة
المذكرة السابعة
Página desconocida
المذكرة الثامنة
المذكرة التاسعة
المذكرة العاشرة
المذكرة الحادية عشر
المذكرة الثانية عشر
المذكرة الثالثة عشر
المذكرة الرابعة عشر
المذكرة الخامسة عشر
المذكرة السادسة عشر
فين أنت يا حنفي
Página desconocida
وفي الختام
إلى الأستاذ فكري بك أباظة
من الأستاذ فكري بك أباظة
المذكرة الأولى
المذكرة الثانية
المذكرة الثالثة
المذكرة الرابعة
حول مذكراتي
المذكرة الخامسة
المذكرة السادسة
Página desconocida
المذكرة السابعة
المذكرة الثامنة
المذكرة التاسعة
المذكرة العاشرة
المذكرة الحادية عشر
المذكرة الثانية عشر
المذكرة الثالثة عشر
المذكرة الرابعة عشر
المذكرة الخامسة عشر
المذكرة السادسة عشر
Página desconocida
فين أنت يا حنفي
وفي الختام
مذكرات عربجي
مذكرات عربجي
تأليف
سليمان نجيب
إلى الأستاذ فكري بك أباظة
سيدي الأستاذ النابغة
محسوبك كاتب هذا - الأسطى حنفي أبو محمود - من كان له الشرف أن يقلك في عربته مرارا، إما منفردا أو مع زمرة من إخوانك ومحبيك، يرجوك ويتوسل إليك أن تكتب له كلمة صغيرة يضعها في مقدمة مذكراته التي ظن بعضهم أنها جديرة بالنشر.
وأنا لا أرجو ولا أتوسل إلا لأني من المعجبين بقلمك وأدبك، وأنك باعتراف الكل الكاتب الذي تقرأ كتاباته كل الأفراد بلهف وشغف، وأستصرخ ديمقراطيتك أن تحن على حوذيك بكلمة تجعل لهذه المذكرات قيمة.
Página desconocida
إنك كريم يا أستاذ، طالما جدت علي بضعف ما أستحقه في «التوصيلة»؛ لأن نظرك البعيد يرى أن بجانب أكل البهايم أكل العيال، ومن كان من أخلاقه الكرم والبحبحة فلا أظن أن يضن على حوذيه القديم بما يطلبه، أبقاك الله وجعلك ظلا لأمثالي المساكين الغلابة، وأنا يا سيدي عبدك المطيع المخلص.
حنفي أبو محمود
سليمان نجيب
18 رمضان سنة 1341
من الأستاذ فكري بك أباظة
عزيزي الأسطى حنفي
أشكرك كل الشكر على حسن ظنك بي، وما كان الأمر يحتاج إلى «الطلب» يا أسطى، كان يكفي أن تأمر فنجيب؛ لأن لك علينا «أفضالا» لن ننساها؛ لأنك لست حوذيا فقط، بل أنت «فيلسوف »، والفلسفة مبجلة في حد ذاتها، برفع النظر عن حيثية المتصفين بها!
حقا، إني لأكتب بعواطفي، لا أتكلف ولا أتصنع، فدعني أهنئك من صميم فؤادي، ولو كان كرباجك كقلمك لفاخرنا بك أعظم الأسطوات في جميع القارات!
تتبعت كلماتك كلها، وكلما قرأت واحدة استفزني الشغف بأسلوبها إلى انتظار الأخرى على أحر من الجمر، فرأيت «خفة الروح» تنساب بين السطور انسيابا، ورشاقة العبارات تتدفق تدفقا، فلما أخذتني الغيرة من ذلك الابتكار والتفنن؛ واسيت نفسي قائلا: «إن الأسطى حنفي لم يأت بشيء من عنده؛ لأن هذه «نفثات» الأنفاس بلا جدال، وهو مشغول «بالكر» نهارا وليلا «وبالشد» صباحا ومساء، ومن كانت هذه أدواته وحواشيه فمن يستطيع أن يماشيه؟!» «يمينا» يا أسطى، لست أحابيك ولا أداجيك، إنما أقرر الواقع، لقد «لذعت» بكرباجك العظيم ظهور المتهتكين والمتهتكات، المتحذلقين والمتحذلقات، وقديما كان الكرباج أداة التهذيب والتأديب، ولكن كرباج العهد الغابر كان يسيل الدم ولا يجرح النفس، أما كرباجك أنت فلا يسيل الدماء، ولكن يجرح النفوس، ونحن إنما نريد معالجة الأرواح لا الأبدان، فشكرا لك يا طبيب النفوس.
لا تفكر كثيرا في الأزمة يا أسطى، ولا تطمع، وما دام علفك وعلف أولادك ومواشيك موجودا فاحمد الله، وما دمت فليسوفا فليكن جيبك «فاضيا» كقلبك، ألا تعلم أن من تصدى لتهذيب الجمهور وجب أن «يدوسه الجمهور»؟ انظر «يمينك وشمالك» بسكوت، «وطبق» النظرية تجدها صحيحة، «فسر» في طريقك هادئا، ولا تجمد في «موقفك»، وأسمعنا «طرقعة كرباجك» فقد اختفى صوته من زمن بعيد، ولكن حذار أن تدفع أو «تجمح» فتكون التوصيلة «للواحات»!
Página desconocida
أي عزيزي الأسطى: إن أمة حوذيتها مثلك لجديرة بأن «تركض» ركضا، و«تربع» إلى مطامعها لا تلوي على شيء في الطريق.
إني لفي غاية الشوق إلى كتابك، فهيا و«حضر» الملازم بسرعة فينتفع الجمهور، وأنا في انتظارك فلا تتأخر علي.
فكري أباظة المحامي
حاشية: طيه «اللي فيه القسمة» أرجو قبوله مساعدة في الطبع.
فكري
وصلني المبلغ، قدها وقدود يا سي فكري، مش جايب الكرم من بره، والعرق دساس يا أستاذ.
محسوبك حنفي
المذكرة الأولى
لم يكن الأدب أو صنعة الكتابة قاصرة يوما ما على طبقة دون غيرها، فلا تظن أيها القارئ أو يتسرب إلى ذهنك الشريف ساعة ترى إمضائي تحت هذه المقالة أن أديبا تعدى الحد فتنكر تحت نمرة موهومة، ورخصة غير موجودة، فتبوأ مقعد سياسة البهائم، وابتدأ يروي للقراء ما مر عليه وهو جالس على كرسيه مفتوح العين لما هو أمامه، منصتا بأذنه إلى ما يدور داخل العربة، مشاهدا في توصيلاته المختلفة غرائب الغرائز ومتباين الأخلاق.
