إهداء
نفثة
مقدمة لا بد منها
1 - المعتقل
2 - السجن
إهداء
نفثة
مقدمة لا بد منها
1 - المعتقل
2 - السجن
من شقوق الظلام
من شقوق الظلام
قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
تأليف
ناهض الهندي
ليس مستحيلا أن تقضي في السجن عشرا من السنين، خمس عشرة، وأكثر، ذلك ممكن شريطة ألا تسود الجوهرة النائمة تحت ثديك الأيسر.
ناظم حكمت
إهداء
إلى من وقف في الظلام منتصبا وخرج إلى النور ممتدا.
إلى من استطال به الكثير ولم تستطل به الدنيا.
إلى جلادي الذي كشف لي معنى الحرية والحياة.
إلى أصحاب الزنزانة الذين خلدوا شهد المعاناة.
وأيضا للذين لم يخلدوها.
إلى زوجتي، أولادي وأهلي، بالأخص والداي، الذين عانوا أكثر من غيرهم من جراء مغامراتي وتطلعاتي التي لم تصل المرفأ الأخير، بل حتى لم يلح لها إلى اليوم.
لكل هؤلاء، ولكم أبسط مائدتي.
وبكل صدق،
أدعوكم لعشائي الذي أرجو ألا يكون الأخير.
نفثة
في عتمة داكنة مثل ظلمة ليل شتاء شمالي.
حيث تغور النجوم بعيدا ولا نور.
في وحدة قاسية مثل غربة ذرة غبار في بحر متلاطم.
من زمن يكاد المنادي يعلن فيه بخيلاء المنتصر انكفاء كل الوعود الإلهية مبشرا بهزيمة الطين أمام النار.
من وسط كل هذا ألمح في داخلي، بقعة مضيئة يكاد ينشق منها نور سيضيء كل هذا الليل ويرسم فجرا سرمديا.
منها سيخرج طائر عشقي للشمس، ولن تخيفني كثرة لسعات حبها التي تحيلني رمادا، ينفجر نافورة في تيه صحراء قومي؛ ليعيد خلقي من جديد.
سأجري مثل خيول برية في بيداء لا أمد لها ولا حد.
وسأنزف حبرا يروي حكاية بعيدة كل البعد عن الأنا.
لكنها ستروي حكاية ذاتين، لا وحدة بينهما إلا ذاك الأب الدارويني.
ما بعد هذه الأسطر ليست حكاية شخصية، بل سيرة زمن كاد أن يهرس شعبا، بين سندان صمت ضمير أشك في صحوته ولو بعد حين ومطرقة غريزة منفلتة من عنانها، فغدت بحال أقل ما قيل فيها، وحشية.
مقدمة لا بد منها
على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا.
كافكا
هذه الأسطر ليست رواية من الخيال، بل إنها حقيقية بكل تفاصيلها، مثلها مثل كل الحقائق، ليس هناك من أحد قادر على جمعها كلها؛ لذلك ضاع الكثير جدا مما كان يجب ذكره، وكان في نيتي أيضا سرده. إنما يلزمني القول مشددا: إن كل السرد الآتي ليس لأجل السرد فقط، ولا هو مثل حكايات العجائز التي تخرج مقترنة مع دفء المواقد في ليالي الشتاء الطويلة الباردة، ولا هو حديث عن بطولات لأفراد قضوا، ولا أبحث فيه عن إدانة لأحد.
ما مضى قد مضى لا سبيل لعودته، وما انفرط عقده لا يمكن جمعه، وما سكب امتصته الأرض إلى عالمها السفلي. إنه ببساطة ليس حديثا يروى، بل ألما يتلوى شديدا في داخلي لا أقوى على السيطرة عليه حتى بعد مرور ما يزيد على أكثر من عقدين على مغادرتي زنزانتي لآخر مرة، رغم محاولاتي الكثيرة للفرار منه، والتي باءت جميعها بالفشل لسوء الحظ.
لم أجهد نفسي في اختيار عنوان لتجربتي هذه التي قد يحلو للبعض أن يسميها رواية، وربما آخر ينعتها بالمذكرات. وإن كانت في حقيقتها ليست كذلك بالنسبة لي، وأنا أعرف من غيري بما كتبت وبما يعتمل في نفسي. هي بضعة مني لا أقدر على الفكاك عنها ولا الخلاص منها. لم أفكر باختراع عنوان لمجموعة السطور هذه، بل جاء العنوان هكذا تلقائيا مثلما جاءت التجربة نفسها بلا تحضير لازم، رغم أني كنت أتوقع حصول الاثنين. انبثق العنوان مثل دافع غريزي جبلت عليه الفطرة الإنسانية، ومثل أمامي مغلقا كل المنافذ على أي خيار آخر.
السجن، كان مكانا مظلما شديد العتمة مغلقا بإحكام شديد، إلى درجة لم تسنح لي ولا حتى فرصة واحدة لمغادرة الزنزانة العفنة برطوبتها، المظلمة بجدرانها، الرمادية الغامقة، والمزدحمة دائما بأجساد بشرية وكائنات أخرى من حشرات وهوام. لم يحدث لي ولسنوات طويلة حتى ولا لساعة واحدة أن تنفست هواء نقيا، ولا أن سطعت شمس علي طيلة سبع سنوات تقريبا، مع أني في الواقع مكثت في السجن أكثر من ذلك؛ لذا كان السجن بالفعل صندوقا مظلما لا يقوى أي كائن من الخارج على رؤية ما في داخله. وإذا كان كذلك فكيف يتسنى لي أن آخذ القارئ إليه وأطلعه عما يجري فيه، إلا عبر وسيلة بدائية وحيدة، هي استراق النظر من شقوق صغيرة في جدره الصماء. أدرك - كما تدركون - أن أشق النظر وأصعب الرؤية هو أن تشخص بصرك في صندوق مظلم تبحث فيه عما يدلك لما يحدث داخله.
إنها محاولة أشبه بعبث مجنون، لكن كان لزاما علي فعلها، ليس لأجل أحد، إنما لأجل خاطري المبرح ألما من جلد ذكريات تولد معي كل صباح. ألم يضطجع معي في الفراش ويسير إلى جنبي في الطرقات. وعندما يختفي ظلي في الفيء يبقى هو متسمرا إلى جنبي، ويعلو على كتفي وهامتي. لعلي بمحاولتي هذه أنفذ إلى سبيل للخلاص من أنينه المستدام ومن نشيجه الصامت في عويله وبكائه الصاخب بلسان أخرس. ذاكرتي المثقوبة هي الشقوق الوحيدة التي أملكها، وبوسع من هو خارج الصندوق أن يطلع من خلالها على ما في داخله. ومع ذلك أجزم أن لن يستشعر أحد أبدا برد الظلام ولا وحشته كما شعرت بهما. سوف تغيب عنه أشياء كثيرة جدا من السهل علي أن أقول: إن عددها لا يحصى، وأعجز حتى أنا الخبير بها - لأني عاصرتها - أن أسترجعها جميعا. أشياء تخفيها حلكة ظلام داكنة لا تزال تخيم على وقائع تلك الأيام في ذاك المكان المنسي.
كل ما سوف أرويه حقيقي تماما لا زيادة فيه ولا مبالغة، بل العكس هو الصحيح تماما. من الإنصاف أيضا أن أقدم اعترافا مسبقا بأني فشلت في وصف الصورة الحقيقية، بل عجزت عن ذلك تماما. هذه الصورة حاولت أن أقدمها مرارا لمستمعين أجبرتهم على الإنصات إلي، ولسوء الحظ رأيت فشلي على ملامح وجوههم في كل هذه المرات. لم تسعفني براعتي في الأحاديث المسهبة أن أجعلهم يعيشون الألم والمرارة التي عشتها، ليس فقط ما عانيته من ألم حين وقعت الوقائع، بل حتى آثارها التي تتفجر وأنا أنكأ الجروح حين أحدثهم بها لم أقو على إيصالها لهم. فكيف لي بعد هذا أن أتخيل أنهم سوف يتحسسوا ما عشته يومئذ أو أن القارئ سيفعل؟
من العسير جدا علي أن أثبت صحة قولي هذا، لكنه صحيح رغم ذلك. كل ما سوف يقرأ هنا، هو صورة بالغة في البهاتة لما جرى في عالم الحقيقة. وعزائي الوحيد أن هذا الكون لا يخلو من بعض الأذكياء ذوي النباهة العالية الذين سيدققون النظر جيدا في ثرثرتي هذه، وسوف يبذلون غاية جهدهم ليعيدوا رسم الصورة بأفضل مما فعلت. وإني على يقين أيضا أن بعضهم ممن لا أراه هذه الأيام لنكد دنياي التي أعيشها سوف يجعلها صورة ماثلة أمام عينيه أبدا حتى لا يعود أحد غيري يرسم عذاباته من جديد على الورق ويخدش به جمال الحياة. لهؤلاء أكتب، وأرجو أن يصل إليهم صوتي المبحوح من صراخ أستصرخ به غيرهم بلا جدوى؛ لأنهم وحدهم من سيحاول أن يمنع إعادة طبع قصتي هذه ثانية.
في أحد الأيام وبمناسبة عامة، التقيت صديقا كان سجينا مثلي، ولأننا نحسن الحديث عن أيام السجون أكثر من أي شيء آخر فقد أدلقنا في بئر الذكريات، وقال لي عبارة بليغة لامست شغاف قلبي، كانت تجول في داخلي خاطرة ولم أجد لها منفذا عبر الحروف والكلمات إلا حين أطلقها بعفوية وبراءة لا أتوفر عليها كما يحوزها هو.
قال صديقي ونحن نجلس على رصيف تظللنا الشمس: لشدة المعاناة التي مررت بها، تمنيت من يومها ألا يتذوق هذا العذاب أحد غيري بعدي، ولو كان جلادي نفسه. ونحن بالطبع نعرف جلادينا بأسمائهم وذواتهم، ومع ذلك لم يخطر ببالنا أن ننزل بهم العذاب الذي أنزلوه بنا.
هذه المقولة الرائعة لصديقي هي عصارة ما أريده أن يحدث للقارئ، بل هي كل ما أريد من هذا الكلام. أملي وغايتي ألا يسمح القارئ بتكرار ما حصل لي على أي إنسان آخر، حتى لو كان جلادي نفسه الذي أذاقني كل هذا العذاب، ولم يزل يفعل بأقنعة جديدة. أكرر هذا المعنى كثيرا في مدونتي؛ لأنه ليس لي من شيء يستحق القول أفضل منه.
لن أكتب أسماء الأشخاص الذين التقيتهم أو سمعت بهم، ولن أتحدث عن عناوين الأماكن التي مررت بها على الأغلب إلا قليلا؛ لأني أريد أن أؤرخ لفعل (متواصل الوقوع بدرجة متفاوتة)، لا لفاعل معين لعله أصبح غبارا أو رمادا. وأجهد ألا يبدو الأمر صراعا سياسيا بين متنافسين على سلطة، لأن ذلك لم يكن هدفي ولا غايتي أبدا - لا اليوم ولا من قبل - بل هو عرض لمعاناة إنسان أراد أن يعيش كما ينبغي له أن يعيش، وهذا هو لب المشكلة وجوهر المأزق.
الجلادون، ذكر أشخاصهم وأسمائهم بالتأكيد يسبب مزيدا من الحقد والكراهية، وهذا ما أتجنبه في كل حين. أما الضحايا، فمن المؤكد أن كلماتي ليس بمقدورها أن تمنحهم الخلود، ولا تقوى على إسعاد أرواحهم مهما بالغت في كلمات الإطراء. ما ينفع حقا هو ألا تعاد هذه المشاهد المرعبة على أي أحد بعدهم مرة أخرى.
أمر أخير قد يلحظه القارئ أثناء مطالعته - ولن يمر عليه مرور الكرام - هو سرعة تبدل المشاعر بين الأسطر والصفحات؛ ولأني قررت أن أكتب مشاعري الحقيقية، لم أحفل بأي تناقض قد يؤثر على بنية النص وجماليته؛ لأني أصلا لم أفكر بكتابة رواية أطمع في نيل الثناء عليها. هذا التناقض في المشاعر وتبدلها السريع يجدر بالأطباء النفسيين والعلماء منهم أن يبحثوا فيه؛ لأنه واحد من آثار كثيرة خلفتها ظروف السجن والاعتقال الرهيبة، لا يجد السجين حتى بعد أن ينال حريته سببا للخلاص منها أو السيطرة عليها. ختاما أقتبس أبياتا لناظم حكمت أهديها لوطني من محل الغربة الذي نفيت إليه بإرادتي مكرها.
يا وطني يا وطني.
اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك.
تقطع حذائي الذي حمل تراب شوارعك.
آخر قميص اشتريته في «بغداد»
1
صار مقطع الأوصال منذ زمن يا وطني.
لم يبق لدي منك سوى الشيب في شعري.
ما عندي منك غير خطوط من الهموم تعلو جبهتي.
يا وطني يا وطني يا وطني.
الشق الأول
المعتقل
1
في ظهيرة قائظة، عند عطلة نهاية أسبوع من صيف لاهب، وتحديدا الأسبوع الأخير من شهر آب، ومن على مقعد خلفي لسيارة إيطالية سرقت لون السماء، ولدت حكايتي.
كان شهرا ساخنا بكل ما فيه؛ طقس جهنمي وحرب مستعرة اشتد أوارها، حيث تزداد ضراوة المعارك على الحدود الشرقية بين جيش الدولتين الجارتين. وقع الهزائم العسكرية في الأسابيع الأخيرة، وفقدان مساحات واسعة من أراضي الخصم - كانت إلى وقت قريب تسيطر عليها وحدات من الجيش العراقي - قد أخذ مأخذه الكبير من معنويات النظام، وبدأ إثر ذلك حملة واسعة لتصفية كل من له أي علاقة مع المعارضة السياسية، ولو كانت هذه العلاقة المفترضة مستندة إلى شبهات وشكوك، بل حتى وإن كانت أوهاما. أي شخص يجهر برأي معارض للحرب أو يبدي قلقا لانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت قد أصبحت أمرا شائعا حينها، بل كل فرد عراقي بات يخشى من الوقوع تحت عجلة القمع والاضطهاد الجبارة التي لو قدر لها السير فوق أي أحد، لكان أشبه بسير حادلة فوق طريق عبد بالقير للتو، لا تخلف بعدها غير صفحة سوداء لا أثر فيها ولا ندوب كما لو أن شيئا لم يكن.
عصبت عيناي بحشر كومة قطن بينها وبين زجاج نظارتي الطبية، وأنزل رأسي إلى الأسفل، وسارت بي العربة مسرعة إلى حيث لا أدري من الأمكنة، سوى عنوان طالما اخترعته مخيلتي. إنه بيت قابيل قاتل جدي الشهيد بجرم براءته، بيت سلخت فيه ما يقارب العشر سنوات من عمري، وكابدت فيه من العناء الشديد والحرمان من كل شيء، والأهم من ذلك هو الحرمان من أي عاطفة إنسانية، وقاسيت فيه من الأهوال والعذابات ما لا يمكن لي أنا شخصيا أن أتصورها، فكيف بمن سيقرأ هذه الأسطر!
إنه بيت، بل عالم مظلم مزدحم بالحوادث والانفعالات وكذلك بالناس، إلى حد أني لم أحظ ولا حتى بفرصة واحدة لأكون بمفردي مختليا بنفسي، إلا عندما كنت أكون في بيت الخلاء، وحتى هذا الموضع الفريد كنت أضطر لمشاركته في بعض الأحيان. إنه لأمر فيه من الصعوبة الكثيرة كي يتصوره أحد أو يصدق وقوعه. إنه أشبه بأسطورة اخترعتها مخيلة كاتب أفلام رعب من زخم فوضى كوابيس مرعبة تسكن رأسه ليل نهار.
آخر مشهد لمحته عيناي قبل أن أحشر بين جثتي رجلي أمن قويين في تلك العربة، هو وجه شقيقي العائد للتو من نزهة قصيرة بسيارته البولندية البيضاء. رأيت علامات فزع ودهشة ارتسمت على محياه وهو يشهد السرعة الفائقة التي تم اختطافي بها. كانت تعابير وجهه تحكي إحساسه بأي معضلة وقعت فيها، ونظراته ترسل كلمات وداع ألجم الموقف لسانه عن النطق بها، كلمات وداع لمغادر لن يعود، وإن عاد فسوف يرجع بحمولة ثقيلة من الحزن والهموم لكل من يعرفه، وسيكون ذلك بعد انتظار صعب لزمن طويل وثقيل مشبع بالليالي الحزينة الطويلة.
قلدوني أساور هي مهر عرس الحرية الذي سوف أزف له، وقبلها أرجعوا المعصمين إلى ما وراء ظهري، ثم طلبوا مني أن أسير على هدى كلماتهم حين أنزلت من العربة بعد فترة وجيزة: «سر يمينا ... اذهب إلى اليسار ... اخفض رأسك.»
لا أعلم حتى اليوم هل كانت كلماتهم فعلا فيها أي موضع لنية صادقة لإرشادي إلى الطريق؟ طريق متعرج ملتو ما زلت أجهل أبعاده وتضاريسه ولم يتسن لي التعرف عليها أبدا، أم كانت بداية سخرية سأتجرع مرارتها كل السنوات المقبلة؟ نعم، كانت هي فعلا كذلك على الأرجح، كما كان هناك من بعدها ما يقارب العقد الكامل من السخرية اللاذعة. انتهى المسار بي إلى حجرة ما زلت أذكر - بل أعرف - كل تفاصيلها، وأستطيع وصفها بمنتهى الدقة، كما أني أيضا في المقابل ما زلت أجهلها بالمطلق؛ لأنها لم تكن سوى ظلام دامس ومقعد خشبي لعله كان مصطبة طويلة تتسع لآخرين، لم أجرؤ على التحقق منه فقد كنت مرعوبا ومرتبكا إلى حد كبير. لم ينقض الكثير من زمن ثقيل كانت كل لحظة فيه تسحقني بحمولتها من الخوف الشديد والقلق الكبير، حتى غطس وجهي في سيل صفعات، ثم توالت علي شلالا غزيرا. غرقت في وحلها وعلقت بي مخاوف شتى وهواجس. كان يخترق سمعي صراخ من بدأت حكايته قبلي، صوت ألم مبرح وعذاب شديد يخرج منه ليستقر في جسدي العشريني الغض. شرطي أمن يجلس بالقرب مني كان يضحك متشفيا وهو يستمع لتلك الصرخات، ويدس في روحي رعبا جديدا وهو يقول ساخرا: من ذاك المسكين الذي لم ألتق إلا صوته المعذب: «هل حان زمن الولادة أم أنها لا زالت متعسرة؟»
كان صدى صراخه وسخرية الحارس ينبعثان خوفا وارتجافا في ثيابي التي ابتلت بعرق فزع المواجهة الأولى، وما كان يعوزني لمزيد من التعرق مع قيظ آب اللاهب وطبيعة جسدي الخاصة الذي يتعرق حتى في أيام الشتاء الباردة سوى هذا الرعب.
سحبت بعد هنيئة إلى غرفة باردة بكل ما فيها، أجلست على كرسي حديدي ورفعت العصابة عن عيني لأرى قابيل منتصبا أمامي لأول مرة بزي عسكري، وقد رسمت على كتفيه نجمة يتيمة. هذه المرة هكذا رأيته وسوف أراه كل مرة بهيئة وصورة جديدة، وفي كل المرات ومهما تعددت الصور فإن له حقيقة واحدة لا تتغير، حقيقة شيطان. صور سوف تتكاثر مثل قنبلة انشطارية تأبى أن تتوقف عن التزايد والتكاثر حتى هذا اليوم. ويبدو أن لن يصرع الشيطان إلا في وقت معلوم حين نرحل عن داره إلى أرض ليس فيها غريزة.
ضحك الضابط الصغير برتبته وسنه وكل شيء فيه، ساخرا وهو يشير إلى هيئتي التي بعثرتها كفوف غليظة، ولمح بكلمات مقتضبة إلى تهمة تنتظرني. تهمة ترحل بصاحبها سريعا إلى موت شاع انتشاره بين الهامسين بحلم الحرية مثل طاعون أسود. لحظات قليلة مرت بعد بدء هذه المقابلة الأولى لأجد نفسي تحت الكرسي الذي كنت أجلس عليه، تمسك به يدا هذا الضابط الصغير، وبدأ يوزعه على جسمي النحيل بضربات متنوعة بكل ما أوتي من قوة لا يعبأ أين تقع.
في تلك اللحظة بالذات بدأت أجمع أجزائي التي فرقتها مفاجأة الوهلة الأولى وأستعيد وعيي الغائب. نفيت كل تهمة ألقاها علي، إلا أنه لم يكن معنيا بالأمر كثيرا؛ إذ ما كان كل هذا سوى ممر قصير إلى أماكن أخرى أشد رعبا وأكثر ظلاما، سوف أتنقل بينها قسرا. سوف تتغير مثل تغيير أحذية قديمة مهترئة بالية لا تصلح للانتعال، لكن أرغم على استعمالها مع اهترائها المفضوح وعدم جدواها السافر على الخوض بها في مستنقع شديد الوحولة.
قبل أن يكمل عقرب الساعة دورة واحدة كاملة لينهي الساعة الأولى على ما قدرته حينها، اقتادتني زنود شديدة جديدة، وهذه المرة غلفت عيني عصابة جلدية سوداء في طرفيها قطعة بلاستيكية لتكتم الرؤية عني بالكامل، إلى أن وصلنا إلى بناية عالية متعددة الطوابق تسلقنا أدوارها الكثيرة بمصعد كهربائي. العصابة التي كانت تحجب بصري ظلت متسمرة في مكانها هذه المرة كما هو الحديد الذي يجمع ذراعي وقيدت به إلى عمود أو شيء يشبهه، لا أدري ما هو، ولم يتسن لي أن أراه أو أن أتحسسه أبدا ولا حتى لوهلة واحدة، فقد حذرني أحدهم من الحركة أو أن أنبس ببنت شفة، وكنت فتى مطيعا، على أن حجب بصري لم يمنعني من تحديد الوقت بدقة، إنه ما بعد الساعة الرابعة عصرا. دلني على ذلك صوت مغن مشهور لا يجهله أحد، كان يلقب بالعندليب الأسمر، وكنت معجبا بصوته. كان يشدو مغنيا في فيلم الأسبوع الذي يعرض من بعد ظهر كل جمعة كالعادة الجارية حينها. كان يشدو بألم رقيق بفلسفة إيليا أبو ماضي، ويفوح عطر الوجع من تلفاز قريب، مرددا:
أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير.
أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير.
أين أحلامي وكانت كيفما سرت تسير.
كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت.
لست أدري.
انتابني وقتها شعور عميق وإحساس غريب بأن ما أسمعه هو نبوءة وليس أغنية أو شعرا. إنها نبوءة لعاصفة مدارية من ليال حزينة طويلة، سوف تلفني بعمودها الفارع في طوله كأنه يتحدى السماء، وتأخذني بعيدا إلى قلبها المظلم تائها حائرا لا أجد فيه سوى الفراغ لأتشبث به. لا، إنها ليست موجة من تشاؤم ولا هي نوبة تطير تمر على مسكين بائس قد بلغ به اليأس الزبى، ولا إنها نبات طفيلي لا جذر له نبت للتو على بركة الحزن. إنها نبوءة. هذا الشعور الغامض مثل شبح يرتدي قناعا ، آمن وصدق بالنبوءة واستقر راسخا في داخلي، وما زلت أتلمسه حتى اليوم في حناياي.
كان تصديقا مثل مكاشفة صوفي، بأن سنوات من ضياع طويل في غيبوبة جب عميق تنتظرني، بانتظار دلو ينزل علي من سيارة يسحبني ثانية إلى أرض الأخوة التي استحت من أفعالها الذئاب. لن تكون هذه النبوءة وحيدة، ولن تبقى مصادفة فريدة، بل ستظهر أكثر من واحدة تمد برأسها في عالم سريالي. عالم سريالي إنما ليس وهما ولا خيالا، بل هو الحقيقة الوحيدة التي سوف أعيشها وإن كنت لا أفهم مجراها ولا منطقها، وسيأتي الكلام عنها كل في حينه. قد لا أكون علميا أو واقعيا بنظر كثير، وحتى على خلاف طبعي في تفسير الأشياء وتعقلها، لكن لا يمكن لي أن أتجاوز هذه الوقائع الغريبة والمشاعر العجيبة فقط، لأني لا أريد أن أومن بالغيبيات أو بأحداث منتزعة من عالم الباراسايكولوجي. وجودها هو أدل دليل على حدوثها، ولأكن أكثر دقة وأقول: إنها قد حصلت مع هذه التفسيرات غير المنطقية مني وبهذه الأحاسيس الغريبة، لربما كل شيء وقع في صدفة محيرة، ومع ذلك فإنه قد وقع بالفعل، وحينما وقع آمنت به كما كنت أراه، وليس كما يجب أن أراه، ولأني عاهدت نفسي أن أكون صادقا فيما أروي وأقول، لا بد لي من الاعتراف وبغاية الصراحة: أني لا أقوى على تكذيب هذه الوقائع والمشاعر، وأعجز عن رميها بالصدفة والخرافة حتى هذا اليوم، رغم أن عقلي الرياضي يجحد التلازم بينها وبين ما جرى. الأمر بحاجة إلى ما هو أكثر من نفسي المضطربة الحائرة حينها لتفسيرها ولإصابة علتها الحقيقية، وأكثر من برودة المعادلات الرياضية التي لا تدرك سر العشوائية التي أنتجت بديع النظام.
