Fundador del Egipto Moderno
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
Géneros
كلمة الترجمة
مقدمة
1 - محمد علي وارتفاع شأنه
2 - عماد الإمبراطورية
3 - عماد الإمبراطورية
4 - مسألة الجزائر وفتح سوريا
5 - فكرة إنشاء إمبراطورية والطرق البرية
6 - الحرب السورية الثانية وحبوط تدابير محمد علي
7 - حكم محمد علي في مصر
8 - آثار حكم محمد علي في جزيرة كريت وسوريا
Página desconocida
الخاتمة
كلمة الترجمة
مقدمة
1 - محمد علي وارتفاع شأنه
2 - عماد الإمبراطورية
3 - عماد الإمبراطورية
4 - مسألة الجزائر وفتح سوريا
5 - فكرة إنشاء إمبراطورية والطرق البرية
6 - الحرب السورية الثانية وحبوط تدابير محمد علي
7 - حكم محمد علي في مصر
Página desconocida
8 - آثار حكم محمد علي في جزيرة كريت وسوريا
الخاتمة
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي
مؤسس مصر الحديثة
تأليف
هنري دودويل
ترجمة
أحمد محمد عبد الخالق
علي أحمد شكري
Página desconocida
كلمة الترجمة
إذا قلنا مصر الحديثة فقد قلنا الأسرة العلوية المجيدة، وفي طرفها الأول محمد علي الكبير، وفي طرفها الثاني جلالة الملك فاروق الأول حرسه الله. وليس يسع المؤرخ إلا أن يعجب حقا بما يبذله جلالة الجالس على عرش مصر من همة مقطوعة النظير لإتمام المهمة التي اضطلع بها أبوه العظيم ساكن الجنان الملك فؤاد الأول، وهي كشف ما يحيط بتاريخ مصر من غموض ولبس؛ ليظهر جليا واضحا للعالم أجمع، فيتسنى للأجيال المصرية المقبلة أن تشرب من هذا المعين الصافي، وتحمد لأسرة محمد علي ما قدمته من خدمات صادقات حولت مصر من ولاية تركية متواضعة الأهمية إلى مملكة مستقلة ذات سيادة، يحسب حسابها وينزل على رأيها. ويضيق المقام إذا أراد الباحث أن يأتي على كل ما عمله الملك الراحل في سبيل نشر تاريخ مصر. وإليك بعض ما أمر جلالته بوضعه من الكتب الفذة: (1)
فلقد أوصى الكاتب الفرنسي الكبير المسيو هانوتو بوضع كتاب عن تاريخ الأمة المصرية يقع في سبعة مجلدات ضخمة. (2)
عهد إلى المسيو دريو بوضع تاريخ مصر والدول الأوروبية العظمى (1839-1841)، ويقع في خمسة مجلدات. (3)
مختصر تاريخ مصر (من عهد ما قبل التاريخ إلى العصر الحاضر)، وهو من وضع فريق من المؤلفين الممتازين، ويقع في ثلاثة مجلدات. (4)
تاريخ الغزوات الحربية لمحمد علي وإبراهيم، وهو بقلم الجنرال فيجان القائد الفرنسي المشهور. (5)
تاريخ الغزوات البحرية لمحمد علي وإبراهيم، تأليف الأميرال دوران فييل. (6)
تاريخ ساكن الجنان إسماعيل، بقلم المسيو جورج دوران، وهو في 5 مجلدات. (7)
كتاب الفن المصري في خلال العصور المختلفة، وقد ظهر أخيرا في مجلد واحد. (8)
مؤلف مصور عن مصر من وضع الأستاذين بواسونلس وترامبلييه. (9)
Página desconocida
وأخيرا هذا الكتاب الحاضر الذي نترجمه للقراء عن تاريخ محمد علي الكبير بقلم الأستاذ هنري دودويل مدرس التاريخ بجامعة لندن.
ولهذا الكتاب أهمية خاصة؛ فإن مؤلفه لم يدخر وسعا في الاطلاع على كثير من المستندات الرسمية ذات القيمة التاريخية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، كما استطاع فوق ذلك الاطلاع على بعض التقارير المحفوظة في وزارة الخارجية البريطانية، وهي التي أرسلها القناصل الإنجليز في مصر إلى دولتهم.
يضاف إلى هذا أن الأستاذ دودويل كان قد هبط إلى مصر حيث أسعده الحظ بالتشرف بمقابلة جلالة الملك فؤاد، فتفضل جلالته بأن أذن له بالاطلاع على بعض الخطابات والأوامر التي كان محمد علي قد أصدرها إلى كبار موظفيه. •••
ويسير جلالة الفاروق على غرار أبيه العظيم؛ فجلالته لا يلقي اهتمامه إلى التاريخ فحسب، بل أصبح بحق راعي الحركة العلمية والثقافية في وادي النيل، بل لا يكاد أي مشروع يرمي إلى تقدم مصر يخلو من تعضيد الفاروق ومناصرته، وليس إنشاء جامعة فاروق الأول في الإسكندرية في أثناء حرب عالمية واتجاه النية إلى إنشاء جامعة أخرى في أسيوط بالشيء الهين. والآن وقد انتهت الحرب في القارة الأوروبية، فلسوف يشهد العالم العجب العجاب من آثار نشاط الفاروق - حرسه الله - في السير بوادي النيل في معارج الفلاح في كافة نواحي التقدم والعمران.
ولما كانت مصر الفاروق قد أخذت تتبوأ مكانة ممتازة ليس بين الشعوب العربية الشقيقة فحسب، بل وبين الدول الأوروبية؛ نظرا لموقعها الجغرافي ومركزها الثقافي - وها هو صوتها يدوي في المؤتمرات الدولية - فقد رأينا واجبا علينا أن نخرج للقراء هذا الكتاب النفيس عن الجد الأعلى للفاروق، مستعينين بالله تعالى، فمنه الهداية والتوفيق.
المترجمان
مقدمة
ليس ما سنعرضه أمام القارئ في كتابنا هذا سوى محاولة لاجتناب ما جرى عليه الكتاب الفرنسيون من التقاليد، من جعل الشخص الذي يترجمون له «بطلا»، وما ألفه الكتاب الإنجليز من جعل من يكتبون عنه «وغدا جبانا»، بل جعلت همي أن أتحقق مما قام به محمد علي؛ وذلك بتقصي ما يوجد من المادة الأساسية الأصلية، وهي مهمة أصبحت في السنوات الأخيرة من وجوه عديدة أسهل بكثير مما كانت في الماضي.
فلقد نشرت الجمعية الجغرافية في مصر تحت رعاية جلالة الملك فؤاد الشيء الكثير من المعلومات الجليلة، وما نشرته باللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية يعتبر على جانب عظيم من الأهمية وله قيمته الكبيرة.
ولم أقتصر على دراسة هذه الوثائق، بل قد اطلعت بالتفصيل على ما كتبه ممثلونا من التقارير المحفوظة ضمن أضابير وزارة الخارجية البريطانية ووزارة الهند، هذا إلى أنني قد تمكنت بفضل معونة الأستاذ قطاوي من الإفادة من تقارير القناصل العموميين الروس، وهي التقارير التي لم تنشر إلى يومنا هذا، وبخاصة تقارير الكونت ميديم معتمد روسيا، وقد كتبها في أحرج الأوقات التي مرت بمحمد علي.
Página desconocida
كذلك استطعت أخيرا بفضل إذن جلالة الملك فؤاد أن أدرس طائفة قيمة من الخطابات والأوامر التي أصدرها محمد علي لكبار موظفيه.
وليس يسعني في هذا المقام إلا أن أنوه بما أسداه إلي من المعونة المشكورة كل من المسيو رينيه ويوسف جلاد بك (باشا)؛ فإنهما لم يضنا علي بمساعدتهما القيمة، كلما احتجت إليهما أثناء قيامي بمهمتي في القاهرة.
على أنني أشعر بأنني مدين للمسيو جورج دوين والأستاذ ل. م. ينسون؛ فلأولهما بسبب الانتفاع العظيم بالمجلدات القيمة التي كتبها للمجموعة التي نشرتها الجمعية الجغرافية الملكية في مصر، ولثانيهما لتفضله بقراءة مسودات الكتاب الحالي وتقديم ما عن له من الملاحظات النافعة.
هنري دودويل
الفصل الأول
محمد علي وارتفاع شأنه
لا يزال معشر أبناء الجيل الحالي يميلون إلى الاستخفاف بقوة أجدادنا في القرن الثامن عشر، وازدراء ما كان في أساليبهم من الخبرة والابتكار. فآدابهم الرسمية، وأزياؤهم المبرقشة، وأراجيزهم الحماسية، ورواياتهم الرقيقة الخيالية، وتواريخهم الشخصية؛ كل هذا يشعر بنهاية الدنيا القديمة أكثر مما يشعر ببداية دنيا جديدة. وعلى الرغم من هذا، يتعذر علينا المبالغة في مقدار ما نحن مدينون لهم به من الدين الحديث؛ فهؤلاء الأجداد لم يقتصروا على أن خلفوا لنا آراء معينة عن حب الإنسانية، ونظريات واضحة عن النهضة والرقي، بل تركوا لنا كذلك طريقة استخدام البخار في الصناعات، كما خلفوا لنا انقلابا في فنون الحرب، وهما النقطتان العظيمتان اللتان دارت حول محورهما آراؤنا وتاريخنا الحديث. وفي الواقع أن أجدادنا قد أحدثوا انقلابا كليا في موارد القوة، كانت نتيجته انهيار صرح الإمبراطوريات الكبرى وفشل ريحها؛ لأن القوة لم تعد قاصرة على سلالة أولئك القبائل الرحل الذين اندفعوا شرقا وغربا وجنوبا، وأخذوا يندفعون من براري روسيا الوسطى تجر في أذيالها مظاهر الخراب والقسوة. بل صارت الآن ملكا للشعوب التي تستطيع بما لديها من جنود المشاة المنظمة أحسن تنظيم أن تصمد بلا خوف ولا وجل في وجه أي قوة من الجنود الراكبة، بل أصبح في وسعها بفضل ما لديها من مدافع الحصار الضخمة أن تشق طريقا لنفسها وسط الأسوار مهما بلغت مناعتها وقوتها، كما أنها بفضل مدافع الميدان تقدر على تشتيت ما قد يستطيع الجنود الآسيوية الراكبة أن تحشده من التجمعات.