صحيح أني نشأت في وسط كله عربات وخيول «بلدي ومسكوفي» وجو لا تسمع فيه إلا طرقعة الكرابيج وإصلاح «الحداوي»، ولكن ذلك لم يمنعني أن أنشأ ميالا إلى الأدب والكتابة والمطالعة وقراءة الأخبار السياسية، فلا أنسى أن أبتاع مع شعير البهائم وبرسيمها جرائد المساء، بل أكثر من ذلك أيها القارئ، طالما فاتني في كثير من الأوقات زباين سقع لانشغالي بالسياسة والأدب في الموقف، بينما رفاقي عيونهم متطلعة تصطاد الزبون من آخر الشارع.
Página desconocida
والأدهى من ذلك أنني كثيرا ما كنت أهم بالمناقشة مع بعض الزبائن أيام الاضطرابات والإضرابات، تلك الأيام التي كنا - نحن العربجية - نسمع فيها كل ساعة رأيا على اختلاف المبادئ والنزعات، لولا خوفي أولا من عمال قلم المرور، ورذالة سحب الرخصة، والنتائج التي تجرها على رأس مسكين مثلي من «تفويت وغيره» وثانيا اعتقالي ومحاكمتي وسجني ولا من شاف ولا من دري.
نهايته، كان حكم الوسط علي قاسيا، فقد أجبرت لأسباب - لا لزوم لذكرها - أن أخلف والدي - رحمه الله - في الانتفاع بعرباته العديدة وامتطاء إحداها، كان ذلك منذ عشر سنين، أي قبل الحرب أو «الحماية» على الأصح، وقد تمكنت من طريق مهنتي أن أطلع على أسرار كثيرة منها المضحك ومنها المبكي، بل لقد شاهدت من الروايات التي تمثل كل يوم أمامنا ما هو حقيقي، ليس للوهم أو الخيال أثر فيه، ومحادثات «تزانيق وخلافه» كنت مجبرا على سماعها.
وكثيرا ما كان يودي بي انتباهي لسماع ما يدور داخل العربة من حديث مسموع، وحديث صامت، وهذا الحديث الأخير ينتهي عادة «بطرقعة» بسيطة هي نتيجة تقابل العيون والأنف وما تحتهما، وأن هذه الحوادث مثلها في عربتي أشخاص كثيرون من الجنس الخشن والجنس اللطيف، وآه وألف آه - أيها القارئ - من هذا العنوان الذي يضم تحته «الملايات اللف والحبر والمناديل الإسطامبولي والمنتوهات والبرانيط» ووالله لقد شاهدت عيناي من فصول رواياته الممتعة ما كان ينسيني في بعض الأحايين نفسي، وتكون النتيجة مخالفة «وكع يا حنفي».
وبما أن عربة الواحد منا «كبرج بابل» طالما امتطاها الآلاف، فقد تعودت بنظرة واحدة للزبون أن أعرف قيمته الأخلاقية، وبما أن حكمي هذا أصدرته عن تجربة واختبار، فاقرأه - أيها القارئ - بعين العظة واسمعه بأذن الاعتبار:
فكم راكب في المركبات تجره
ولو تنصف الأيام كان يجرها
وإليك أيها القارئ العزيز أصناف الزبائن المختلفة، فقد يحدث في بعض الأحايين أن ألتفت فأرى زبوني جالسا مستقيما، كأنه ينتظر حكم القاضي عليه مصوبا نظره إلى آخر سترتي، فأحكم عليه أنه ركب عربة للمرة الأولى أو الثانية على الأكثر، وإذا رأيت سعادته جالسا على يمين العربة فهو متكبر متعجرف، أما أسيادنا الذين إذا ركبوا معنا أرسلوا رجلا في ظهورنا وعكفوا الأخرى عليها واستلقوا على ظهورهم، فهؤلاء مخنثون ينسى الواحد منهم أنه في طريق عمومي له آداب يجب أن يراعيها.
وكثيرا ما تصادف عربة تسير وراكبها سارح يشخص بعينه إلى السماء، فهو أحد اثنين: إما حبيب «واقع طاظة» أو بخيل يحسب المسافة بالمتر والياردة ليحاسبني بالبارة والمليم، أما إذا رأيتنا - نحن العربجية - نتسابق إلى واحد من أسيادنا وقد أشرف علينا في الموقف، فاعلم أنه وارث يبعثر ماله ذات اليمين وذات اليسار.
هذا ما أمكنني نشره كمقدمة بسيطة لمذكرات، إذا وسعها صدر الكشكول، فستصدر كل أسبوع بإذن الله بدون انقطاع «سواقة جد»، أمهرها بإمضائي واسمي الصحيح «الأسطى حنفي».
وهكذا أصبحت في بعض الأوقات أجمع في عربتي بين زبائني وقرائي، وأكتب لهم بكل حرية بدون قيود المخالفات وأوامر «ولع فانوس ورا» و«إوعى الملف».
Página desconocida
فإلى الملتقى، إلى الأسبوع المقبل يا حضرة الزبون الفاضل، ولا تنس أنك تقرأ حقيقة كتبها لك في ساعة فراغه العربجي الأديب.
الأسطى حنفي أبو محمود
المذكرة الثانية
ابتدأت حياة المهنة بالعمل نهارا؛ لأن تعرضي وأنا جديد للخدمة الليلية لا يمكن احتماله بالنسبة لما كنت أسمعه من زملائي عما يصادفونه من الحوادث التي تضيق منها الصدور، وتحتاج إلى «نفس طويل» وبال هادئ، وتمرين على البهدلة من كل لون.
فكم يخفي الليل تحت ستاره، سكران «ألسطة»، يركب مع الواحد منا ويأمره بالسير، وبعد ذلك «يتلوق» فلا يمكن حتى الإسعاف أن تعرف منطق لسانه ولا أين يسكن، بل إلى أي جهة يقصد، والواحد منا حيران بين الالتجاء إلى البوليس وتفويق صاحبنا على حساب الحكمدارية أو «دلق» هذا الزبون الفاضل على أقرب رصيف، وفي كلا الحالتين لا يعلم إلا الله كيف يمكن أن نتحصل على الأجرة.
وأما إذا كان «نصف لبة» فانتظر منه أن يتداخل معك أو مع من هو في صحبته في كل شيء في السياسة والأخلاق والآداب والغراميات وصلاحية الفول عن البرسيم بالنسبة للبهائم.