جلست طويلا هناك إلى جوار العمود المفترض بسكون وهدوء تامين، ثم بعد تحقيق شكلي من تسجيل اسم ومعلومات أولية عن السن والوضع الاجتماعي والدراسي، قام باستجوابي عنها شخص لم أتعرف عليه. يبدو أنه لم يكن معنيا بنوع التهمة المزمع توجيهها إلي؛ لأنه كان يعمل بشكل إداري روتيني ليس إلا. أتى بعد ذلك شخص آخر اقتادني إلى أسفل البناية في المصعد الكهربائي نفسه. دخلت إلى معتقل يتكون من قاعة كبيرة وغرفتين وفسحة بين كل ذلك. بالطبع لم أر هذه الحجر حين دخولي لأول مرة؛ لأني كنت معصوب العينين، إلا أني رأيتها لاحقا. أركنت إلى حائط واتكأت عليه وصار موضع صغير مقابل باب إحدى الزنزانات محلا ليقظتي ومهجعي.
يداي سوف تستمر مقيدة للخلف ويحول بين النور وعيني تلك العصابة ذاتها، التي التصقت بها من هذا اليوم، ولأحد عشر يوما كاملة قادمة بلياليها. حتى عندما كان يقدم لي الطعام كنت أسحبه من الصحن في مشهد مدهش. كفاي مقيدتان إلى الخلف ترفعان ملعقة من حديد رخيص، وبالكاد تلامس شفتي أو تغرف شيئا من صحن الطعام، في عملية معقدة جدا لا يمكن تصورها وفق قوانين مرونة عضلات الجسم، إلا أن الحظ لم يكن سيئا تماما فقد كانت الوجبات مشبعة وجيدة الطبخ؛ طعمها ومذاقها لا بأس بهما، ولا يمكن لي أن أشكو منها، لم أقرف منها أبدا كما سأفعل بعد ذلك لدهر طويل مع الوجبات التي سوف أكره نفسي التي تعافها على تناولها مع أني في قادم الأيام سوف أتضور جوعا.
أي وجبة ستكون لذيذة المذاق تسكر الطاوي بريحها العطر، لكن رغم ذلك القحط والجوع لن أستسيغها، بينما وجبات هذا المعتقل الأول ومع أني كنت في أوائل أيامي من رحلة الخوف، ولا يخفى ما للأيام الأولى من خصائص أولها فقدان الشهية، بيد أني كنت أرى الطعام بحق لذيذا. المرة الوحيدة التي كنت أتحرر فيها من هذا المشهد الغريب، وأعني به ضم الأذرع إلى الوراء والعينين المعصوبتين كانت فقط حين يسمح لي بمراجعة الخلاء، أما ما عدا ذلك فلا. القيد والعصابة أصبحتا مفردتين ثابتتين في حياتي الجديدة.
الاستحمام كان ممنوعا، أو لنقل الحقيقة بوضوح أكثر أني لم أجرؤ على التفكير فيه فضلا عن طلبه، لم يكن معلوما عندي ما الذي يغضب الحراس الحانقين بلا سبب طيلة الوقت عما يرضيهم؛ لذا صار السكوت عندي وقتها معدنا غاليا للغاية، بل أنفس من كل المعادن والفلزات. صراعاتهم وشجاراتهم المستمرة فيما بينهم منعتني من التفكير في طلب أي شيء منهم، وحتى يفهم ترددي أكثر أذكر واحدا من أسباب شجاراتهم السخيفة التي كانت تصل إلى تبادل أقذع السباب وأفحش الشتائم. في أحد الأيام سحل أحدهم كيسا للخبز، واعترض عليه آخر رافضا أسلوب السحل؛ لأنه يريد أن يرفعه. اندلع بينهما شجار لم ينته إلا بوساطات من زملاء لهم وجهود تهدئة من آخرين، بعد أن وصل الأمر بينهم إلى حد الاشتباك بالأيدي، وامتلأ المعتقل صخبا بكل أنواع سب الآلهة والأديان. بالطبع في تلك اللحظات من الأفضل لأي معتقل أن يتحول إلى حجر صامت بلا حراك؛ لأن أي تأوه منه قد يجعله هدفا في مرمى النيران، ويتحول إلى كيس ملاكمة ينفسوا به عن غضبهم ويفضوا به اشتباكهم.
في يوم ما - وبلا سابق إنذار وبدون أي مقدمات - أغدق علي أحدهم إبريق ماء لأزيح عرقا تراكم علي من الخوف وحر الصيف وخنقة المكان المغلق الرطب لأكثر من أسبوع. لربما أزعجته عفونة ملابسي برائحة العرق المشبعة فيها في ذاك الصيف القائظ الذي ابتدأت به رحلتي. لا أدري ما الذي دفعه لهذا السخاء لربما تكون نفحة إنسانية منه، أو واجبا روتينيا عليه أن يقوم به. لم يستغرق الاستحمام سوى دقائق معدودة، لا تتجاوز حتى أصابع الكف الواحدة، كانت تكفي لإراقة الإبريق الصغير بعناية واقتصاد على كل زوايا جسمي وفي جميع الاتجاهات، بيد أني استغرقت بعدها وقتا أطول حين وقفت عاريا، حائرا بسؤال عسير الجواب، كشفته اللحظة ولم يرد بخاطري قبلها: كيف سوف أجفف قطرات الماء الملتصقة بجسدي الآن؟ طلبت منشفا من الحارس لفعل ذلك متشجعا بتسامحه وبكرمه المفترض، غير أنه رد علي بالضحك مقهقها باقتضاب، ضحكة اختلطت فيها الشفقة مع السخرية: هنا لا يوجد شيء اسمه منشفة.
كان يدرك جهلي المدقع للأبجدية الجديدة، التي ما علمتني إياها أعوام المواظبة على الدروس، ولا الاستغراق في مطالعة أي حرف مسطور على قرطاس يقع بين يدي أو أمام ناظري. بعد الآن سوف تحتويني مدرسة أخرى تعلمني دروسا مقررة في منهج الصراع من أجل البقاء، دروسا سيفهمها كل بما يشاء، ستنتج مرة عريا فاجرا وتارة أخرى دثارا للأنبياء. دروس تسحق الكسالى البلداء وتسمو بغيرهم من أضدادهم فوق بعيدا إلى حيث تتوحد الأشياء بالأحلام.
كنت أسمع أصواتا عديدة لمعتقلين آخرين لا أرى أحدا منهم، وأجهل الذي يجري بينهم وعليهم. لم أكن أدري حتى أين أنا تحديدا (عرفت بعدئذ أنها مديرية أمن بغداد)، ولا أعرف شيئا عن تهمتي التي اعتقلت بسببها. وفي ضحى يوم سمعت جلبة وصخبا، أقدام حافية كثيرة تمر مسرعة مهرولة بالقرب مني، أبواب تفتح وأخرى توصد، وفحيح سلاسل يقرقع صوتها وهي ترمى على الأرض تارة وتارة أخرى تزمجر غاضبة حين تصك أسنانها على المعاصم. أعقب ذلك صمت مطبق وسكون قاتل طويل، بددهما زعيق حارس أمني بلهجة نهر وحنق وبطريقة فظة تنم عن خشونة صاحبها وقسوته: قم!
وقفت ممتثلا وشعرت بصوت مفتاح من ورائي يدور في القيد لتطلق يداي لأول مرة منذ اعتقالي، طلب مني أن أرفع العصابة عن عيني لأجد أمامي بابا مفتوحا يؤدي إلى زنزانة صغيرة خالية تماما، إلا من مجموعة بطانيات ركنت في زاوية وأخريات مفروشات على الأرضية الإسمنتية: ادخل!
أغلق الباب خلفي ورحل. شرعت أتلمس المكان مستمتعا بيدي الطليقتين مثل طفل ينتشي برؤية لعبة جديدة لأول مرة، عيوني ساهية تسرح في فضاء صغير، لكنه بعد أيام سيكون من أرحب ما سوف تراه عيناي لسنوات عديدة. كان الوقت طويلا ثقيلا مملا جدا؛ إذ كان علي أن أنتظر فقط، وماذا أنتظر؟ لا شيء. الأمر يبدو مثل حبل سائب لا نهاية له أبدا، وأصبح رأسي خاويا من الأفكار تماما، إنهم لا يتحدثون معي بأي شيء أبدا، ولا حتى يتهموني بشيء، صار الأمر كأنه لعبة عبثية قاسية. صرت أذرع الغرفة في كل الاتجاهات، أجول بنظري على الجدران، أتفحص أي شيء فيها، وأحدق طويلا في الأرض والسقف. قرأت كل أبيات الشعر والأسماء المحفورة على الجدران؛ ومنها عرفت أفكار بعضهم وتهمة آخرين ممن سكن هذه الزنزانة قبلي.
كنت أشم رائحة الموت الذي ابتلعهم، كانت كلماتهم تنم عن تحد لمستقبل مجهول تشاءموا من ملاقاته ولم يجدوا بدا من مواجهته بشجاعة بدلا من الهزيمة والانكسار. لربما هناك آخرون أحبطوا وانكسروا أو عجزوا أن يتركوا أثرا، وهذا هو حال الدنيا هي وكل ما فيها يفنى. إنما يخلد الشجعان، والمهزومون لن يتبقى منهم شيء، بل يصيرون عدما لأنهم خواء.
2
بعد أحد عشر يوما بالتمام والكمال وبدون أن أعرف منهم لماذا اعتقلوني، ولماذا لم يتحدث معي أحد طيلة هذه المدة، بدأ فصل جديد. هذا الفصل سبقته رؤيا غريبة رأيتها. فزعت من نومي هلعا في إحدى الليالي بعد أن رأيت إحدى شقيقاتي تبكي وهي تودعني؛ لأنه قد حكم علي بالسجن المؤبد لمدة عشرين عاما. عندها انتابني شعور ملأ تمام روحي بأن ما رأيته لم يكن أضغاث أحلام، بل نبوءة مستقبلية قوضت كل أحلامي باستعادة الحرية. لست أدري هل هي نوع من المصادفات أو أنها تدخل في علم الباراسيكولوجي، لست متأكدا من أي شيء، إلا من أمر واحد، إحساسي بصدقها كان تاما في شعور غريب لم أجد له تفسيرا أبدا.
بعد انقضاء هذه المدة، أعني الأحد عشر يوما، اقتادوني في نهار معصبا مكبلا إلى الخلف كالعادة إلى مركبة حديثة ذات دفع رباعي، طلبوا منا أن نخفض رءوسنا وأن نجلس راكعين، ومن أصوات الزجر الفاحش وبذيء القول المستدام على ألسن من يقتادنا، علمت أن هناك من يقاسمني الرحلة هذه المرة، وأننا نتجه للمرور بمخاض صعب جديد.
المسير في هذه العربة كان بعيدا هذه المرة، وما إن تجاوزنا بوابة كبيرة عالية بنيت حديثا شمال العاصمة العريقة التي طالما تغنى بها الشعراء وامتدحوا سحرها، إلا أنهم لم يذكروا يوما في قصائدهم هذا العالم السفلي الذي ابتدأت أخوض في بحر ظلماته؛ بحر لجي كنت أعمل بالضد منه خشية الطوفان القادم منذ وقت مبكر في مقتبل عمري، منذ أن كنت تلميذا حاولت جاهدا أن أكشف الغطاء عن خطره الداهم في كل فرصة تسنح لي سواء مع زملائي في الدراسة أو مع من كنت أتعرف إليهم. كان التحذير من كارثة أمواج خطره العالية القادمة لا محالة، يشكل هاجسا رئيسيا في كل أحاديثي الشخصية. لم أكن معنيا كثيرا بنشر فكر معين رغم انتمائي له بقدر ما كان محور عملي واهتمامي الأساسي هو رفض سياسة القمع وتكميم الأفواه وحساب الأنفاس التي كان يتبعها النظام بأسلوب قمع فاشي.
كنت أرى - وما أزال - في ذلك التيار السياسي فكرا يحمل صرخة تعبر عن ضمير الإنسانية المعذب، ويسعى لحل مشاكل هذا العالم بما يحقق من إنسانية الإنسان، إنما لسوء الحظ لم ولن يخلو أي تيار إصلاحي يرفع راية الإنسانية من جموع الانتهازيين وطلاب السلطة ومن الضعفاء وقليلي الإدراك والوعي لقيمة ما يحملونه وينتسبون إليه. وجود هؤلاء بالتأكيد يشوه جمال الأفكار في كل مرة عبر التاريخ، ويحبط نوايا الثوار ويصادر أحلامهم بعالم حر تتساوى الفرص أمام جميع أفراده. أحلام يناضل لأجلها الثوار ويقدمون في سبيلها التضحيات بلا تردد، ويسترخصون دماءهم لها ويجعلون من رقابهم جسورا تعبر الإنسانية عليها إلى شاطئ أكثر أمنا ورفاها.
لم يكن انضمامي للعمل السياسي الحزبي تأثرا بالآراء السياسية أو الفلسفية إلا هامشيا، الدافع الحقيقي كان توفري على خاصية لعلها تميزني عن بعض ليس بالقليل من أقراني، وهي الحساسية الشديدة من غياب الحرية؛ حساسية لم تزل تؤرقني وهي سبب رئيس لكل مواقفي تجاه الأحداث والجهات والذوات والأفكار.
أريد أن أعيش كإنسان حر وأرفض بقوة كل ما ومن يمنعني من ذلك، ولربما أصدق ما ينطبق على سلوكي وتصرفاتي هو ما قاله مكسيم غوركي: «جئت لهذا العالم كي أحتج.» وبالفعل هذا كان سببا مزمنا لانخراطي في كل النشاطات السياسية، وأيضا كان سببا حاسما في مروري بهذه التجربة المريرة. لم أزل غير آسف على مروري بها ولا أشعر بالندم عليها بالمطلق، ولن أبالغ لو قلت: لو قدر لي أن أعود بالزمن ثانية أو صادفني موقف مماثل مستقبلا لوقفت الموقف نفسه بلا أي تردد. الفارق الوحيد سوف يكون في زيادة الخبرة التي منحتني إياها الأيام الطويلة التي عشتها لحد الآن ومع ذلك لم تقو على قطع رأسي رغم فداحة آلام التجربة الكبيرة والمريرة. خبرة بلا شك يمكنها أن تجنبني كثيرا من فخاخ رجال الأمن السياسي وأيضا سوف تعفيني من مصاحبة الخونة والضعفاء.
ما إن تجاوزنا بوابة بغداد الكبيرة حتى سمح لنا بأن نرفع رءوسنا وأزيحت كاتمات النور عن بواصرنا. تبادلنا نظرات في دهشة وحيرة معا؛ إذ لم يكن هذا اللقاء الأول بين هؤلاء المكبلين بالقيود المحشورين في هذه العربة، ولا هو القاسم المشترك الأول بين بعض منا، بل سبقه في ذلك عدة لقاءات؛ لقاءات إما كانت جلسات فكر واحد يجمع بعضنا، أو لقاءات أخرى خاصة كان يسودها جو التمرد على الأعراف والمألوف من التقاليد والعادات، جو الثورة على الأوضاع السائدة.
انطلقت أسئلة كثيرة في سرنا مثل حمم بركان هائج: لماذا نحن هنا؟! وما الذي يجري؟ كيف تمكنوا من جمعنا هكذا بدون أن يتنبه أحد لمخططهم؟ كنا نتوقع الاعتقال في يوم ما، وأعددنا لذلك خطة سهلة تحسبا لذلك اليوم الموعود، إذا ما تعرض أحد رفاقنا للاعتقال. ولتجنيب الآخرين المصير نفسه، يمنح المعتقل فرصة ثلاثة أيام بلياليها للصمود أمام المحققين الأمنيين، ريثما يجد رفاقه ملاذا آمنا للاختباء فيه أو الهروب. لكن ما يحصل الآن هو أننا وقعنا في شرك جماعي بلا أي تنبيه أو جرس إنذار.
السؤال ظل حائرا يتنقل بيننا في نظرات مشتتة نختلسها بعضنا من البعض الآخر لمئات الكيلومترات، على طوال تلك المسافة بين مدينتي المدورة عاصمة وطني التي ترعرعت فيها أنا وآبائي؛ مدينة تحتضن ألما أزليا منذ يوم نشوئها، وبين مدينة أخرى قضيت فيها بعضا من سنوات طفولتي ودراستي الجامعية، مدينة حدباء لعلها احدودبت حزنا على العاصمة المعجونة بالألم طوال الدهر.
لم يوقف تشتت الأفكار ولحاقها العبثي بسراب الإجابة، حتى تلك الوقفة القصيرة عند مطعم شعبي على قارعة طريق عام في مدينة الملوية الشهيرة سامراء. وقفة كانت تكفي لتناول وجبة غداء أتى بها نادل شاب. ما زلت حتى هذا اليوم أحفظ الدهشة التي ارتسمت على وجهه ، وكيف جمدت كل عروق وجهه في وجل وانبهار، وهو يرى ملاعق تمسكها معاصم مقيدة من خلف الظهور ترفع الرز المخلوط بالفاصوليا العراقية (يابسة)، ثم تنحني إلى هذه الملاعق أفواه تسحب ما فيها في مشهد من كوميديا سوداء.
عندما وصلنا إلى حيث كانوا يريدون لنا أن نصل من المعتقلات - وهو مديرية أمن نينوى - كان طرف الليل قد امتد وغطى كل أحياء المدينة التي تجولنا كثيرا في شوارعها وأزقتها الصغيرة، وارتدنا مقاهيها وملاهيها ومسارحها ومكتباتها يملؤنا صخب الشباب وحيوية الثوار. عندما اقتربنا من مشارف المدينة كانت عتمة الليل قد نزلت بثقلها على الشوارع، ومع عودة الخرق من جديد تضاعفت ظلمة الدنيا حلكة وزادتها اسودادا، لتغطي العيون الهائمة والنظرات التائهة التي كانت تواصل إبحارها في يم المجهول والتيه بحثا عن تفسير لما يجري.
ارتقينا سلالم كثيرة بحث كثير ونهر لا يتوقف من رجال الأمن إلى أن بلغنا فسحة في طابق علوي، رأيتها فيما بعد وكانت شاهدا للحظة كان يمكن لها أن تكون نقطة تاريخية وعلامة فارقة سوف يأتي الكلام عنها لاحقا. الردهة كانت تتوسط غرفا ضيقة كما رأيتها فيما بعد وتعرفت على جغرافيتها، أما الآن فلم أكن أدرك أبعادها ولا أين نحن بالتحديد؟ باعدوا المسافات بيننا قليلا على خلاف مشينا السابق، حيث كان يمسك أحدنا بالآخر ونحن نسير صعودا على السلم. أمرنا بالبقاء وقوفا، وفي أي حال لم يكن لنا أن نختار هيئة سواء من وقوف أو جلوس ولا حتى النوم، ليس في هذه اللحظة فقط، بل لسنوات طويلة متوالية، سيكون ذلك بمشيئة غيرنا في أغلب الأحيان وتبعا لتعليمات جائرة لا يحكمها قانون ولا نظام تتغير بحسب تغير مزاج شرطي يعاني مللا من علاقة عاطفية أو فشلا بها أو مصاعب في العمل لا يعرف حيلة لتيسيرها.
وقفنا بصمت في الردهة لدقيقة أو دقيقتين أو أكثر بقليل من وقت لا أذكر مقداره الآن، لكنه كان قصيرا جدا لم يستغرق سوى انتظامنا في الوقوف لا أكثر من ذلك. ثم فجأة تحولت أجسادنا إلى كيس ملاكمة يتلقى مهارات رجال الأمن المدربين جيدا على فنون القتال. لم يكن بإمكان أحد منا توقع الضربات القادمة إليه بقصد أو التائهة منها، ولا رؤيتها. ولم تكن أمامي من وسيلة للدفاع سوى تكوير جسمي، إلا أن ذلك لم يساعدني كثيرا ولا أوقف ترنحي بسبب زخم الضربات وقوتها. الأرض بدأت تدور بي وصارت هشة لا يمكن الوقوف عليها وتحول الترنح إلى نوبات سقوط متكرر.
كنت أحاول في كل مرة أن أعاود النهوض لكن ببطء لعل ذلك يؤخر من اندفاعهم نحوي، قبل أن أهوي تماما في مرة أخيرة منزوعا من أي قدرة أو قابلية على القيام مجددا؛ سقطت على بلاط بارد لتبدأ بتقليبي عليه أحذية صلبة رفسا برءوسها المدببة. لا أظن أن أيا من أصحابي كان وضعه أفضل مما كنت عليه، لكن لم يكن لي شغل بهم ولا كنت حتى أشعر حينها بوجودهم، اللهم إلا حين تند منهم صرخات فزع وألم. كان الأمر باختصار كل في شغل عن غيره وكل يصارع لوحده وحوشا ضارية كاسرة انفلتت من عقالها فجأة. أحسست أن الكون خلا من كل شيء حتى من صانعه، ولم يتبق فيه إلا أنا وهؤلاء القتلة، لم يكن هناك من شيء يمكن التقاطه والتشبث به، رأسي أصبح خاويا تماما كأنه قطعة فضاء خارجي لا يمكن له حتى أن يرجع الصدى.
التصق جسدي تماما بالبلاط ولم أعد أملك شيئا من قوة أو قابلية، سوى التقلب عليه حين يضطرني الأمر تفاديا للركلات المتلاحقة، مضافا إلى انهيار قواي بالكامل. كان القيد الجامع قد شل يدي بالكامل؛ فقد انزلقت السلسلة إلى الآخر أثناء العراك من طرف واحد، واستحكم التصاقها بالمعصمين حتى صار ذراعاي كأنهما جزء من ظهري. لم تتوقف الحفلة السادية هنا، بل وثبت فوقي أجساد بعضها كان ثقيلا جدا وأخرى ليست كذلك مع أنها جميعا كانت تتميز برشاقة الحركة وخفتها. كانوا يقفزون بشكل متناوب فوق أي موطأ تجده أقدامهم على جسدي، لا يميزون بين وجه لي أو قفا. أكاد أجزم، رغم كل ما سوف يقرأ من هذه الأسطر ويستعظم حصوله علي، وقد لا يصدقه البعض أو يظنه مبالغة أو أمرا لا يمكن لبشر أن يتحمله. أجزم بأني كنت محظوظا جدا فكثير ممن عرفتهم في تلك الزنزانات ورأيتهم فيما بعد قد نالوا أضعاف ما نلت من الأذى والعذاب، إنما للأسف لم يرووا حكايتهم بعد.
تمر ساعات طويلة ولا تكف الأحذية عن الاصطدام بجسدي ركلا وتقليبا بين الحين والآخر. أوشكت تماما على الانهيار وبلوغ مرحلة الإغماء لولا بعض استراحات قصيرة بين فينة وأخرى. بالتأكيد لم تكن هذه الاستراحات لخاطرنا، بل لخاطر أصحاب الأحذية المدببة ليشربوا شايا ويأكلوا معه كعكا أو بسكويتا. كنت أسمع صوت جرشه تصكه أسنانهم وهو يختلط بسباب وشتائم لم تتوقف أبدا، كأنها جزء من زادهم اليومي أو هي الأوكسجين الذي يستنشقونه ليبقوا على قيد الحياة. هوسهم السادي لم يفتر حتى في هذه الفواصل القصيرة من الاستراحة كما كنت آمل وقتها بتوقفه؛ مثلا لم يعجب أحدهم أن يستمر في شرب الشاي وإكمال القدح الذي يمسكه بيده فسألني: «هل تريد شايا؟»
لم أرد عليه لأني كنت أعلم يقينا أنه لا يسألني، بل يدبر أمرا ما استهزاء بي. لم يخب حدسي ولا كذب ظني؛ فقد سكب بكل هدوء ما تبقى من شاي ساخن في قدحه على فروة رأسي. ولسوء الحظ كنت قد زرت الحلاق قريبا جدا قبل حفلة العبث هذه، ومن عادتي - كما هي حتى اليوم - أن أخفف شعر رأسي كثيرا. الشاي يقدم عادة في بلدي في قدح والسكر يكاد يملأ نصفه، لم تكن هذه العادة تعجبني أبدا من قبل ولا الآن وهو ينزل على رأسي. الشاي سوف يبرد بعد ذلك مهما كان ساخنا، لكن ماذا سوف أفعل بكمية السكر الكبيرة التي تغلغلت في فروة رأسي. بقيت أشعر بالدبق واللزوجة منها لوقت طويل جدا ثم صارت موئلا مثاليا لكثير من الهوام والحشرات التي يزخر بها المعتقل، خصوصا أن الاستحمام غدا واحدا من الأمنيات المستحيلة لزمن طويل، بل لدهور.