وبالجملة، لم ينته القرن الثامن عشر حتى كانت الولايات الهندية قد ذاقت الأمرين من فعل السلاح الجديد، وأخذت تطأطئ رأسها أمام شدة فتكه. هذا بينما كان الأتراك في الشرق الأدنى قد عجزوا عن مقاومته، وهم الذين كانوا قد تمكنوا قبل ذلك بكثير من اختراق جبال الكربات، وكادوا أن يستولوا على فيينا نفسها، وبدءوا ينسحبون أمامه؛ ومن ثم شرعت جنودهم تنجلي باستمرار عن المقاطعة تلو الأخرى وينتزع منهم الإقليم بعد الإقليم، بل إن قبضتهم على الآستانة أخذت تضعف رويدا رويدا. وكان بديهيا أن تنشأ عن ازدياد الشعور بالضعف العسكري جملة عواقب أدبية لها أثرها السيئ؛ ذلك لأنه كلما تلاشت الثقة بالنفس ازدادت الثقة المتبادلة انهيارا وضعفا. فقد تزعزعت ثقة الصاري عسكر - أو القائد العام - بمعاونيه من الضباط الذين كانوا بدورهم يرتابون فيه، ثم إن الآستانة أخذت تضمحل بشكل ملموس، وهي التي كانت يوما ما حصن الإسلام الحصين وركنه الركين، والتي أقيمت عليها المساجد في الماضي ذكرى لذلك الدين، لا بل إنه حتى المسيحيون المحتقرون الذين لبثوا القرون الطويلة وهم قانعون بحرث الأرض وأداء الجزية عن يد وهم وهم صاغرون - كما كان يفعل الرعايا الهندوس في دلهي - قد بدءوا يرفعون رءوسهم ويتهامسون بالاستقلال. وأصبح شأن باشوات السلطان كشأن أمراء الهند إبان سطوة إمبراطورية المغول لا ينفذون من الأوامر إلا ما يكفل لهم الربح ويعود عليهم بالمنفعة، ولم تكن «بشالك» بغداد ودمشق والقاهرة سوى ولايات تابعة في الاسم فقط.
علاقة مصر بتركيا
ذاقت ولاية مصر الكثير من مساوئ الحكم التركي في خلال العصور الطويلة، ولم تكن علاقاتها بالإمبراطورية يوما ما وثيقة حتى منذ الفتح العثماني في عهد السلطان سليم، بل لقد تركت غنيمة باردة يستبد بها من فروا من مذبحة المماليك، وأقاموا أنصع البراهين على نذالتهم وجبنهم بهجرهم لمولاهم. نعم؛ كان يشرف على أعمالهم أحد الباشاوات الذي تعينه حكومة الآستانة، وهذا الباشا الوالي نفسه كان عرضة للاستبدال من آن لآخر؛ لأنه لم يكن حاكما إلا بالاسم فقط لأن البيكوات وهم رؤساء المماليك وزعماؤهم قصروا مطامحهم على تحقيق اللبانات الشخصية الخاصة، بينما كان أتباعهم - وهم خليط من رقيق الجراكسة والكرج - يدربون على تأليف قوة من الجنود الراكبة غير النظامية. وفي الواقع، كانت هذه القوة أشجع وأسمى قوة راكبة غير نظامية في كافة أنحاء العالم، وكانت نفوس البيكوات تتطلع لاقتفاء الأشياء التي تهم ذواتهم. مثال ذلك أن الخراج الذي ينتزعونه من البلاد كان يذهب في ابتياع الثياب الزردية الفاخرة، وملء الإسطبلات بأفخر الجياد العربية، وتزيين القصور بأثمن السجاد الشرقي، وجلب أجمل بنات الرقيق إلى الحريم ووضعهن تحت حراسة الخصيان العبيد.
Página desconocida
وقد غاضت موارد مصر وتلاشت بسرعة في عصر هؤلاء المحاربين السخفاء؛ فالترع التي لم يكن للزراعة حياة بدونها أصبحت مسدودة بسبب الإهمال، وبينما كان العمران يتلاشى في المدن كانت الصحراء تطغى على الجهات التي كانت يوما ما آهلة بالسكان. ثم إن الإسكندرية تدهورت إلى مدينة صغيرة لا يزيد عدد سكانها على 5000 نسمة بعد أن كانت ميناء عظيمة زاهية بتجارتها ومصنوعاتها. وكثيرا ما شن البدو الرحل الغارة على الجهات المسكونة، ولم يكن يخطر لأية قافلة من القوافل أن تقطع الطريق من السويس أو القصير إلى القاهرة في أمان إلا إذا كانت مصحوبة بقوة كبيرة من الحرس العسكري، وبالجملة فإن مصر في عهد المماليك كان مثلها كمثل السند في عهد الأمراء المغول سواء بسواء.
وقد أدى ظهور الأتراك العثمانيين إلى العدول عن طريق التجارة القديمة بين بغداد والخليج الفارسي أو بين الإسكندرية والبحر الأحمر، وهي التي كانت خلال العصور الطويلة وسيلة لنقل الجزء الأكبر من التجارة بين الشرق والغرب. ولكن حوادث الهند في أواسط القرن الثامن عشر اقتضت إيجاد وسائل للمواصلات مع أوروبا تكون أكثر سرعة من طريق رأس الرجاء الصالح.
فمشروعات «دبليه»، وأعمال «كليف»، ومعارك «وارن هاستنجز»، مضافا إليها مسألة المسائل؛ وهي: هل تحكم الهند بحيث يكون الإشراف على تجارتها بواسطة لندن أو باريس، كل هذه الشئون تطلبت اتخاذ قرارات عاجلة وإرسال الإمدادات على جناح السرعة، ومن ثم أصبحت لشئون مصر وسوريا والعراق أهمية عظيمة في نظر الدولتين الأوروبيتين المتنافستين.
وكان من عادة شركة الهند الشرقية الإنجليزية من عهد بعيد إذا أرادت إرسال بريد مستعجل إلى الشرق أن ترسل رسلها برا عن طريق حلب فبغداد، على أن يستقلوا السفن عند رأس الخليج الفارسي، ولكن هذا الطريق لم يكن مأمونا بحال ما؛ بسبب ازدياد القلاقل في «بشلك» بغداد من ناحية، وبسبب غارات القبائل البدوية المتوالية من ناحية أخرى. على أن الطرود التي كانت ترسلها الشركة لم تكن تحتوي على ما يمكن أن يسيل لعاب البدو أو يحرك شهواتهم، ولكنهم حتى وإن اعتقدوا أن الرسول لا يحمل في جعبته قسطا كبيرا من المال؛ فإنه كثيرا ما كان يعن لهم أن يتسلوا بقتل ذلك «الكافر».
ومع أن كثيرا من الطرود وصلت سالمة إلا أن حاملها كان عرضة للقتل أو على الأقل لأن يرغمه البدو على إتلاف أوراقه.
1
على أنه كانت هناك طريق أخرى عدا هذه الطريق بواسطة مصر ثم البحر الأحمر، وكان في اتباع هذه الطريق فائدة لا يستهان بها؛ وهي تقصير مدة السفر في المنطقة التي تقطنها القبائل الرحل من القاهرة إلى السويس. وليس من ريب في أن السفر بهذه الطريق كان يكفل انتظام الطريق وسلامته، بشرط الاتفاق قبل ذلك مع البكوات المماليك في مصر، فلما هبط الرحالة «جيمس بروس» إلى وادي النيل في سنة 1768م وجد علي بك حاكم مصر الفعلي رافعا راية العصيان علانية ضد الأتراك وشديد الميل لمصادقة «الكفار»؛ ليأمن بمساعدتهم له شر الاعتداء التركي، وقد كان من الذكاء، بحيث أقول بأنه سيتمكن بتشجيعه التجارة من زيادة إيراداته. وسرعان ما وجدت اقتراحات بروس المؤيدة من التجار الطليان المقيمين في الإسكندرية ظهيرا في الاقتراحات المقدمة مباشرة من القباطنة الإنجليز الذين رءوا تدهور التجارة في البحر الأحمر، فتصوروا أنهم قد يجدون لبضائعهم الواردة من البنغال سوقا رائجة في القاهرة.
وكان لعلي بك من الاهتمام بالموضوع أنه بعث بخطاب إلى ولاة الأمور الإنجليز في البنغال، مقترحا عليهم أن يفتحوا طريقا للتجارة مع السويس رأسا، وتحدى أوامر السلطان بأن لا يسمح لأي سفينة مسيحية بالاقتراب من الموانئ الواقعة في شمال جدة.
2
وعندما أصبح «وارن هاستنجز» حاكما لقلعة وليام في سنة 1772م أدرك فورا بثاقب رأيه ما عسى أن تفيده البنغال من قبول الاقتراحات المذكورة، وقد أرسلنا فعلا بإرشاده عدة قوافل تجارية، وهكذا إلى أن عقدت اتفاقية مؤقتة تعهد بها خلفاء علي بك بأن يضمنوا سلامة البضائع عند إرسالها من السويس إلى القاهرة.
Página desconocida
3
على أن هذه الترتيبات لم ترتج لها شركة الهند الشرقية ولا السلطان الذي كان قد استرد بعض سلطته القلقة على مصر، فأما الباب العالي فقد خشي على موارد الحجاز من أن تتأثر فيما لو تحولت التجارة الهندية من جدة إلى السويس، وأما الشركة فقد كان تخوفها من أن يؤدي نشاط الحركة التجارية عن طريق مصر إلى الإضرار بما لديها من امتياز تصدير البضائع المهربة من الهند إلى أوروبا عن طريق البحر المتوسط.
وكانت نتيجة ذلك كله أن الشركة أصدرت في سنة 1777م أمرها بمنع إرسال السفن المشحونة بالبضائع إلى إحدى الموانئ الواقعة في شمالي جدة، ولكنها حصلت في الوقت نفسه من الباب العالي على وعد شفوي بأن يسمح لبريدها وطردها باجتياز الأراضي المصرية مجانا.