وإذا توقفت إلى خدمة شاب من شباب العصر الأغنياء، فيجب أن أحتمل ممن يسيرون وراءه من سكرتارية وهواشين وأونطجية أنواع النكت الباردة والتعرض لما لا يعنيهم، وأما إذا كنت ممن غضب الله عليهم، وحنن عليك بنفر من جنود جلالة الملك «أيام الحرب طبعا» وهم «مشقعين» وأمروك بتوصيلهم إلى ضاحية من الضواحي «العباسية أو الجيزة مثلا» فثق أنك ستتعلم منهم في فن الزوغان أحدث الطرق، وإذا خطر لك أن تتعرض لأحدهم طالبا حقك أعطاك إياه لكما ورفصا، وجعلك تتعلم آداب المطالبة بطريقة إنكليزية، بعد هذا كله يا حضرة القارئ الكريم كنت أفضل عمل النهار، وكم في النهار يا سيدنا من حوادث وروايات! ففي الصباح تشتغل على أسيادنا الموظفين «السقع طبعا» وهؤلاء فيهم الجواد الذي يعطيك فوق ما تستحق، وفيهم المدقق الذي يدفع لك بالمليم، وإن تكلمت كانت الداهية السوداء، وبتداخل عسكري البوليس تنتهي المسألة على أخذ الأجرة من عسكري النقطة أقل من الأول؛ لأن الفرق أخذه جنابه قيمة أتعاب .
وفيهم من يناديك بكل كبرياء وعجرفة، وهو لا يملك في جيبه الأجرة، فكم حصل كثيرا أن يركب معي بعض هؤلاء ويأمرني بالسير إلى المالية أو الحقانية، وفي الطريق يصطاد هذا الوجيه «الذي أحس بأطراف حذائه في نصف ظهري» موظفا آخر يكون سائرا على قدميه وفي حاله، فيدعوه للركوب معه، وبطريقة غريبة ينتقل معه من حديث إلى حديث إلى أن يداهمه بطلب جنيه «سلف لله» وإن اعتذر فنصف ريال هو أجرتي طبعا.
وأنا في هذه الآونة متردد بين السير إلى وزارة البيك أو إلى القسم، وفي الوقت نفسه أدعو بالخير لمن دفع، والله يعلم إلى أي نتيجة كانت المسألة تصل لو لم تصادف «المجني عليه» في طريقنا.
وبعد الظهر وفي العصاري إذا كان الواحد منا سعيد الحظ وصادفته توصيلة «مجوز» إلى الجزيرة أو الجيزة أو حدائق القبة يسمع فيها لمبدع مطرب، ويتعلم من الحديث فن السبك كيف يكون، بل كيف يضطر الواحد منا بحكم الصنعة والوظيفة «ورقبته تحت رجليه» أن يترك لهما حرية الحديث والتنهد والتقبيل والبكاء والهمس والعتاب.
Página desconocida
واسمع ما شئت من أقسام الحب «الطاهر» وأنه يقاسي الموت في البعد عنها، ويسهر ليله وينام نهاره، أما هي فإنها أصبحت «بالرغم من 95 كيلو وزن» مريضة بسببه وانسأمت وربما ماتت ضحية لهذا الغرام الشريف.
وفي أثناء الحديث يا حضرة القارئ تمر على ألفاظ جديدة في اللغة، فأسمعها تقول «حبوب» «وتوتو» وهو يقول «قطقوطة» ولا أفهم لها معنى، ولكني علمت أن لكل مقام مقال، بل قد تعودت إذا سمعت أحدهما يتنهد أن أقلده، وهكذا يصبح الجو كله غرام وحب، وينطبق علينا قول القائل «كلنا في الهوى سوى» ولكن المصيبة أنني أجهل من أحب.
ولا أراك الله أيها القارئ الكريم الحوادث التى تنتهي «بغم»، وربنا ما يوقعك في يد البوليس إلا طارف، فكثيرا ما تتفق قلة الحوادث مع قلة الأدب، فيضطر إما أن يأخذ إجراءته أو يأخذ ... وتنتهي الحادثة على خير وسلامة.
وكما أن للاجتماع آداب وللحديث آداب، فلنا معشر العربجية آداب أيضا نتبعها في أمثال هذه التوصيلات، فيجب أولا السير بهدوء في الشوارع الخالية ليظهر الفرق الكبير بين الفسحة في عربة ومثيلتها في أتوموبيل أجرة، بل يجب أيضا الانتباه إلى أوامر الزبون، فربما كانت غلطة صغيرة كافية لعكننة مزاجه فينتقم جنابه من الأجرة في شخصي، وتنتهي الرواية على حسب الظروف إما بمأساة أو بفصل مضحك يتداخل فيه الجمهور، وتحلو وقتئذ النكت الرائقة «وعينك ما تشوف إلا النور».
هذا ما عن لي أن أدونه هذا الأسبوع، فإلى الملتقى يا حضرة الزبون الفاضل، فسأوافيك في القريب العاجل بأخبارنا أيام إضرابات الترام «رحم الله تلك الأيام!» وتقبل احترامات عمك الأسطى.
حنفي أبو محمود
المذكرة الثالثة
وعدتك أيها الزبون الفاضل بحوادث الاضطرابات والاعتصامات، وبالاختصار أيام العز والمكسب «والنغنغة» أيام أقفرت الطرقات من «التراموايات» وأخذ عزرائيل إجازة غير اعتيادية من الشركة وتهيأت لنا الفرصة، وامتلكنا نواصي الشوارع، وبعد أن كنا نرجو الزبون ونتمسح وننادي بأعلى صوت «آجي يا بيه؟» أصبحنا محط الرجاء، وفي بعض الأحايين كنا نرفض بشدة ما دامت الخيل تعبانة، والجيوب مليانة، والزباين كفرانة.
كانت اضطرابات الترام ربيع أيامنا، فيها كان محسوبك الأسطى حنفي زايط؛ لأن الشغل ماشي والحالة «فل» ولم نكن بعد قد فوجئنا بمصائب الأتوموبيل «التاكس» و«تزانيقه اللي زي الهباب» وثانيا لأني بصفتي صاحب «عجل» في البلد، كنت أفتخر إذا ركب معي بعض كبار رجالاتنا إلى بيت الأمة أو إلى «كلوب محمد علي» فحفظت في هذه الأوقات أسماء معظمهم على حسب الجودة في التوصيلة، أو على حسب الخلقة «والسحنة».
وبالرغم من انتباه الواحد منا «للخواذيق» التي اعتاد فريق الأونطجية أن يلبسونا إياها، فقد حدث كثيرا أنني أوصل نفرا من هؤلاء المزيفين الذين تبدو عليهم الوجاهة من الظاهر فقط إلى «جروبي» ثم أنتظر عبثا؛ لأن حضرة الوجيه «فك» من الباب الآخر، وبما أن المؤمن و«خدامك أولهم» لا يلبس الخازوق مرتين، فقد تنبهت إلى واحد منهم، وبعد أن نزل من باب انتظرته على الباب الآخر، وأثبت له في هذه المرة أنني على الأقل متعلم أفهم أن الدنيا «دايرة».