بعد انتظار طويل، وكم كان من انتظار مقرف؛ لأني كنت أنتظر أن يأتي اللاشيء أو الأسوأ. أنتظر مجهولا إن أتى لن يحل مشكلة، بل سوف يفاقمها ويزيدها تعقيدا وسوءا. ومع ذلك كنت أوهم نفسي أنه من المحتم علي ترقب المجهول وانتظاره؛ لأن قدومه سيضع نهاية لهذا الإرزاء والازدراء الذي غمرت به وغطست فيه عميقا نحو قاع بلا قرار. وهم شبيه بانتظار من لا يأتي أبدا رغم كل أوهام المنتظرين له، انتظار ابتدع صورته العجز حين يتملك صاحبه، ويقرف منه فيتذاكى على نفسه ويشحن ذهنه بخيالات وإبداعات من صنع أوهامه، ويبحر فيها بعيدا بلا شراع ولا دليل يتبع خطاه مصدقا واثقا أنه بها يمسك حبل نجاة ينتهي طرفه الآخر عند بر النجاة والأمان، ولا يدري أنه طرف حبل سائب يسحبه إلى عرض يم لا متناهي الأطراف من العجز والشلل والانغماس في فضاء أحلام وهمية. أبواب النجاة لن تفتح لوحدها، ولن تسير إلى أي أحد، من يرد بلوغها فعليه أن يسعى إليها ويطرقها ويفتحها عنوة إن أبت، وبالتأكيد لن يصل إلى باب الخلاص عاجز مشلول، بل يبلغها الساعون إليها ويطرق بابها السائرون نحوها وهم فقط من يفتحها.
وصل ضابط كبير (ع. ع.)، وبدأ يطلب الموجودين بالأسماء واحدا تلو الآخر. رأيته كتلة لحم ضخمة تشوبها حمرة مختلطة ببياض ترشح عنفا وتقطر قوة وتفيض قسوة. سألني بضعة أسئلة تقليدية: اسمك، عمرك، تحصيلك الدراسي، ومن أي محافظة أنت، وأسئلة أخرى لا قيمة لها نسيتها الآن، وبادرني بسؤال يستدعي الضحك والخوف معا: «هل آذاك أحد؟»
لم أعرف بماذا أجيب عن هذا السؤال، هل يجهل جوابه فعلا وهو يرى حالي المبعثر بعد معركة خاسرة آثارها ترتسم على كل شيء في وعلي؟ أم أنه يبالغ في السخرية، أم أنه يستفزني لخوض نزال جديد؟ أم هو سؤال عبثي هكذا درج على لسانه بلا تفكير؟ وأيا كان الجواب فقد كان من الأجدى، بل من اللازم والواجب علي تجاهل مثل هذه الأسئلة؛ لأن الإجابة عليها قد تحول المسار إلى سكة جديدة لا تحمد خواتيمها ولا تحسن عقباها، وأي عقبى تؤمل بعد هذا الاستقبال الحار؟!
ويبدو أنه بالفعل لم يكن معنيا بالإجابة؛ لذا لم يعلق على وجومي وإطراقي، بل أمرني هادرا بالانصراف بلهجة وعيد ببطش وتهديد بأزرى مما لقيت حتى الآن. - اذهب ارتح اليوم وغدا سنبدأ معك الكلام.
لم أفهم أي شيء من كل ما حصل رغم نشوتي الداخلية بأمر الانصراف، والتي ربما ارتسمت على محياي المبعزق. وفي طريق الانصراف ألححت على نفسي بسؤال ساذج كنت أحسبه جوهريا، أين هو الاتهام الموجه لي؟ ولماذا إذن كان تسونامي الرفس واللكم والهراوات؟ هل حقا ستكون التهمة الموجهة لي كما كنا نقول ويقال لنا كثيرا: أن النزوة المجنونة في أن تكون إنسانا هي من أكبر الجرائم وأخطر التهم في جمهوريات الخوف؟
إنهم لا يبحثون عن شيء، بل يريدون وأد الفطرة الإنسانية التي إن طلت على صخب هذا العالم ونما برعمها قليلا، استفز تجبرهم وتيقظ استكبارهم وارتجف الطغاة وعبيدهم جنونا، وطفقوا يغرفون من ظلمة بئر الموت أنواع القسوة لمحوها. لو أصاب العث الشجر وفسد الثمر فإن الزاد والقوت لا يؤخذ إلا من السليم، وبهذا النزر القليل من الثمر تواصل قافلة الوجود سيرها السرمدي، وسيذهب العث مهما كثر إلى المزابل هو وجميع الثمر الفاسد.
3
على سلالم كثيرة أنزلت إلى سرداب تحت الطابق الأرضي في زنزانة انفرادية، عرضها أقل من ثلاثة أرباع المتر، وطولها يكاد يضاهي طولي ذا الأقدام الستة، كنت وأنا أفترشها متمددا تصل أطراف أصابعي إلى الباب، ورأسي يلتصق بآخر الجدار، ارتفاعها لم يكن يجدي المرور من تحته إلا بانحناءة قصيرة مني لأدخل مسكني الجديد، انخفاضها الشديد دون غيرها سببه سوء طالعي؛ إذ إنها واحدة من زنزانتين تقعان تحت سلم.
زنزانتي هذه كانت نزل الحرية الوحيد في هذا العالم المستعبد من أباطرة القوة والجشع؛ إذ كنت أختلي فيها بعيدا عنهم وأعتكف معيدا ترتيب أفكاري. فضاؤها كان مملوءا حد التخمة المفرطة بالظلمة ومعه صار الليل كسوتي وردائي. ليل لم يعد ينجلي ويهبط كما كان، بل صار مكتنفا هناك معي يأبى المغادرة، لكنه جاء لا قمر معه ولا نجوم. عيوني تتنقل في الظلمة وتأخذ من خيوطها شعاعا أبصر به الأشياء. باب الزنزانة الحديدي السميك يقيده أكثر من مزلاج وتغلقه أقفال ثقيلة من الخارج. في الجزء العلوي من الباب توجد كوة صغيرة موصدة هي الأخرى دائما إلا حين يدلف منها صحن عميق أو بالأصح إنه طشت بلاستيكي صغير مخصص للأكل رسميا، وسوف أكتشف له استعمالات أخرى لم تكن لتخطر على بالي بالمرة، ولن يمكن لأحد توقعها أبدا لأنها مفاجأة عجيبة في زمن الثورة الجميل. الزمن الجميل! كما يسميه فاقدو الذاكرة، يتبعون في ذلك مرضى القلوب ومروجي الجريمة.
صرير صرصور لا يفتر كان يمزق سكون الظلام الذي يغطيني، وبسذاجة بالغة فتشت كثيرا عن هذا الصرصور المزعج بالغ الثرثرة، متحسسا في الظلام كل زوايا الزنزانة لعلي أحظى بساعة نوم بعد هذه الرحلة الشاقة الطويلة، ومن سخونة الاستقبال العنيف الذي لقيته. في النهاية لم أجد الصرصار ولكن اكتشفت أني أبله كبير كما ظهر لي خبث الجلاد؛ إذ لم يكن هناك أصلا من صرصار. لم يكن سوى صوت لا أعرف من أين كان يطلق ولا كيف. كل ما خمنته - وصحيح كان حدسي هذه المرة - أنه موكل رسميا بأن يقض مضجعي ويسلب راحتي.
إيه، إني لأبله حقا إلى حد الضحك فعلا! كيف لي أن أتحدث عن شيء اسمه الراحة في هذا الثقب الأسود. لو قلت كلف بأن يجعلني في توتر لا يسكن لأنصفته؛ لأنه قد فعل.
التقيت فيما بعد ذلك أشخاصا آخرين صادفوا أساليب أخرى تجعلهم مستيقظين دائما مفتوحي الأعين، لا تجرؤ أجفانهم أن تسدل على بواصرهم وإن لهنيهة واحدة. روى لي أحدهم أنهم كانوا يدخلون معه في الزنزانة عقربا صغيرا، ويهددونه بالويل والثبور وأنه سيرى نجوم الظهيرة إن مسه بأذى أو قتله. فسخر كل اهتمامه لتجنب الاحتكاك به. وكان يدور حوله مثل ثور في ساقية طوال الوقت في الزنزانة، إلى أن اكتشف فيما بعد حين لم تعد قيمة لاكتشافه أنه عقرب لا يلدغ، وإن فعل فإن لدغته غير ضارة ويستعمل لإرهاق المعتقلين وتدمير أعصابهم. هذا الاكتشاف المتأخر من قبلي كان مثل اكتشاف صاحبي غير ذي نفع، بل كان مضرا؛ لأنه لم يقلل من توتري، بل أعطاه زخما أشد ودفعا أقوى، لأني صرت أراهم بعين اليقين يتلاعبون بي، وأن كل الأشياء مسخرة لهم مثل سليمان، حتى الشياطين تجثوا عند قدميه وتتملقه للفتك بأعدائه، وصرت أرى ملكهم عظيما كبيرا كأنه بحر ظلمات، لست فيه سوى ورقة ذابلة أصابها البلل.
افترشت الأرض الإسمنتية بعد أن أنهكني التعب تماما والتحفت الظلام متوسدا حذاء رياضيا كنت انتعلته. جفناي عجزا عن الإغماض قلقا، وحين كانا يسهوان عن هذا القلق لوهلة أنزلق بغفوة قصيرة، سرعان ما يذبحها طنين الصرصور ويوقظها تدارك الغفلة عن القلق.
اقتحم النهار الزنزانة من فتحة الباب العلوية وهي تنفرج ليلج منها صحن يضم حساء عدس. دقائق قليلة بعيدها فتح الباب وهذه المرة سبقت فتحه أصوات قرع رهيب لسلسلة مفاتيح ضخمة، وانتصب أمامي رجل أمن (أبو أ.) بزي عسكري وسمرة لافحة من صنع شمس صحراوية خلفت على وجهه قسوة وغلظة وجفاء. أمرني - بزجر وبقليل من كلمات فاحشة - بالخروج لقضاء حاجتي وغسل طشت الطعام، حتى تلك اللحظة لم أكن قد توصلت إلى إدراك المدى الذي بلغته القسوة، ولهذا واصلت بلاهتي وسرت الهوينى كعادتي المألوفة وعادة البشر بالمشي. إلا أن هراوة متصلبة في كفوف وحشية ترعد مزمجرة هوت علي بقسوة. بهت حينها مثل تلميذ بليد حتى صرخة الوجع لم تكن منها كلها، بل منبعها الحقيقي كان الفزع من المفاجأة، وهو أكثر بكثير من الألم من قساوتها. مفاجأة لقنتني درسا جديدا في كيفية السير الحثيث في معتقلات دولتنا الثورية.
عدت إلى زنزانتي - وطني الجديد - خائبا، فلا أنا الذي غسلت الطشت ولا أنا فعلت ما كان علي فعله من قضاء حاجتي، إلا بتساؤل أحمق جديد، هل حقا أنهم يظنون هذا الوقت القصير يكفي لأداء كل هذه الوظائف؟ علي أن أعترف الآن أني كنت حتى تلك اللحظة أحمق شديد البلاهة ومثلا قياسيا في الغباوة. كنت أسأل نفسي أسئلة تثير الضحك والشفقة لسخافتها وسذاجتها. كل شيء كان معدا ليذيقوا المعتقل السياسي به الذل ويحاولوا تحطيم شخصيته، سحقها، وإشعاره بأنه لا شيء. لم يكن الحرس يفعلون ذلك لفطنة عندهم أو لأنهم يتوفرون على قدرة في ممارسة الحرب النفسية. كانوا أغبياء جدا لا مواربة في ذلك ولا شك، إنما الطريقة التي رسمت لهم لأداء أدوارهم كانت تحقق ذلك، حتى هم أنفسهم لم يكونوا يدرون ماذا يفعلون. مثلا سلسلة المفاتيح كانت تصدر أصواتا مزعجة مهما جهد حاملها في التكتم عليها، لكن صوتها عندما يقترب كان يشبه فحيح أفعى سامة تنتصب أمامك وتحملق فيك بعيون جامدة استعدادا لافتراسك، وأنت تقف أمامها تنتظر أن تبتلعك في أحشائها مشلولا من نظراتها حتى قبل أن تلدغك ويسري سمها في جسدك.
دقيقتان ليس غير، هو الحد الأقصى لقضاء الحاجة حين يسمح بخروج المعتقل لممارستها، ويقف على منحنيات الطريق المؤدي إلى المرحاض رجال أمن بعصي غليظة يضربون بها أي سجين يمر؛ زعيقهم متواصل عليه، إن ركض في الممر أو صعد السلم القصير الموصل إلى خلاء ضيق بلا باب. وحتى إن كان داخل المرحاض يقضي حاجته لا يتوقف الزعيق والسباب، مما جعلني ويجعل أي معتقل في توتر دائم وإحساس كامل بالضياع، أضحيت مثل تائه يدور ويدور ليسقط دائخا وينهض ثانية ليعاود الدوران حول عمود التلاشي، وهكذا إلى حد لانهاية له كأنه سيزيف يدفع صخرة زيوس.
والداي كانا يفخران بي دوما بأني ذكي سريع التعلم ولم أخيب ظنهم هذه المرة أيضا، فقد هضمت الدرس حتى الثمالة، وانفجرت البراغماتية والانتهازية عندي بأبشع صورها داخلي لاستثمار الفرصة الزمنية الخاطفة لاحقا. كان قراري سريعا وجريئا أيضا؛ قرار طويت معه كل ترف العالم الخارجي في كون ميتافيزيقي لا يشبه ذاك الذي كنت أسكنه قبل أسبوعين بأي وجه. عالم ولجت فيه بغتة كالموت الذي يرحل بالأرواح إلى عالم آخر لا يمت لعالم الدنيا بشيء إلا في مسألة واحدة، إن الروح سكنت فيهما معا. أبحرت سريعا في هذا العالم السريالي الجديد وصارت خطتي بعد الأكل في الوجبات اللاحقة أن أقضي حاجتي في الصحن ذاته إن كنت مضطرا لذلك، ثم أغسله منها ومن بقايا الطعام حين يطلب مني الخروج لقضاء الحاجة في تلك الدقيقتين، وبذلك أهزم جلادي وأستغفله. كانت خطة ناجحة بالفعل وكافية لأن أغسل الطشت حين فعلت ذلك فيما بعد، بل حتى إني كنت أغسله وأنا أترنم بأغنية قديمة حفظتها من أيام المراهقة. شعرت بالزهو لقراري وقلت لهم في ضميري: سأنتصر عليكم أيها الأوباش، ولن أخيب صديقي ناظم حكمت.
إنهم لا يدعوننا نغني، يا روبسون.
يا كناري، الذي له أجنحة النسر.
يا أخي الأسود ذو الأسنان اللؤلئية.
إنهم لا يدعوننا نجلجل أغانينا.
إنهم في خوف يا روبسون.
إنهم يخافون الفجر، يخافون أن يبصروا.
يخافون أن يسمعوا، يخافون أن يلمسوا.
إنهم يخافون أن يحبوا.
4
في الليل عندما تكف الشمس عن ملاحقة الوقائع وأشخاصها، تدخل العتمة بكل ثقل ظلمتها لتفتح أبوابا لأحداث رهيبة تجري في غرفة معزولة في الطبقة الثانية، لمبنى كان يدير قفاه لقاعة جميلة يجتمع فيها الكثير من الحالمين. قاعة «ابن الأثير» عند الساحل الأيمن من الموصل، كنت أرتادها مع صحبي كثيرا، نحضر فيها عروضا مسرحية وحفلات موسيقية أو غنائية، ولم يدر بخلدي يوما أني سأقابلها في بناية جياشة بكل هذا العبث المجنون.
لم يتسن لي أن أتفحص ملامح هذه الحجرة الرهيبة أبدا؛ إذ حال عني ذلك عوازل غلفت عيناي كالمعتاد، لكني لمست كل ركن وزاوية فيها بآلامي وصرخاتي، وبدمائي التي صادفت جدرانها تروي لها شيئا من مشاعر متلاطمة كانت تتوزع بين ألم من عذابات تجرعتها، ومن شفقة على جلاد كان يرهق من إيقاع العقوبة بي لجرم ارتكبته بإدمان، وما زلت أفعل حتى اليوم بالزخم عينه؛ جرم شبق الحرية والإصرار على بلوغ قيم الإنسانية إن لم يكن في حدود العالم الذي أقطن فيه، فعلى الأقل في حدود نفسي. لم ولن أتنازل عن ذلك أبدا، وإن قدر لي التنازل يوما ما عنه، فالموت حينها خير لي من الحياة؛ لأني أكون قد مت فعلا.
في الليل اقتادوا أحد الرفاق إلى حيث لا أدري (وقتها لم أكن قد تعرفت بعد عليها ولا هي عرفتني)، وتبين فيما بعد أنها الغرفة العلوية المقصودة التي سوف أكون ضيفا مدمنا عليها. بعد ساعات عادوا به ثانية، كان صدى ألمه يشق كثبان الظلام، ويحفر أخدودا في صخر الضمير الإنساني المعطل. انتابتني رعشة خوف غريزي من مواجهة الألم وتزايد خوفي وهلعي، وأنا أنصت إليه وهو يطلب من السجان أن يرفع عن عينيه الخرقة التي تعصب عينيه؛ لأنه بات عاجزا عن رفعها. يا للهول! ماذا فعلوا به فأضحى لا يقوى على إزاحة عصابة يمكن حتى للطفل الرضيع أن يرفعها؟ سؤال وجهته لنفسي، لخص كل الخوف الذي انتابني وقتئذ، حينها سرت في قشعريرة أرجفتني وصرت مثل سعفة صغيرة وقعت في مجرى ريح مدارية.
ازدحمت مخيلتي بصور لم أشاهدها بعد، يكسوها ثوب واحد هو القسوة المفرطة؛ قسوة استحكم الفشل في إيجاد أي عذر لها أو تبريرها، وإن وجد أصحاب السفسطة والجدل الفارغ ذريعة في كل مرة لهذا العنف البهيمي الذي يتمثل على أيدي من يعدونه بشرا، أو ينسبونه ظلما زيفا وزورا للبشر، وهو فعل لا يليق إلا بوحوش أسطورية من صنع ساحرة شمطاء تسكن خربة مهجورة مأوى للخفافيش طيور الظلام.
جاء دوري أخيرا، صعدت سلالم متعددة، وطلب مني مرافقي من الحرس أن أحصي ثلاث عشرة درجة في كل مرة حين أرتقيها، كنت أظنه يسخر بي كالعادة، لكن عندما تعثرت في آخر درجة بعد أن أخطأت الحساب وهوت قدمي في الفراغ تبحث عن الرقم المفقود في عدد درجات السلم وبخني على ذلك بوكزة في خاصرتي.
أدخلت على الضابط «ع. ع.» وهو رجل كما به بدانة واضحة فكذلك به قسوة مثلها وأكثر. عرفت أوصافه من اللقاء الأول. هذه المرة تعرفت عليه من صوته المميز، بت أنظر إلى العالم من أذني.
بادرني بسؤال قصير وبلا مقدمات: «من مسئولك في التنظيم؟» - «مستقل ...» بلا تردد وبحسم سريع رددت له الجواب.
وقبل أن تصل كلمات جوابي إلى أذنه الصماء عن سماع هذه الأجوبة، كانت قبضة كأنها من الفولاذ ترتطم بمعدتي بعنف شمشوني، سحبني الوجع إلى الأرض وهويت سريعا مثل حجر يصدم الأرض نازلا من برج عال بسقوط حر، وتكومت عليها مثل كيس رمل بهيئة إنسان، لترفعني في الحال ذراعان كانتا تمسكان بي من الجانبين.
صاح بهم آمرا بغضب: «خذوه!»
أصعدوني سلما صغيرا، وارتكب الحديد معي خطيئة أخرى؛ إذ لم يكفه قيد المعاصم كما فعل من قبل، بل علقني هذه المرة إلى سقف غرفة متشبثا بجامعة القيد التي حبست ذراعي من الخلف، واتكأت قدماي على الفضاء وفوقها كان يقف جسدي تؤرجحه فنون التعذيب.
حلت لحظة مواجهة مع الذات عادت بي إلى بواكير قصة الإنسانية الأولى، عندما جردوني من الثياب تماما. لم يعترني الخجل كما أرادوا لي ذلك من فعلهم وقلت لنفسي مشجعا: الملابس هي ورق جنة آدم المزيفة، وأولئك الملتحفون بالكثير منها إنما يفعلون ذلك ليخفوا قبح سوءة الخطيئة التي تغمرهم، ومن كان بريئا لم تدنسه الخطايا فلا تعوزه وليس بحاجة لها.
أرادوا اقتحام عفتي وحيائي وما عرفوا أنهم فجروا في براءة الإنسان قبل أن يفقد عذريته حينما نالت منه ثمار شجرة الخطيئة والرذيلة. هذه أسمال الفضيحة، لن يعيبني التجرد منها، وهل يعيب المرآة أن ترتد إلى فطرتها الأولى وأن تزاح منها الشوائب والأكدار؟ خذوها كلها لا حاجة لي بها، إنما يحتاج إلى الستر من به عيب، ومن عيوبكم كلها أنا بريء.
رشوا علي سائلا سريع الاشتعال غمرني باللهب مرات عديدة، وبين لهب حريق وآخر كانوا لا يجدون منفضة لجمر سجائرهم إلا في جسدي الأسمر السابح ألما في الفضاء، مختنقا بدخان سجائرهم وفحش أقوالهم. هراوات خشبية وأخرى حديدية كانت تترك بصماتها على أعضائي بتناوب مجنون، استحال تدريجا ثوب الألم المزمن إلى درع واق يصد موجات عنفهم. كثرة الألم أفقدتني الإحساس به.
دم حار حد اللسع كان يجري على غير ما أعتاد عليه بين أنسجة ممزقة عند الكتفين المخلوعتين بفعل التعليق. بدأت أستجمع كل قواي الكامنة في مجهول عقلي حتى ألاحق سمو الروح. الندوب والجروح بعضها سيلتئم يوما ما، وأخرى ستبقى نياشين لذكرى المواجهة محفورة أبدا في جسدي، ليفوح منها في كل حين عطر الدم الذي يصرع السيف في كل منازلة له معهن ومتى ما التقيا.
سرى خدر في كل أنحاء جسدي، قتل الألم فيه وبدأ يعطل الحواس شيئا فشيئا، كلما تصاعد زمن المواجهة سائبة النهاية، لكنها في ذاك اليوم انتهت وكانت جولة أولى سوف تتبعها جولات عديدة.
قال لي أحدهم بعد حفلة السمر هذه التي تجرعت فيها كثيرا من ساديتهم، إنه قد أرهق وعلي أن أعترف وكفى صمودا ومقاومة لأنها بلا جدوى، صدمته برد لم يتوقعه حين قلت له بكل بداهة وبلا أدنى تردد: «إني لم أنو ولا أريد أن أسبب لك تعبا.»
أشفقت عليه كثيرا لكنه قهقه ساخرا ولربما مستغربا، ظل يردد مقولتي لوهلة وهو يضحك، إنما بدا لي وهو يستعيدها أنه صدق نيتي بعمق، لكن للأسف بدا أيضا أنه لم يفهمها جيدا كما كنت أريد. كنت أتمنى له أن يفقه ما أقول، لكن أنى لمن خاض في وحل حظيرة خنازير أن يشم شذى طيبا أو عبيرا فواحا. ليس باليد من حيلة الآن، لكن ما علي إلا فعل ذلك، ولن أتوقف عن فعله لا الآن ولا من بعد، وسوف يفهم هو ونظراؤه أغنيتي في يوم ما.
5
توالت ليالي التعذيب متواصلة لأربعة أسابيع، تقطعها استراحات اضطرارية كانوا يحرصون على تمتعي بها، لمنح جسدي فرصة للتهيؤ والاستعداد لتلقي مزيد من التعذيب عندما يصبح هزيلا جدا لا يقوى على تحمله، وبالأخص ذراعي اللتين كانتا تصابان بخدر تام جراء التعليق إلى السقف.
بعد أن تهدأ قليلا بعض جراحاتي تتكرر الحكاية من جديد، ليس لمرة واحدة، بل لمرات كثيرة، وفي كل مرة كانوا يسقونني غضب غرائزهم من جوارح هائجة تنفلت تماما من عقالها كما هو حال الضواري المسعورة، كنت أسقيهم بالمقابل خمرة الصمت التي تطيح برءوسهم، وتجعلهم أكثر جنونا يتقيئون الشر المتجمد في صدورهم. أرجع إلى زنزانتي متوجعا لا تتحمل أعضائي أن يحتك أحدها بالآخر وجلدي صبغ بحمرة قانية إما من دم أو من أثر السياط بعد كل حفلة تعذيب، وهم يعودون سكارى حيارى لا يجدون حلا لمعضلتي ولا فكا لأحجيتي.
كنت أودعهم هادئا في قرارتي رغم ألم الجراح، وهم في انكسار وخيبة يزبدون ويعربدون. صخب الصمت الذي أذيقه لهم كان يقتلع الأصابع الغبية التي يدسونها في آذانهم كي يصموها عن سماع رعد الحقيقة، وهو يمزق الأسمال البالية التي يدفن بها البلهاء رءوسهم. طرق شتى حاولوها لإرغامي على البوح بأشياء لم ولن يعرفوها أبدا، حتى يومنا هذا بقيت سرا مخبوءا ما زلت أحتفظ به للساعة في صدري. صدري قبر لأسرار كثيرة حتى لمن شاركني السجن ولمن كان أقرب الناس إلي من قبل أو حتى من بعد، ولليوم لم يزل يجهل ما كنت أقوم به فعلا من مناهضة سلطة القمع البوليسية وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات قبل دخولي للسجن. القليل جدا - وربما هو شخص واحد فقط - كان يعرف مهمتي الحقيقية والدور الأساس الذي كلفت به. ومع أن كل هذا أضحى الآن بلا أهمية حقيقية إلا أني لا أجد مسوغا للبوح به، إنها خصوصية أعتز بها؛ لأن كل مهارتي وبراعتي كانت في هذا التكتم البالغ وحفظ سرية العمل. ليس من السهل أن تكشف سر التفوق بالمهنة خصوصا لمن لا يعرف قيمة ما تخبئ وتواري. العمل الثوري درة غالية وجوهرة ثمينة لا ثمن لها، وأربأ بنفسي أن أعرضه في السوق، فكيف به إذا كان سوقا للأشياء الرخيصة؟
في وسيلة جديدة لإرغامي على الاعتراف هددوني بأن يجلبوا عائلتي للمعتقل، لم أبد أي اكتراث، حتى إن «م. ع.» عندما لاحظ رد فعلي وكمية اللامبالاة التي يحتويها، قال: «يا قواد، يبدو أنك لا تصدق أننا سنفعل ذلك.»