ولم تكن لهذا التدبير نتيجة أصلا؛ إذ لم يكن لا بوسع الشركة ولا الباب العالي تنفيذ هذه الأوامر حرفيا، فإن حق إرسال الطرود أسيء استعماله، وكان وسيلة لنقل البضائع المغشوشة؛ مما ترتب عليه إلقاء القبض في سنة 1779م، ثم في سنة 1780م على حاملي الطرود الإنجليزية وأودعوا السجن.
4
وأظهر الفرنسيون في الوقت نفسه أشد الاهتمام بما يمكن أن يؤدي إليه طريق مصر من الاحتمالات، فلقد كانت الطريق المذكورة تبشر في نظرهم بفوائد طائلة؛ لأنها من الوسائل المؤدية إلى تقليل شأن السيادة البحرية البريطانية تلك السيادة التي كان لها أسوأ تأثير في سير حرب السنوات السبع.
فلو تحول الشطر الأكبر من التجارة الهندية إلى طريق البحر المتوسط، فلن يقتصر الأمر على إفادة التجار الفرنسيين فوائد جسيمة، بل إن واجبات الأسطول الفرنسي تقل كثيرا عما عليه. ومما شجع على التعلل بهذه الأماني ما كان يلوح على الإمبراطورية العثمانية من علامات الاضمحلال والفناء، فإن شاءت الأقدار أن تتلاشى تلك الإمبراطورية؛ فإن جيرانها كروسيا والنمسا لا محالة تجنيان فوائد جسيمة في الحال. ولكن هذه الفوائد - كما لاحظ الفرنسيون في سنة 1873م - قد تصبح لا قيمة لها باحتلال الفرنسيين لمصر، على أنه كان يوجد رأي آخر له قيمته من حيث إنه يمكن تطبيقه عمليا فورا ألا وهو عقد محالفة مع البيكوات، وهو ما حدث فعلا.
ففي أوائل سنة 1785م توصل أحد المندوبين الفرنسيين إلى توقيع عدة اتفاقات مع البيكوات ومع العميل الأساسي، ومع أحد زعماء البدو على نقل البضائع الفرنسية في أمان في مقابل شروط مرضية، فكان مثل هذه الاتفاقات كمثل المعاهدة المؤقتة التي وصفها «وارن هاستنجز» بمعنى أنها أقامت الدليل ناصعا على قلق الموقف المصري، فلم يكتف الباب العالي برفض إبرام المعاهدة الفرنسية، بل عمل على تدعيم سلطته المزعومة على مصر.
وكانت النتيجة المباشرة أن الخطر الذي كان يهدد مركز الإنجليز في الهند تلاشى مؤقتا، ولكن كان لا يزال هناك احتمال بأن الفرنسيين قد يخطر لهم يوما من الأيام أن يوطدوا أقدامهم في مصر إما بالقوة أو بطريق المفاوضات، ومن ثم أخذنا نحتذي حذو الفرنسيين؛ فإن جورج بلدوين الذي لعب دورا مهما في مشروعاتنا الأولى عين قنصلا عاما، وصدرت التعليمات بأن يعقد مع البيكوات معاهدة كالتي عقدت بينهم وبين الفرنسيين، ولكن عودة النفوذ التركي بعد اضمحلاله جعل عقد هذه المعاهدة أشق مما كان ينتظر، وانقضى عام وتلاه عام آخر، ولاحظت وزارة الخارجية أن بلدوين كان يتقاضى سنويا مرتبا قدره 1400 جنيه دون أن يصنع شيئا.
ومن ثم قرر غرنفيل سنة 1793م إلغاء هذا المنصب أو أن تقوم الشركة الهندية بدفع مرتبه إذا كانت ترى ضرورة وجود بلدوين في مصر، وما كاد غرنفيل يقرر هذا حتى جاءت الأنباء سراعا بأن بلدوين قد نجح بعد طول الجهد في توقيع المعاهدة المطلوبة.
Página desconocida
ولكن رجال الوزارة وقتئذ ما عدا «دنداس» أخذ اهتمامهم يتحول كلية عن مصر؛ بسبب الخطر المباشر الذي نشأ عن وقوع الثورة الفرنسية، ولكن سرعان ما دفع الفرنسيون أنفسهم إلى الاهتمام بشئون مصر؛ ذلك أن عوامل عديدة أجمعت في شتاء 1797م و1798م على تجهيز حملة عسكرية وإرسالها إلى الشرق.
وقد نمى إلى غرنفيل في فصل الربيع أن دور الكتب التابعة للحكومة قد فحصت فحصا دقيقا لاستيعاب ما فيها من الكتب الخاصة بالرحلات إلى مصر وإيران والهند، وأن الحكومة الفرنسية قررت الانتفاع بخدمات علمائها ممن لهم دراية بتاريخ العرب والترك والفرس، وأن الحملة جعلت غايتها احتلال مصر وشق الطريق عبر برزخ السويس.
نعم؛ لم يكن أحد يعرف وقتذاك إلى أي حد يمكن أن ينظر الإنسان إلى هذا المشروع نظرة جدية ولكن «دنداس» عده «مشروعا فائقا خيرا»، هذا بينما أن حاكم كلكتا العام رأى من قبيل الاحتياط لإحباط هذا المشروع سلفا أن يجهز على السلطان «تيتو» أو يكبح جماحه قبيل أن يوفق بونابرت بفضل مضاء عزيمته وجسارته إلى إيجاد وسيلة لإمداد السلطان بفرقة من الجنود الفرنسية. أما في إنجلترا فقد استقر الرأي على حشد أكبر عدد ممكن من السفن لتشتيت الحملة التي تجمعت في ميناء طولون كائنا ما كانت الغاية التي ترمي إلى تحقيقها. وبهذه المناسبة كتب «جون ننجتون» وكان صادقا فيما كتبه «أن إنجلترا لم يسبق لها اتخاذ قرار حكيم كهذا مقرونا بمثل هذا الحماس العام.»
وفي 19 مايو غادر نابليون ثغر طولون على رأس قوة تبلغ 38000 جندي، وفي 12 يونيو سلمت له مالطة سلاحها، ولم يحن آخر الشهر المذكور حتى ألقى نابليون مراسيه في الأراضي المصرية بالقرب من الإسكندرية، فاحتل المدينة من فوره وبدأ زحفه إلى الجنوب. وفي 18 يوليو أنزل بالمماليك هزيمة ماحقة في معركة الأهرام بالقرب من القاهرة، ثم دخل إلى العاصمة في 24 يوليو، وبعد ثمانية أيام التقى الأميرال نلسن بالعمارة الفرنسية فأجهز عليها في خليج أبي قير بعد أن قضى الأسابيع الطويلة يجد في اقتفاء آثارها.
ومن ثم بدأت تظهر للعيان آثار السيادة البحرية؛ ذلك أن نابليون بعد أن انقطعت عنه المؤن والإمدادات، بل والأنباء التي يمكن أن يكيف حركاته على ضوئها، قد تمكن بفضل عبقريته في التنظيم من إنشاء حكومة، وأن يسترضي الزعماء الدينيين في القاهرة، ويقمع الفتن ويضع البلاغات الطنانة. نعم؛ كان عليه أن يفعل ذلك كله، ولكنه كان في أعين الفرنسيين كمن يحرث أرضا مجدبة في حاجة إلى الماء، ولقد حاول شق مخرج لنفسه عن طريق سوريا، ولكن سفن أعدائه كانت قد نقلت إلى عكا المؤن والإمدادات بزعامة قائد محنك تمكن من القضاء على ما بذله الفرنسيون من الجهود الفريدة لاحتلال ذلك المكان.
ولئن طنطن نابليون أمام سكان القاهرة بأنه دك أسوار عكا وترك المدينة قاعا صفصفا؛ فإن ذلك لم يغير شيئا من الواقع، وهو أن الهزيمة حلت به ودارت الدوائر على مشروعاته الضخمة.
وأخيرا، اضطر إلى الإذعان أمام منطق الحوادث، فتخلى عن جيشه في مصر وانقلب راجعا إلى فرنسا في يوم 22 أغسطس سنة 1799م، تاركا مكانه في القيادة ل «كليبر» الذي كان على حق في التبرم بمنصبه هذا والارتياب فيه؛ فإنه ما كاد يسمع باقتراب الجيش التركي حتى شرع في مفاوضة السير سيدني سمث الذي كان يقوم بالدفاع عن عكا. وفي 24 يناير سنة 1800م عقد اتفاق العريش الذي نص على جلاء الجنود الفرنسية عن الأراضي المصرية والعودة إلى بلادها في السفن التي يجمعها ولاة الأمور الأتراك لهذا الغرض.
ولكن بينما كان هؤلاء مشتغلين بجمع السفن المطلوبة بما عرف عنهم من حب التراخي انتهزت الوزارة الإنجليزية الفرصة بناء على معلومات خاصة وصلتها عن قوة الحملة الفرنسية في مصر؛ لتعلن أنها غير مرتبطة باتفاق الفرنسيين سالف الذكر.
وقد أدت هذه الغلطة إلى إرسال حملة إنجليزية لإخراج الفرنسيين من مصر، وفي نهاية العام المذكور كان السير «رالف أبار كرومبي» يسير في اتجاه مصر على رأس قوة عددها 15000 جندي لطرد الفرنسيين من وادي النيل، بينما جهزت حملة هندية لمناوأتها من ناحية البحر الأحمر.
وفي 8 مارس سنة 1801م ألقي السير رالف مراسيه في خليج أبي قير، وكان القائد كليبر قد لقي حتفه قبل ذلك، وانتقلت القيادة إلى «مينو»؛ وهو قائد غير محنك اعتنق الإسلام، واقترن بزوجة مسلمة، ثم دارت رحى المعركة خارج الإسكندرية؛ فأسفرت عن قتل السير رالف، وعن التجاء قسم كبير من الحامية الفرنسية إلى الاحتماء داخل أسوار الإسكندرية، بينما عهد إلى بقية الحملة وعددها 12000 بالدفاع عن قلعة القاهرة.