Página desconocida
في هذه الأوقات كان بيت الأمة محط الرحال، وشارع الرئيس المحبوب موقف مختلط من عربات أجرة وأتوموبيلات خصوصية وعربات ملاكي، وقد اختلط صوت النفير بصوت الزمامير، وبين هذا المجموع الهائل الذي كان يغدو ويروح كانت عربة الدكتور محجوب بحصانها «القروشي» كالزنبلك، لا تهدأ دقيقة واحدة في خدمة الوفد وزوار بيت الأمة وطلبة المدارس، وأخيرا كانت سببا في «عكننة مزاج أغلب إخواني» وكثيرا ما كنا «ولا مؤاخذة يا دكتور» ندعو على حصانك بمأمورية في السلطة فنأمن بعد ذلك مضايقاته.
ولا نظن يا سيدي القارئ أنني كعربجي لا أعرف للحنو معنى لأني أحمل أداة التعذيب في يمناي، فلي قلب وإحساس «زي أحسن زبون يعجبك» فقد تألمت لسائق عربة الدكتور، فقد رأيته يأكل على كرسيه وينام أثناء تأدية وظيفته، ويتداخل كالزوبعة في أي مناقشة يسمع فيها لفظة «السودان» وقد كان يقول في أثناء أحاديثه مفتخرا: «أنا سوداني، وفرسي هذا سوداني، وسيدي مدين للسودان بمولده، ومصر حياتها في السودان، ولا حياة لنا إلا من السودان، فليحي السودان ومصر معا.»
في هذه الأيام أيضا جمعتني الصدف بالأستاذ «المقلفط» تشريفاتي استقبالات معالي الرئيس
1
وسكرتير لجنة استقبال دولة الرئيس،
2
وخطيب وفود دولة الرئيس،
3
هل عرفته أيها القارئ؟ إنه «مثال القوة الناطقة من غير إرادة سابقة» ألم تعرفه بعد؟ هيه، إنه أحمد بك الشيخ، بطل مجلس المديرية في إقليم الغربية.
ظهر صاحبنا على ما أظن في الأيام الأخيرة، ولدته الأيام:
Página desconocida
والليالي من الزمان حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبة
فوصل إلى رتبته من طريق مجلس المديرية، وعرف كيف يظهر على صفحات جريدة الأهرام «باللت والعجن» وأخيرا بالدخول في غمار «ليحي الاستقلال».
ابتدأت حياته السياسية «بلا رئيس إلا سعد» ثم تحول قليلا إلى صيحته «عدلي فوق الجميع» ثم ظهر في خطبته بعد ذلك أن لا حياة إلا لثروت، وهناك وقف؛ لأن «التالتة تابتة» والله أعلم أن المسألة ستنتهي على ما يرى نظري القصير «بلا رئيس إلا ما تقتضيه الأحوال».
ركب معي من بار اللواء، وقد كان خارجا من إدارة الأهرام بعد أن «تمطع» طبعا، وسخ الجمهور مقالة من أفكاره «وربنا يسامح داود بك بركات» قال لي بصوته الرنان الذي يصلح لترتيل سورة الكهف يوم الأحد. - فاضي يا عربجي، سوق على بيت سعد باشا، وسكت هنيهة ثم نظر إلي بتأن وقال: بسرعة ألا مفيش وقت. فلهلبت الخيل، وفي أقل من لمح البصر كنت أمام بيت الأمة، نزل البيك بدون أن يدفع الأجرة، وانتظرت وأنا - وهنا يحلو الحديث والمسامرة - ومرت ساعة بدون أن يخرج فضيلته، وضاع مني زبائن كثيرة، وأخيرا طلبت بواسطة أحد الخدم أجرتي لأنصرف على الأقل، فأخبرني أن أحمد بك ليس له أثر في بيت الأمة، كيف خرج؟ بل كيف زاغ؟ هذا ما لا أدريه بالرغم من أني لم أنم مع وجود عربجي الدكتور محجوب نائما بجانبي؛ لأنه - على ما قاله لي - أوصل سيده متأخرا ليلة البارحة، وأخيرا خرج فراش معالي الرئيس، ودفع الأجرة أكثر مما أستحق، وهكذا كان بيت الأمة يدفع من مال الأمة «لجدعان» القضية الوطنية حتى أجرة عرباتهم.
تصادف بعد ذلك أنني أركبته مرارا بعد ذلك، وأذكر من أطيبها موقفا أيام كان الخلاف بين معالي سعد باشا ودولة عدلي باشا وأحمد بك معروف حتى في دوائرنا نحن أنه سعدي صميم.
ناداني في ميدان الأوبرا، وقد كان ساهما مفكرا، وقال لي بصوته الرخيم: سوق على بيت سعد باشا، لا يا أسطى بيت عدلي باشا، أيوه أنا قلت لك سعد باشا.
فظننت، ولست من أولياء الله، أنه يريد بيت الأمة، ولم أعلم أنه يستفهم مني بسؤاله الأخير، فما وقفت أمام بيت سعد باشا إلا وأحمد بك قد رفع الكبوت، وهو يقول بصوت واطي ولكن بحدة: يا ابني ... أنا قلت لك بيت عدلي باشا مش سعد باشا، سوق بلاش فضيحة، الله يفضحك يا غبي، فسرت وأنا أضحك في سري، أضحك؛ لأن وجود هذه الشخصيات الجوفاء على مسرح السياسة في كل أمة لازم لتفريج الهم عند نزول الضيق:
وإذا كانت النفوس كبارا ... ... ... ... «وكمل يا أحمد بك».
وصلنا إلى منزل دولة عدلي باشا، وأخذت الأجرة بطلوع الروح؛ لأنه أراد أن أنتظر، وتشبثت بعدم الانتظار، «فكع» التوصيلة بكل هدوء؛ لأن قصر الدوبارة ليس كشارع عماد الدين، وكما أن هناك أحياء مباح فيها الصريخ والعويل، فهناك أحياء لا يجوز فيها حتى الهمس، وأحمد بك زكي ونبيه يعرف كيف يتخلص.
Página desconocida
وقد دفع بعد أن نظر إلى نمرة العربة، وأنا أراهن أنه نسيها في دقيقة لانشغال باله بتحضير ما سيقوله لدولة الرئيس.
سرت وأنا متأكد أن الأزمة ستنفرج «زي كل أزمة» وستنجلي عن رئيس آخر غير عدلي باشا طبعا، وسيكون من يوصل أحمد بك إلى منزل صاحب الدولة الجديد إلى بولاق الدكرور محسوبكم الأسطى حنفي، وقد كان - أيها القارئ الأديب - هذا آخر عهدي به، فلم أره إلا في أوتوموبيلات «فينو» وكان يمر علي بدون أن يعرفني وأنا في موقفي كما يمر الغزال الفريد.
والآن إلى الملتقى أيها القارئ الأديب، ففي هذا الكفاية وإلى الأسبوع المقبل.
المذكرة الرابعة
رمضان كريم أيها القارئ الأديب، والزبون «الفينو» رمضان الخير وفسح «الضلمة» شهر الحرية وتزاور الليل، وما ينطوي تحت ذلك كله من أسرار تقع في يد مثلي، فلا يصونها ويعرضها عليكم، فكل عام وأنتم بخير.