وبالفعل لم يكن ذلك مزاحا منهم ولا تهديدا فارغا، بل كانوا قولا وفعلا في هذه الأمور بلا أدنى تردد يخامرهم أو شك يساورهم. في أحد الأيام جلبوا والد أحد المعتقلين السياسيين وهو صديق شخصي لي وأيضا زميل جامعي. والده كان فلاحا بسيطا ثمانينيا في أواخر العمر، أذاقوه من الإهانة والأذى ما أجبر صاحبي على إعطائهم دليلا مزيفا، كان هذا سببا كافيا لأن يقوده هذا الدليل فيما بعد إلى حبل المشنقة ليفتدي والده المنهك من عذابات جديدة تضاف إلى آلام السنين، وعناء فلاحة أرض ضمته إليها سريعا بعد ابنه لتجفف دمعه وتمنحه أمنا وحنانا افتقدهما فوقها.
أصبحت مواجهة قسوتهم عملا روتينيا شبه يومي فيه الكثير من الملل والرتابة، وأصعب ما فيه كان الانتظار الذي طالما كرهته في كل الأحوال، أنتظرهم في حفرتي المعتمة مضمخا بالدم والجراح، محاولا أن أتصلب وأفرغ رأسي من الماضي القريب وأبعد كل صوره عني، لكن كنت أترقب بقلق وخوف تضطرب له كل أعضائي موعد زيارتهم الليلية، وعندما تضعف الأقفال أمام المفاتيح وترخي صلابتها ويتحرك الباب المصفح بصريره المفزع، كان القلق يستبد بي ويبلغ ذروته وتصير الأولوية عندي أن أخرج من دائرة الخوف هذه، ولم يكن أمامي من بد إلا استفزازهم حتى يكسروا حلقة الانتظار ويبدءوا بممارسة القسوة التي لا بد منها، تجنبا لهذا الانتظار المزعج ولما هو قادم بلا محالة، فعلام الهروب منه، ولماذا التأخير؟
سألني «ع. ع.» يوما: «هل صفيت عقلك؟»
دفعت الجواب إليه سريعا بتحد ممزوج بالسخرية: «ذهني صاف أساسا.»
رد، لم يكن يتحسبه ولا ينتظره، إنما أنا الذي كنت أنتظر رده المتوقع وأتلهف إليه للخلاص من دائرة السؤال والجواب التي كانت تستنزف قواي في الصمود أكثر من التعذيب نفسه بكثير جدا. ولو قلت إني كنت أوشك أن أسقط في لحظات الانتظار كثيرا، لكني لم أكن معرضا لهذا الاحتمال خلال حفلات التعذيب أبدا لما أوردت أحدا إلا إلى عين الحقيقة.
رده كان غضبا بهيميا، فجره كالعادة بنصب أرجوحة لجسدي من السقف وتركه يسبح في الفضاء يتكئ على الفراغ. أشياء كثيرة كانت تزور جسدي بعضها يحفر ثقوبا فيه لتعدم كثيرا من خلايا شاء حظها النحس أن تكون في جسدي على خط المواجهة الأولى خط التماس، تماس حتى مع أسلاك الكهرباء.
طالما سمعت جدلا في أيام الدراسة الثانوية بين تقليديين ومتنورين يسألون سؤالا، هل يعقل أن توماس إديسون يذهب إلى الجحيم وهو الذي خدم البشرية كلها ونفعها باكتشاف الكهرباء؟ كنت دوما إلى جانب الفريق المدافع عن إديسون في كل مرة جرى فيها هذا النقاش؛ لأن خلود الإنسان بما يقدم من خدمة للإنسانية وينفعها، لا بما يثرثره من كلام أو يرسمه من بورتريهات مزيفة للإله. بيد أني في تلك الليالي صرت أرى إديسون رجلا شريرا ارتكب خطيئة لا تغتفر بفعلته الشنعاء هذه. أي إثم قد اجترح عندما اكتشف الكهرباء؟ هل يرى الآن من جنته أو من جحيمه ما عاد يهمني أين استقر به المقام، هل يرى ما يفعل بي اكتشافه الرهيب؟ ألا يرى كيف أرتجف مصعوقا؟ وهل هو نفسه الذي علمهم أيضا أن الكهرباء يزداد شرها عندما تعلق الأسلاك في أطراف الأصابع وعند الحلمتين وأماكن حساسة أخرى لا أخدش الحياء بها كما فعل إديسون باكتشافه المقرف؟ ماذا عليك لو كتمت ذلك عنهم يا إديسون؟ وماذا كان سيحصل لو أن لي جلد سلحفاة فلا آبه لغلاظة العصي؟ أو لو أني كنت طويلا مثل عوج بن عنق؟ أو نبت لي عنق زرافة؟ كيف كانوا سيجدون سقفا ليعلقوني منه؟
أمنيات مستحيلة كثيرة أخرى، لم تكن هراء. كانت جدية للغاية آنذاك والأمر لم يكن مضحكا ولا عبثيا، بل كان بحثا عن مخرج خرافي من أزمة لا مخرج منها. كنت تماما مثل غريق تتقاذفه أمواج متلاطمة في بحر هائج ينتظر معجزة تخرجه من البحر اللجي، وأين هي هذه المعجزات؟ لقد ولى زمن المعجزات؛ لأنها صنع الجهل والأوهام، أما في الواقع فلا توجد إلا قوانين الفيزياء. إنها أحلام ولا عيب في الأحلام وإن لم تحدث لأنها ليست أوهاما، وإن بدت كذلك أحيانا. الحلم هو النهاية السعيدة لحاجة واقعية ولو لم تكن حقيقة موجودة لما اندفع إليها تفكيرنا وتاقت إليها نفوسنا.
ألسنا ما زلنا نحلم بالسعادة والحرية منذ فجر ظهور البشرية ولم يتحقق شيء منها حتى الآن؟ الأحلام منفذ الخلاص الوحيد حين توصد كل الأبواب، وإذا لم تؤد إلى الخلاص فإنها على الأقل سوف تمنع اليأس والقنوط من التمدد إذا لم تقتله بالفعل.
بكل صدق يمكن أن يحتويه قلب القديسين، تمنيت حينها ألا يجلس في محلي ذاك أحد من بعدي.
6
في ليلة طال صبرهم كثيرا شعرت بقرارهم المسبق أنها سوف تكون ليلة للتأريخ، توسلت فيها بشدة للشمس أن تشرق لكنها أضاعت الاتجاهات فظلت تدور في صحراء الظلمة تائهة كتيه بني إسرائيل. تركتني معلقا في الهواء لأكثر من أربع ساعات كما خمنت ذلك فيما بعد، ينزلون بي صنوف العذاب بلا كلل ولا ملل، لم يهدءوا ولا فتروا ولا لهنيهة واحدة. صرت واثقا من إرادتهم وتصميمهم على وضع خاتمة لقضيتي هذه الليلة بأي طريقة تصل إليها أيديهم، ولو كلفهم ذلك القضاء علي وإزهاق روحي. لن أرجع وأكرر شرح وسائل التعذيب التي استعملوها معي، لكن أقول ليلتئذ أعلنت التحالف بينها واتفقت في تلك الأمسية الطويلة أن تزورني جميعها. أصبحت عاجزا حتى عن الصراخ من الألم، وفقدت الشعور بالكثير من أجزاء جسدي بما أصابها من خدر، إلا رأسي كان نشطا فعالا لأقصى ما يمكن له كما لو أنه كان يستمد طاقته من العذاب الذي عطل كل شيء غيره. واصلت الاستمرار بالتركيز الشديد والتفكير بعمق، كيف لي أن أتخلص من عصفهم القاتل في هذه الليلة التي لا فجر في آخرها؟
وأنا على هذا الحال تذكرت كراس لينين «ما العمل؟»
سألت نفسي: «ما العمل الآن؟» الأمر لا يحتاج إلى الصمود فقط، ولا الأحلام هي منقذي الأسطوري؛ لأني اقتنعت حينها أن لا أحد معني بي حتى السماء هربت من وظيفتها، لا بد من حل سحري للخروج من هذه الحفرة التي وضعت فيها، وأي حفرة هي؟ كأنها جراب محكم الشد مملوء حد الطفح بضحكات سخريتهم المدوية وثورات غضبهم العارمة.
لا أعرف بالتحديد من الذي قال: «أعطني مسرحا أعطيك شعبا مثقفا.» إنما هذا هو أوانها بالضبط، لماذا لا يكون المسرح هو المفر من هذا الكابوس المتسلسل بلا نهاية؟ هكذا كنت أحدث نفسي وأقول لجسدي: تماسك وتحمل مزيدا من العذاب، ولنجرب لعبة الفرار من الموت بادعاء الموت. سوف يكلف ذلك مزيدا من الألم، لا تخف منه، ولم الخوف؟ أولسنا غارقين فيه؟ فما الضير من سحابة أخرى تمطر على البحر، هل ستزيده بللا؟ ما عدت أصدق أن هناك جسدا يقوى على ما قويت عليه حتى الساعة من تحمل كل هذه الآلام، وإذا كان بمقدوري تجرع كل هذا، فلماذا لا أحاول تجرع المزيد منه لعل في ثمالة الكأس الخلاص؟ بدأت بتركيز كل قواي العقلية استعدادا لأداء دور المحتضر عسى أن تنجح المسرحية ويتوقف هذا العبث، وأنتهي من نزيف الوحشية. استجمعت تركيزي، رفعت الستارة وبدأ العرض.
المشهد الأول: لم أعد أستجيب للأذى الذي كانوا يلحقونه بي؛ كل همجيتهم وقسوتهم المنصبة التي كنت أواجهها بالصراخ استبدلت الرد عليها بكتمان الألم، عندما أقول كتمان الألم فإني أعنيه حرفيا؛ إذ ابتلعت الألم تماما وحفرت في داخلي أخدودا عميقا لابتلاعه كاملا بلا مضغ، كما يفتح الحوت فاهه ويبتلع أسرابا من السمك، وهناك في أحشائه تدور معركة الطحن ويسحق فريسته، يكتم هذا عن كل العالم، وهكذا فعلت. لم أعد أستجيب لأي ضربة هراوة تجلدني، ولم تعد تلسعني أي سيجارة تطفأ في أليتي وكأني فقدت الإحساس.
المشهد الثاني: أطلق أنينا خافتا، وأتوجه بآهات بنسق واحد لا يتغير، سواء شنوا غزوة على جسدي أو تركوه ينعم بسلام هدنة هم من يحدد وقتها. لم يصدقوا في البدء ما كنت أؤديه من تمثيل استنادا لخبرتهم الواسعة في التعذيب، حاولوا كثيرا استفزازي للخروج من هذا العرض المسرحي بوسائل شتى، حتى إنهم جاءوا بآلة كأنها خازوق كهربائي، لكن لم أستجب لكل إغراءات الصراخ بصوت عال. أشحت بأعصابي، بل بكل عقلي عنها خشية أن أعيش جوها وأسقط في الكمين، رحت أحاول التفكير في أشياء أخرى بعيدة جدا عما كنت فيه، أشياء أخجل الآن أن أكتبها حتى لا أتهم بالسفاهة أو الجنون، لكن هذا ما حصل، بل إني انغمست في تأملها لدرجة أنا لحد الآن لا أصدق نفسي كيف جرى كل ذلك!
تململ البعض منهم من الوضع الجديد الذي بت فيه، وارتعش آخرون خوفا من أن أكون فعلا على وشك الفراق الأبدي لهذه الدنيا، وأن أكون صرت ضحية لعصيهم بدون أمر من جهة مخولة بتصفيتي. هنا فهمت أن قرار الموت تحت التعذيب لم يكن مسموحا به بشكل جزافي، واستنتجت أنه لا يحصل إلا بأمر من الضابط الكبير المسئول عن ملف القضية. دار نقاش بينهم كنت أصغي له بتركيز شديد، حتى قال أحدهم: «أنا غير مسئول بعد الآن عما يحصل، لنبلغ السيد الضابط وهو يتخذ القرار.»
زادني هذا الحوار تصميما وعزما، وقلت في سري: هيا امض قدما في اللعبة أكثر وأكثر؛ إنها تؤتي أكلها. إذن ها هو المسرح ينتج فكرة تخرج واقعا جديدا. الهمس الدائر بينهم صار حوارا مرتفعا، ثم غدا أشبه ما يكون بالشجار، عاد علي ذلك بالراحة، ليس النفسية فقط وارتفاع المعنويات، بل براحة جسدية أيضا؛ حيث توقف الركل والضرب بالكامل. لم يستمر الخصام بينهم طويلا؛ إذ كان لا بد من مرجع يفصل فيما تنازعوا به، وجاء من يفض النزاع بكلمة فيصل منه بعد أن وصله الخبر عن طريق أحدهم.
هزني بعنف عدة مرات ثم كلمني برفق، كان يناديني باسمي طالبا مني أن أكلمه بأي شيء، وأقسم لي مغلظا أنه لن يؤذيني أحد بعد الآن، فقط إن رددت عليه. إلا أني كنت موقنا على الدوام أن للمسرح دورا كبيرا وخطيرا، ولا ينبغي التنازل عن هذا العرض الكبير الذي أقوم به لأجل شخص تافه من النظارة لا يفهم ما يدور حوله. ذهبت كل محاولات استدراجي عبثا، وانتهى الأمر به إلى يأس تام من استجابتي، وأن ما يراه ليس تمثيلا، بل واقع وحقيقة ليصدر فرمانه قاطعا النزاع: «نزلوه! هذا قد انتهى.»
لم أعن جسدي على النزول من الحلقة المعقوفة المفتوحة المثبتة بسقف الغرفة رغم محاولاتهم إقناعي بذلك، أحدهم كان يطلب ذلك مني بما يشبه لهجة المتوسل. رفضي التعاون اضطرهم إلى التعاون الجماعي على رفعي إلى الأعلى وتخليص القيد الجامع من الحلقة المعقوفة في السقف. كنت أواصل الحديث مع نفسي: علي أن أستمر في أداء الدور إلى النهاية. «أنت ممثل بامتياز.» سرى في داخلي شعور نرجسي بالتباهي والإعجاب وكذلك بالفخر. بدأت ألوم نفسي كثيرا، وأسلب منها شعور الانتصار، وأقول لها لماذا لم تفعلي ذلك مبكرا؟
حتى إنه وردت حينها في بالي خاطرة؛ عندما كنت أذهب إلى المسرح، وكنت أذهب إلى هناك مرارا لم أكن أختار الجلوس إلا في مقاعد الحضور، مع أنه ثبت الآن أنه كان بالإمكان جدا أن أصعد على المنصة وأحدق في النظارة ببرود وأؤدي أفضل الأدوار. إيه قد فاتتني هذه الفرصة أيضا، واكتشافي لمواهبي جاء متأخرا. قلت لنفسي: لا تهتم كثيرا، لم يفتك الشيء الكثير؛ فالعالم كله مسرح كما يقول شكسبير.
أهبطت على الأرض ثانية بعد التحليق الطويل. أمسك بي من كل ذراع واحد من الجلادين، ويبدو أنهم قرروا إجراء اختبار سريع لكشف الكذب لم يكن في حساباتي أبدا؛ لذا لم أكن مستعدا للتملص منه بأي حيلة أو وسيلة. فجأة تركوا ذراعي وحرروني من قبضاتهم القوية التي كنت أتكئ عليها. بغت بتصرفهم الذي لم يرد على خاطري، ولكن ما صعقني أكثر من هذه المفاجأة، أني هويت إلى الأرض مثل حجر يسقط من علو، ولم أستطع النهوض ولا حتى الجلوس. «ما هذا؟ هل فعلا قدماي عاجزتان أن تحملا جسدي النحيل؟!»
تكومت بلا انتظام على البلاط البارد عاريا، أمسحه بعرقي، وألامسه بالحروق وآثار أعقاب السكائر والكدمات والجروح الموزعة بعشوائية في كل مكان من جسدي المتعب المنهك.
أية أكذوبة تلك التي كنت أحدث بها نفسي، وأي هراء هذا الذي كنت سأصدقه حينما ظننت أني نجم مسرحي، ذاك الأداء التمثيلي الرائع لم يكن إلا وهما جديدا وخيالا سخيفا، وسوف يتبين بعد قليل أن كذبتي على نفسي كانت كبيرة جدا وأكبر مما يتصوره أي أحد، علي أن أضع كل هذا الهراء الفارغ في خانة مقفلة وأنتزعه من تفكيري. استبد بي الضحك سخرية، بل عصبية، وعلت قهقهة في أرجائي وأنا أتأمل حالي وما صرت إليه. انفضت كل الأفكار عني كأن مغناطيسا هائلا سحبها، وأصبحت أجوف فارغا تماما مثل قطعة من فضاء خارجي لا يسكنه إلا أثير لا حقيقة له ولا واقع.
رفعوني مثل كومة لحم من الأرض وجرجروني في ممر قصير يقع إلى جوار غرفة التعذيب «غرفة العمليات بحسب اصطلاحهم.» بدا لي حينها أنه ممر طويل لا نهاية له، يسيرون بي فيه بسرعة لم تكن تناسب كومة اللحم المتهالكة التي صرت إليها. قفزت حينها في بالي خاطرة سخيفة فعلا، لكنها لا تناقض ميلي الدائم للمزاح حتى في أعسر المواقف وأكثرها جدية.
كم هو مضحك منظري الآن وأنا أمشي عاريا! ترى كيف سيكون رد فعل زملائي في الجامعة وبالأخص الطالبات منهم لو رأينني هكذا؟ هل هذا وقته؟! لماذا لا تتوقف عن المزاح؟ ماذا بك؟ هل جننت؟
كنت أحدث نفسي بهكذا حوارات فوضوية لا رابط بينها ولا نظام في لحظات خاطفة أسرع من الضوء. لكن بصراحة كنت أضحك في داخلي لهذا الحوار، وبدا لي أنه شيء قريب لحد الملامسة من همس الجنون أو اكتشاف متأخر لعبثية الحياة التي لم أعد أحفل بقيمتها في تلك اللحظة بالكامل. حتى إن الابتسامة غلبتني وأنا أحدث نفسي. ولحسن الحظ لم ينتبهوا إليها، وحتى لو انتبهوا لها لم يكن بإمكانهم تمييزها؛ لأن وجهي بل كياني كله بالتأكيد كان مريعا لا يساعد أحدا على تصور وجود ابتسامة فوقه، وكيف لها أن تعلو هذا الخراب العارم. الأمر الأكيد أني أصبحت فوضى شاملة تتوارد علي الأفكار وتتضارب في المشاعر وتمر فوقي الخواطر كأنها أمواج بحر هائج. سارعت لإيقاف خواطري أو لجمها قليلا؛ لأني كنت سأنفجر ضاحكا، وكان يمكن أن أضحك بهستيرية لو فلتت ضحكة واحدة مني. أقولها مرة ثانية أصبحت فوضى عارمة شاملة في المظهر والجوهر.
في هذه الأثناء واصل اثنان من رجال الأمن السير بي رواحا ومجيئا في الممر البارد، يرفعانني بين الحين والآخر عن الأرض حين أعجز عن مجاراتهم في المشي. كنت في تلك اللحظة قد قطعت علاقتي بكل محتويات العالم ولا أفكر إلا بهذه النزهة الإجبارية التي لم أفهم سرها ولا المغزى منها. بدوت بينهم وهم يسيرون مسرعين مثل طفل صغير يلهو مرحا برفع قدميه من على الأرض حين يمسك والداه ذراعيه.
كنت أشعر أن الممر بارد جدا، كأنه مفروش بالصقيع مع أنه لم يكن باردا كما عرفته فيما بعد. صارت برودته زمهريرا؛ لأني كنت عاريا مجردا من أي قطعة على الإطلاق، غارقا في عرق تصبب مني بغزارة أثناء التعذيب، وأيضا لأني بلغت من الضعف منتهاه، وخارت قواي للآخر، فصار كل شيء باردا عندي وإن لم يكن في واقعه ونفس أمره كذلك، وهكذا هو العالم، ليس هناك من حقيقة واحدة فيه ثابتة. كل الأشياء فيه لها صور متعددة لا عد لها ولا حد، كل واحدة منها تناسب من يراها، صور بعدد أنفاس الخلائق.
7
لم أعرف بالضبط لماذا كانوا يسيرون بي هكذا مسرعين في الممر البارد ولفترة لم تكن قصيرة؟ هل كان جزءا من علاج طبيعي لإعادة الوعي خوفا من سقوطي في غيبوبة، وتحفيزا للجسد المتهالك للعودة إلى وضعه الطبيعي؟ لا أدري، ثم ألقوا بي إلى حائط أستند إليه وأنا معصوب العينين مشلول اليدين تماما لا أقدر حتى على تحريك إصبع واحد مع أنهما كانتا طليقتين من القيود لأول مرة في تلك الليلة الدامية. عاريا من أي خرقة ملابس تغطيني، يحيط بي صمت بارد، بعد أن تلاشت كل الأصوات التي كانت تتنافس على إصدار الصخب وإنزال العذاب. ثم تناهى لسمعي بعد برهة وقع أقدام تتقدم بخفة ولكن بسرعة لا تحدث صوتا إلا بما يشبه الهمس، جلس صاحبها أمامي مباشرة وأغلق فمي برقة وطلب مني ألا أنبس ببنت شفة وهو يطبق سبابته على شفتي. بدأ بتحريك يدي المشلولتين يثنيهما بقوة أوجعتني جدا، كدت أصرخ من شدة الألم. وبدلا من الصراخ أعلنت احتجاجي على هذا الوجع بتأوه ضعيف احتراما لطلبه الرقيق مني بالصمت، وأسكتني هذه المرة بحنان أكثر. صدقه كان يشع علي وينفذ بلا حواجز إلى كياني وأنا ألمس رحمة تنساب منه مثل النسيم تنعش روحي، وشفقة تفيض علي تسكن ألمي. قال لي: «إذا لم تتحمل هذا الألم الآن فسوف تفقد قابلية تحريك ذراعيك لما تبقى من عمرك، إني أفعل ذلك لصالحك.»
استسلمت له مصدقا ولم يكن بالإمكان إلا أن أفعل ذلك؛ فقد جاء متطوعا ليساعدني في تجاوز لحظة كانت ستغير وظيفة بعض أعضائي إلى الأبد. حينها لاح لي حنا مينا في إحدى رواياته وهو يقص علي كيف أن والده السكير الذي كان يظنه حنا مينا شرا محضا تحول إلى كتلة مشاعر إنسانية صادقة تحمل حنا الطفل المريض، وهو يركض به حافيا في البيداء هائما على وجهه باكيا يبحث عن علاج يخلص ابنه الصغير من حمى شديدة أصابته. يقول حنا مينا معقبا على تلك الحادثة: «في كل إنسان بقعة مضيئة.»
مثل وحي ظهر لي حنا مينا في هذا الغار، وقال لي: هذه هي البقعة المضيئة التي حدثتك عنها تشع عليك الآن من هذا الرجل قبالك. قم بشر بها كل من آمن بالإنسان.
مع أني لم أر وجه هذا الرجل أبدا، ولم أستطع التعرف عليه بعدها رغم بعض شكوك ساورتني في تشخيصه من صوته من بين أشخاص واجهتهم لاحقا من رجال الأمن، إلا أني لم أستطع أن أحدده بدقة ويقين حتى الآن. لكن هذا الجميل لم أنسه يوما ولن أنساه. حادثة أكدت لي ما أومن به دوما، إنه حتى عدوك يمكن أن يكون صديقك، وفي كل إنسان هناك منفذ للخير يمكن للنور أن ينفذ منه ويطرد الظلام كله ويملأ كل أرجاء النفس بالخير ويمسح الشر كله.
يوما ما سألتقي هذا الرجل، إما على هذه الأرض - ربما بعد أن يقرأ شهادتي هذه - أو بعد أن نعبر حاجز الدنيا إلى عالم الحقيقة والتجرد من الأشياء. وفي كل الأحوال سوف أشكره كثيرا وأكثر بكثير من كل الكلمات التي سطرتها الآن. سوف أشهد له الآن وبعدئذ أنه علمني أن ما أحفظه من قيم عليا كنت أقرؤها في الكتب لم تكن كذبة أبدا؛ علمني أن الإنسان يمكن له أن يكون إنسانا لو أراد ذلك، قد تكون هناك صعوبة في إنجاز الأمر لكن لا استحالة فيه أبدا، علمني هذا الرجل أن أحب عدوي أو ألا أبغضه على الأقل، وتيقنت أن الحب قيمة واقعية وليست مثالية كما يصورها الشعراء، ولا يحتاج أن يكون المرء نبيا أو قديسا ليفعل هذا. كل ما عليه فعله أن يعود لفطرته وسوف يرجع إنسانا ليس أكثر من هذا. أصلي لصديقي المجهول باستمرار، وأرجو أن تكون هذه البقعة المضيئة التي سطعت أمامي يومئذ قد ملأت روحه الآن وطردت كل الظلام. أتمنى هذا له كما أتمناه لنفسي، وآمل أن أطرد كل ظلام في حشاشتي من كره وغل لأخي الإنسان مهما كان موقفه مني.