Página desconocida
ولم يكن في هذا المسلك البعيد عن الجرأة العسكرية ما يبشر بوقوع مقاومة عنيفة؛ إذ سرعان ما بدأت القاهرة تلقي سلاحها ثم تلتها الإسكندرية، ومن ثم وصل الاحتلال الفرنسي في مصر إلى تلك الخاتمة المحزنة. على أن هذا الاحتلال لم يكن بغير نتائج، فلقد زعزع حكم المماليك، كما أنه أزال الغشاوة التي كانت مخيمة على أعين الإنجليز، ونبهتهم إلى أهمية مصر من الوجهة العسكرية بصفتها دولة واقعة في منتصف الطريق بين الشرق والغرب، ثم إنه كشف للملأ عن عجز تركيا، وأخيرا جاء إلى مصر بطريق الصدفة بأحد المجازفين الألبانيين، ألا وهو محمد علي.
كانت ولادة محمد علي في سنة 1769م في دار صغيرة بأحد الشوارع المهجورة القديمة في قوله، وهي ثغر صغير يحيط به سور، ولا يعرف عن أرومة محمد علي إلا النذر اليسير، وهناك خلاف في الرأي على ذلك، فمن قائل بأنه منحدر من سلالة تركية، بينما يوجد من يقول بأنه من سلالة فارسية. ويستند القول الأول إلى قوة بنية محمد علي ومتانة أخلاقه، بينما يستند القول الثاني إلى ذكائه المرن وسعة حيلته.
وكان أبوه إبراهيم أغا قومندان فصيلة محلية من الجنود غير النظامية في خدمة الوالي، وقد لحق بربه تاركا ابنه الصغير في حضانة ذلك الوالي. ويخيل إلينا أن تربية هذا الصغير كانت على أسس عملية صارمة؛ ذلك أن الطعام كان يقدم إليه في الأوقات المناسبة كما كان يقسر على لبس ما يختار له من الملابس وأداء الصلاة في أوقاتها.
ثم درب على ركوب الخيل وحمل السلاح. وأغلب الظن أنه عندما بلغ سن الشباب خرج في صحبة الدوريات المكلفة بمطاردة العصابات أو بتحصيل الخراج.
ومن ثم تعلم القواعد الأولية للحرب، وفن مباغتة العدو وأساليب القيادة. وهناك ما يدل على خروجه على رأس بعض هذه الدوريات حيث أبلى أحسن بلاء.
وهنا نرى أنفسنا تحت رحمة القصاصين ومروجي الحكايات، الذين أولعوا بالمبالغة فيما يروونه من الروايات، وبما يضيفونه على الموضوع من الحواشي التي يتخيلونها تخيلا؛ لإظهار آثار العبقرية التي لمحوها حتى في تلك السن المبكرة لمحمد علي ومقارنة عظمته فيما بعد بما كان يظهر عليه في البداية من سيما التواضع.
ولما بلغ الفتى سن الثامنة عشرة زوجه الوالي من إحدى قريباته، فاستولدها خمسة من الأولاد الذكور، وهم الذين رزقهم محمد علي في حياته. ثم مالت نفسه لمزاولة تجارة التبغ؛ إذ ليس بخاف أن أجود أنواع التبغ التركي يزرع في الإقليم المتاخم لقولة، ولكن ليس في وسعنا أن نقول على أي مقياس كان محمد علي يعمل في تلك التجارة . وقد خيل إلى بعض المؤرخين أنه كانت لمحمد علي تجارة واسعة تستند إلى أموال قرينته الثرية، بينما يقول آخرون إنه استعان على الخروج من ورطته بقرض تافه لا يزيد على روبيتين. ومهما يكن من أمر فإن ما نعلمه بصفة قاطعة هو أنه كان يذكر حياته الماضية بالحنان المصحوب بالأسف. وقد ذهب في أخريات أيامه لزيارة مسقط رأسه، وأوقف وقفا خصص ريعه لنفقات إحدى مدارس قولة التي لا تزال موجودة إلى يومنا هذا.
5
فعندما اضطر الباب العالي - تحت ضغط إنجلترا - لحشد الجنود وإرسالها إلى مصر جريا وراء الأمل الكاذب وهو طرد الفرنسيين منها؛ طلب إلى والي قولة - أو كما يسمونه بالتركية: شوربجي قولة - أن يجهز فصيلة من الجنود قوامها 300 محارب، فصدع الوالي بالأمر وجمع الفصيلة المطلوبة تحت قيادة ابنه علي أغا وأرسل محمد علي كمساعد له.
ولكن السفر في البحر إلى أبي قير كان متعبا بسبب العواصف الجوية، حتى إذا ألقت القوة التركية مراسيها في الأراضي المصرية قاست الأمرين من الحرمان والفاقة، قبل أن يقذف بها الفرنسيون إلى البحر. وفيما ينقلونه من الروايات عن حادث الهجوم الفرنسي هذا استطراد بأن محمد علي نفسه كاد أن يلقى حتفه غرقا وهو يحاول ركوب السفينة، لولا مبادرة إحدى البوارج الإنجليزية الواقعة على مقربة من الميناء إلى إنقاذه.
Página desconocida
ومهما يكن نصيب هذه الرواية من الصحة، فإن علي أغا قائد الفصيلة استولى عليه الجزع بسبب ما رآه من دوران البحر والجوع والعطش؛ فسارع بالعودة إلى بلاده وترك قيادة الفصيلة لمحمد علي. وليس من يشك في أن إقدامه من ناحية وسعة حيلته من ناحية أخرى استلفتا أنظار القادة الأتراك، بينما أكسبته حصافة رأيه وحسن رعايته للجنود ثقة رجاله.
فلم يحل عام 1801م حتى كان محمد علي أحد الضابطين الكبيرين المتوليين قيادة الفصيلة الألبانية، باعتبارها الجزء الرئيسي من القوة التركية المعسكرة في مصر. وقد تعاونت هذه القوة مع الحملة الإنجليزية إلى حد الاقتراب من الجهات غير المحصنة في مصر واحتلال الأماكن الخالية من الحاميات الفرنسية.
على أن هتشنسن وهو الذي خلف أبار كرومبي في قيادة الحملة الإنجليزية سرعان ما تزعزعت ثقته في مقدرة تلك القوة التركية، وأخذ يحس بعجزها عن الاحتفاظ بمركزها في مصر.
6
ومما عزز هذا الرأي في نفسه أن الباب العالي طلب إبقاء قوة إنجليزية في وادي النيل بعد طرد الفرنسيين منه؛ منعا لكل محاولة من ناحيتهم لاحتلال مصر مرة أخرى،
7
ولقد اقترح السفير الروسي احتلال النقط الحربية المهمة بالإسكندرية والسويس إلى نهاية الحرب على الأقل، وكان هذا هو أيضا رأي الحاكم العام في الهند البريطانية.
وقد انبرى بعض الكتاب لوضع كراسات بهذا المعنى.
8
وقد حبذ دنداس هذه الفكرة؛ لأنه كان على الدوام مقتنعا بأهمية مصر من الوجهة الحربية. وصادفت الفكرة قبولا لدى الوزارة التي أبدت رغبة شديدة في الوصول إلى تسوية العلاقات بين السلطان والبكوات للحيلولة دون تكرار سوء الإدارة، كالتي ساعدت الاحتلال الفرنسي وعاونته. وتحقيقا لهذه الغاية اقترح تحديد حقوق المماليك وواجباتهم وتنظيم طريقة لجباية الخراج،
Página desconocida
9
وتعيين مبلغ محدد للاحتفاظ بقوة عسكرية تحت إشراف ضباط بريطانيين.
ولم يكن «إيلجن» سفيرنا بالآستانة - لسوء حظنا - بالرجل الذي يستطيع إقناع الأتراك بأن مصلحتهم تقضي بالموافقة على ترتيب أمين، برغم أنه كان مكروها في نظرهم. فبدلا من أن يقترحوا شروطا راحوا يقيمون الدليل ناصعا على ما اشتهروا به من نقض العهود؛ ذلك أن قبطان باشا - كما كانوا يسمون الأميرال التركي - أغرى بعض المماليك بالحضور على ظهر ذهبيتين، ومن ثم أمر بإطلاق النار عليهم واعتقل من نجا منهم من القتل. وكادت هذه الحادثة أن تؤدي إلى نشوب القتال بين القوات التركية والقوات الإنجليزية، ولم يطلق الأتراك سراح من وقع بيدهم من الأسرى إلا تحت تأثر التهديد، ومن ثم انسحب البيكوات إلى أعالي الصعيد بعيدا عن متناول يد الأتراك. وبينما كانت هذه المشاحنات والمنازعات قائمة على قدم وساق تم توقيع معاهدة «أمبان» التي قضت بإعادة مصر إلى حظيرة السلطان بتركيا، فأصبح لفرنسا الحق بمقتضى هذه المعاهدة بأن تطالب بجلاء القوات الإنجليزية عنها في الحال.
وبعد عدة محادثات ضعيفة لتسوية مسألة البيكوات ، قنع القائد البريطاني بإصدار أوامر بالعفو عن البيكوات وإعطائهم مديرية أسوان. ومن ثم شرعت الجنود الإنجليزية بعد ذلك تستقل السفن مصحوبة بأحد زعماء المماليك، وهو ألفي بك الذي ذهب لزيارة لندن، وقد عين الميجر «ميسيت» ممثلا لإنجلترا في مصر للإشراف على سير العلاقات بين الأتراك والمماليك، ولبذل كل ما في وسعه لمنع دخول الفرنسيين إليها. وهكذا انتهى الاحتلال البريطاني لمصر في مارس سنة 1803م.
وبديهي أن تعيين ميسيت ممثلا لإنجلترا كان يراد به إحباط دسائس القناصل الذين عينتهم فرنسا بعد توقيع معاهدة إمبان، ثم شرعت الدول المتاخمة لشواطئ البحر الأبيض المتوسط ترسل معتمديها إلى مصر، وحذت حذوها فيما بعد السويد وبروسيا وروسيا.
وقد كان هؤلاء المعتمدون منقسمين إلى فريقين صريحين، ففريق منهم كان يشغل معظم وقته بمراقبة الشئون التجارية، بينما كان الفريق الثاني يعنى بالمسائل السياسية. وبديهي أن هذا التقسيم كان بنسبة أهمية الدول التي كانوا يمثلونها، على أنه لم يكن في بداية القرن التاسع عشر من الشئون السياسية ما يستحق الاهتمام.
