Desde las Grietas de la Oscuridad: La Historia de un Prisionero cuya Inquietud es que Aún no ha Terminado

Nahid Hindi d. 1450 AH
51

Desde las Grietas de la Oscuridad: La Historia de un Prisionero cuya Inquietud es que Aún no ha Terminado

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Géneros

تمر علينا أيام صعبة من نقص شديد في الطعام؛ إذ يصبح ضئيلا في مقداره متأخرا في وصوله. عندئذ، كنا ننقع الخبز اليابس بالماء لتصيبه طراوة تيسر على الأضراس طحنه، وبعضهم كان يستلذ بأكله يابسا كل بحسب ما يروم ويشتهي، وبالأحرى كل بحسب درجة الجوع التي انتهى إليها. كنت وأنا آكله أحس بطعم الغبار في حلقي، ولكنه لم يحجزني عن جرشه ولا صدني عنه أبدا؛ لأن الجوع صاحب قلب كبير يتسع لكل أنواع الطعام، لا يحجز أحدا منه؛ لا جيدا ولا رديئا، ويشكر بعدها بامتنان مهارة صانعيه ولو كانوا أسوأ الطباخين. لا أقدر أن أصور الجوع الذي كنا نتلوى منه، هل تكفي كلمة مخمصة ؟ لا أدري.

بعض السجناء - خصوصا من حديثي السن المراهقين وبعضهم لم يتجاوز الثلاثة عشر ربيعا - كانوا - زائدا عن ألم فراق آبائهم وأمهاتهم بعد أن اختطفوا من أحضان أهليهم - يأنون من لهيب جوع يستعر ولا يجدون ما يخمدونه به، وحين يجتمع برد صرد وجوع جارف كان حتى الكبار يتأوهون من فعلهما القبيح. في إحدى الليالي شوهد أحد السجناء وهو يجلس منزويا تحت جنح الظلام يبكي، وراحت الظنون أن به أمرا جللا كان يتكتم عليه وها قد طفح الكيل به، فلم يعد قادرا على مواراته أو لربما دهمه شوق وحنين ما تملك من زجره كما كنا نفعل جميعا؛ إذ كنا جميعا نمارس لعبة فقد الذكريات ونفرغ أذهاننا من الماضي ونوصد الأبواب عليها حتى لا يصيبنا الجنون، لكن حين الاستفهام منه عن سبب هذا البكاء المباغت بلا مقدمات جاء الجواب المريع: «البرد والجوع يقتلني». (هكذا قال)، وعاد منخرطا في بكائه المرير.

إلا أن معاناة الصغار كانت أشد من ذلك، وصل الجوع ببعضهم إلى أن يصنع فطيرة لم يوص بها أمهر الطباخين. كانوا يأخذون قطعا من رغيف متيبس ويمسحونه بمعجون الأسنان كما لو أنه يدهن الخبز بزبدة أو قشدة، ويتلذذ أحدهم فرحا منتشيا وهو يقضمها مع مجموعة من رفاقه في حفلة أكل جماعية والبسمة تعلو محياهم، كأنهم يحتفلون بعيد ميلاد صديق لهم. لم يكن يسيرا تجربة هذا النوع من الشطائر؛ لذلك لا أعرف طعمها، لكن أعرف من تذوقها، بل ازدردها وأسكت عويل أمعائه الخاوية بها ولم يندم على ذلك.

مما يزيد الوجع والألم قسوة هو الانتظار، وما يضاعفه أكثر حين يكون الهدف المنشود والأمر المبتغى بمرأى العين تتحسسه الجوارح وتهفو إليه الجوانح لشدة قربه، لكنه ينأى بعيدا في غور عميق ولا يحول عنه ويحجز الإمساك به ويمنع الوصول إليه إلا وهم خادع. هذا ما كان يحصل في مرات كثيرة ونحن نتلوى جوعا ننتظر وجبة مقرفة من حساء لا طعم له، ونجبر ذائقتنا على التلذذ به برضا وقناعة مع أن الأولى بنا مجه وقيئه، لكن لا حيلة لذلك؛ لأن خيار الموت جوعا هو البديل لو امتنعنا عن قبوله.

كنت آكل ليس حبا في الأكل ولا رغبة في البقاء على قيد الحياة لأجل البقاء، إنما كنت أفعل ذلك لأواصل المقاومة وأتحدى بمواصلة الحياة عدوي الذي يريد أن يرغمني على الظن أن لا مكان لي في هذه الدنيا بهذه الأفكار وبهذا النفس المتمرد، ويجب علي إما الخضوع له أو مغادرتها إلى عالم آخر.

نافذة خيالاتي كانت تسرح بي بعيدا خارج الزنزانة، إلى كتب أدمنت مطالعتها، وقيم ومبادئ التزمت بها، أشربت بها وتجري في عروقي، منها نبت لحمي وعظمي وكل كياني. أسرح مثل خيول برية، أمرح في سهوب روايات أبحرت فيها من قبل، وقصائد عشقتها، أعلو هضاب كتابات جادة وألتقط من عشبها. الذاكرة كانت حية ولم تزل فيها بعد طرية كلمات ناظم حكمت وهو يقول في بعض أبيات قصيدة إلى مرشحي السجون كنت متيما بها قبل اعتقالي:

احرص على تناول حصتك من الخبز حتى اللقمة الأخيرة.

واحذر من نسيان الضحك ملء الفم.

الشاعر التركي يبرر ذلك بأنهم يريدون قتلك، فلا تمنحهم الفرصة لفعل ذلك. منطق سليم تلقفته وعملت به بإخلاص شديد، كنت أواصل الحياة لأنكد عليهم مسعاهم وأحبط مشروعهم ولأقول لهم: إننا باقون في هذه الدنيا وسوف يبقى صوتنا يطوف في الدنيا وصورنا سوف تظلل الأرض أعلى من السحاب، أما أنتم فسوف ترحلون ولن يبقى صوت لكم ولا صدى، وسوف تختفي عينكم هي والأثر.

كان أمرا يبعث على السأم والملل أن تجلس ساعات طوالا ترنو بعينيك إلى طعام ملقى أمامك، وأمعاؤك أودى بها الخواء إلى العجز حتى عن التلوي ألما. وتجد يدك مغلولة لا تجرؤ على كسر رغيف خبز أو خطف رشفة من حساء حسنته الوحيدة التي تشجع على الأكل أنه ساخن، وتراه يبرد ويفقد كل ما فيه، وسبب ذلك كله أن التلفاز يذيع خطابا للقائد الهمام، أو يعرض برنامجا يزور فيه قطعة عسكرية أو يقلد أوسمة لضباط. يستغرق عرض البرنامج أحيانا أكثر من أربع ساعات ونحن مسمرون إلى أماكننا. لا يسمح لنا بالحديث ولا بالحركة ولا الأكل والشرب ولا حتى الذهاب إلى المرحاض لقضاء الحاجة، ولو اضطر إلى ذلك. نظل ملتصقين إلى أماكننا، نجلس كأننا تماثيل شمع. ومن يرتكب أيا من هذه المحظورات، يعرض نفسه إلى عقاب كبير؛ لأن التجاوز على ذات القائد يعني الموت بحسب القانون، فكيف تفعل ذلك وأنت أصلا متهم بالخيانة ومعاداة الوطن والحزب القائد والثورة.

Página desconocida