بعد استراحة الحائط هذه التي لا أذكر كم من الوقت قد أخذت، تشوش ذهني كثيرا ولم أعد حينها بقادر على تخمين الأوقات ولا أي شيء آخر، أخذوني إلى الضابط المحقق. كنت قد استعدت قليلا من قواي، عيناي بدأت تتنفس بعضا من نور شاحب من خلال العصابة المتهدلة قليلا عنها، ثم أزاحوها تماما بأمر منه لأتلقى مفاجأة جديدة أخرى. ما الذي يحدث بحق آلهة الغضب والجحيم؟ أين هو النور الذي ينعكس من الأشياء كما يقول علماء الفيزياء؟ ما له لا يصل إلى عيني، هل أصابه الكساح؟ أم هل مات الضوء وصار الكون رماديا غائما؟ أم أن عيني تحتضران؟
مشهد رمادي معتم بدأ يستحيل تدريجيا إلى أشباح بلا معالم هنا وهناك. وقفت وسط الغرفة كما خمنته، في الحقيقة لم أكن أعرف أين أقف في هذا الكون كله، ضاعت كل الاتجاهات مني وصرت بوصلة بلا مؤشر. بقيت واقفا لمدة ليست بالقصيرة ويقف إلى جنبي رجل أمن واحد على الأقل أستند إليه يمسكني من زندي لئلا أقع. لم أعرف وقتئذ كم كان عدد الموجودين بالغرفة، كنت أسمع أصواتا لا أرى أصحابها، وشوش عقلي الخبر السيئ الذي تلقيته للتو بأني أضحيت لا أجيد النظر؛ ولهذا السبب لم أتمكن من حصر العدد ولا حتى محاولة تخمينه؛ لأني أصبحت في شغل عن هذه الأشياء.
قال الضابط موجها كلامه لي: «اجلس.»
تلمست المكان ببصري المشوش ولمحت شيئا ما يشبه مقعدا دائريا، تقدمت لأجلس عليه، وما إن وطئته أليتي حتى صرخت من سخونة المقعد الذي لم يكن سوى مدفأة نفطية. قفزت فزعا متوجعا وسباب من الضابط المسئول عن التحقيق ينهمر علي: «غبي، هل هناك أحد يجلس على مدفأة؟»
امتلأ المكان برائحة ألم، غضب وسخرية، وقليل من رائحة جلد بشري لسعته نار. والأهم من ذلك كله ولدت قناعة راسخة عند المحقق بأني أصبحت في وضع مثالي لعدم جدوى أي استجواب معي، وفعلا انتهى التحقيق رسميا في تلك اللحظة. وباشروا بإلقاء ما تبقى من ملابسي علي، وقبل أن يدفعوني في حجرة المصعد وليس نزولا على السلالم كما هي كل مرة في الطريق الطويل إلى الزنزانة الانفرادية، شعرت أكثر ببرودة الأرض وتذكرت حذائي، فطلبته، لم يعبأ أحد بسؤالي، طلبته ثانية، وهذه المرة بإلحاح استفز أحدهم، فقال بغضب: «عجيب أمرك! أنت تموت وما زلت تبحث عن حذائك؟!»
عند تلك اللحظة رجع التحدي إلي بعد أن شعرت بنوع من الأمان من انتهاء حفلة الليلة، حاولت السخرية منهم كما سخروا مني بسؤالي هذا. كنت مصرا على ألا أعيش شعور الهزيمة وأظل متمسكا بيقيني بأن الفجر سيطلع يوما ما، وسوف يطرد كل هذا الظلام المخيم علي وعلى وطني.
ليال دامت على ما يزيد عن أربعة أسابيع بقليل يمكن لي أن ألخصها بعبارة واحدة، نفي قاطع لكل أنواع التهم التي وجهت لي، مصحوب بألم رهيب. وبدا لي أني في طريق الانتصار على تلك المعاناة، وسرى في شعور من الزهو. بدأت أنتظر ذاك اليوم الذي تفتح الأبواب فيه مغاليقها لأعانق الحرية من جديد، وأعود لما كنت عليه وأدلع بلساني إليهم ساخرا. أول تباشير النصر جاءت حين أخلوني من الزنزانة الانفرادية في القبو إلى زنزانة فوقية جماعية يدخلها نور من فتحة صغيرة.
التقيت في هذه الزنزانة لأول مرة بمعتقلين سياسيين من طلبة جامعيين عرفت بعضا منهم، كنت أراهم في أروقة الجامعة وآخرين التقيتهم لأول مرة. التحقيق قد انتهى تقريبا إلا من بعض الحالات التي لا تقارن بما عشته في الزنزانة الانفرادية، وأصبحت أنام مسترخيا بعض الشيء ليلا لا أنتظر فيه زائرا يدعوني إلى حفلة تعذيب تنتهي عند بزوغ الفجر.
كنت حذرا كما يتطلب الموقف من شركاء الزنزانة، ولم أرد على أسئلتهم الفضولية عن تهمتي، بل نفيت أن تكون سياسية أصلا. اخترعت تهمة أخرى بعيدة كل البعد لأقطع الأسئلة، وادعيت فيما بعد أني كنت أعاكس فتيات لهن وضع خاص، وجيء بي إلى المعتقل لتأديبي. لكن جو الزنزانة وشعوري بالألفة والثقة والتعاطف مع سكان الزنزانة وما خيل لي من انتهاء التحقيق، حثني كل ذلك إلى أداء الدور الذي أهوى القيام به دوما بكل شغف، وهو الحديث في الممنوع من الكلام. صرت أتحدث معهم بكثير من الأمور التي بالعادة من يخوض فيها ينتهي به المطاف إلى السجن، لكن أليس نحن الآن في سجن؟ فلا ضير إذن من الكلام. وصرت في بعض الأحيان أستعرض ثقافتي على بعض منهم ممن لم يخض في هذا المضمار وتورط بالصدفة في هذا المأزق الذي نحن جميعا فيه. بدأنا نخوض النقاشات وكنت أسيرها أحيانا، أكمل معلومة ناقصة هنا وأصحح أخرى هناك، تسرب اطمئنان إلى داخلي وصرت أستعد لأنسى هذا الشهر الاستثنائي وأرجع ثانية إلى دوري الذي اختطته لنفسي وأشرع بالدعوة لما أومن به ولو كان ذلك في زنزانة الآن، وغدا سأفعل ذلك في كل أرجاء البلد، وسوف أعود محملا بخبرة عظيمة في مواجهة الخصوم بعد هذه التجربة المثيرة والمريرة.
كنا نتكاثر رويدا رويدا في الزنزانة وأصبحنا نضايق الجدران بزحمة أنفاسنا وأجسادنا، ومع ذلك لم يكن ذلك مدعاة للإزعاج بالنسبة لنا، ولم أسمع أحدا تأفف من ذلك. تنوعنا المتعدد الاتجاهات في الانحدارات الطبقية والاجتماعية والفكرية والعرقية لم يسبب أي تنافر أو فرقة بيننا، وحدتنا المحنة والهدف الواحد، كما هو حال كل الحالمين بالحرية، الحلم المشترك يلغي كل الفروقات بينهم. مرة أخرى، أثبتت وقائع الأمور أن الإنسانية والحرية ليست حلما أمميا وحسب، بل إنها الحقيقة الخالصة التي تتجلى براقة حين تزال كل الشوائب. كل دين أو فكر أو عرق يلغي أممية الإنسانية فهو كذبة وزيف مهما قيل عنه ومهما بلغ عدد المصدقين به، وكثرة الكذابين ليس بمقدورها أن تجعل من الكذب حقيقة.
8
في ليلة من كل عام تضيع ساعة فيها بين توقيت صيفي وآخر شتوي، جاء من يوقظني من أحلامي ويهد قوس النصر الذي كنت بنيته فوق رأسي. أزيحت ستارة كانت تغطي القضبان القصيرة في باب الزنزانة، وإذا بأحدهم ينادي باسمي وصوت المفاتيح يصلصل في يد حارس آخر يقف إلى جنبه، أصابتني الدهشة كما الآخرين في الزنزانة؛ إذ كان زائرا لم يعهد أن جاء في مثل هذا الوقت المتأخر. كل الموجودين في الزنزانة حسم أمرهم ولا يتوقع أحد منهم أن يستدعى للتحقيق من جديد؛ لذا لم يفهم أحد سبب هذا الاستدعاء في هذا الوقت المتأخر، الدهشة والوجوم ارتسما على وجوه الكل. صعدت ثانية إلى مسرح الجريمة ووقفت في غرفة ما مقيدا من الخلف لكن مفتوح العينين وأطنان من سباب وشتائم وتهديد ووعيد تلقى علي من كل حدب وصوب. ألف سؤال واستفهام مر في رأسي في ثوان قليلة، وظلت كلها تدور حائرة بلا جواب. ماذا حصل وما الذي اكتشفوه لينهال علي كل هذا الغضب من جديد؟ دخل معتقل معصوب العينين حافي القدمين يرتدي بيجاما صيفية، لم أتعرف عليه في البدء؛ لأن منظره كان مبعثرا جدا، إلا حين أزاحوا العصابة عن عينيه ليبدأ المشهد المثير.
سأله شرطي أمن برتبة مفوض (م. س): «من هذا؟» - «فلان بن فلان.» ذكر اسمي كاملا. - «وماذا تعرف عنه؟»
سرد كل ما يمكن له أن يلقيني في غيابة الجب العميق وأنا أنظر إليه فاغرا فمي وكل شيء في أصابه الجمود، تلاشى كل شيء في ومن أمامي، واستحال أمري إلى خواء، بل إلى عدم. اختفى هذا المعتقل كما جاء بسرعة خاطفة لكنه لم يغادر هذه الغرفة وحسب، بل خرج من كل حياتي وطويته إلى الأبد في خانة المهملات.
بم سأحدثك الآن يا صاحبي؟ هل أقول لك إن جرح الخيانة لا يمكن له أن يندمل ولو جئته بكل عقاقير الأرض والسماء ؟ لن تنفع يا صاحبي مع الخيانة القرابين والنذور التي سوف تقدمها للآلهة، ومهما زين لك رضاها فلن أرضى والأمر يعنيني أنا وحدي ولا يعنيها، إلا بمقدار ما انتهكت من سر وخنت عهدا وخرقت موثقا كانت السماء شاهدة عليه. هل أقول لك: إن الخيانة ذنب غير قابل للتكرار؛ لأن صاحبه به يموت ولن يقوم بعدها أبدا ولو لمسه يسوع الناصري بكل سلطانه. ألم يقل لك أحد من قبل: إن عشبة أتونابشتم الحكيم وسر الخلود فيها لا تمنح الحياة لأحد، إلا للأفاعي؟ ألم يقولوا لك إن بناء أوروك وحده هو الذي يمنح البشر الخلود؟ لماذا معولك يهدم أوروك يا صديقي؟ هل تفعل كل ذلك حقا لأجل عشبة ستفقدها في أول استراحة وتسرق منك مع أول إغماضة جفن وغفلة عين؟ كم أشفق عليك! لن أحقد عليك أبدا، ولا أحاول أن أكرهك ولو للحظة واحدة، فتلك مشاعر تليق بالأنداد، أما أنت فقد حزمت حقائبك ورحلت عنهم اليوم إلى أرض لا إياب منها أبدا. الذي كان يجمعنا انفرط، وطرف الحبل الذي ما يزال معقودا في فؤادي يمده بالدم أنت فككته، كيف أوهمت نفسك أم أوهمك آخرون أن الفؤاد يمكنه العيش بلا دماء؟
قد مات قلبك يا عزيزي، ومن مات قلبه ما عاد إنسانا وإن عمر ألف سنة أو يزيد. وداعا يا من كنت صاحبي، لن يصل إليك صوتي، ولن تحمل الكلمات أيا من مشاعري إليك، لا حبا ولا بغضا ولا أي شيء، تهاوت كل القناطر والجسور بيننا وصرنا على ضفتين متباعدتين ما بينهما هوة سحيقة بحجم لا نهائية الكون المتباعد والمتوسع في كل حين.
بعد أن خرج صاحبي الذي أدلى باعتراف كشف فيه المستور وأزاح الحجاب عن المخبوء، التفت إلي مفوض الأمن، وقال بنبرة تهديد مرعبة: «الآن ماذا تقول؟»
جمدت الدماء في عروقي من هول المفاجأة وحجم الخيانة التي لم أجد لها مبررا حتى اليوم؛ فكل شيء كان بالإمكان تجنبه، بل أصلا لم يكن هناك شيء موجود حتى يتجنبه. تطوع مجانا لإلحاق الهزيمة، وهكذا تخسر المعارك، عندما يملأ الرعب قلوبا خاوية تشم الوحوش رعب ضحاياها وتنقض عليها تنهش لحمها وعظمها وتتركها جيفة في العراء.
حفلات التعذيب التي راقصت فيها بمهارة كل براعة الجلادين انتهت الآن بجلسة صغيرة، وأضحيت عاجزا حتى عن مراوغة سلحفاة ميتة. خارت قواي دون أن يمسني أحد، مادت بي الأرض ولم تعد قدماي تحملاني وهن اللاتي حملاني وأنا معلق في الفضاء. بلغ بي الوهن مداه والضعف غايته فانحنيت خاضعا ذليلا منكسرا، ولأول مرة سألت جلادي شربة ماء بعد أن جف حلقي وتيبست حنجرتي. اختنق صوتي ولم يسمح لي حتى برشفة ماء واحدة؛ فقدت توازني بالكامل، ولم أعد أسيطر على عقلي. طلبت منه هذه المرة أن يسمح لي بالجلوس، فأبى مستنكرا ذلك علي. عرف أنها فرصته المثالية لتوجيه الضربة القاضية فاستغلها حتى الثمالة. - «اعترف أنك منهم وسوف أعطيك ما تريد وإلا ...» (كلمات نابية). - «نعم، عملت معهم.»
بالغ في إذلالي وأنا أضحيت ذليلا بذاتي بلا حاجة لمن يذلني، أصبحت خاويا تماما من الأفكار والمشاعر، وصار القبر أحلى أمنية لي في تلك اللحظة، ليت الأرض تفعل ذلك فتبتلعني أو السماء تستعجل أمري. ما الحياة إلا الحرية والعزة وخلا ذلك موت، واليوم تجردت منهما. تلك اللحظة التي لا يمكن لي نسيانها؛ لأنها كانت أشد اللحظات وقعا علي وأكثرها إيلاما في كل سنوات السجن العشر. كنت أرى نفسي قبل سويعات مثل أخيل لا تنال منه السيوف ولا الرماح، والآن سهم واحد يقتلني وهكتور الذي صرعته بصمودي يضحك ساخرا مني، فقد بان كعبي ونال سهم باريس المبتغى. ها قد نفذ السم فما عادت تحملني قدماي، طلبت ماء أروي به عطشا لا يروى فأعطوني قلما وورقة تقيأت عليها إمضاء مرتبكا يمحو نفيا وإصرارا عمره خمسة أسابيع.
كتب المفوض كلمات لم أقرأها وطلب مني التوقيع، لا أدري ماذا كتب، ولم أكن بحاجة لذلك؛ لأنها كيفما كانت فهي لن تكون سوى صك إعدام مؤكد. فكيف لك أن تبقى على سطح الأرض وأنت تعترف أنك في خلية حزب معارض في بلد لا يؤمن حكامه إلا بحزب واحد وفكر واحد وقائد واحد؟ وما خلا ذلك فهو حثالة لا يؤمن بها إلا متآمر أو خائن.
دخلت على أصحابي متلاشيا، لكن أيضا على وجهي ضحكة تشبه ضحك أبله مجنون. وقف أمامي واحد من الذين كان يشاركونني الزنزانة، وبعد أن استفهم عما جرى وفهم الذي حصل سألني باستغراب وحيرة: «كيف تضحك وقد أعطيتهم صك الإعدام؟»
لم يفهم ضحكتي الحنظل وشعرت بالأسى مرتين، مرة عليه لأنه كان ضحية لا ناقة له ولا جمل فيما أنا وصحبي فيه، ومن العسير جدا علي أن أعطيه درسا عن الشعور بالهزيمة التي تحل بثائر رومانسي حالم في لحظة نشوة بخمرة الانتصار، ومرة أخرى على نفسي فكيف سوف أزدرد كل هذا الحنظل وحدي؟ إن مرارته أقسى من كل ما قرأت وسمعت وحتى أكثر مرارة من لحظة فراق الروح للجسد والعبور إلى ضفة المجهول على كل ما يتحدثون عن مرارتها ويقولون. لعل الموت كان شهدا لو قورن بما حصل لي للتو.
كانت ساعة غريبة بكل ما فيها؛ حصل كل هذا في ساعة تغيير الوقت الصيفي إلى شتوي، كنت أسمع ذلك من صوت تلفاز قريب. ما كان له أن يحصل في زمن حقيقي، لا بد أن يقع في نقطة خارج الزمن حيث اللاشيء، وكأن التاريخ يقول: إنك لا تصلحين أن يكون لك مكان في خط الزمن، أنت لحظة تائهة لا تنتمي لتاريخ الإنسان ولا يحق لها أن تتكرر من جديد ولا يجوز.
9
الآن بدأت مرحلة انتظار النهاية، ولا يدرى متى تأتي الساعة بغتة، تملكني رعب هائل من النهاية المتوقعة. إبان الأيام الأولى لاعتقالي، استيقظت يوما على رؤيا أشكو فيها لإحدى شقيقاتي وهي تودعني بحزن وقد حكم علي بالسجن المؤبد عشرين عاما. الآن يبدو أن الرؤيا أصبحت حقيقة واقعة، بل إن الأمور عادت توحي بأكثر من تلك الرؤيا التي استرجعتها في تلك اللحظة، كانت هاجسا فأصبحت نقشا محفورا في الذاكرة لا تنفك عنها ولا أستطيع التخلص من ذكراها. المؤشرات جميعا تتجه نحو نهاية واحدة، الإعدام شنقا، وعزز ذلك الشعور المتعاظم حادث صغير حصل في أحد الأيام عند بداية حلول فصل الشتاء. ففي أحد الأيام اقتادونا إلى مخزن في البناية نفسها ليعطونا قطعة شتوية (بلوز)، بعد أن تهرأت جميع ملابسنا تقريبا، وهي ثياب صيفية - بالأصل كنا نرتديها ساعة اعتقالنا - شديدة القيظ، ولم تعد الآن قادرة على مقاومة برد الشتاء، حتى إن البعض كان يرتدي ملابس نوم واقتيد من حجرة نومه بها. لم يكن رجال الأمن يسمحون لأحد أثناء الاعتقال بارتداء أي قطعة إضافية أو تغيير ما يرتديه، يأخذون من يريدونه بما هو عليه وبأي زي كان عليه ولا يراعون أي وضع هو فيه.
أحد المعتقلين ممن كان معنا في الزنزانة كان نائما مثل عادة العوائل العراقية آنذاك في موسم الصيف على سطح الدار، وداهم رجال الأمن الدار ليلا وصعدوا إلى السطح يصوبون أسلحتهم إليه وهو في فراشه سحبوه منه بملابس نوم خفيفة جدا أقرب ما تكون لملابس داخلية، وهكذا كان حال المعتقلين الآخرين وهم يرتدون ثياب راحة وما شابه ذلك. المهم أثناء تسلمنا لتلك البلوزات قال ضابط أسمر قبيح متجهم الوجه عابس الهيئة ذو خلق سيئ فوق العادة (ح. ب.): «أعطهم بلوزات سودا حتى يعرفوا إلى أين هم ذاهبون.»
الأمر صار واضحا جدا وما علينا إذن الآن إلا أن نتسلى بما تبقى لنا من أيام في هذه الدنيا، وبات حالنا مثل نبتة تذوي في نسيان تام. هنا علي أن أعترف بأن شعورا جارفا من اليأس تملكني في هذه المرحلة وأصبحت عبثيا في تفكيري وأحاسيسي الداخلية، رحت أتساءل عن جدوى العقل في مدفن كهذا الذي نحن فيه. كنت ألوم نفسي بشدة متناهية، أحس بالعار يلبسني ويشي بكل سوءاتي، ولا يفتأ سؤال يقرعني ليل نهار: لماذا لم أقاوم وأرفض الاعتراف حتى مع حصول الخيانة؟ ماذا كان سيحصل لو قاومت؟ هل كنت سأموت تحت التعذيب؟ كما مات زميلي الطالب في كلية الهندسة الكهربائية الذي شاركنا المعتقل إلا أني لم أره فيه. وسمعت عن موته تحت التعذيب من آخرين.
كان قد سبقني إلى الزنزانات الفردية، وروى لي أحدهم آخر أيامه: أنه رآه أثناء التحقيق وهو على الأرض يرتدي دشداشة، عاجزا تماما عن الحركة شلت ذراعاه وألقي على الأرض بإهمال لتتكشف عورته بعد تهرؤ ما كان يكتسي به وتمزقها جراء التعذيب المتواصل. كان رجال الأمن قد عروه من ملابسه الداخلية كما فعلوا بنا جميعا. يقول الشاهد: إنه رآه ضعيفا منهكا لا يقوى على الكلام إلا بصوت واه خافت ضعيف كأنه همس مبحوح، وطلب منه أن يعدل له وضع دشداشته كي يستر نفسه؛ لأنه عجز عن فعل ذلك.
في صباح يوم عندما كان الحرس يوزعون شوربة الصباح طلبوا منه النهوض لاستلامها لم يرد، صاحوا به عدة مرات ولا يرجع لهم سوى صدى صراخهم. اضطروا لفتح باب الزنزانة الانفرادية، ليجدوه جثة هامدة، سحبوه في بطانية وأخذوه إلى مكان مجهول. لم يعثر أحد على جثته ولا رفاته إلى هذا اليوم، مثله مثل عشرات الآلاف من أمثاله، ولم يكن تغييب جثث القتلى والمعدومين حالة استثنائية، بل إجراء نمطي تقوم به السلطة، أعرف كثيرا ممن مات في السجن أو أعدم ولم تسلم جثته. سألنا عنهم عوائلهم لاحقا عقب خروجنا من السجن أو بعد سقوط النظام الفاشي كانوا يجهلون كل شيء ولا يعرفون مصير أبنائهم المغيبين.
كنت أقرع نفسي لماذا لم تصمد وتقاوم؟ ما الذي دهاك، ومم خفت؟ وماذا ستكون النتيجة، أليس الموت في أسوأ احتمالاتها؟ الآن سوف تموت أيضا، ولكن أي موت؟ الموت محبطا كمن يجلس في ساعة رمل محبوسا في زجاجة يعجزه الخروج من عنقها الضيق ويستمر تساقط ذرات الرمل عليه ليدفن تحته بلا أي مقاومة. كنت سأبلغ مرتعي المظلم نفسه في المقبرة لكن في خلو من هذا الشعور المزري، وربما كنت سوف أرد نهايتي بإحساس من البطولة والتحدي وأترك المرارة في نفوس الجناة وليس كما الحال الآن، فهم الذين انتصروا وأنا الذي أشعر بالخيبة ومرارة الهزيمة. مواقع كان لنا أن نتبادلها لو واصلت الصمود؟ الشجاع يموت مرة والجبان في كل يوم مرة، لا بل ألف مرة.
وعلى عكس طبعي السابق المتفائل المحب للحياة والأشياء الجميلة التي أتابعها من أدب وموسيقى ورياضة، واهتمامي بها يصل حد الهوس أحيانا، وهو طبع لم أتخل عنه حتى اليوم، صرت في تلك الأيام شخصا محبطا يائسا من الحياة وصار العيش فيها بنظري عبثا لا طائل منه، وإن هي إلا جرعات قليلة من هواء أتنفسه وبعدها سوف أتوارى في الغور العميق حيث أرض لا إياب منها ولا رجوع.
مع كل هذا الضعف والمقت الشديد لذاتي حينئذ، غير أني رمقت السماء في ديجور إحدى الليالي من دجنة زنزانة انفرادية تحت الأرض بقلبي؛ إذ لم يكن هناك من سبيل حقيقي لرؤيتها، وأطلقت أمنية مخلصة، أمنية خرجت من قرارة نفسي من أعمق ما فيها: «لا أريد أن أغادر الحياة الآن، سأقنع بأي الحلول إلا هجر هذه الدنيا عبر المقصلة.»
أكملت حديثي مع من كانت تخاطبه روحي: «إن حصل ذلك فسوف أستبدل ذاتي المهزومة المأزومة بأخرى تستعيد البصر حتى في كل هذا الظلام الدامس وأحيله نورا ساطعا.»