ولهذا كان القناصل العموميون من أمثال صولت ودورفيني يقضون الوقت في جمع التحف القديمة مثل ما يقضونه في تمثيل مصالحهم الوطنية، ولكن أصبحت لأعمالهم السياسية منذ سنة 1830م فصاعدا أهمية جديدة، وصاروا في الواقع - وإن لم يكونوا في الشكل - معتمدين سياسيين حقيقيين لدى بلاط الباشا، مهمتهم توجيه أعماله إلى ما يطابق سياستهم الوطنية، وقد أصبح بعضهم أصدقاء حميمين لمحمد علي، لا بل أن نفوذ الكولونيل كامبل الشخصي كان له أثر كبير في تكييف إدارة حكومة محمد علي، إن لم نقل في تكييف سياسته الخارجية.
وقد ترتب على رحيل الإنجليز أن خلا المسرح لسلسلة من الدسائس، ولنصب أشراك المؤامرات بشكل مقطوع النظير. فقد كان الأمر البادي للعيان أن هناك حزبين يتطاحنان في سبيل الاستيلاء على مصر، وهما الأتراك والمماليك، ولكن كانت الأمور في الواقع أعقد من ذلك بكثير؛ فقد كان الأتراك أنفسهم منقسمين إلى فريقين: فريق كان يأتمر بأوامر خسرو باشا المعين من قبل السلطان ليحكم مصر، والفريق الثاني وهم الألبانيون كانوا لا يأتمرون إلا بأوامر زعيمهما طاهر باشا ومحمد علي. كذلك كان المماليك شطرين، أحدهما يناصر البرديسي والثاني يؤازر الألفي، وكان كل من هذه الأقسام الأربعة أشد ميلا لسحق الأقسام الأخرى بدلا من تكاتف الجميع لدفع الخطر المشترك. ولهذا كانت احتمالات الائتلاف كثيرة؛ لأن الإنسان كان وقتئذ يمكنه أن يتكهن التكهن المعقول الممكن، وهو أن قسما من هذه الأقسام الأربعة ما كان ليستطيع البقاء طويلا بمفرده.
وكان خسرو باشا أول من اختفى من على المسرح السياسي، فعندما عين فيما بعد صدرا أعظم للإمبراطورية وصفه الساسة الغربيون بأنه «رجل متوحش وأمي ولكنه ذكي ومقدام.»
ولكن تبين في عام 1803م أن أخلاق خسرو لم تسم إلى هذا المستوى الراقي، وإنما وصف وقتئذ بأنه جاهل في الحرب والسياسة أو الإدارة تمام الجهل، ولا يعرف من هذه الفنون سوى حز الرقاب.
Página desconocida
10
وبالطبع كان مركزه بمصر في منتهى الحرج؛ ذلك لأن الأتراك كانوا أبغض في أعين الشعب من الفرنسيين لأن جهلهم باللغة العربية - وهي لغة المصريين المقدسة - مضافا إليه لحنهم عند التكلم بها وصلفهم ودعواهم بأن لهم الحق في حكم البلاد؛ كل هذه الصفات ساعدت على استلاب كل معونة محلية منهم. وكثيرا ما دعا عليهم مؤرخ ذلك العهد «الجبرتي» بأن يمحقهم الله جميعا.
وكان على رأس الفصيلة الألبانية طاهر باشا الذي كان ما أصابه في بلاده من النجاح وما اشتهر به من الوحشية في قيادة إحدى عصابات قطاع الطريق سببا في مكافأته بالالتحاق بجيش السلطان. ولقد أبدى طاهر في مصر الشيء الكثير من الشجاعة وسعة الحيلة، ولكنه لم يكافأ المكافأة التي وعد بها.
11
ثم إن أنصاره كانوا في شدة التذمر بسبب عدم دفع مرتباتهم، وكانت النتيجة أنهم أثاروا فتنة في القاهرة في شهر مايو سنة 1803م، وهي حادث مألوف كان يقع يوميا في الجيش العثماني. ولما عرض طاهر باشا وساطته على خسرو رفضها هذا؛ فلم يكن من طاهر إلا أن ذهب في اليوم التالي على رأس الفصيلة الألبانية فهاجم القلعة واحتلها، وإذ ذاك فر خسرو إلى دمياط ، وارتقى طاهر منصة الحكم. ولما لم تكن الجنود العثمانية قد شدت أزر طاهر في هذه الحركة؛ فإنه أهاب بالمماليك أن يتقدموا لتأييده، ولم يترتب على مصرعه أي تغيير في الموقف المباشر؛ لأن محمد علي سرعان ما حل محله. وإذ ذاك اشترك الألبانيون والمماليك في إنزال الهزيمة بمينو بالقرب من دمياط، وقادوه أسيرا إلى القلعة في القاهرة، وكان هذا أول ائتلاف بين الألبانيين والمماليك ضد الأتراك.
وما كادت هذه الأنباء تصل إلى الآستانة حتى صدر الأمر إلى حاكم آخر يدعى علي باشا بالذهاب فورا على رأس قوة من 1500 جندي ليحل محل الحاكم المخلوع خسرو فوصل إلى الإسكندرية واحتلها. ولكن سرعان ما أوقع نفسه في نزاع مع قناصل الدول الأوروبية المقيمين في تلك المدينة؛ فلقد أعلن أن الامتيازات لا حرمة لها ما دام هو الحاكم بأمره. ولم يكن مطاعا بين جنوده، وقد كانوا يتسلون بإطلاق النار على الشعار المعلق فوق القنصلية السويدية، ثم إنه حاول أن يتدخل في حكم أصدرته المحكمة المحلية في صالح الفرنسيين لسبب مجهول. وفي أوائل سنة 1804م بدأ يزحف جنوبا في اتجاه القاهرة متوقعا أن يهب الألبانيون تحت قيادة محمد علي إلى مناصرته، ولكن الألبانيين لم يحركوا ساكنا، وأخيرا وقع الباشا في أسر البرديسي فأمر بإعدامه.
12
وإذ ذاك عين باشا ثالث - وهو خورشيد - مكانه، وكانت العلاقات بين الألبانيين والمماليك قد أخذت تفتر؛ لأن الأولين كانوا شديدي التمسك بتسلم مرتباتهم كاملة، بينما لم يكن أمام المماليك إلا أن يلجئوا إلى القروض الإجبارية وغير ذلك من الوسائل العنيفة.
ولشد ما كان حزنهم أنهم رأوا أنفسهم مضطرين أن ينهبوا الأهالي لمصلحة الغير، ثم إنهم أظهروا ميلا لمساعدة خورشيد بصفته «باشا» مصر؛ وذلك نظرا لدماثة خلقه واعتدال آرائه. ومن ثم أصبح المجال واسعا خاليا لعقد ائتلاف جديد، وقد تم فعلا، كما كان مقدرا بالضبط؛ فلقد عاد ألفي بك من إنجلترا في فبراير سنة 1804م، وسرعان ما هب حزب البرديسي يساعده الألبانيون بتشجيع من محمد علي - على الأرجح - لمهاجمة حزب الألفي ونهب منازلهم في القاهرة . ولشد ما كان اغتباط محمد علي بهذا الانقسام بين صفوف البيكوات،
13
Página desconocida
وراح من فوره ينشد حليفا آخر في شخص الباشا الجديد، وكان لا يزال في الإسكندرية. وقد أبلغ محمد علي المعتمد الفرنسي في القاهرة بأن الألبانيين بمجرد استطاعتهم الحصول من المماليك على مرتباتهم المتأخرة عن الأشهر الثمانية السالفة؛ فلسوف يعقبه انفجار يعيد الألبانيين إلى حظيرة رضا السلطان. ثم استرسل، فقال: «ماذا عسانا أن ننتظر من أناس كالمماليك؟! إنهم أعداؤنا الطبيعيون وهم لا يتحرجون عن الغدر بإخوانهم الأتراك.»
14
وقد حدث الانفجار في الوقت الملائم كما توقعوا. ففي يوم 11 مارس أغار الألبانيون في القاهرة على دور زعماء البيكوات، فسلمت القلعة. وإذ ذاك أعلن محمد علي الفرمانات بتعيين خورشيد باشا واليا على مصر،
15
وكان طبيعيا أن يتقدم الباشا للاتصال بحليفه، ثم دارت رحى القتال عدة أشهر حول القلعة بين البيكوات من ناحية وبين الباشا ومحمد علي من الناحية الأخرى، ولكن بدلا من اتجاه الألبانيين والمماليك في العام السالف لطرد خسرو باشا فإن هيبة الأتراك قد تلاشت الآن، حتى إن خورشيد أصبح لا يعتمد إلا على محمد علي، وكان نفوذه آخذا في الازدياد، وقد صار الباشا - كما حدثنا لسبس - بحق عبارة عن أداة يسخرها الألبانيون كما يشاءون في قضاء مأربهم،
16
وفي خريف هذه السنة تجلت هذه الحقيقة بشكل لا خفاء فيه، فلقد بدأ الألبانيون يضيقون ذرعا بمصر، وأخذ كثيرون منهم يحنون إلى أوطانهم ويجأرون بطلب العودة بصحبة ما جمعوه من الغنائم والأسلاب. ولكن خورشيد أحس بأن لا سبيل إلى احتفاظه بمركزه بغير مساعدة محمد علي المنطوية على الحزم وسعة الحيلة؛ ولذا ألح عليه في البقاء، ونحسب أننا لا نعدو الواقع إذا قلنا إنه لم يجد صعوبة في إقناعه بذلك.
17
وكان البؤس وقت ذاك قد ضرب أطنابه في كافة أنحاء القاهرة، ولكن لم يكن ثمة مناص من ترضية جنود محمد علي وحملهم على البقاء . وهنا لم ير خورشيد حيلة إلا أن يرضيهم بتجديد طرق الابتزاز التي كانت شائعة في أيام المماليك. مثال ذلك أن أعيان الأقباط جيء بهم إلى القلعة، وطلب إليهم تقديم 2000 كيس «نحو 10000 جنيه»، ولكن المماليك المعسكرين حول القاهرة قطعوا عنها الحبوب؛ فتفشت المجاعة في المدينة، ومن ثم أخذ المسلمون الصالحون يتحسرون على أيام حكم الفرنسيين الكفار!