هذه تهنئة محسوبك حنفي يا زبوني الفاضل، أرجو أن تقبلها بنية حسنة، ولو أنها صادرة من قلبي «الديمقراطي» إلى سادتي وأسيادي بين مذكر ومؤنث، وأنا لا أطالبهم إلا بدعوات صالحات، تقيني من خوازيق قلم المرور وقسم الرخص.
حديثي اليوم كله يختص تقريبا بسيداتي أبطال كل قصة في العالم، والتي لا تروق حكاية، إلا إذا كان لهن فيها أثر، وبالاختصار بالجنس اللطيف، بالملايات اللف «المنقرشة» والحبر «الكريشة والأبلسيه» والبرانيط من مختلف النحل والملل، ولا يحلو الحديث إلا بذكر ...
تصور معي الدنيا في العصاري، والوقت رايق «بلوزة» وموقف الست «الباتعة» أم هاشم به خمس عربات أنا على إحداها، استلفت الأنظار بنشاط خيلي ونظافة مركبتي، وإذا بثلاث سيدات «يا سيدنا» قام لهن الميدان وقعد، تقاسمن الجمال والخفة «والشخلعة» وقصدن عربتي بكل تأن، ويا سيدي على التلاقيح والنكت من رايق وبارد حتى من زملائي، فقد سمعت واحد منهم يقول: حلال عليك يا حنفي مين زيك يا أخويا!
وآخر يرد عليه قائلا: على مهلك يا عم، معلوم يحق لك مركب الأنس واللطافة!
وبالاختصار خرجت من الموقف في «وسط زفة» إلى شارع خيرت طبعا، وأنا أظن أني ذاهب بحضرات «الدرر المصونات» إلى زيارة أو على الأكثر إلى شيكوريل، وإذا بإحداهن تأمرني أن أقصد تيرو روض الفرج.
Página desconocida
التيرو؟ أقسم لك أيها القارئ أني غالطت سمعي، وسألت مرة ثانية قائلا بعد أن أحنيت رأسي لأسمع: سيادتك بتقولي على فين؟ - شيء غريب! على التيرو، أنت ما بتسمعش؟
والله ما كان يخطر لي على بال أنا العربجي الذي أقضي أكثر أوقاتي في معاشرة البهائم أنه يقصد سيداتنا عمدا مع توفر «سوء القصد أو النية».
وفي عصرية من رمضان هذه البؤر التي أولها «أونطة» وآخرها موت وخراب ديار مع ما يتخلل ذلك من إراقة ماء الوجه، وبالاختصار يسدل الستار أخيرا على بيع العرض، و«طيران» العقل، وخراب البيوت المستعجل.
سارت الخيل تسابق الريح حسب الأمر، وأنا أحدث نفسي قائلا: والله طيب يا حنفي، ياما لسة نشوف، ثلاث سيدات من صميم الأحياء الوطنية يخرجن من بيوتهن، ويسافرن إلى آخر القاهرة بقصد المقامرة، ومهما كسبت الواحدة منهن فهي أولا وأخيرا «خسرانة خسرانة» ولكن أنا مالي «سيبك» الأجرة مدفوعة «وليحيا الرجال العاملون».
ووصلن التيرو أخيرا، ونزلن بسرعة، وأمرتني بالانتظار، ولا أطول عليك، فقد خرجن «يا ربي كما خلقتني» ويظهر أن ترمومتر الخسارة هبط إلى درجة عدم وجود أجرتي؛ لأني سمعت واحدة من الثلاثة تقول: نفوت بقى على ... هانم في شكولاني ناخد منها جنيه «ثم بصوت واطي» نديله أجرته ونصرفه، وقد كان، وسترها ربك، وخلصت بأجرتي من مال السلف.
إني أحس بالاندهاش يعلو أساريرك أيها القارئ؛ لأن ربات البيوت عندنا وصل بهن الأمر إلى المجازفة حتى بمصروف البيت مثلا، ولكن يظهر أننا تقدمنا في كل شيء حتى في الجراءة «والوقاحة» إذا شئت، وإليك الحادثة الآتية دليلا لا أنساه على ما نحن فيه وما وصلنا إليه.
كنت سائرا في شارع خيرت، فنادتني سيدة «بملاية لف» هي مثال الحشمة والأدب، تظهر عليها آثار النعمة والوجاهة، وبيدها نسخة من مقطم المساء، ركبت معي بكل تؤدة، وأمرتني أن أسير بها إلى شارع بولاق، وهناك أمام دكان شملا، والعالم يموج موجا، نزلت سيدتي المهذبة صاحبة العفة.
ولكنها لم تكن هي التي ركبت معي، فقد تغيرت كل المعالم فاختفت الملاية اللف، ولم يبق أثر للبرقع الأسود ولا القصبة المذهبة، ورأيتها بحبرة وبرقع أبيض، وفي يمينها جرنال المقطم ملفوف فيه رداء التنكر الذي خلعته.
ولاحظت هي دهشتي، وتكذبني عيناي وخوفي من أنها ربما كانت من قلم المخابرات، فنظرت إلي قائلة: خذ الأجرة، الله! جرى لك إيه يا أسطى؟ - أنا ما جراليش حاجة يا ستي، لكن أنت إيه اللي جرالك؟ - امسك أجرتك وبلاش قلة حيا، أما مجنون!
واختفت من أمامي داخل محل شملا، وأنا لا أزال منذهلا! أفكر وأبحث عن الأسباب التي ألجأت هذه السيدة إلى تغيير وتبديل شكلها، وأخيرا نبهني زميل لي لاحظ الحادثة قائلا: ما لك مبلم يا بو محمود؟ يظهر إن الست اللي معاك عصبية قوي! - عصبية إيه يا عبد الغني، دي ركبت بملاية لف، ونزلت بحبرة، خذ بالك منها، يمكن تطلع لابسة برنيطة، أما الستات دول نكتة قوي، سعيدة.