لا أدري لماذا حدثت نفسي هكذا، ولا كيف اتخذت هذا القرار؟! كان طلبا مخلصا وقرارا صادقا أتى من منطقة لم أتعامل معها من قبل وأجهل انتماءها، هل كانت من الوعي أو من اللاوعي؟ لا أدري، مع ذلك يبدو أن القدر صنع قراره وفقا لهذه اللحظة، ورأى من غير المناسب أن أشد الرحيل إلى العالم الآخر حينها. لعله رأى أنه ما زالت تعوزني أشياء كثيرة ولربما وجد القدر أيضا أني لا أصلح إلا أن أكون شاهدا على الجريمة فقط، لأني لا أحسن فعل شيء إلا قص الحكايا وحسب. أما الرحيل مع الأنقياء الذين يكتبون التاريخ ويروون شجرة الحياة بدمائهم؛ فهذا ثوب قد لا أستحقه مثلهم. ومهما كان السبب سواء ما ذكرت أو غيره فالنتيجة التي وقعت أن أمنيتي الصوفية قد تحققت وبقيت إلى هذا اليوم لأروي حكايتي التي لم تنته بعد كل فصولها.
إذن، صار علي الآن أن أنتظر مع الآخرين موعد المحاكمة التي تقرر مصيرنا، في زنزانة لم تكن تزيد على اثني عشر مترا مربعا. عددنا في أقل الأحوال ثلاثة عشر شخصا ونزيد عن ذلك أحيانا، يأتي البعض ويروح لكن نحن كنا سكانا دائمين قد استوطنا الزنزانة وألفناها جيدا وحفظنا كل أركانها وزواياها. باب حديدي ثلثه العلوي قضبان حديدية تغطيها ستارة من قماش بشكل دائم من الخارج لا يرفعها إلا رجل أمن ساعة يريد الحديث معنا.
في الغرفة شباكان؛ أحدهما شباك طويل وضيق جدا لعل عرضه نصف قدم تقريبا، وآخر على شكل مربع صغير جدا لا يتجاوز ثلاثة أرباع القدم المربع، لكنهما كانا جيدين لمرور الهواء والشمس بمقدار كاف بالنسبة لمعتقل كالذي نحن فيه؛ الأرض إسمنتية خشنة والجدران صفراء لا تسر الناظرين، والحقيقة أني لم أفهم أبدا كيف أن الأصفر لون يسر الناظرين سواء كان فاقعا أو باهتا، حتى قبل أن أرى هذه الجدران. كنت لا أستسيغ اللون الأصفر بخلاف الأزرق أو الرمادي اللذين كانا يشكلان لونين رئيسيين في أغلب ما أرتديه. بعد أن رأيت هذه الجدر الصفراء القبيحة ازدادت ثقتي بذائقتي في الألوان، ونأى أكثر وأكثر عني هذا اللون البشع الذميم.
أثاث الغرفة كان بطانيتين خضراوين رقيقتين لكنهما واسعتان، تكفي كل واحدة منهما لنفرين فرشتا على الأرض، وثلاث مثلها كانت تستعمل كغطاء، يدخل تحت كل واحدة منها أربعة إلى خمسة أنفار اعتمادا على العدد الموجود. أما الوسائد فكانت تتراوح ما بين نعل أو حذاء لم يصادر، أو أشياء أخرى لها ارتفاع لا بأس به يصلح أن يكون متكأ للرءوس. عند الباب وضع جردل ماء يطفو دائما على سطحه قدح لبن فارغ ليكون بمثابة الكأس الذي به نغرف ونشرب. ولحسن الحظ كان اللبن يصلنا بصورة دورية فكان خزيننا من هذه الكئوس جيدا وتوفره مضمونا بصورة مريحة. في حالات طارئة جدا استعمل هذا الجردل كمبولة حين كانت تطول الفترة كثيرا بين فرصة وأخرى لمراجعة دورة المياه، وعلى أي حال لم يحدث الأمر كثيرا، ولم يعترض أحد من المعتقلين في الزنزانة على هذا الانتفاع المقزز من الجردل؛ إدراكا من الجميع أن الحلول البديلة الأخرى غير متوفرة وأن التذمر لا ينفع في كل الأحوال. التذمر والشكوى لم يكونا مخرجا من أي أزمة على طوال التاريخ ولن يكونا كذلك اليوم؛ لذا الأمور كانت تعتبر جيدة وربما مثالية قياسا لغيرنا ممن كان يعيش في زنزانات أخرى وفي معتقلات بالغة السوء. قد تشمئز النفس من هذا الوصف للزنزانة، ولها كل الحق في ذلك كما أن لنا الحق كله في أن نعتبر هذا الوضع الغريب ظرفا مثاليا. الأمور نسبية وليس هناك من مطلق، وكل يرى الأشياء بهيئة تناسب موقعه، لا توجد حقيقة واحدة ولا صورة ثابتة ولا وصف مطلق لأي شيء في الوجود إن كان ذاتا أو معنى.
كنا نحظى بثلاث فرص للخروج من الزنزانة لقضاء حاجتنا بعد كل وجبة طعام، لكن هذا كان سببا للإزعاج المستمر؛ لأن مع كل وجبة من المحتمل جدا أن ننال حصتنا من الهراوة. وفي الحقيقة هو كيبل كهربائي صلب وليس هراوة، لكن نسميها هكذا مراعاة لما يظنه الناس عنها أو ما يسمونه باللهجة العراقية «صوندة». وفي الحقيقة إني لم أر صوندة تستعمل للتعذيب في أي من المعتقلات التي زرتها، بل كانت دائما إما كيبلا كهربائيا أو مواسير معدنية، وفي حالات خاصة كانوا يستخدمون «حديد زاوية» كما يسميه العراقيون، وهو الحديد المستخدم عادة في صنع الأبواب والشبابيك.
ربما كان الأمر حتى أكثر من ضربة واحدة، هذا بخلاف السباب والشتم والزعيق والصراخ غير المبرر، ومنغصات أخرى بعضها يأتي بلا أوامر من مرءوسيهم، بل هو مجرد مزاج حارس أمني قد يكون منع من التمتع بإجازته العادية فيصب تعكر مزاجه وتكدر نفسه علينا بأنواع الإهانة والإذلال.
بدأنا فصلا جديدا نشكل فيه عالما آخر جديدا خاصا بنا، نصنعه بطريقة بدائية لكنها كانت تحكي قصة إنسان يحاول أن يباعد جدرانا متدانية، وإن استمرت بالوقوف في محلها. امتد إلينا الشتاء حاملا معه ليالي طويلة في وقت كنا نعجز فيه عن العبور بين ضفتي النهار بلا ملل.
كيف لنا أن نغتال كل هذا الزمن الثقيل؟ لا كتاب نقرؤه ولا مذياع نسمعه ولا تلفاز نشاهده، كلها أضحت محظورات، بل من المستحيلات. هذه الأشياء تقع هناك بعيدا في ذاك العالم العجيب حيث الضوء والحرية والألوان، عالم صار حلما، خيالا وأوهاما. واظبنا لبرهة من الزمن على ازدراد ما حصل لنا في التحقيق وظروفه في أحاديث طويلة عريضة بتكرار كنا لا نخفي تأففنا منه؛ لذلك بدأ يتسرب ضجر وسأم منها، وصرنا نمقت هذه القصص؛ لأنها أحاديث غير ذات بال ولا أهمية لها، لا نجني منها شيئا سوى تكريس الهم الذي نحن نتوفر على قدر كبير جدا منه. إلى أن قدحت شرارة فكرة للتسلية، فكرة كانت جيدة وجديدة، لا أعرف برأس من لمعت ولا كيف قدحت في ذهنه أو من أين اقتبسها.
لم لا نحاول صنع شيء ما من بقايا الخبز يكون لنا تصبيرا وتلهية ولربما أيضا يواسينا؟ على الفور ازداد اكتراثنا بلب الصمون وغدا محط اهتمامنا وبتنا نولي له عناية فائقة حينما نتناول أيا من وجباتنا الثلاث، كنا نعزله في حرص حتى لا يضيع منه شيء ثم نرجعه عجينا، ومن بعد ذلك نعيد تشكيل هيئته بصنع خرزات نحاول أن تكون كروية الشكل قدر الإمكان، ومن ثم نتركها في مكان آمن بعيدا عن قدم تطؤها بالخطأ، وفي العادة كانت حافة الشباك الرفيعة الموضع المفضل لحفظها بعيدا عن هذا الدهس غير المتعمد. نتركها تجف هناك؛ لأنه المكان الوحيد الذي يمكن لها أن تتعرض فيه لأشعة الشمس في الزنزانة، ثم ننظمها بعد ذلك في خيط نستله من البطانيات الخضراوات التي نفترشها، وبذلك ننتهي من صنع مسبحة عجينية. إلا أنه - وبصراحة - لم يكن أحد يستخدم هذه المسبحة لأغراض دينية أو ترفيهية إلا القليل وفي أوقات نادرة؛ لأنها كانت صناعة رديئة سريعة التلف، وبالرغم من ذلك فإنها كانت مفيدة وتمثل انعطافا وتحولا مهما في حياتنا؛ لأن صنعها كان يبتلع الزمن بشراهة، وهو أمر رائع كنا نبحث عنه ووجدنا ضالتنا فيه. تقضية الوقت في اللاشيء كان يشكل عامل ضجر مزعج لنا، وظهور شيء يبدد هذا الملل لا بد أن يكون موضع ترحيب حقيقي من الجميع. كما تطلب صنعها منا أيضا الصبر؛ كان يولد فينا صبرا عجيبا في وقت نحن بأمس الحاجة لمزيد من الصبر، صبر يقوينا على ما نحن فيه.
انهماكنا في إنتاج شيء ما خلق فينا إحساسا رائعا بأننا لا زلنا على قيد الحياة، ولم نزل نملك القدرة على الإبداع والإنتاج والخلق. قد يكون المنتج أمرا تافها ليس بذي قيمة لكن مع ملاحظة الظرف الذي نعيشه، كانت عملية إنتاجه وإبداعه أمرا حيويا بالنسبة لمعتقل جهد جلادوه على تحطيمه نفسيا، ونزع كل رغبة عنده في الحياة. قد لا يدرك أهمية ذلك إلا من عاش الاعتقال في هذه الظروف المزرية. إن محاولة تجاوز المحنة بالتأقلم معها يشكل منعطفا نفسيا استراتيجيا مهما، بدلا من العيش في الواقع المر والاستسلام له والخضوع لظله الثقيل، وهو حال يؤدي حتما إلى الكآبة التي تعد انتحارا مؤجلا. تجاوز ذلك والتعامل مع المحنة كأنها أمر عادي سوف يقلل من آثار السجن كثيرا. وهذا ما حصل بوضوح بعدئذ عند كثير من السجناء غيروا حال السجن إلى واقع آخر سوف يأتي وقت للحديث عنه، وسوف تنكشف وقتها القيمة المعنوية الكبيرة لعملية صنع المسبحة العجينية. كم من حدث غير مجرى التاريخ يعد تافها بمقاييسنا الآن؛ لذلك لا يصح الحكم على الأشياء والأحداث بقيمة مطلقة، قيمة الأشياء تأتي من قراءة السياق الذي ولدت فيه.
استهوتنا فكرة عمل المسابح وانتقلنا من العجين الذي كانت صناعته رديئة في أغلب الأحيان لهشاشته وتكسره السريع، ولأنه أيضا لم يكن ينجو من سحق إما بالأقدام أو بالأجساد في تقلباتها أو احتكاكها أثناء النوم في مكان ضيق يزدحم بساكنيه. فكان قرارنا التحول إلى صناعة أخرى أكثر تطورا وأجود نوعية، هذه المرة من نوى التمر الذي كان يصلنا بين الحين والآخر. كان جمع النوى يحتاج وقتا طويلا؛ لأن التمر لم يكن يصلنا بشكل دوري كما هو الخبز قوتنا اليومي. كنا نستهل مرحلة جديدة من التطور الصناعي، مرحلة صعبة أحياها العجين ونفخ فيها الروح لمواصلة الحياة.
تشذيب النوى على الأرض الإسمنتية التي نفترشها كان يستغرق ذلك منا أحيانا شهرا كاملا وربما أكثر من ذلك، هذا الوقت كله لأجل صنع مسبحة واحدة ليس غير. لم يكن الأمر بالنسبة لي عملا يسيرا؛ فقد كنت دوما متلكئا في سائر الحرف اليدوية، وما أزال لسوء الحظ مواظبا على هذه الخصلة السيئة حتى اليوم؛ إذ لم أشهد أي تحسن فيها ولم تنفعني سنوات السجن في تطوير مهاراتي اليدوية، بل يمكن اعتباري بلا تردد مزمن الفشل فيها. أما كيف نثقب تلك النوى ونمرر منها الخيط الذي تنتظم بها فذاك وحده حكاية أخرى.
10
ما علينا من ملابس بدأ يتهرأ أكثر مما هو عليه فعلا، وباتت أرديتنا ممزقة يكاد نسيجها يتفتت لوحده، وغدت أسمالا بالية بالمعنى الحرفي للكلمة. كان لا بد من خيط وإبرة لعلاج بعض التشققات، فما عادت ثيابنا تستر أماكن لا يصح التغاضي عنها لحساسيتها الشديدة. وكان السؤال الكبير: ما هو السبيل إلى الإبرة والخيط في زمن الممنوعات الكثيرة؟ كنت كلما صادفني ممنوع تذكرت قصيدة أحمد فؤاد نجم، وأرددها بلحن شيخ إمام:
ممنوع من السفر.
ممنوع من الغنا.
ممنوع من الكلام.
ممنوع من الاشتياق.
ممنوع من الاستياء.
ممنوع من الابتسام.
وكل يوم في حبك.
تزيد الممنوعات.
وكل يوم بحبك.
أكثر من اللي فات.
كنت أردد المقطع الأخير كثيرا: «وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات، وكل يوم بحبك أكثر من اللي فات.» صوت الضمير والفطرة كان يقاوم داخلي ويرفض الاستسلام رغم كل ما كنت أعيشه من اضطراب وتراجع نفسي هائل.
لم نكن نعدم حيلة للوصول إلى ضالتنا من الإبر فيما كان يقدم إلينا في فترات متباعدة من عظام الدجاج. كنا نفتش بين العظام عن أدقه ونصنع منه إبرة بعد معالجة دقيقة بالأرض الإسمنتية أحيانا. أما الخيط فكان أمره هينا جدا؛ إذ لم يكن علينا إلا سحبه من واحدة من البطانيات سواء التي نفترشها أو نلتحف بها. إنما كانت عملية انتزاع الخيوط المتواصلة بالتأكيد لها عامل كبير وتأثير مباشر في تقليل عمر هذه البطانيات، بصراحة لم نكن نبالي بهذا كثيرا؛ لأنه مهما حصل وسوف يحصل وحتى لو تكرر انتهاكنا لتماسك نسيجها مرات ومرات، فإن عمرها في كل الأحوال سوف يكون أطول من أعمارنا، بهذا كنا نحدث أنفسنا ولربما أحيانا يهمس بعضنا للبعض الآخر به؛ إذ كنا نتحاشى التصريح بالنهاية المروعة التي تنتظرنا كما يتحاشى أهل بلدي في تسمية السرطان عندما يصيب أحدهم، فيقولون أصيب بذاك المرض. كأنهم يخافون من بطشه السريع أو أنهم يعترفون بأنه جبار لا قبل لهم به، وأنه ملك عظيم وصاحب جلالة مقدسة. ولا يصح للعامة من الناس أن تذكر أسماء الآلهة والملوك إلا بالألقاب الكبيرة وبالصفات العليا والتبجيل العظيم.
نجحت تلك الإبر الدقيقة في رتق ثيابنا لكن بطريقة هزلية، إلا أنها بالرغم من ذلك كانت نافعة جدا وتفي كثيرا بالغرض المطلوب، بل ونفعتنا أيضا في خرم النوى الذي صنعنا منه مسابح ولو بصعوبة ومشقة أكثر؛ إذ كان علينا أن ننقع النوى في الماء لعدة أيام ليغدو لينا، بينما نحاول في هذا الوقت تجفيف عظام الدجاج المقترح ليكون إبرة ويصير أكثر صلابة.
الزمن كان طويلا ثقيلا؛ ولذا كنا نحاول اختراع ممارسات شتى للخلاص من ظله السمج، بانتظار موعد ينهي هذه الحقبة والخروج من هذه الزنزانة إلى مكان ما. من جملة ما فعلناه خلقنا من العجين أحجار شطرنج وقطعا للعبة الداما وحتى صنعنا منه نرد طاولة. وصارت أغطية علب اللبن بعد تنظيفها بالطبع مما علق فيها من اللبن قطع دومينو، كنا نتسلى بها أثناء ذلك، غير آبهين بالموت الذي ينتظرنا. أما في الأمسيات فكنا نتحدث كثيرا في السياسة والثقافة؛ لأن تردد الحرس فيها يصبح نادرا، ومع وجود بوابة حديدية كبيرة تفصل الزنزانة عن غرفة الحرس، كان اقتراب أي واحد منهم سوف يتزامن مع صلصلة المفاتيح الثقيلة التي يحملها، وكان ذلك يشكل صفارة إنذار وجرس تنبيه لنا خصوصا مع هدوء الليل وسكونه. لا يمكن لأي حرس أن يتسلل في غفلة إلينا أبدا مهما بالغ في تحفظه وكتم خطواته، فلا بد من إصدار جلبة وضوضاء مسموعة بشكل كاف لنا مع حذرنا المستمر منهم؛ لهذا السبب صار النهار وقتا لممارسة الألعاب واللهو الذي لن يحاسبنا كثيرا عليها لو رصدنا بالجرم المشهود، أما الليل فهو وقت الأحاديث الجادة. غير أن هذا ليس بمسوغ لأن يخامر أحدا ما إحساس خاطئ بأن الألعاب كانت مسموحة، أو أن صنع كل هذه الأشياء من مسابح وغيرها كان أمرا متغاضيا عنه. أبدا لم يكن الأمر كذلك، كلها كانت تندرج في خانة المحظورات. إنما هناك أمور تكون العقوبة عليها يسيرة لا تتعدى صياحا وزعيقا وكومة من شتائم أو ضربات خفيفة مفردة من كيبل أو هراوة، وهذه أمور عادت روتينا يوميا لا نأبه له بالعادة؛ لأنها صارت جزءا من القوت اليومي.
شكلنا حلقة دورية نتناوب فيها ليلقي بعضنا محاضرات؛ كأن تكون المحاضرة استذكارا لكتاب كان قد قرأه المحاضر من قبل، أو مادة له اطلاع عليها بصورة جيدة، أو خبرة في أمر يجيده أحسن من الآخرين. وساعد في نجاح تلك الأمسيات وإثرائها هو وجود أكثر من واحد بيننا ممن كان يهوى المطالعة. وأغلب من تواجد في الزنزانة في أكثر الأوقات كانوا من المتعلمين الجامعيين. البعض كان يتبارى الشعر ويجعلها بين فريقين. ومن المصادفات الحسنة كان بيننا أشخاص بارعون في هذا المجال من الأدب، بل حتى كان بيننا شاعر مثقف مهتم بمطالعة الفلسفة وحتى دراستها. كان يعمل مصرفيا قبل اعتقاله إلا أن كل ثقافته ونجاحه الباهر في عمله الذي تمكن فيه لبراعته أن يصير مديرا لأحد المصارف الكبيرة رغم صغر سنه (لم يكن يتجاوز الثماني والعشرين سنة) لم يشفع له فيما بعد. لم تقدر مواهبه، بل العكس هو الذي جرى، هذه المواهب الرائعة نفسها هي التي أودت به إلى مقصلة الإعدام مع زميلين آخرين من زملاء الزنزانة وآخرين كانوا في زنازين مجاورة لم أتعرف عليهم، بل لم ألتقهم أصلا سوى أني كنت أسمع أصواتهم أحيانا حين يناديهم حرس أو يتحدث إليهم آخر عند توزيع الطعام، أو عند السماح لهم بمراجعة دورة المياه.
حاولت حفظ بعض الأبيات الشعرية بلغات محلية غير العربية التي أتحدث بها؛ لأننا كنا مزيجا مختلفا من قوميات مختلفة وخليطا غير متجانس من توجهات وأفكار متباينة بشدة أحيانا، إلا أن ما كان يوحدنا قضية واحدة. همنا في مواجهة الظلم والسعي إلى وطن حر خال من الفاشية والدكتاتورية، وطن نعيش به بهناء وسعادة نتحدث فيه ولا نخشى من حائط يسترق السمع فيه إلينا، وطن نفكر على أرضه وفي سمائه بصوت عال لا نخشى أن تقطع رءوسنا فيه؛ لأنها فقط مارست التفكير بلا قيود، وطن لا يخوض مغامرات دون كيشوتية تسفك فيها دماء أبنائه من أجل إرضاء نزوة حاكم بقرار اتخذه ولم يراع فيه مصلحة لشعبه ولا استمع لرأيه فيه. همنا كان الحرية، أن نعيش أحرارا نحن ووطننا كما جئنا لهذه الدنيا قبل أن يمارس طغاة مستكبرون جهلة يمقتون العلم والحياة مهمة الحكم فيه يحاولون استعباد الناس وتجهيلهم.
الشاعر المصرفي كانت له قصة خاصة؛ إذ اعتقل بوشاية خائن، ولم يكن اعتقاله علنيا، بل جرى اختطافه بكمين بشكل سري للغاية. ولم يكن يعرف أحد بأمره، لا من أهله ولا من رفاقه. كانوا يجهلون أنه يقبع في إحدى الزنزانات المظلمة الانفرادية في القبو الذي سكنت فيه طوال فترة التحقيق بظروفه الرهيبة. كان رجال الأمن يوهمون أهله ومتعلقيه بطرق شتى أنه هارب من السلطة خارج البلد، وهي تبحث عنه وتفتش أيضا عن أخباره. كانوا يشيعون عنه أخبارا عبر مندس خائن يعمل لصالح السلطة القمعية: بأنه استقر في دولة عربية مجاورة، ويتسلل بين حين وآخر عبر الحدود ويرسل رسائل من هناك. كان الأمن يصنعون هذه الرسائل بطرق احتيالية بالطلب منه كتابة مقاطع بحجة مطابقة الخطوط، أو اعترافات عليه أن يدونها بنفسه، وطرق أخرى، إيهاما منهم لرفاقه بأنها فعلا منه للإيقاع بأفراد التنظيم. وبعد ما يقارب السنة الكاملة أو يزيد من الإخفاء في زنزانة انفرادية في هذا القبو المرعب، تم إلقاء القبض على كامل المجموعة تقريبا، واكتشف رفاقه حقيقة اختفائه عندما التقوه للمرة الأولى أثناء التحقيق معهم. كان لون وجهه قد غدا أصفر شاحبا بعد أن حجبت الشمس عنه تماما طوال هذه السنة، وصار نحيلا جدا يتقيأ دما من جراء مرض التدرن الذي أصيب به جراء عتمة وعفونة الزنزانة التي كان يقطنها، كان سيموت حتما حتى لو تركوه لحاله لكنهم أبوا إلا أن يضعوا بصمتهم المقرفة على خاتمته، فقتلوه شنقا هو وبعض رفاقه.
كان يحدثني هو ورفيق له في المجموعة التي اعتقلت لاحقا له، عن العيش المر لأشهر عديدة في تلك الزنازين المظلمة، وكيف أن أجسادهم تتقرح من جروح تملؤها بسبب التعذيب المتواصل. هذه الجروح لم تكن تجد من يداويها ولا من سبيل لأن تبرأ، للظروف بالغة السوء في تلك الزنازين التي استعرضتها سابقا والتي سكنتها لفترة وجيزة. ظروف لا يتخيل أحد أنها تحصل لإنسان وربما حتى الذي يعرف وحشية النظام الدكتاتوري أيضا لم يكن ليصدق أنها تحصل. كانت أحداثها أشبه بلوحة سريالية سوداء، وهذه قصة واحدة من تلك اللوحات السريالية.
أسراب من الديدان تستوطن الزنزانات الانفرادية تعيش على جروح وقروح المعتقلين فيها تمتص دماءهم، ولا من حيلة لهم للخلاص منها لغزارتها أولا، ولحال الجسد المنهك ثانيا. إذ لا يمكن الاهتمام بنظافة الجسد بالمطلق كما شرحت من قبل عن ظروف هذه الزنزانات. كان في إحدى الزنزانات رفيق له يملك محلا لبيع المجوهرات والحلى الذهبية ولا يشكو عوزا ماديا، وهو من أوضح الأمثلة. إن من كان يعارض النظام الدكتاتوري لم يكن يفعل ذلك بسبب عوز مادي أو حاجة تنقصه أو فقر يدفعه للثورة، بل كانت معارضة طلبا للحرية ورفضا للدكتاتورية وتحديا للقمع والتسلط.