18
Página desconocida
وظل معتمدو الدول ينظرون إلى هاتيك الحوادث دون أن يستطيعوا التكهن بما سوف تؤدي إليه من العواقب. ولقد راجت بعد مرور جيلين من وقوعها إشاعة، ربما كان باعثها الرغبة في استدرار السخاء الخديوي بأن ليسبس المعتمد الفرنسي أدرك عبقرية محمد علي من بداية الأمر، وأنه ساهم في ارتفاعه بما كان يبذله له من النصائح. ولكن توجد إلى جانب هذه الرواية الخيالية أقوال ليسبس نفسه لتليران عن محمد علي، فقد قال: «لست أظن أن محمد علي له من العبقرية ما يجعله يفكر في المشروعات الكبرى، ولو سلمنا جدلا أنه فكر فيها فليس لديه من الوسائل ما يمكنه من تنفيذ ما يفكر فيه.» من أجل هذا فإن ليسبس لم يكن يشجع هذا الزعيم ذا العبقرية المحدودة أو يميل إليه. كلا؛ بل كان ميله إلى البيكوات المماليك الذين كان يظن أن دعوتهم إلى كراسي الحكم سوف يتبعها ازدياد النفوذ الفرنسي.
19
وكان المعتمد البريطاني المأجور ميسيت معذورا في وقوعه ضحية لهذه الأماني الخداعة. على أن حوادث سنة 1905م كان لها الفضل كل الفضل في جلاء الموقف؛ فإن أهالي القاهرة بعد أن دفعهم المماليك إلى أحضان الجوع والفاقة، وبعد أن التهمهم الباشوات أخذوا ينفرون واشرأبت أعناقهم إلى الزعيم الألباني يرجون منه إنقاذهم من ويلاتهم. ولعلك تجد الباعث على هذا القلق في أعمال التحريض الماهرة أكثر مما تجده في الاعتراف بالجميل الناشئ عن الوجدان النفسي؛ فإن محمد علي - كما حدثنا المؤرخ العربي المعاصر - قد توثقت عرى الصداقة بينه وبين أحد العلماء، كما أنه كان يختلف خفية إلى داره ليتملقه، ويؤكد له أنه لو كان أمر مصر بيده لأدار دفة الحكم بالعدل ولاتبع ما يشير به عليه الزعماء الدينيون من الآراء والنصائح.
ومن ثم بدأ محمد علي بإعداد أنصار له في المدينة نفسها، وهي التي حاول خورشيد باشا عبثا أن يسيطر على مصائرها باحتجاز عالمين من علماء الدين كضمانة في يده.
ولم يكن بينهما العالم صديق محمد علي، ثم شرع في الوقت نفسه يأتي بالإمدادات من سوريا ليستغني بها عن معونة الألبانيين، فكان في حضور هذه الإمدادات إلى مصر فصل الخطاب؛ ذلك لأنه تبين أن قائدهم هو شقيق أحد الذين اشتركوا في اغتيال حياة طاهر باشا. وقد برهنت هذه الإمدادات على أن نظامها دون نظام الألبانيين أو المماليك بمراحل، وهنا راجت سوق الإشاعات المقلقة في الخارج عن مسلك هذه الإمدادات، ورويت روايات تقشعر منها الأبدان عن كيفية وصولها إلى القرى، وطردها السكان من مساكنهم، واعتدائها على عفاف نسائهم، ثم قتلهن بعد ذلك واختطافها الأطفال. على أن هذه الأقاصيص - إذا حكمنا بما راج من مثيلاتها في الجهات الأخرى - لم ينقص منها شيء أثناء ترديدها، ثم إن ما تضمنته من المبالغات لم يضعف من تأثيرها الأدبي. ومن ثم استولى الذعر على أهالي القاهرة من أقصاها إلى أقصاها، وأغلق الأزهر أبوابه، وخلت الأسواق من السابلة، وأصبح المرء لا يجرؤ على مغادرة داره إلا وهو يشعر بأنه يحمل حياته على كفه.
وكان محمد علي عند وصول هذه الإمدادات التي قضت مضاجع الأهلين بسلوكها الوحشي متغيبا عن القاهرة في غزو المماليك ومشتغلا بتشتيتهم، فلم يلبث أن عجل بالعودة. ولم ينقض أسبوع حتى دخل العاصمة على رأس 4000 جندي، زاعما أن الباعث له على دخول المدينة هو للحصول على مرتبات رجاله؛ وهي حجة سرعان ما صادفت نقطة حساسة في أنفس الإمدادات بصفتها مكونة من جنود أتراك. وفي يوم التاسع من شهر مايو كان الأمر قد التبس على خورشيد، فلم يدرك مغزى مجيء محمد علي، فانتهز فرصة عودته لإعلان الفرمان الشاهاني القاضي بإعطائه متصرفية جدة. ولقد كانت هذه الإشارة اللبقة المقترنة برغبة التملق الموجهة للزعيم الألباني بأن وجوده في مصر بات غير مرغوب فيه كافية لأن يبت محمد علي في الموقف بسرعة؛ فبينما كان خورشيد يتأهب للعودة إلى داره في القلعة إذا بالجنود الألبانيين يحيطون به ويستحثونه لدفع مرتباتهم، موجهين إليه تهمة الاستغناء عن جباية الإيرادات العامة، ثم أخذوا يهددونه بالقتل العاجل إن لم يدفع هذه المرتبات. وهنا تقدم أحد الضباط الألبانيين ليدرأ عنه عنف الجنود، وبينما كان خورشيد يعمل على التخلص من ذلك الموقف الحرج كان الشعب بإرشاد العلماء ينادي بمحمد علي واليا على القاهرة.
20
وأخيرا، تمكن خورشيد من الفرار إلى القلعة، ومنها حاول تصويب مدافعه على المدينة لإخضاعها، ولكن طوبجية الأتراك فشلوا في تحقيق هذه الغاية، ولم تؤد محاولتهم إلا إلى إهاجة الأهالي لا إزعاجهم.
ثم تقدم العلماء معتمدين على تأييد الألبانيين بسلسلة مطالب. ولقد كانت الحكمة في نظر القوم تقضي وقتئذ - كما تقضي الآن - بأنه في المساومات السياسية، كما في المساومات التجارية سواء بسواء، ينبغي أن تبدأ بطلب ما تعتقد أنه المستحيل. وجريا على هذه الحكمة طلب العلماء بأن تعسكر الجنود من ذلك الوقت فصاعدا على ضفة النهر الغربية، أي في جهة الجيزة، وألا يسمح لأي جندي مسلح بدخول العاصمة، وألا يكلف الأهالي بتقديم الإعانات.
21
Página desconocida
فلما رفضت هذه المطالب عادوا إلى المناداة بمحمد علي واليا على القاهرة بطريقة رسمية، وشرعوا في محاصرة القلعة، وبلغ حماس الأهالي إلى درجة الغليان؛ مما جعل يذكر رجال الجالية الفرنسية - وكانوا يرقبون تطور الأحوال عن كثب - بشدة اندفاع سكان باريس المتحمسين للثورة الفرنسية.
22
وفي الواقع كان هناك تشابه كبير بين الثورتين؛ فإن الشعب في كلتا الحالتين كان منهمكا في استبدال حاكم بآخر، على أنه برغم ذلك كان يوجد فارق جوهري بين الحالتين. فالشعب الذي كان يتدفق وراء غوغاء باريس ورعاعها كان يهدف إلى إيجاد معاهدة جديدة، بينما لم يكن للرجل الواقف خلف فتنة القاهرة من غاية سوى تعزيز نفوذه الشخصي بالوصول إلى كرسي الحكم. وإذا كان الفرنسيون كذلك قد هاجموا البستيل واستولوا عليه، فإن سكان القاهرة على الرغم من أنهم كانوا يقتلون أنصار خورشيد أينما عثروا عليهم في الطريق، وعلى الرغم من أن كلا من هؤلاء السكان حتى الأطفال راح يبتاع السلاح؛
23
فإنهم لم يستطيعوا الاستيلاء على القلعة. نعم؛ لقد تظاهر محمد علي بمساعدة الأهالي، فقد أمر بسحب المدافع إلى قمة جبل المقطم؛ حيث يشرف على القلعة، ووضع جماعة من الرماة الماهرين في مأذنة جامع السلطان حسن، ولكن الزعيم الألباني لم يكن يرى في الحالة ما يقتضي استعجال الأمور والوصول بها إلى نتيجة حاسمة. ولعله كان يعتقد أن ذلك يكلفه الكثير من الضحايا في وقت لم يكن يعتمد فيه الاعتماد كله على رجاله.
وفوق ذلك فإنه كان يفضل أن يصير باشا القاهرة برضاء الآستانة، لا أن يعلن عصيانه على السلطان، وقد ذهب المعتمد الفرنسي دورفيشي، وهو أبعد نظرا من سلفه ليسبس،
24
إلى الباب الموضوع في تقرير بعث به حوالي ذلك الوقت إلى حكومته في باريس، فقد كتب يقول:
إن تصرفات هذا الزعيم الألباني صاحب المشروعات الكبيرة تحملني على الظن بأنه يؤمل أن يصبح باشا القاهرة بلا قتال ما وبدون إغضاب السلطان؛ فكل تصرف من تصرفاته يكشف عن عقلية ماكييفالية، حتى لقد بدأت حقا أعتقد أن له عقلا أرجح مما لدى الكثيرين من الأتراك. ويخيل إلي أنه يرمي إلى اعتلاء كرسي الحكم باسترضاء العلماء والشعب، وهكذا يرغم الباب العالي على التنازل له عن طواعية عن كرسي الحكم الذي يكون قد تم له الاستيلاء عليه.
ولقد جاءت النتيجة طبق ما توقعه هذا المعتمد الحاذق؛ ذلك أن رسولا من قبل السلطان وصل إلى الإسكندرية في شهر يونيو يحمل أمرا بإعطاء ولاية مصر لخورشيد أو لمحمد علي، أي لأصلح الرجلين وأعزهما نفرا، وبعد لأي ما اعترف الرسول بأن محمد علي هو الأقوى، فخلع عليه الولاية ...
Página desconocida
وفي يوم 7 أغسطس غادر خورشيد القلعة وأخذ طريقه إلى بولاق لركوب السفينة التي أقلته إلى الإسكندرية.