Página desconocida
نعود إلى سيداتنا بطلات التيرو، لقد تركتهن ومدفع رمضان على وشك أن يؤذن لعباد الله الصائمين بالإفطار، فركنت بجانب كوبري شبرا، وغيرت ريقي على اللي فيه القسمة، وبعد السيجارة صعدت متمهلا جسر شوبرا، ووقفت بجانب محطة المترو، وما مرت دقائق حتى شعرت بمركبتي تهتز قليلا، فالتفت وإذا «بآنسة» من اللاتي يقصدهن الشاعر في قوله:
صوني جمالك عنا إننا بشر
من التراب وهذا الحسن روحاني
أمرتني بالمسير قليلا إلى أن اكتنفنا الظلام تحت ظل شجرة كبيرة، وأمرتني بالوقوف، ولم يمض علينا أكثر من عشر دقائق حتى رأيت شابا يقترب منا متمهلا، وبيده سبحة كهرمان «واخد بالك» قال يعني خارج من تراويح إلى تراويح، وقفز بجانبها «ولا سأل عن محسوبك أو عبره» وبصوت الأمر أصدر إرادته الكريمة بالذهاب إلى الجزيرة، ووقفنا قليلا لتأدية واجب الزيارة للبار الصغير بجانب سميراميس، تبادلا فيها مقدمة الحديث على رنين الكأس، وسرنا بعدئذ على بركة الله، ورنت القبلة الأولى في أول تحويدة بعد الكوبري والليل هادئ ساكن، وسمعت تنهيدة خرجت من قلب ستي لخبطت كياني، وأردت أن أستعيد مركزي فأسرعت الخيل، وقال لي جنابه: على مهلك يا أسطى إحنا مش مستعجلين. - العارف لا يعرف يا بيه، بس الخيل جامدة شوية، ومش على بعضها، آه، فتهامسا وضحكا، ورنت القبلة الثانية، فقلت في نفسي: قسمتك يا بو محمود، واللي مكتوب على الجبين تسمعه الودان، وقضا أخف من قضا.
فدار الحديث، وللحديث شجون، فكان يلقبها بتوتو، وهي تناديه «بسوسو» ويستولي عليهما عفريت الحب والغرام، إلى أن يلمحا خفيرا أو شويشا، فينقلب الحديث توا إلى القطن والعزبة والناظر الجديد، ومركز الوزارة، وقانون التضمينات إلى أن يمر الخطر، فأسمع منها: هئ هئ، ويعودان لتوتو وحبوب، وأنا سايح «شفهيا» مستسلم بحكم المركز والوظيفة، متأكد أن أبي - رحمه الله - رأى أضعاف ما رأيت، ولكن ما باليد حيلة، المسألة وراثة.
وتنبها من حلمهما اللطيف نصف الليل، وأنا من شارع إلى آخر في الجزيرة والزمالك، وسمعتها تقول له: نرجع بقى أحسن بابا يرجع قبلي، يمكن يزعل.
فقلت في نفسي كأني أرد عليها: والله يا ستي لا يزعل ولا حاجة، يعني هو مش حاسس!
وبالاختصار، وقفنا في ميدان الأزهار، فانتقلت إلى عربة أخرى «كالعادة طبعا» فأوصلت البطل إلى مأواه، وقصدت منزلي توا؛ لأن السحور منتظر، وأبو محمود مسلم يصوم رمضان ويشوف فيه العجب، وكله «مقدر» يا زبايني الأفاضل، فإلى الملتقى قريبا.
حنفي أبو محمود
حول مذكراتي
Página desconocida
كتب أديب في جريدة الكشكول بإمضاء «ابن جلا» يعجب بمذكراتي، ويفتح لي بابا جديدا للكلام، والظاهر أن «سيدنا» زبون من زبائني المدردحين المغرمين بالنقد، المتضايقين مما نحن فيه من «خلل» في الرءوس وفي الأجسام، قال حفظه الله:
أعجبتني مذكرات «الأسطى حنفي، عربجي نمرة ...» لأن حديثه عذب لا يمله القارئ، نفثات وشاها قلم خبير بعللنا الاجتماعية التي وقفتم أنفسكم وصحيفتكم الغراء لاستئصالها.
أري أنه لا يجدر بنا - ونحن الآن في صدر عصر حريتنا - أن نتجاهل ونتعامى عن ما يجري في أرضنا، ويسبح في أثرنا من أنواع المخازي وضروب العار، لقد فكت سيداتنا وأوانسنا من عقال الحشمة والوقار، وما جرأهن على ذلك سوى ... «دعني أصارحك القول، وزرني أرفع النقاب عن الحقيقة المرة المؤلمة» سوى المظاهرات.
ما شاء الله، خطوة كبرى أرجو أن لا تنتهي «بزحلقة» فلقد نالت امرأتنا استقلالها، فصارت لها جرائد تتوسط لها في الزواج؟ ولجنة وفد، وسنرى لنسائنا إن شاء الله برلمان ولجنة دستور؟ فهل لسادتنا السفوريين من مطلب آخر؟
هذا ما سيخبرني عنه «الحاج حنفي» لأنه - ولا شك - «داير» والأخبار ترد إليه أول بأول:
والليالي كما علمت حبالى
مثقلات يلدن كل عجيبة
لقد رأيت الفتية يجلسون على حجر «الستات» وبأيديهن الأعلام يلوحون بها في الفضاء أيام المظاهرات، وأظن - بل أؤكد - أن الحاج حنفي «ركب» في مركبته - عينات وارد الثورة.
وأرى من تتبع مذكرات «الحاج حنفي» أن هناك أشياء أخرى لا يود سردها، ولكنني أرجوه أن يكون صريحا «في موقفه» وأن «لا يتلجم» فيتحفنا بما رآه وعن له.
بقي شيء واحد أود أن أشكوه - للحاج حنفي - مستطلعا رأيه في علة اجتماعية كبيرة: ما رأيك - يا بو محمود - في صحف تتعيش الآن من النصب؟ تسب الناس لتبتز أموالهم دعاوة للنقد، النقد الصحيح هو أن ينتقد المنتقد عملا يستهجن أو يرى أنه يعود على المجموع أو الأمة بالستر، حتى إذا عاد المنتقد إلى صوابه وعمل عملا نافعا حبذه وشكره ... فهل يصح في مثل عصرنا الحاضر أن يستتر هؤلاء تحت رواء الصحافة البريء، ويبتزون أموال الناس «عيني عينك» أو على عينك يا تاجر.
Página desconocida
ابن جلا
هذا هو ما كتبه الكاتب الأديب الذي يود أن يثير بيني وبين سيداتنا حربا لا قبل لي بها، ولا يمكنني أن أتحملها أبدا، أنا «خدامك ومحسوبك» «يابن جلا» فإلى الملتقى في المذكرة الآتية «بس إن عجبك».
حنفي
المذكرة الخامسة
أصبح العربجي أديبا يكتب «ولا حول ولا قوة إلا بالله» اتورطنا - واللي كان كان - لخمة لا نهاية لها، ومع هذا كله يعتقد بعض من أسيادنا - زباين الهنا - أني لست حوذيا، إنهم ينكرون علي ما متعني به ربي، ولماذا؟ لأني أنشر مذكراتي، فابتدأ يظن بعضهم أني أديب تنكر تحت هذا اللقب الذي لا أظن أنه يدخل في عداد الألقاب التي قال عنها الشاعر:
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
وإليك يا سيدي القارئ ما حصل، ركب معي يوم جمعة من كافيه ريش - محام تخرج حديثا، شاب أعرف عنه أنه من إخوان الصفا المدردحين «الذين حفظوا القانون لاتقاء الوقوع بين براثنه» ومعه موظف مسن من وزارة الأوقاف، كان يمثل في هذه المناقشة عقل الشيوخ الذين استحقوا معاشا كاملا منذ سنين، واستبقوه في وظيفته لا لكفاءة خارقة أو مقدرة هائلة، ولكن واسطته «جامدة» وله «ضهر».
