Fundador del Egipto Moderno
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
Géneros
38
ويلوح أن هذا التصرف وحده لم يأت بنتيجة ما، وأغلب الظن أن الجوع هو الباعث الوحيد الذي دفع شعبا متأخرا وساذجا كالشعب السوداني إلى الإقبال على الصناعة، هذا فضلا عن أنه لم يتعلم شيئا البتة من معلميه المصريين الذين لم يكن يظن فيهم التحمس لهذا الواجب الإلزامي.
ولعل أهم ما طرأ من التغيير في خلال السنوات العشر التالية هو أن الخرطوم تحولت من قرية صغيرة إلى مصاف المدن وبها 500 منزل مبنية بالطوب الأحمر، هذا عدا الثكنات والمخازن وغيرها من الحدائق التي يزرع فيها التين والعنب، وكان هذا من عمل خورشيد باشا الذي حكم الإقليم سنوات عديدة واتخذ الخرطوم عاصمة له.
وليس من ريب في أن ازدهار مدينة الخرطوم ونموها كان النتيجة التي تنشأ، وخاصة في الشرق، عن وجود قاعدة الحكومة في جهة معينة.
على أن محمد علي لم يكن كثير الارتياح لركود حركة الإنتاج في ذلك الإقليم؛ فلقد قضى في التفتيش في ربوعه ستة أشهر كاملة فيما بين سنتي 1837 و1839م، ولعل غايته من ذلك التفتيش كانت لتحقيق الحلم الذي ظل يداعب محمد علي نفسه ألا وهو العثور على الذهب، ولكنه كان يرمي فوق ذلك إلى غاية مهمة؛ وهي تنمية الزراعة في تلك الجهات وتوسيع مداها.
وفي الوصف المذكور عن رحلته هذه دلائل ناصعة على تفاهة النتائج التي تحققت وعما كان يجول في خاطر الباشا من الأفكار عن طريقة تنمية السودان، وعلى الرغم من - أو بالأحرى بسبب - ما كان ينتظر من كثرة المحصول، وقد قدره وقتئذ بنحو 60 ضعفا، فإن الزراعة كانت ما تزال مهملة والأرض لم تخل من قشرتها القابلة للزراعة إلا بواسطة قطع الأخشاب الكبيرة؛ ومن ثم تقرر إجراء تجربة أخرى ألا وهي تنمية زراعة قصب السكر والقطن والنيلة، واختير لهذه الغاية عدد من الشبان العرب من خريجي مدرسة المهندسخانة، وأعطى لكل منهم 100 فدان معفاة من الضرائب لمدة خمس سنوات، ووكل إلى كل منهم عددا من الشبان السودانيين لتعليمهم الوسائل الراقية المستخدمة في الزراعة المصرية.
ثم ألح الباشا في الوقت نفسه على الزعماء السودانيين أن يسعوا وراء تحسين الزراعة ويعملوا على تنشيطها، وكثيرا ما كان يقول لهم: لو احتذيتم حذو غيركم من الناس؛ فليس من ريب في أنكم سوف ترتقون من مستوى العجماوات إلى مصاف الأوروبيين، ولسوف تبلغون من الثروة وتتعلمون كيف تنعمون بمسرات الحياة مما يحول جهلكم دون تصوره، ولكن هذا ما كان ليتم بدون الأيدي العاملة وإلا لما تحقق شيء من هذه الأحلام. ويقال إن سامعيه قد خلبت ألبابهم تلك الصورة الزاهية التي رسمها لهم محمد علي عن المستقبل، حتى إنهم توسلوا إليه أن يأخذهم إلى مصر ليتعلموا الوسائل الفنية، ولكنه نصح إليهم بأن الأفضل أن يرسلوا أبناءهم.
39
ولما كان هذا كله قد تم في نهاية الفترة الإيجابية في إبان حكم محمد علي فلا مندوحة عن الاستنتاج بأن فتحه للسودان قد وطد سيادة مصر في ذلك الإقليم، ومكن الباشا من الحصول على عدد معين من العبيد، ولكنه لم يؤثر مطلقا فيما كان عليه السكان من الثقافة الفطرية، كما أنه - وهذا ما كانت له أهمية كبرى في نظر محمد علي - لم يؤثر أي تأثير في إنتاج الإقليم من الوجهة المادية، كما أن القضاء على الوهابيين لم تكن له أي نتيجة أكثر من إعادة فتح مكة والمدينة للحاج.
ومن ناحية أخرى فقد كان لاتساع نفوذ محمد علي شرقا وجنوبا نتائج على جانب عظيم من الأهمية، فبينما كان الساسة الفرنسيون واقفين وقفة المتفرج كانت للساسة الإنجليز مصلحة مباشرة في الموضوع، ويمكن أن يعزى منشأ ارتيابهم في سياسة محمد علي إلى الفترة الواقعة بين سنتي 1811م و1822م؛ فقد كانت لأعماله العسكرية في بلاد العرب والسودان آثار مباشرة في ثلاث مناطق كانت لهم فيها فعلا مصالح حيوية، ألا وهي: البحر الأحمر، والخليج الفارسي، والحبشة.
Página desconocida