تلك الديدان كانت تعيش على قروح وجروح صاحب محل المجوهرات، وكان معها كما هو مع كل الناس والدنيا رقيقا لدرجة أقرب من الخيال وصبورا بطريقة عجائبية. كان يشفق على تلك الديدان عندما تسقط من بعض جروحه ويعود ليلتقطها ثانية من الأرض ويرجعها إلى جرحه، قائلا لها: كلي من رزقك. الحياة عنده انتهت، والخاتمة باتت معروفة، فلماذا لا يساعد هذه الديدان على الحياة. لم يكن هذا يأسا منه ولا إحباطا كما قد يظنه البعض، بل كان على خلاف ذلك بالتمام، كان قويا جدا، ويتحمل صنوف التعذيب بطريقة عجيبة وصبر لا يوصف. صبره واستعداده للموت كان حافزا له لأن يهب الحياة لمن بعده حتى لو كان من هوام الأرض وديدانها. لا أستطيع أبدا - حتى هذه اللحظة - أن أصف مقدار رقتهما وإنسانيتهما هو وصاحبه المصرفي، وصدقا لو رويت لي شخصيا هذه القصة من ألف ناقل ثقة ما كنت أصدقها لولا أني رأيت بعيني جروح الرجل وندوبه، وإني نفسي عشت في المكان نفسه ولو لفترة وجيزة ورأيت فيه ما يشبه الخيال مما أعجز الآن عن سرده أو وصفه. كان أحدنا يقول: لو روينا ما يحصل هنا لقال الناس عنا كلمتين ليس غير: إنكم إما كذبة أو أنتم مجانين.
لكن هذا الذي لا يصدق قد حصل فعلا، وحصل مضافا لهذا كله أنهم قطعوا رأس صاحبي؛ المصرفي البارع والصائغ الرقيق مطعم الديدان.
11
في زنزانتنا كان الوضع أفضل من وضع الزنزانة الانفرادية؛ لأننا كنا نقوم بزيارات سريعة للاستحمام وإن كان لا يعدو عن جردل ماء يسكب على أجسادنا، ويحصل ذلك بطريقة كوميدية؛ حيث كنا نخرج كل اثنين سوية إلى دورة المياه، يجلس أحدنا لقضاء حاجته بعد أن يزوي كل ثيابه عنه متجردا منها، فيما يقوم الآخر في هذه الأثناء بملء جردل ماء ويسكبه على صاحبه، خلال ذلك توضع الملابس التي ينوى غسلها في حوض مغسلة الأيدي، ونمنع تسرب الماء منها إلى المجرى بحشر أي شيء في فتحتها؛ لكي تأخذ ملابسنا فرصة كافية لتغمر تماما في الماء، وبالطبع كنا ننقعها دون أي مسحوق غسيل، بيد أنه في بعض المرات قد يصدف هناك وجود بقايا لقطعة صابون نسارع لاستخدامها بحكها بالثياب. لكن هذا لم يحسن الوضع كثيرا؛ إذ سرعان ما اكتشفنا أي مأزق نحن الذي فيه، خصوصا مع حكة كانت تهرشنا في أماكن شتى من جسمنا، ولنكتشف بعد ذلك أن خلف هذه الحكة أسرابا بأعداد هائلة من قمل يزاحمنا العيش في هذه الزنزانة الضيقة بل يعتاش علينا.
كنا نخوض مع جمهورية القمل معركة لم ننتصر فيها أبدا، رغم حجم الخسائر الكبيرة التي نوقعها فيه. ولم تكن هذه المعارك خيارا تطوعيا، بل واجبا إلزاميا لا بد من خوضه بشكل شبه يومي. كانت تتجمع أسراب سوداء في حواشي ملابسنا بصورة كثيفة تتغذى على ما تبقى لدينا من دماء.
كان للصراع مع القمل طقوس خاصة لا بد أن يتحصل منها بالنتيجة خلع ما نكتسي به كلية. في البدء ننزع الملابس الخارجية ونبقي الداخلية منها علينا، ثم نعود لنستبدل الخارجية بالداخلية بعد الانتهاء من المرحلة الأولى أو العكس بالعكس، كل بحسب مزاجه إلا أن تقديم نزع الخارجية على الداخلية هو التقليد السائد والأكثر عملية، ثم نملأ أكوابا من ماء، هذه الأكواب كنا نحظى بها من لبن خاثر يعطى إلينا في مناسبات متفرقة كثيرة. تبدأ عملية الاصطياد التي نسميها «قصع» في جلسات طويلة نسحق القمل فيها بين أظافرنا بما سرقه من دمائنا وادخره في أحشائه. أظافرنا تتسخ بدمائنا ونحن نحسب أننا قتلنا عدونا، وهكذا هي المعارك الفاشلة.
كنت أردد في داخلي وأحيانا بصوت عال وأنا أرى المشهد: «دم مسفوح اليوم من رقاب القمل، وغدا يسفح من رقابنا.»
كان هذا المشهد يزيد من درجة الاضطراب عندي ويفاقم الحزن والأسى في داخلي على هزيمتي التي لم أستطع تجرعها لتسعة شهور كاملة. لم تفلح كثرة المواساة التي كنت أسمعها من بعض رفاقي، ولا مقولة بات يكررها بعضهم: إن جسدي النحيف يزداد اضمحلالا ويتوغل فيه المرض. من إيقاف سيل مشاعر التشاؤم وحزني الداخلي الذي ضجت به روحي وطفح منها. بات البعض منهم لا يخفي شعوره حتى بالتصريح العلني ومواجهتي بأن خطر الموت قادم إلي أسرع حتى من أوان ورودي المقصلة.
كنت أتأمل القمل صريعا سابحا في الدماء، وأسأل نفسي: من ذا الذي يمنحني الحق في سلب حياة كائن آخر وتحت أي عذر فوضت بذلك؟ أم هي رغبة في اللهو لأني أمتلك قوة باطشة لا تملكها الضحية؟ هل هذا يعطي لكل ذي قوة الحق والمشروعية لإرداء منافسيه وأن يسحق كل من يتحرك بغريزته نحو ما يعتاش عليه ليبقى على قيد الحياة ولا يطمع بغير ذلك؟ هل يملك القمل من خيار آخر لقوته اليومي حتى أعده معتديا؟ معركتي مع القمل تماما هي المعركة نفسها التي يخوضها البشر فيما بينهم فقط، تتغير الأسماء والعناوين. كل يبحث عن سبب يبرر بها فعله، طرف يملك القوة ويزعجه وجود كائن آخر بجواره أضعف منه يطالب فقط بالعيش كما جاء لهذه الدنيا، فيقود القوي حملة دعائية ضده ويسميه كائنا معتديا ضارا، ويقول بعدها وفقا لدعايته وتنظيراته الفكرية الخاصة: إن هذا كائن مضر يجب سحقه وإنهاء حياته، وينبغي أن يباد هو ونسله ويشتت جمعه ليعيش العالم بسلام، وهل يبنى السلام بالقتل والدماء؟!
كنت أردد في حوار داخلي: إن قوتي التي أسحق بها أسراب القمل سوف تزول قريبا؛ لأن ما أحسبه وحشا ينتظر قطع رقبتي هو عين ما ينظره القمل لي الآن، وسوف يمارس ذاك الوحش معي فعلي ذاته الذي أفعله مع القمل. حوار داخلي كان يذهب عميقا وينتهي بي إلى سلوك غريب، ربما بلا معنى حقيقي، لكنه كان يعكس حيرتي وتيهاني آنذاك. كنت إثر ذلك أتجنب - وبحرص شديد - قتل القمل بالقدر الذي أخشاه وأمقته، مصيري الماثل أمام عيني ليل نهار جعلني أتعايش معه وأقبل حقه بالبقاء؛ لذا كنت بدلا من قتله سحقا صرت أنقله حيا إلى داخل كوب ماء مملوء ليموت غرقا. طريقة كانت أكثر سخفا لأنها أقسى تعذيبا له، إنما بها كنت في الحقيقة أحاول التشبث بالحياة وليس إنقاذا له، كما كنت أحاول أن أخدع نفسي وأبرر عملي هذا.
تصرفات غريبة تعكس الفوضى والتشتت الداخلي الذي كنت أعيشه؛ فمحاولة الخلاص من تأنيب الضمير من جريرة قتل القمل بفلسفة كانت تبدو أشبه بأحاديث جنون مبكر. فلسفة قد تكون أقرب إلى العبث والسفسطة وبسببها ما عدت قادرا حتى على اعتراض نملة صغيرة تسير إلى جوار حائط هي وسرب من رفيقاتها. أضحيت أنظر بأسى مبالغ فيه إلى خنفساء سوداء تعبر الزنزانة وتتقلب على ظهرها فجأة ، ولا تقوى على الاعتدال، فأهب لمساعدتها على النهوض ثانية بعناية وحنان. كنت أتشبث بالحياة بحياة غيري، وأكثر ما كان يضايقني هو تلك الرغبة الغريزية في قتل الهوام عندما تسري على جسدي، كان يراودني شعور تصحبه كآبة شديدة أحس معه أني جلاد متنكر، شعور لم أتخلص منه.
12
في أحد الأيام حشر عدد كبير من المعتقلين في زنزانتنا بعد أن تم نقل مجموعة كاملة من زنزانة مجاورة ولم نفهم سبب هذا الإفراغ المفاجئ وبصورة كاملة للزنزانة المجاورة. توقعنا كالعادة وصول وجبة جديدة من المعتقلين السياسيين لا يراد لهم أن يختلطوا مع من أكمل التحقيق من مثلنا لدواع أمنية؛ إذ قد تنقل إليهم خبرتهم في التعامل مع المحققين. لم يحدث أي شيء وطال ترقبنا لتفسير هذا التصرف المفاجئ، إلى أن سمعنا فحيح مفاتيح الزنزانات الثقيل يصلصل بحقد من بعيد وبات قريبا جدا ليفتح حرس المعتقل باب الزنزانة المجاورة التي ابتلعت ضحية جديدة، لم نكن بحاجة إلى عناء كبير لنكتشف جنسها. صوتها الأنثوي هو الهوية الواضحة والعلامة الفارقة.
هذه هي المرة الأولى واليتيمة التي عاصرت فيها شخصيا اعتقالا سياسيا لأنثى في المعتقل نفسه. ماجدات وحرائر، وحفظ شرفهن من الأعداء والغزاة ترنيمة روتينية تتردد صباح مساء في وسائل الإعلام الحكومي، ولا يفتر الحزب ومناضلوه على تذكيرنا بها. ها قد جاء اليوم كي نختبرها في معمل إنتاج الأمن الثوري. في المساء جاء الرفاق حماة الحرائر وصائنو أعراضهن من المتآمرين والخونة ومن الأعداء الغزاة، جاءوا بكل قيافتهم وهمتهم وذهبوا بها هناك إلى الطابق العلوي إلى حيث ذهبنا من قبل لتبدأ فصول حكايتها.
على الرغم من كل الذي حصل لنا، ومع كل مرارة تجربتنا إلا أننا كنا نأمل بأنها ستحظى بمعاملة أحسن من التي أذاقونا إياها. إنها أنثى وامرأة شابة ورجال الأمن في الأول والآخر شرقيون مثلنا وسيمنعهم الحياء وشيمتهم القبلية العربية من اجتراح أفعال مخزية وسوف يعاملونها بالتأكيد بما أنها امرأة على أنها كائن ضعيف الجسد وإن كانت معتقلة سياسية، ولو اضطروا لمعاقبتها فسوف يكون من جنس التعذيب العادي المتوقع إنزاله بكل معتقل سياسي.
لم نكن نطمع بأكثر من هذا لها، لم يكن هذا توقعا بقدر ما كانت أمنية ساذجة من نفوس لم تتعرف بعد جيدا إلى أي مدى يمكن أن تصل إليه البهيمية في المخلوق البشري عندما يواصل ركوب عربة الانحطاط. تمنينا لها ليلة لا تسبح فيها عارية في الفضاء معلقة بأحد السقوف كما فعلوا بنا. لم نكن نجرؤ حتى في أحلامنا الوردية لا في يقظة أو في منام أن نبعد الهراوات عنها؛ لأننا كنا على يقين أن الركل والصفع والكيبلات زاد يومي لكل معتقل، ولن يدخرها رجال الأمن لأي أحد مهما كان عمره أو جنسه. لم نتخيل أبدا أيضا أنا كنا نختزن حلما سخيفا آخر ستبعثر أشلاؤه حين تند صرخات سيدة شابة بموته. سيدة ما عرفنا لها اسما ولا عنوانا إلا كونها كائنا اختار الحياة، وقررت أن تفكر بحرية ممنوعة في بلد تزدحم فيه الممنوعات أكثر من ازدحام القمل على ياقة سجين.
بقامة متوسطة ووجه يتراوح بين استدارة قليلة واستطالة تعلوه سمرة حنطية مشوبة بخوف ووجوم كثير، يلتف عليه شعر أسود فاحم ينسدل بنعومة إلى حد الكتفين تقريبا أو يتجاوزه قليلا، هو كل ما بقي في الذاكرة من نظرة متلصصة طويلة سرقتها من كوة الزنزانة وهم يقتادونها إلى غرفة التعذيب. عرفنا فيما بعد من كلام بعض الحراس الأمنيين الذين عقدنا معهم صداقات دردشة بسبب طول الإقامة كيف أنها عذبت مثلنا تماما. رواياتهم كانت تؤيدها الصرخات المرعبة وهي تشق سكون الليل من على بعد عدة طوابق، تصدع أركان قلوبنا، وننصت لها خاشعين لا ننبس ببنت شفة حين تنزل علينا كالصاعقة. نغيب في الصمت كأنما الطير يقف على رءوسنا وتتجمد مآقينا حتى عن ذرف الدموع، كل شيء يصبح باردا كالموت لا نجسر على النظر إلا إلى أسفل، إلى ما تحت أقدامنا حيث يسكن الذل والهوان.
تتوسل صرخاتها رحمة ورأفة من قلوبهم الأقسى في صلابتها من كل الجدران التي حبست فيها، ومرة أخرى كانت تنادي السماء أن تغيثها وتفك كربتها، الصمم أصاب الكون كله حتى نحن كنا نحاول أن نحشو آذاننا بالصمت بإغماض عيوننا وإخراس ألسنتنا. العجز والعار كان يطوف فوق رءوسنا يظللنا بكومة من سحابه الثقيل من الدهشة لما يجري بإحساس هائل من ضياع وعدم وخواء كامل، خواء لو قرعت فيه كل طبول الاحتجاج لن يسمع لها صوت فيه ولا صدى. مشاعر غطسنا فيها وانتحرت على عتبتها خرافة أخرى من الخرافات التي كنا نأمل أن يكون لبعضها - وليس لكلها - أي نصيب من الصحة أو حظ من الحقيقة. لو كان لذرة رمل تطيح بها رياح خمسينية أي أمل في الثبات بين الكثبان، لكان لخرافة القبيلة التي تصون أعراض النساء حينئذ فرصة للنجاة بعد هذه الحادثة المروعة.
حرائر وأعراض ماجدات وقبيلة تفخر بسكانها ولو كانوا يملئون المقابر، وحضارة سبعة آلاف عام، ودين سماحة وعفة وشيمة وغض الأبصار، وعروبة وسخافات كثيرة أخرى كلها انتحرت؛ لأني لست جريئا بما فيه الكفاية للقول إنها لم تكن حية في يوم من الأيام لتموت الآن، إنها أساطير لا أصل لها سوى أوهام كبرياء أجوف. وطن يعشق وأد الحرية ويقتل كل من قرر أن يختار إنسانيته باسم أشياء كثيرة؛ دين، شرف ومبادئ الحزب والثورة.
صديقتي التي لم أتعرف عليك ولم ألمح من صورتك ولا قوامك إلا النزر اليسير، لكنه كان كافيا لأن ينقش في ذاكرتي أبدا كما ينقش على الحجر. صديقتي التي لم أرك تسيرين على أرض بلدي إلا وأنت مكبلة بالقيود تحيط بك ذئاب مفترسة جائعة شرهة لشرب دم الضحايا، أقول لك ولكل صديقاتك اللواتي سمعنا بقصصهن كثيرا: إن شرفك وعفتك هي عشقك للحرية الذي صارعت به الوحوش الكاسرة، وبه انتصرت عليهم، أنت ما زلت خالدة في قلب وعقل كل من مررت به ويفخر بمعرفتك حين يذكرك أو ساعة يروي قصتك، أما هم فيكفيهم من العار أنهم لا يجرءون على ذكر أفعالهم معك ويشعرون بالحرج من قصتك، أراهن على ذلك، إنهم يخشون ذكرك ولو كانوا يضطجعون في مخادعهم مع زوجاتهم، فهل هناك عار يلصق بهم أكثر من هذا العار؟!
13
دلف إلينا في نهار شتوي بجسم ضئيل وذقن كث وسذاجة مفرطة تغذيها براءته، وبلغة غريبة عن مسامعنا كما هو دينه مجهول التفاصيل من قبل كثير من الناس ونحن منهم إلا بعنوانه العام. ما إن أخذ وقته حتى راح يحدثنا بحماسة عن أجداده العظام وعن حدة سيوفهم ورهافة نصالها التي حصدوا بها الأعداء، كما يحصد هو سنابل القمح في أرض الجزيرة. كان يحفظ أسماء سبعة أجداد بالترتيب لأحد أبطال حكاياته، وعندما كنا نسأله عن أسماء أجداده، لم يكن بوسعه تجاوز ما هو أبعد من جده الثاني إلا بمشقة وعناء، ويبقى مترددا كثيرا في تأكيد صحة جوابه إن تعدى جده الثالث، بل يعتذر عن الوصول إليه ويقر بجهله.
كان الرجل يعيش في ماض موهوم، يجهل حاضره ويتمسك بأساطير وخيالات ينسبها للدين. يظن بل يجزم أنها حقيقة لا ريب فيها ويحسب أنها محض خير وومضة جمال لن يجود الزمان بمثلها، أما الذي سوف يجري بالغد له ولأطفاله ولأجيال لاحقة لهم، فكانت عنده قصة مفككة تشظت أجزاؤها، لا تماسك فيها ولا تكامل ألبتة. كان الرجل بما يختزنه من بساطة ووضوح في مشاعره وأحاسيسه نموذجا لنوع ليس بغريب عن بيئتنا من قبل ولا من بعد، بل هو النوع الأكثر شيوعا ويمثل في طريقة تفكيره ومعيشته ومعتقداته نوعا يتجسد بمظاهر شتى ولكن بجوهر واحد. جوهر لمشكلة حقيقية وعقبة كأداء لا يقوى الكثير على ارتقائها. نموذج يخال الأوهام التي يحملها بظلمتها والتي يعيش فيها سقف العالم والمعرفة، وما من شيء بعده إلا الهلاك والخراب والضياع وغضب الآلهة والسماء التي تحتويها. والواقع أن البقاء فيها هو الهلاك الحقيقي لا في مغادرتها. أما متى سوف يجرؤ على اقتحام ممنوعاته فلا أحد يدري، لكنه إن عاجلا أو آجلا فسوف يدرك أي ذنب ارتكب بحق نفسه وسيكون على الأغلب قد فات الأوان لإصلاح ما أفسده الزمان.
إلا أن حكايات الرجل القصيرة في سردها، الغريبة في أحداثها والمعجزات الخيالية التي تجترحها شخصياتها الأسطورية، كسرت بعضا من جمود الحياة التي نعيشها وأحدثت خللا في الروتين المهيمن علينا لطرافتها. كان الرجل طيبا جدا إلى حد الإفراط، لم يلامس جسده ماء؛ لا بارد ولا دافئ منذ دهر بعيد لأمر من وحي دينه الغريب. كان يحمل مع طيبته المبالغ بها رائحة أيضا بالغ فيها جدا وأضحت بمنسوب يبعث على الغثيان. وهكذا يفعل إرث العقيدة الفاسدة بالإنسان إن أخذها بلا تعقل وسار بها وراء القطيع واتبع بها من اتبع بلا نظر ولا تدبر، أو أسلم نفسه لأصنام ادعى زيفا أنها ظلال لإله يحتجب وراءها.
ومع أنا كنا نستحم بطريقة مضحكة وتفوح من أجسادنا هي الأخرى رائحة ثقيلة، إلا أنا لم نستطع - رغم ذلك - تحمل رائحته التي كانت عفونة حقيقية، وكان علينا أن نفكر بطريقة للتخلص من هذا المأزق. الأغطية القليلة نتقاسمها بحرج في المنام وإن كنا حصلنا على بطانيات إضافية قبل فترة قصيرة، إلا أن ذلك لم يغير من حقيقة أن يكون شخصان تحت بطانية واحدة هو ذروة في الرفاهية التي ننعم بها عندما يتقلص عددنا في الزنزانة، أما الوضع الطبيعي أن يكون العدد أكثر من ذلك مع أن حجم بعضها مخصص لشخص واحد فقط، فسؤال ملح صار يتردد الآن: من ذا الذي يقدر على مشاركته بلحاف واحد؟ بسبب رائحته، وعذر إضافي تعلل آخرون به لمعتقد ديني خاص بهم، انتهى بنا النقاش إلى قرار عدم محاولة تجربة مساكنة الرجل ولا حتى لليلة واحدة.
كان قرارا صعبا أن يعطى لوحده مستقلا بطانية مع قلة عددها وكثرتنا. وكان علينا أن نتحمل جرعة إضافية من البرد وضيقا في المنام. وهذه هي ضريبة قرار التعالي أو الاشمئزاز. هكذا يكون مجرى الأمور كلما رفض خيار تزداد الحياة مع هذا الاستثناء مشقة وصعوبة؛ فالانتقاء والانتخاب له محصلة تتبعه وليس من العدل للتذمر وإلقاء اللوم على غيره.
انتدبت وشخصا آخر معنا في الزنزانة كان يتكلم لغة قريبة منه لإبلاغه القرار بطريقة سمحة لا تؤذيه متجنبين الإشارة والتلميح إلى الدوافع الحقيقية لهذا القرار؛ لأن الجميع بالفعل أحبه منذ اليوم الأول بالمقدار نفسه، بل أكثر من مقتنا لرائحة جسده. جلست إلى جواره مع زميلي نحدثه عن أهمية الصبر في هذا الموقف الصعب الذي يمر به، وأن الفرج قريب ولن يطول به الوقت كثيرا حتى يعود ثانية إلى مرعاه ومزرعته، وسوف يعيش حياته الوادعة المسالمة من جديد بعيدا عن هذه الحال التعسة. سار بنا الحديث رويدا من الحديث عن الواقع الجديد الذي دخل فيه إلى تجربة التكيف معه، وبأن لا طائل من التذمر والضجر، وأنهما لن يحلا معضلة ولا يفكا عقدة. ثم قلنا له: إننا مع ذلك ننظر بعين الاعتبار والتقدير لانتقاله المفاجئ لهذا العالم الصعب، وتهوينا منا لهذا الوضع حتى يألفه، واحتراما لكبر سنه (كان أكبر من أسننا بما يقارب عشر سنوات وربما أكثر)، نقترح أن ينفرد هو لوحده بالمنام في بطانية واحدة.
ارتسم الامتنان على غضنات وجنته وعلى تجاعيد مبكرة صنعتها شمس لافحة في وجهه الأسمر، ولمع بريق شكر في عينيه لعثم خطى كلماته وأربكها كثيرا. فقد الإحساس بالغربة، وانقشع الحزن، واندثرت غيوم الأسى من عينيه وبالأخص بعد أن قدمنا له ماء وبقايا طعام كنا نحتفظ به للطوارئ. كان تقديمنا له هذه الوجبة الاستثنائية وبعناية خاصة فعلا أبهجه جدا.
حرصنا في الأيام التالية أن نقدم له الطعام بإناء خاص له، ونجنبه أيضا المشاركة في بعض الأعمال اليومية التي كنا نقوم بها من تغيير سطل الماء أو غسل الأواني، وعلى الرغم من سهولة هذه الواجبات إلا أن عدم مشاركته فيها أشعره بمقدار كبير من الاحترام الذي نكنه له وحجم مشاعر العطف والمواساة التي نوليها له.
التهمة الرئيسية التي وجهت له أنه يعرف بعض من كان يحرك جمر الحرية في قريته الصغيرة، لم يكن يفهم معنى ذلك، ولا تهمه هذه الأفعال - لا من بعيد ولا قريب - سوى أن بعض المطلوبين كانوا من أقاربه أو من سكان قريته. على الرغم من أن هؤلاء الثوار لا يرتبطون بعلاقة مباشرة معه، مع أن القرية التي كان يسكنها تكاد تكون كلها عشيرة واحدة إذا لم تكن هي كذلك بالفعل؛ ولذا تهمة كونه من العشيرة أو العائلة نفسها تهمة سخيفة جدا ومضحكة ولا معنى لها، إلا أنهم كما يبدو كانوا يريدون استئصال هذا المكون من الخارطة؛ لأنه أعلن التمرد عليهم، وما عجزوا عن فعله حينئذ فعلوه لاحقا يوم اجتاحوا الموصل بجيوش الهمجية، وكادوا أن يبيدوا شعبا بأكمله، وارتكبوا فضائح وجرائم سوف تذكرها الإنسانية كثيرا ويدونها التاريخ بحبره الذي لا يمحى.
كانت أفكار الرجل ما بين فوضى وسراب لا تتعدى محاولة للعيش بسلام وأمان هو وأغنامه، دون أن يعكر صفوها عواء الذئاب. حاول ضباط الأمن ومساعدوهم أن يستدرجوه بوسائل شتى لينتزعوا منه معلومات لا يملكها، ولا حتى كان بمقدوره أن يفقه شيئا من أسئلتهم الأمنية والسياسية. يمكن القول إن قرار اعتقاله غبي بامتياز لو كان الهدف منه فعلا الحصول على معلومات أمنية، ولكن يبدو أن الهدف الحقيقي منه كان إثارة الرعب في القرية أكثر من الحصول على إخبارات حقيقية عن المتمردين على النظام من سكنة هذه القرية، وما هذا التحقيق إلا محاولة عبثية قد ينالون بها شيئا لم يكن في الحسبان. حاول الأمن مغازلة الرجل حينا، وحينا آخر كانوا ينقلبون عليه ليبصقوا كل أنواع همجيتهم والغضب الوحشي المستوطن فيهم، وفي كلا الحالين لم يقدم لهم سوى صمت محشو بأنين وآهات، وإجابات هي أسئلة أخرى تبحث عن جواب.