ودار الحديث الذي كان تكملة لمناقشة سبقت على ما أظن، قال لموظف بتؤدة: والنبي يا ابني ده كلام فارغ، الدنيا خيرها قل وبقت ماشية بالمشقلب، بقى أنا أصدق إن «حنفي» ده عربجي! ده لازم يكون واحد لسانه طويل، وعاوز يكتب على كيفه، طيب وشرفك يا خوية أنا أعرف موظفين إذا كتب الواحد منهم إفادة بسيطة بسمل وحوقل وقرأ آيات الكرسي، وأبرزها حافلة بالغلط مزدانة بالتراكيب التي تشمئز منها نفس الأديب، ياما حيطان الدواوين بتداري. - كلام طيب، لكن مش بعيد أن يكون عربجي، وأصله تلميذ، وجار عليه الزمان، ففضل الصنعة على الوظيفة وعرف يعيش. - لكن ده مش كويس؛ لأنه حيقطع عيش إخوانه العربجية، أنا والله يا بني أفضل ركوب الأتوموبيلات «التاكس» أفضل؛ أقله الواحد يضمن سره، إن كان مع بربري ولا يوناني.
فقلت في نفسي: والله يا حنفي وجب بيع ميراث أبوك من عربات، وخيول صافنات قبل أن يصبح ثمنها زي التراب، وكفاية عليك ما رأته عنيك وسمعته أذناك.
Página desconocida
وانتبهت على صيحة المحامي وهو يقول: اركن شمالك على الكونتننتال يا أسطى.
سرت بعد ذلك، وأنا متأكد أن الأغلبية تتهم غيري بكتابة المذكرات مع أني صارحتهم القول باسمي ومهنتي، ولا ينقص إلا أن أكتب لهم نمرتي، وهنا تقع المصيبة على رأسي أنا فقط، وينتج من ذلك أن رواية مضحكة تبدأ في كل شارع، وكل موقف ومع كل عربجي، فلا يركب الزبون إلا بعد أن يتحقق من نمرة العربية وشخصية العربجي ليأمن على سره من لسان أبو محمود الطويل.
على ذكر المظاهرات، لقد رأيت وشاهدت عيناه - أيها القارئ - فصولا وروايات تكاد تشبه حوادث ألف ليلة وليلة، فكنت أرى بعيني إشارات المواعيد بينه وبينها، والمظاهرة في «حموها» أو تبادل الابتسامات أثناء مرور جنازة شهيد من الشهداء.
كم حملت عربتي بين الهرج والمرج والصياح زبونا من المنادين «بالاستقلال التام» إلى ميعاد بينه وبين «وليفة وطنية»! فنسير إلى خارج البلد ليتشاكيا: الغرام، والنواح، والألم، والبعد على حساب القضية المحترمة، ويقضيان ساعة على المبدأ القائل: «ساعة لقلبك، وساعة لربك، وساعة للوطن.»
ويظهر أن هذا المبدأ كان منتشرا حتى بين الأدمغة الكبيرة، فقد ركب معي من أعرف عنه بروز الشخصية، لا تقام حفلة إلا وله فيها مجال، لا يتم مشروع إلا وله فيه كلمة، ركب معي من شبرد في أيام الشدة - أيام المظاهرات - وبينما أنا داخل شارع المناخ أنادي بأعلى صوتي «أوعى الملف» أوقفني سعادته بإشارة من إنسان على الرصيف.
قلت: إنسان! وسأصفه للقارئ؛ ليعلم حقيقته ... أمثال هذا الآدمي تراهم في أوجه المجالس، يلبسون أنظف وأليق الملابس، ساعاتهم ذهبية، وخواتمهم ماسية، جيوبهم دائما عامرة، كأن لهم ريع ينفقون منه ولا ريع، ينامون إلى منتصف النهار، ويسهرون الليل، إذا سألت عن الواحد، قيل لك: هذا خدام إخوانه، جدع ومهاود، خبير بالجنس اللطيف، وبالاختصار نسميه نحن «مفتاحجي» فبعد أن سلم صاحبنا على زبوني المحترم قال له: أما يا سيدنا البيه عندي لك حاجة النهاردة لكن «هدية». - مين يا ترى؟
همس في أذنه اسما، خيل لي أني سمعته، فقال صاحبنا: أنا مشغول جدا في الميعاد ده ؛ لأن جلسة هامة تستدعي وجودي، ومع كل يمكن أقدر آجي. - إذا اسمح لي «يا إكسلانس» إني أكلم فلان بك في هذا الموضوع؛ أحسن الفرصة تضيع. - أنا متشكر على كل حال يا أبو علي، طول عمرك «جلاب المليح».
وسرنا فأوصلت سيدنا البيك إلى ... وأنا لا أتعجب إلا من صاحبنا الوجيه «البيرا» الذي استوقفنا في طريقنا ... وكم في البلد من أمثاله، يتوسدون الراحة ويأكلونها «أتة محلولة» يتكلم معك حتى إذا مر بالحديث ذكر الشرف والأدب ومكارم الأخلاق، هب يتكلم بأفصح ما سمع آدمي، تراه يشكو الأزمة، ووقوف الحال مع أن تقلبات «أجعص بورصة في أمريكا» لا تأثير لها على بضاعتهم.
يرجع مرجوعنا يا سيدي القارئ إلى ميدان الأوبرا، أيام سافر الوفد لأول مرة، والقاهرة قد أخرجت من بيوتاتها مجموعات مختلفة من سيدات وعذارى وعيال وبنات وخلافه، وتصور محسوبك بعربتي في وسط هذا الخليط من أتوموبيلات وعربات ملاكي «ووردناري» ومعي عائلة مكونة من أربعة أنفار من الجنس اللطيف طبعا، والعلم المصري يرفرف علينا، ونحن نسير بكل بطئ بين الهتاف المتواصل والمظاهرات المختلفة.
وابتدأت الإشارات والابتسامات اللاسلكية بين شاب من الشبان الناهض، وإحدى زبائني، ورأيته وقد اقترب بسرعة البرق حتى صار بجانب عربتي، وانتهز فرصة مرور مظاهرة أخرى، وفي أثناء الهتاف الذي كان يصم الآذان كان «الشاطر محمد» ينادي مع الهاتفين بصوت عال، ويتكلم مع ست الحسن والجمال بصوت واطي بالشكل الآتي: ليحيا الاستقلال التام. - عاوز أكلمك، عاوز أشوفك. - لتحيا السيدة المصرية. - كلمني في التلفون. - ليحيا الوفد المصري. - نمرة التليفون كام؟
Página desconocida
ويظهر أن الوالدة انتبهت أن هناك مظاهرة أخرى بجانبها؛ فانقطع تيار الحديث، ثم سمعت الآنسة تقول بكل بساطة لشقيقتها: الله! شوفي يا أبلة، نمرة العربجي زي نمرة تليفوننا بس بدال الخمسة ثلاثة.