ولقد كان ما أظهره محمد علي من المهارة السياسية أثناء هذه الحوادث مما يعتبر - والحق يقال - خارقا للمألوف؛ فإنه أولا ساعد المماليك على قهر خسرو باشا، ثم إنه رجح بعد ذلك كفة أحد حزبي المماليك ضد الحزب الآخر، وبعد هذا وذاك شد أزر خورشيد باشا ضد المماليك ، وأخيرا وضع نفسه على رأس أهالي القاهرة في ثورتهم على خورشيد، وأيضا على الأتراك والمماليك بالتوالي. ولكنه كان في كل هذه الحركات واقفا عن كثب لا يسمح لنفسه بالتورط في تأييد أحد من هذه الأحزاب المتطاحنة، ثم إنه تمكن في نهاية الأمر من نيل رضاء السلطان بتوليته ولاية مصر، ولقد شاء بعض الباحثين أن يرى في سعي محمد علي للحصول على موافقة السلطان؛ رغبة منه في صبغ قوته بصبغة قانونية. ولكن محمد علي كان سياسيا عمليا قوي الشكيمة، لا يعنى إلا بلباب الأمور دون قشورها؛ ولذا لم يكن يحفل كثيرا بقيمة الحق المعنوي. على أن اعتراف السلطان لم يضاعف نفوذ محمد علي داخل مصر نفسها؛ لأنه لم يكن يتوقع لوصول إمدادات من الجنود من الآستانة لتأييده، ولا أن يواصل الباب العالي تأييده ولو أدبيا، بل إن الديوان المغامر الذي نخر سوس الرشوة عظامه لن يتردد في أن يقلب له ظهر المجن متى ظهر على المسرح مرشح يمكن أن تعقد عليه الآمال، هذا إلى أن المماليك كانوا لا يزالون يحتلون الوجه القبلي بأسره وجزءا غير قليل من الوجه البحري. ولكن الاعتراف الشاهاني بولايته قد أراح باله مؤقتا على كل حال، وجعله يطمئن إلى عدم التدخل من ناحية تركيا ولو إلى أجل مسمى. وهكذا صار في وسعه - ولو لبضعة أشهر - أن يتفرغ للمماليك وحدهم دون أن يكون مضطرا للموازنة بين الأتراك والمماليك، إلا إذا تدخلت في شئون مصر إحدى الدول الأوروبية العظمى صدفة.
ومهما كان من أمره فقد كان الشك يحيط بمركزه؛ لأن جيشه لم يكن يمكن الاحتفاظ به كمجموعة متحدة إلا عن طريق دفع المرتبات بانتظام أو إطلاق يده في أعمال السلب والنهب. ولذلك كان لا مفر له من الالتجاء في نهاية الأمر إلى سلوك خطة الابتزاز، وهي التي قضت على أسلافه، وفي الوقت نفسه ماذا عسى كان يكون مسلك الدول الأجنبية حياله؟ نعم؛ إن دورفيشي قد يسلم بمقدرة الباشا ويعترف بمواهبه الماكييفالية، ولكنه لم يكن يرغب وقتئذ في استمرار إدارته ، ثم إن زميله المعتمد الإنجليزي ميسيت لم يكن ميالا لاستمرار حكم محمد علي. وفي الواقع، إن كلا منهما كان قليل الثقة بحسن نية الباشا،
25
كما كان يرتاب في قدرته على الاحتفاظ بمركزه،
26
ومن ثم شرع المعتمدان المذكوران يشجع كل منهما حزبا معينا من أحزاب المماليك، على أن إجماع المعتمد الإنجليزي والفرنسي على مخاصمة محمد علي قد دفعه بالعكس إلى التقدم حثيثا إلى الأمام، وحفزه إلى العمل للحيلولة دون اتفاق كلمة المماليك ضده. وعلى الرغم من ذلك لم يكن دورفيشي مخدوعا بقوة البيكوات من الناحية العسكرية، وحسبك دليلا على هذا قوله:
إن زعماء البيكوات - حتى ولو اتحدت كلمتهم جميعا - ليس لديهم من الرجال ما يزيد عن 800 من المماليك، بينما الباقون هم شراذمة من اليونانيين والعثمانيين والأعراب الذين لم ينضموا إلى قضية البيكوات إلا طمعا في إشباع شهواتهم في النهب والسلب، وقد مضى الوقت الذي كان المماليك يخرجون فيه للقتال وراء زعمائهم كالضواري غير هيابين ولا وجلين يستقبلون الموت بنفوس هادئة. ثم إنهم أصبحوا هيئة ينقصها النظام والمران، وبعد أن كان بلاط البيكوات يعتبر بمثابة مدرسة للنظام العسكري وللتحلي بفضائل الأخلاق أصبح مهدا للرذيلة ولمخالفة النظام. وليس من ريب في أن معيشة المماليك في الزمن الأخير معيشة القبائل الرحل التي تقوم على السلب والنهب قد دفعهم إلى هذا الدرك الأخلاقي السحيق.
27
ثم ختم المعتمد المذكور أقواله عن مصر بألا أمل لها في أن تذوق طعم النظام أو الحكم الصالح إلا إذا عاد الاحتلال الفرنسي.
Página desconocida
28
أما موقف الإنجليز فكان على النقيض من هذا من عدة نواح؛ فإن ما حصلنا عليه من التجارب إبان حملة سنة 1801م قد دفعنا إلى أن نعتقد اعتقادا جازما وبحق بأن الأتراك لن يستطيعوا أن يستعيدوا مراكزهم في مصر أو على الأقل لن يتمكنوا من الاحتفاظ به؛ فلقد وصفهم الجنرال هتشنسن بأنهم قوم ضعاف لا ثقة لهم بأصدقائهم، وقد جعلوا اعتمادهم على أعدائهم، وتنقصهم الموهبة لوضع أي خطة معينة، ويعوزهم النشاط لتنفيذ تلك الخطط فيما لو وضعوها،
29
وكان كل إنسان يعتقد في الوقت نفسه بأن الفرنسيين ما زالوا يحلمون بالعودة إلى فتح مصر. لهذا فإن نلسون بصفته القائد الأعلى في حوض البحر المتوسط قد صدرت إليه التعليمات بمجرد استئناف الحرب مع فرنسا بأن يراقب أي حملة فرنسية يقصد إرسالها إلى الشرق، بمجرد استئناف الحرب مع فرنسا، وهذا السبب نفسه هو الذي جعلنا نبسط سيطرتنا على جزيرة مالطة. وبديهي أنه لو صمم الفرنسيون على استئناف هجومهم على مصر وعجز الأتراك عن صدهم، فإن المماليك وحدهم يصبحون وقتئذ نواة الحكومة المحلية الفعالة؛ ومن ثم بذلت مساع عديدة، وطرح على الباب العالي مختلف المشروعات ليعهد إلى المماليك بإدارة البلاد، فلما تبين أن الباب العالي مصمم على عدم التورط في مشروعات من هذا القبيل بدأت إنجلترا تقترح احتلال الإسكندرية على الأقل. ولما كان الباب العالي غير ميال إلى اتباع هذا الرأي أيضا، فإن الوزارة البريطانية أصبحت من الآن فصاعدا تعتقد أن أعمال الفرنسيين قد تدفعها إلى احتلال الإسكندرية، سواء أرضي الباب العالي أو لم يرض،
30
وقد نفذت إنجلترا ذلك المشروع عندما رأت السلطان بمناسبة ما أحرزه نابليون من الانتصارات الباهرة في أوروبا في سنتي 1805م و1806م، وقضائه على الحلف الذي تألف، فقد اعترف به إمبراطورا، واستقبل السفير الفرنسي في الآستانة بحفاوة خارجة عن الحدود المألوفة؛ مما جعل الناس يؤولون هذه الظاهرة بأنها تطور يعتبر بمثابة فتح أبواب مصر أمام الفرنسيين يدخلونها أينما يشاءون، ومن ثم قررت إنجلترا احتلال الإسكندرية، فبعد أيام قلائل ذهب جزء من الجيش البريطاني المعسكر في صقلية قاصدا إلى الإسكندرية، فاحتل المدينة في ليلة 20-21 مارس سنة 1807م، ثم بادر المعتمد البريطاني ميسيت إلى دعوة حزب الألفي بك إلى شد أزرنا. هذا، بينما شرع القنصل الفرنسي بعد فراره إلى القاهرة يعد معدات الدفاع على عجل لصد غارة المغيرين.
ومما ساعد على احتلال الإسكندرية بهذه السهولة أنها لم تكن وقتئذ حتى ولا تحت سيطرة محمد علي الاسمية. وفي خلال سنة 1805م استصدر سكان المدينة بإلحاح من ميسيت فرمانا يجعل الإسكندرية تحت سلطة ضابط من ضباط البحر مستقل تمام الاستقلال عن باشا القاهرة، ومع أن الباشا قد حاول أن يرشي هذا القومندان البحري، ويحمله على قبول حامية ألبانية في المدينة فإن ميسيت تمكن من إقناع القومندان بأن يرفض الاقتراح المذكور.