وبهذه الطريقة نظر صاحبنا إلى نمرتي، وأبدل الخمسة ثلاثة بالطبع، وانتهت مهمته بعد أن كتب النمرة؛ لأنه يظهر عليه أنه «غبي» ما يقدرش يذكر نمرة، ونظر إلي بعينه الجميلة السوداء كأنه يشكرني بمناسبة نمرتي.
فقلت في نفسي: «الحق مش علي، الحق على المحافظة اللي جابتلي تهمة مش نمرة.»
ووصلنا إلى لوكاندة شبرد، فلمحت الأم على «التراس» بين خليط الواقفين طبيبا معروفا، فالتفتت إلى إحدى بناتها قائلة: مش الدكتور فلان ده اللي واقف جنب الراجل الإنجليزي؟ - والنبي يا نينة مش عارفة يمكن هو، لكن ده أحلى قوي. - وبرده يا بنتي الدكتور خطيته على نفسه شيك، والله هو.
وانتقلا من الحديث إلى الصياح والهتاف، وأنا لا أتعجب إلا من سرعة الانتقال من موضوع إلى آخر، من الهتاف إلى المواعيد، إلى الانتقاد على الخلق والعالم «إحنا ف إيه وإلا ف إيه؟»
وهل يصح أن تستلفت والدة نظر ابنتها إلى جمال إنسان أو قبحه؟ يعني هي ناقصة، موتونا يا عالم.
كان الله في عون الآباء والأزواج، في عون أرباب البيوت، في عون الرجال أصحاب الإحساس الذين شت منهم العقل بين المحافظ على السمعة والعرض من الشباك أو الأتوموبيل، من التليفون أو البوسطة، هذه هي الحقيقة، ولكنها تجرح وتلدع في سكون وهدوء بدون صوت أو فرقعة ككرباج محسوبكم.
الأسطى حنفي
المذكرة السادسة
يظن أسيادنا الأغنياء أن الأزمة لا تأثير لها إلا على طبقتهم، وليه؟ لأنهم - كما أظن ويفهم عقلي الصغير - يرون أننا بجانبهم حشرات صغيرة، تعيش بطبيعة الحال على وتيرة واحدة وحاجياتنا قليلة، وبالاختصار نحن عندهم أقل في التقدير من حيواناتهم.
Página desconocida
ولكن وحق من خلقك! ما حد بيطرش الدم إلا محاسيبك يا سيدي القارئ، إذا اشتدت الأزمة وكشر الدهر عن نابه الأزرق، وابتدأ يستبدل أيام الصفا بليالي الغلب، نحن في هذه الحالة نستحق رحمة حقيقية؛ لأن فيما نقاسيه درس من دروس نكبات الإنسانية من الإنسانية.
ترك لي أبي - محسوبك الأسطى أحمد الإسكندراني - عدا الصنعة سبع عربات، وثمانية أزواج خيل، من وارد السلطة، وبواقي تركات وارد مزادات وحجوزات على أولاد العز والبحبحة، حينما تبتدئ الحالة تنتهي وتزنق المداينين عليهم «لحد هنا كويس» ولكن الحال أصبحت لا تحتمل، وابتدأت أكع من اللحم الحي بعد أن انتشرت في شوارع القاهرة هذه السيارات، من كبير كالبيوت المتحركة إلى صغير كعربات اليد، وسمحت لهم المحافظة «حفظها الله» أن تضع رأسنا بين المطرقة والسندال، واحتار الواحد منا بين أكل البهايم وأكل العيال.
حتى في شارع الموسكي - أجارك الله - بقت التوصيلة بقرش، وضعنا، وضاع معنا الصبان، وسوارس دربك، يرحم الجميع.
وجاءت وزارة المالية أخيرا فأضاعت الأمل الباقي لنا في أسيادنا الموظفين بخصم علاوة الحرب، وحليت الركنة في الموقف، وصار الموظف يفضل «لطشة الشمس» ظهرا في إحدى محطات الترام عن لطشة الأجرة من جيبه، وبالاختصار بقى الواحد منا ينده ويقول: «آجي يا بيه؟» ولا فيش بهوات.
فلهذه الأسباب بعت جميع ما أملك إلا عربة واحدة محافظة على «سمعة العائلة» وشرف الاسم، وحبا في صنعة نشأت بين أحضانها، ووجدت نفسي على كرسيها «كرسي لا فيه استعفاء ولا مجلس تأديب».
بل قل: إن هذه الوظيفة بحوادثها لذت لي بين محاضر بوليس خفافي، وأوامر من شفخانات الحكومة، وتلاقيح زباين، وتزانيق طلعت على راس محسوبك «اللي ما يسمى».
الله يعلم بعدد من وضعوا أرجلهم على سلم عربتي، آلاف وآلاف، ولكن بالرغم من ذلك هناك شخصيات يستحيل أن ينساها مثلي؛ لأنها بارزة في شكلها، معرفة من وصفها، لا يصح ذكر الاسم؛ لأن في وصفي لها ما يكفي عن تعريفها.
سأبتدئ بزبون سقع، ظهر حديثا في البلد وأثناء الحرب «جه منين؟ أصله إيه؟ مش لازم تعرف» إنه يسكن حلوان على ما أظن، فطالما أخذته من محطة باب اللوق وإليها في ساعات متأخرة من الليل وصباحا، بيه؟ أفندي؟ ربك يعلم، كل ما فيه أن شخصيته بارزة، فإذا رأيته مرة انطبعت صورته في مخيلتك فلا تنساه.
ضحكاته يسمعها القريب بوضوح والبعيد أيضا؛ لأن ضحكته التي يرسلها من حلقه لها قوة النحاس ورنينه، أما أحاديثه - حتى معي - فلا يمكن أن تتصور أتفه منها، وله أمثال يحفظها كثيرا، ما كنت أستعرضها أمام رفاقي وآل بيتي فكانوا يعجبون لصدورها من سعادته.
يتكلم من الإفرنسية جمل الاعتذار والتحية، يقابلك صباحا بنسوار، ومساء بنجور، وينسى أن لا يسمع في منزله إلا العوافي، ويا ميت مسا، ويكون العالم سعيرا فيقابلك بكل برود قائلا بالفرنسية: «إن البرد شديد» لا يقصد الغلط، وإنما ليدلك على علمه الفاضح.
Página desconocida