31
وفي يوم 29 مارس خرجت فصيلة إنجليزية قوامها 1400 جندي متجهة إلى مدينة رشيد بقصد احتلالها، وكانت ترمي إلى غاية مزدوجة؛ الأولى: تسهيل دخول المؤن إلى الإسكندرية حتى إذا أصابت نجاحا باهرا حققت الغاية الثانية: وهي دفع المالية إلى المبادرة لمساعدتنا، ولكن المشروع قام على أساس خطة فاسدة نفذت بطريقة فاسدة أيضا؛ فأولا كان ينبغي على فريزر بصفته قومندان الحملة أن يتقدم بنفسه على رأس القسم الأكبر من جيشه،
32
Página desconocida
وثانيا كانت قيادة الفصيلة التي ذهبت لاحتلال رشيد فاسدة، فإن قائدها فوشوب استخدم جنوده جميعا في الهجوم دون أن يترك لنفسه احتياطيا، فلما خر صريعا في بداية الهجوم خلفه أكبر الضباط مقاما، ولكن هذا أيضا سرعان ما أصيب بجروح، وإن تكن حالت دون اشتراكه مع جنوده في مواصلة القتال، إلا أنها لم تكن من الخطورة بحيث تحمله على التخلي لغيره عن القيادة، فكانت نتيجة ذلك كله أن الحامية الألبانية عندما أرغمت على التخلي عن مواقعها لم تكن ثمة مخافر أمامية لتحول دون عودتها. كذلك لم يهتم أحد بلم شعث الجنود في صعيد واحد بعد أن كانوا قد تفرقوا واختل نظامهم أثناء الهجوم، وما كان أشبه ما وقع بما سبق أن حدث في باتنا سنة 1763م؛ فإن العدو لما لم ير من يطارده أو يتعقبه نجح في لم شعثه، ثم لما تأكد من عدم اتخاذ احتياطات مضادة أعاد الكرة على المدينة ودخلها ثانية، ولما تبين له أن الجنود بلا حراسة انقض انقضاض الصاعقة، حتى إذا اختلط الحابل بالنابل ووصلت إلى القائد الجريح الأنباء المزعجة تترى، أصدر أوامره بالانسحاب العام، على أن هذا الخطأ سرعان ما تحول إلى كارثة كبرى؛ فالمألوف في الشرق هو أن تقلب الحظ مهما كان تافها سرعان ما يؤدي إلى تبدل موقف الأهالي، فإن القاهرة ما كادت تسمع باحتلال الإسكندرية حتى استولى الذعر على سكانها، ولم يخطر للجنود الألبانيين المعسكرين فيها إلا أن يفروا إلى سوريا، وقد ابتاعوا أثناء فرارهم من مصر الخيل والبغال والحمير بضعفي ثمنها لنقل أمتعتهم، بل إنهم لم يترددوا في شراء «السيكوين» - وهي قطعة تقود مدقوقة في مدينة البندقية - بأربعة عشر قرشا مع أن ثمنها المعتاد هو عشرة قروش، وأبدى الفلاحون استعدادهم للثورة ومنع المئونة عن بعض فصائل جنود محمد علي التي لم تكن من القوة بحيث تستطيع الدفاع عن نفسها، في حين أنهم قتلوا بعضا منها في كثير من الجهات.
33
حدث هذا كله كما قلنا عندما وصلت الأنباء باحتلال الإسكندرية، ولكن ما أصاب الجنود الإنجليزية من الفشل في رشيد غير الموقف كلية، فقد استرد الألبانيون شجاعتهم، ثم إن المماليك بدلا من أن يبادروا إلى الانضمام لجانب الإنجليز ترددوا أولا، ثم قرروا في النهاية أن يتفقوا مع محمد علي في مقابل شروط معينة، وترتب على هذا أن الأهالي عادوا إلى خضوعهم السابق، وأصبح يتعذر على الإنجليز أن يحصلوا على معلومات ما عن حركات العدو.
34
وقد تمكن محمد علي بفضل هذه التطورات من أن يحشد جنده ويرسلهم إلى الشمال لسد الإنجليز الذين كانوا قد قاموا بمحاولة أخرى للاستيلاء على رشيد، ولقد كان تقدمهم في هذه المرة بشيء من الحذر؛ بمعنى أنهم أطلقوا وابلا من القنابل على المدينة وأرجئوا مهاجمتها فعلا إلى أن تصل إمدادات المماليك التي وعدهم بها ميسيت. وبدلا من ظهور الحلفاء المزعومين ظهرت في مكانهم قوات محمد علي ... وسرعان ما وجد المحاصرون أنفسهم على غير انتظار بين نارين. ثم استمر القتال ومالت كفة النصر إلى هذا الفريق ثم إلى ذاك، وبعد أن سقط من رجالنا 400 جندي وأسر مثلهم صدر الأمر مرة أخرى بالانسحاب إلى الإسكندرية،
35
على أن محمد علي أخذ في القاهرة بأسباب سياسة الاعتدال التي سبق له اتباعها مع خورشيد من قبل، ولو أن شخصا تركيا عدا محمد علي أحرز ما أحرز من النجاح، لداخله الغرور وراح يقتل أسراه، ولأصدر أمره بإجراء عملية الختان لهم بخصيهم، ولقذف الباقين على قيد الحياة إلى اليم دون أن يحسب حساب العواقب. ولكن الباشا نزل على حكم العادة، فسمح بأن تحمل جماجم القتلى ويطاف بها في الأسواق، ولم يشأ أن يتناسى بأنه لا مفر من عقد الصلح عاجلا أو آجلا، وأن الأساطيل الإنجليزية لن تسمح لسفن العدو بالدخول إلى ميناء الإسكندرية أو مبارحتها، وإلى جانب هذا كله فإن بريطانيا لم تكن تسيطر على البحر المتوسط من الأمام وكفى، بل وعلى المياه الهندية من الخلف. ولهذا كله قرر محمد علي أن يعامل الأسرى معاملة حسنة، بل إنه أرسل أحدهم في شهر مايو إلى الإسكندرية مصحوبا بمترجم يوثق به للبحث في الشروط، التي ينسحب الإنجليز بمقتضاها، وقد عرض في مقابل انسحاب الحملة الإنجليزية أن يطلق سراح من وقع في يده من الأسرى وأن يصمد لأي قوة أوروبية ترمي إلى احتلال مصر أو اختراق الأراضي المصرية في طريقها إلى الهند،
36
ولكن هذه الاقتراحات قوبلت وقتذاك بالرفض، غير أن وزارة بورتلند التي تبوأت كرسي الحكم في ربيع سنة 1807م نظرت إلى الموقف العسكري نظرة حكيمة قائمة على حقيقة الواقع أكثر مما نظرت إليه الوزارة السالفة وزارة غرانفيل. ومن ثم تقرر الجلاء عن الإسكندرية التي كان في الاستطاعة احتلالها من جديد إذا اقتضى الأمر ذلك، وكان من نتائج هذا القرار أن اتفاقا عقد في 14 سبتمبر يقضي بالتخلي عن الإسكندرية للباشا، في مقابل إطلاق سراح الأسرى الإنجليز وإعلان العفو العام عن كل من كان له ضلع في مساعدة القوات الإنجليزية.
وهكذا مرت الأزمة بسلام. وليس من شك في أن الحملة البريطانية لو حسنت قيادتها لأجهزت على سطوة محمد علي الآخذة في الازدياد، ولأدت إلى إعادة مصر، إما إلى حكم المماليك أو الباب العالي، ولكنها قامت على فكرة خاطئة أسيء تنفيذها. وما أشبه ما حدث بالحملة العقيمة التي وجهناها في بداية الحرب العالمية الماضية إلى أعلى الفرات! فمن الخطأ الغريب أننا أغفلنا في جملة رشيد أن نرسل أحدا من الضباط الذين عملوا تحت قيادة آبر كرومبي أو هتشنسن إبان احتلالنا الأول للإسكندرية، كما أنه كان من المتعذر جدا سلخ قوات كبيرة من الجيش المرابط في صقلية لتحقيق الغاية المقصودة من إرسال تلك القوة إلى مصر. وبالجملة، فإن الفشل كان من كافة الوجوه ذريعا من حيث مداه ومن حيث الثمن الذي تقاضاه منا، ولكنه على ما يظن لم يكن فشلا تاما كما كان يلوح بادئ ذي بدء؛ ذلك لأن ذكاء محمد علي قد خلص من هذا الحادث بنتائج تتجلى فيها الحكمة؛ فلقد أدرك أن الجيش الفرنسي لا يمكن أن يحسب حسابه مباشرة كالأسطول البريطاني، ومن ثم بدأ يفكر في أن بريطانيا العظمى ربما تكون حليفا له قيمته في تحقيق مشروعاته التي كان قد بدأ فعلا في تنفيذها.
Página desconocida
ومن ثم بدأت الحالة في مصر تنجلي تدريجيا؛ فقد صار الزعيم الألباني ممثل الآستانة، وأصبح التدخل الفرنسي مستحيلا، هذا إلى أن التدخل البريطاني قد حبط فلم يبق إذن سوى المماليك الذين ينبغي الإجهاز عليهم قبل أن يعتبر محمد علي نفسه سيد مصر الأوحد. على أنه كان مع ذلك تحت خطر متزايد بأن الغالب شأنه كشأن كثيرين من الموفقين المطالبين بالاستيلاء على تركة بواسطة القانون قد يجد نفسه في النهاية أنه لم يرث إلا تركة مثقلة بالديون.
فلقد كانت البلاد سائرة بخطوات واسعة نحو الخراب؛ فإن مديريات الوجه القبلي كانت تئن تحت وطأة المماليك الحديدية، هذا بينما كان الوجه البحري عاجزا كل العجز عن سد حاجات الجنود من جهة وحاجات الأهالي من الجهة الأخرى، بل لقد اضطر الفلاح في كثير من الأحيان في سبيل أداء مطالب الحكومة وما لحق به من وسائل الإكراه الظالمة التي كان يتبعها مندوبو الحكومة أن يتخلى حتى عن آلاته الزراعية. وقد أصبحت القرى الواقعة في الأراضي المتاخمة لساحل البحر مهجورة، ثم إن شواطئ النيل التي كانت في يوم ما جنة زاهرة قد حكم عليها بالخراب غير الطبيعي.
37
وقد كان الاحتفاظ بالجيش - كما كان شأنه في الماضي، وكما قدر له أن يبقى طويلا - علة العلل في حدوث القلاقل العظيمة؛
38
ففي سنة 1809م كان لدى الباشا نحو عشرة آلاف جندي، ولكنهم كانوا - كما تقضي التقاليد التركية - يتناولون مرتبات 30000،
39
ولقد زادت مرتباتهم هذه وما إليها من مصروفات الحكومة بمراحل عن إيرادات أراضي الوجه البحري حتى في سنة 1806م وعما تقاضته الجمارك من الرسم على تجارة متلاشية.
ولم يكن من سبيل إلى سد العجز إلا بتجديد الضرائب التي فرضها المماليك وخورشيد باشا في الماضي، وفي الضرائب التي أصبحت أثقل وأبغض إلى النفس مما كانت في أي زمن مضى؛ ذلك لأن كل إنسان أصبح مجردا حتى من أمتعته المنقولة، ثم إن الأجانب أنفسهم أرغموا على تقديم الأموال، كما أرغم القناصل على إبداء موافقتهم على ذلك العمل،
40
Página desconocida