لم يكن يدرك الرجل أبجديات المعارضة، بل لم يسمع بها أصلا ولا يعرف عن ماذا يتحدثون. إنه راعي أغنام يزرع الحنطة أحيانا لا أكثر من هذا ولا أقل، مهما حاول المتحذلقون أن يغيروا من هويته.
بعد أن أيقنوا أن ما يبحثون عنه ما هو إلا مطاردة للسراب، وأن الرجل أخذ من العقوبة ما يكفيه، وسوف يحدث بها كل أبناء القرية، فلا يجسر أحد بعدها على تقديم أي عون لثائر، ولو كان ذلك العون وجبة عشاء ليس أكثر. حسمت دائرة التحقيق أمرها ونبذته في الزنزانة لا أحد يسأل عنه ولا يدري ما المطلوب منه ولا يعرف مصيره. كنا نلاطفه كثيرا ونستخرج منه ألوان البراءة وكان يقهقه بملء شدقيه كثيرا، ويخرج ضحكاته من أبعد نقطة في قلبه الأبيض، وكنا بالمقابل نبعث فيه الأمل بكلمات الحماسة، عندما كان يتألم من سياطهم ومن إهاناتهم التي يوجهونها لمعتقده وديانته العنصر الأهم عنده. كان بعض الحرس يحاول إذلاله بتصرف فردي على ما يبدو؛ لأنهم يريدون أن يتسلوا بعذابات غيرهم، أو لأنهم يريدون صب جام غضبهم على أي أحد بعد يوم نكد عليهم لم ينالوا فيه ما يبتغون ويريدون. «أنت لست وحدك، إن أجدادك الأبطال ينظرون إليك من جناتهم العالية ويراقبونك فلا تخيبهم.»
بهكذا كلمات كنا نواسيه ونؤازره ونقدم له الدعم؛ لأنه لم يكن هناك شيء أكثر من ذلك في حياتنا لنقدمه له. كنا نبشره بأن الفرج بات قريبا جدا منه فليبتسم لمقدمه وليزح الانكشار من وجهه الذي خلفه هؤلاء التافهون السخفاء. وبعد تطمينات كثيرة له عن فرجه القريب سألنا يوما عن موعد فرجنا متى يحل بعد أن صلى لأجلنا في صلوات خاصة. «إننا سنغادر هذا الباب ونترك الألم والأحزان وراءنا في هذه الدنيا، ونذهب هناك إلى حيث الراحة الأبدية.»
رددنا على سؤاله ضاحكين مبتسمين.
اغتم كثيرا لهذا النبأ غير المتوقع، لكنه ازداد قربا منا وتعاظم وده لنا، وصار الذي بيننا أكثر من محبة علاقة طارئة، إنها محبة إخوة لا تندرس مهما تعاقب الزمان عليها، توثقها عرى صداقة لا تضمحل وآصرة أخوة لا تفنى.
وفي مساء قرروا أن يرجعوه إلى مرعاه الذي أخذوه منه، وكعادتهم عندما يصير في نيتهم إطلاق سراح أحد ما، فإنهم يحاولون استرضاءه بإبداء مرونة في التعامل معه، ولم يشذوا عن ذلك معه فأعطوه علبة دخان. - «إنها لا تكفي.» (قال لهم). - «لا تكن طماعا، ستغادر بعد يوم واحد فقط.» (هكذا قال له ضابط التحقيق). - «أنا لا أتحدث عن نفسي، إنها لا تكفي أصحابي الذين معي في الزنزانة.» - «خذها واتركهم أنت لا علاقة لك بهم.» - «لا أريدها، إما أن تعطيهم مثل ما تعطيني أو لا أريد أي شيء منك.»
كلمة لطم بها الجلاد، لكنها حركت الإنسان في قلب هذا الجلاد، وانتفضت الفطرة فيه، وأزاحت القسوة عنه بشكل مطلق في تلك اللحظة.
نزل إلينا الضابط ووقف أمام الزنزانة مذهولا يحدثنا: «ماذا فعلتم بالرجل؟»
جاءنا الجلاد هذه المرة إنسانا قد هده التعب ونبتت في قلبه من جديد زهرة الإنسانية النائمة، كان يحمل إلينا بيديه المجردتين كثيرا من علب الدخان، وأكثر منها قهقهة صادقة واعتراف لاحب أبلج بالهزيمة. أصر ضابط التحقيق على أن يأتي بنفسه ليقدم لنا علب السجائر بيديه مثنيا على تعاملنا الإنساني مع الرجل ومبديا إعجابه بنا، ذليلا منكسرا أمام موعظة قروي ساذج لقنته درسا بليغا في الشهامة والمروءة. موعظة جعلته يعترف بأن أواصر الإنسانية أقوى من كل الأسلحة التي يملكها هو ومن معه من الجلادين.
14
في مساء شتوي بارد طلب منا الاستعداد لمقابلة مهمة مع مدير المعتقل (مديرية أمن نينوى) الذي كنا نحتجز فيه، وهو شقيق جنرال عسكري كبير معروف، اسمه «ه. ص. ف». تمت إزالة الروائح الكريهة من أجسادنا بالسماح لنا بالاستحمام بشكل جيد، وترتيب ما يمكن ترتيبه من هندامنا المضحك الذي عاد في شأن لا يمكن أن يصلحه أشطر دراز في المدينة. البعض منا كان يعول كثيرا على هذه المقابلة واستعد للانتفاض أمام مدير المعتقل بإنكار كل التهم المنسوبة إلينا، وشرح السبب الحقيقي وراء هذه الإفادات المزيفة بأنها منتزعة تحت التعذيب الجسدي والنفسي القاسي. كنت أشعر بعدم اكتراث شديد من هذا الحدث المرتقب من غيري، ولم أعول عليه تماما، ولم يشكل عندي أي أهمية بالمرة. كنت أتعامل مع الحدث بحالة من لا أبالية منقطعة النظير؛ لأني وبكل صدق وصراحة كنت أعيش حالة يأس تام من تغيير ما يجري، ويتملكني في الوقت عينه شعور مرير بالهزيمة وإحساس بأنه لم يتبق إلا النزر اليسير في مساحة هذه الدنيا التي ضاقت جدا وأصبحت بحجم حبة رمل.
كنت مؤمنا بأنهم يريدون قتلنا عن ترصد وسبق إصرار، ولا يخفى على أي واحد منهم حجم الظلم الذي تعرضنا له أو مقدار الهمجية والوحشية التي عوملنا بها؛ لأنهم كانوا مستمرين عليها بشكل نمطي وكلما سنحت لهم فرصة أو لاحت لهم قناة، يضعون فيها مركب حقدهم على الإنسانية. كيف لي أن آمل بعد ذلك من مجرم كبير، بل من كبيرهم أن يكون منصفا وعادلا ويصير محلا لشكوى مظلوم؟ منطق خلاف العقل كمن يستعين بالشيطان لدفع شره.
إنها سذاجة مفرطة وحماقة كبيرة وغباوة منقطعة النظير أن تهرب من الظلم إلى الظالم، هكذا قدرتها وحسبتها، وفي الوقت عينه كنت أختلق لأصحابي عذرا في داخلي، إنهم غرقى والغريق يبحث عن قشة، وهل نسيت أحلامي يوم كنت أتلقى التعذيب؟ إنها كانت سخيفة هي الأخرى ومضحكة بالقدر نفسه أو أكثر.
كان يراودني شعور من نوع آخر - ولو بدرجة أقل - وهو شعور الكبرياء والتعالي؛ لأني كنت أستنكف أن أطلب من هؤلاء المجرمين أي طلب. إحساسي بالفخر والعزة أخذته بالوراثة أو بالتربية. كنت أرى والدي لا يذل نفسه ولا يطلب من أي أحد شيئا حتى إنه امتنع عن التدخين؛ لأنه طلب يوما سيجارة من صديق له، فكيف لي أن أنزل نفسي موضع الذلة ومنزلة الإهانة أمام هؤلاء الذين لا يليق بي أن أتحدث إليهم، فكيف بالتفكير بالطلب منهم أو التوسل! موضعي الصحيح الاصطدام بهم وليس مهادنتهم، فكيف لي أن أترجاهم بشيء حتى لو كان ذلك الشيء حريتي وكان به خلاصي من سجونهم ومعتقلاتهم.
الحرية وكل الحقوق تنال بالنضال والصراع، ولا تأخذ منحة من أحد، أيا كان محله وموضعه ومنصبه في كل هذا الكون. الكسالى العجزة والأغبياء ينتظرون السماء تمطر رزقا لهم، أما الحاملون لمسيح الطهر حتى في يوم ضعف الولادة يهزون جذع النخل ليستمطروا قوتهم، وهل يهز النخل إلا الأقوياء؟
قابلنا الضابط الكبير على انفراد، وسألنا أسئلة عادية لا تنم عن أي اهتمام بنا، بل كانت الزيارة تبدو وكأنها الإمضاء الأخير على مكافأة ينالها فريق التحقيق ثمنا لجهوده في قطع رقابنا المنتظر. إلا أنه مع ذلك ورغم هذه الأجواء المزيفة المخادعة بالتعامل الدبلوماسي الهادئ الناعم الذي يطرح به المدير أسئلته الباردة الخالية من كل روح، إلا أن النوايا الخبيثة كانت سافرة جدا في الوقت نفسه تفضحها نظراته الماكرة هو وفريقه. وكما كان مقررا فقد شكا البعض منا للمدير الظروف القاسية التي دفعته كمعتقل لتقديم إفادات مزيفة، ومع كل الشفافية المدعاة إلا أنه حتى هذه الشكوى لم تنل رضاه ولا رضا ضابط التحقيق (ع. ع.)، وتحولت المقابلات من لقاءات منفردة مع المدير إلى لقاء جماعي بحضور ضابط التحقيق لكبح هذه الجرأة على الإنكار من تكرارها ثانية. وبالطبع لم يتغير أي شيء بعدها كما كنت واثقا متيقنا، ومع كل ذلك لم يغير ما حصل من عرض مسرحي سخيف قناعة معتقلين آخرين كانوا مصرين على أن هذه فرصة يجب استثمارها، واختلفنا في ذلك بحوارات ونقاشات لم تخل من عتب وربما في بعض النوبات كانت تحمل تلميحا لي بالجبن والضعف، مع أنهم كانوا يعرفون إلى أي حد تحملت التعذيب، بل إني كنت واحدا من أكثر الموجودين ممن صمد بوجه التعذيب والتحقيق إلى آخر المطاف، إذا لم أكن فعلا الأكثر صبرا على التعذيب بينهم. لم أش بأي أحد على الإطلاق ولم أقدم للمحققين شيئا ذا نفع في كل مراحل التحقيق، وظلت أسرار عملي الحقيقي حبيسة صدري، بالمقابل غيري ممن كان يعاتبني ويتهكم على تصرفي مع مدير الأمن قد فعل الكثير جدا مما يجب أن يخجل منه أمام نفسه أولا قبل أن يستحيي من الآخرين.
لم أك بحاجة لأثبت لأحد ما أنا عليه ولربما غيري وجد في هذه المقابلة فرصة سانحة ليكفر فيها عن انهياره الشامل أثناء التحقيق، وصار الآن متحمسا يملك جرأة كبيرة ليقنع نفسه أولا بأنه لم يكن ضعيفا. كانت ريادة الاحتجاج أمام زعيم ضباط التعذيب فرصة وهمية منه لجبر ما كسر أو محاولة ترضية داخلية وإصلاح ذاتي نفسي هو في حاجة إليه وليس أحد غيره. للأسف كانت صحوة متأخرة جدا فات وقتها وجاء القطار ليس متأخرا، بل حين كانت السكة قد رفعت وما عاد له أن يسير ولا حتى نصف خطوة. هذا الموقف وهذه الحادثة قدمت لي درسا لما تبقى من عمري تعلمت منه أن الصراخ بصوت عال لا يكشف إلا عن ضعف مثله أو لربما أكبر في خبيئة صاحبه.
انتابني حينئذ شعور مرير؛ لأني كنت أعيا في الإقناع، فاشلا في التبرير، عاجزا عن مواجهة هذا الهجوم برد قوي. لم أكن أريد أن أعكر العلاقات بيننا، إلا أنه علي الاعتراف بأني كنت ضعيفا حتى في هذه ولم أتضامن مع موقفهم الجماعي كما تقتضي المصلحة العامة، لربما حالتي النفسية وعدم اكتراثي كانا وراء ضعفي هذا، بيد أني على أي حال لم أقدر على تغيير رأيي ولا بوارد انتقاده رغم كل الضغوط النفسية الكبيرة آنذاك. كنت واثقا من عدم جدوى الشكوى لأي من هؤلاء الجلادين الوحوش؛ لأنها لم تكن لتغير شيئا أبدا حتى بحسابات المصلحة النفعية.
كنت متيقنا أن قرار الحكم علينا بالموت قد صدر من لحظة انتهاء التحقيق، والتوقيع أمام قاضي التحقيق صادق عليه بالختم الرسمي بشكل نهائي. وهذه المقابلة ما كانت إلا بمثابة نظرة أخيرة على جثمان مسجى ينتظر الدفن بعد برهة قصيرة. وستثبت الأيام ذلك قريبا، وقريبا جدا. وحسنا فعلت حين لم أستجد من قلوب ختم عليها بصنعها القبيح وفي أسماعها حشر حجر صمها، وأسدلت على أبصارها ستائر غشاوة لا يتسرب منها نور الحقيقة فأضحوا يعيشون في ظلمات قاع بحر لجي، فأنى لهم مع كل هذا النظر إلى شمس الحقيقة ولو كانت تسطع مشرقة فوق يم الحياة والإنسانية.
15
على ذكر قاضي التحقيق، هناك قصة لو تمت لاختلفت الأمور كلها ولسارت في مسار آخر. قلت في بواكير هذه الحكاية: «إننا بلغنا فسحة في طابق علوي، رأيتها فيما بعد وكانت شاهدا للحظة كان يمكن أن تكون تاريخية.» جاء الآن دور هذه الحكاية لأرويها. كانت أجهزة الأمن رغم كل أعمالها التعسفية وممارساتها الخارجة عن القانون، الشبيهة بعمل العصابات الإجرامية، بل هي كذلك فعلا، إلا أنها كانت تحرص جدا على منح كل إجراءاتها شكلا قانونيا صوريا، حتى وإن لم يطبق بالمرة. فمثلا الإعدامات تنفذ بحضور ممثلين عن التنفيذ من جهات معنية به، وإذا قتل شخص أثناء التعذيب تصدر له ورقة يدعى فيها أنه قد حكم عليه بالإعدام من محكمة الثورة ونفذ به الحكم. قريب لي قتل في التعذيب وتسلمت عائلته جثته ودفنته. وبعد سقوط النظام الفاشي وجدنا ورقة رسمية تتحدث عن تنفيذ حكم الإعدام به لكن بعد أربع سنوات من يوم مواراته التراب. إذا أرادوا إعدام صبي لم يبلغ سن البلوغ يأخذونه إلى مستشفى لمقابلة لجنة طبية خاصة تقرر أن عمره الحقيقي غير عمره المثبت رسميا، ثم يقدم إلى محكمة الثورة على أنه رجل بالغ تجاوز السن القانونية ويصدر عليه حكم الإعدام أو المؤبد وفقا للقانون.
التقيت كثيرا ممن قابلوا هذه اللجنة ممن رفعت سنهم القانونية وحكم عليهم كبالغين راشدين وأخذوا أحكاما بالمؤبد، ورأيت بعيني وسكنت مع آخرين في الزنزانة ذاتها مع مجموعة سجناء أعمارهم تحت السن القانونية، حتى إن بعضهم لم يك يتجاوز الثلاثة عشر عاما، وقضوا مددا طويلة في السجن بالظروف نفسها التي كنا نعيشها، كانوا مثل الصبية والأطفال، بل هم كذلك وكنا نرعاهم رعاية خاصة.
ومن ضمن هذه الإجراءات الشكلية بحسب القانون: تحقيقان؛ تحقيق أولي وآخر قضائي. الأول كانت تنتزع الاعترافات فيه تحت التعذيب، أما التحقيق القضائي فيعرض المتهم مع إفادته أمام قاضي تحقيق، ويسأله القاضي بعد أن يقرأ إفادته عليه: هل توافق على هذه الإفادة؟ وإذا أقر المتهم بها يوقع عليها وتصبح رسمية. وطبعا هذا إجراء صوري أما الحقيقة فشيء آخر. إذ كانوا يعرضون المتهم على القاضي. فإن قال نعم، مرت الأمور كما هي، وأما إن أنكر الاعترافات فإنهم يعرضونه لجولة جديدة من التعذيب القاسي المرير ويعاد عرضه ثانية أمام قاضي التحقيق ولا سبيل له لإنكار الإفادة مطلقا شاء أم أبى. في بعض الأحيان يتجاوزون حتى هذا الشكل الصوري ويعتبرون التحقيق الأولي تحقيقا قضائيا، وكانوا يلجئون لهذا الإجراء مع المتهمين الذين حسم أمرهم بمجرد اعتقالهم؛ لأنهم مطلوبون بشدة من قبل الأجهزة الأمنية. السلطة القمعية كانت قد قررت قتلهم مسبقا حتى قبل إلقاء القبض عليهم؛ لذا كل ما كان يحصل هو جولة قاسية من التعذيب لانتزاع المعلومات منهم فقط، ثم يقسر على التوقيع على إفادة تعتبر تحقيقا قضائيا ويرسل إلى الإعدام بأسرع ما يمكن، حتى لو لم يعترف أو رفض التوقيع على الإفادة المفبركة، تعد أوراق تحقيق مزيفة في غرفة خاصة بهذا ويعدم على أي حال.
في نهار يوم شتائي استدعيت إلى قاضي التحقيق كالعادة، وصعدت مع حارس أمني واحد عبر المصعد. وعندما وصلنا الردهة العلوية تركت هناك واقفا بانتظار وصول قاضي التحقيق، تأملت الردهة وعرفت أنها المكان الأول الذي شهد بداية جولات التعذيب. كانت ردهة واسعة بين مجموعة غرف، إلى اليمين هناك غرفة التقيت فيها ضابط التحقيق (ع. ع.) لأول مرة وإلى اليسار يوجد ممر فيه أكثر من غرفة، إلا أن ما لفت انتباهي أن لهذه الردهة الواسعة شباكا كبيرا جدا تماما بحجم الجدار، تنسدل عليه ستائر من قماش سميك رصاصية اللون متراصة بكثافة. لعل الشباك كان عرضه يوازي الخمسة أمتار تقريبا، وكان منظرا غريبا فعلا أن تكون ردهة في طابق ثالث تحتوي على شباك واسع بهذا الحجم، وبدا لي كما لو أنه كان جدارا من زجاج.
كنت أقف في منتصف الردهة وحدي طليق اليدين مفتوح العينين، لا يوجد بالقرب مني سوى شرطي أمن واحد ضخم الجثة، يقف تماما بملاصقة الحائط الزجاجي، وهنا خطرت لي فكرة: ماذا يحصل لو أني ركضت بغتة بسرعة كبيرة باتجاه هذا الشرطي وداهمته بكل قوتي؟ إنه بالتأكيد لن يستطيع تدارك الموقف. سآخذه على حين غرة وسوف نحطم الزجاج باندفاعتي نحوه وبثقل جسدينا، وننزل معا من الطابق الثالث إلى الأرض تهشم عظامنا وتكسر جمجمتانا، ونقتل سوية، وأكون بذلك عاقبتهم على قتلي المقرر لاحقا بقتل واحد منهم.
أنا ميت - لا محال - في كلا الحالتين، في هذا اليوم أو بعد صدور الحكم بالإعدام شنقا، وهو ليس ببعيد. لم يخطر على بالي بالمطلق أنه قد يكون زجاجا مدرعا، ولا أنه من الممكن أن يكون سميكا جدا؛ إذ لم يكن في وقتها هذا النوع من الزجاج شائعا ولا أنا أعرف بوجوده ؛ لذا لم أفكر بهذا الاحتمال. بدأت أستعد لتنفيذ الفكرة التي وصلت عندي لمرحلة القرار النهائي، وتجاوزت كل المراجعات النفسية الداخلية، كنت أنتظر فقط لحظة لا ينتبه فيها الشرطي لحركتي، لمباغتته وتحقيق نجاح مثالي كامل للخطة. إلا أنه في هذه اللحظة بالذات اقترب الرجل كثيرا من الحائط الزجاجي، وكنت قد سمرت نظري عليه استعدادا للوثبة الأخيرة نحو الخاتمة التاريخية، وإذا به وهو يزيح الستارة بتأن لينظر من خلال الشباك إلى أمر ما في الخارج، أرى أن هذا الشباك الزجاجي الكبير محمي بشبكة حديدية ق«ية نطلق عليها في العراق تسمية «الكتيبة». صعقت وتخيلت كم كان للمشهد أن يكون داميا لكن من جانبي فقط. إذ لو نفذت خاطرتي لكنت أوقعته أرضا وربما تكسر الزجاج ليس غير، أما أنا فسوف تكسر عظامي بعدها تحت هراوات رجال الأمن، ومن الممكن أن أموت تحتها حتى قبل صدور حكم الإعدام. وئدت الخطة قبل تنفيذها، لكن قرارا كهذا مني - وإن لم ينفذ - يشي بأي درجة يأس كنت أحمله من تلك الحياة التي أعيش فيها حينئذ، وإلى أي حد كنت أخاطر بمواجهة هذا اليأس.
اليائسون حينما يرتكبون أفعالا انتحارية إنما يفعلون ذلك لأن كل سبل النجاة أوصدت أمامهم، وحينها يرون أن لا قيمة لاستمرارهم في مواصلة كفاح محتوم الخسارة، والخطورة الأشد والأعظم أنهم لن يجدوا من ثمن مهم أو قيمة ذي بال لحياة أي من خصومهم. المنتحرون لا يفعلون شيئا سوى أنهم ينتقلون من موت إلى موت آخر.
بعد أن انتهى التحقيق تماما وتمت كل الإجراءات الشكلية، توجهت قضيتنا إلى صالة الانتظار الأخير تمهيدا ليوم المرافعة النهائية في محكمة الثورة. إنما فوجئنا بحدث غريب جدا لم نك نتخيل وقوعه أبدا نظرا لتلك الظروف المريعة التي مررنا بها وكنا لم نزل نعيشها. وقع حادث خارج سياق الأحداث وعكس منطقها بالكامل، فلم يكن بحساب أي منا أنه سوف يظفر بفرصة للقاء أسرته بينما هو ما يزال معتقلا في هذا المحبس، لكن بلا أي سبب منطقي أو مقدمات ممهدة فوجئنا يوما بخبر غريب من ضباط التحقيق بأننا سوف نحظى بفرصة للقاء عوائلنا في القريب العاجل.
وجاء دوري في مواجهة أهلي لأول مرة منذ اعتقالي، وصعدت إلى غرفة ضابط التحقيق طليق اليدين مفتوح العينين، يرافقني في صعود السلالم رجل أمن واحد أعرفه بالاسم، وكان الرجل متساهلا جدا معي ليس الآن فقط، بل في كل الأحوال التي أكون فيها معه على انفراد. وللإنصاف إنه كان من العناصر التي تبدي تعاطفا مع المعتقلين، ويبدو من تصرفاته أنه كان يشعر في قرارة نفسه بظلامتنا، لكن طبيعة عمله تجعله حذرا للغاية، لم يكن هذا رأيا شخصيا مني فيه، بل سمعته من أكثر من واحد من المعتقلين الذين كانوا يكنون له محبة واحتراما. وهذه المشاعر الصادقة الودية تجاه عنصر أمني يظهر معدن المعارضين السياسيين آنذاك، فإنهم كانوا يتخذون مواقفهم ليس ضد أحد لشخصه وعنصره وفكره، بل بناء على سلوكه ومواقفه؛ لذا وعلى الرغم من أن الرجل يعمل في أحقر جهاز أمني إلا أنه كان موضع ترحيب ومحبة من المعتقلين لمواقفه وأفعاله مع أنها لم تغير من نتيجة المعادلة بشيء.
المعارضة السياسية تكون ضد المواقف المناهضة للإنسانية والحرية، وليست ضد الأفكار والانحدارات العرقية كما رأينا فيما بعد من جهات تفعل ذلك، وبأفعالها شوهت معنى المعارضة وأصبحت في نزاعاتها ليست سوى جزء من قطيع ذئاب يتقاتل على فريسة.
في الحقيقة هناك أشخاص كنا نراهم في ورطة حقيقية في هذا العمل التافه، لم يكونوا من قساة القلوب أو خبثاء السريرة ولا هم بمندفعين لإيقاع الأذى بالمعتقلين حتى وإن فعلوا ذلك، ويبدو أن اختيارهم لهذه المهنة الحقيرة كان سببه الحقيقي هو التهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية والفرار من الذهاب إلى جبهات الحرب التي اشتعل أوارها حينئذ، وبدأت بحصاد أرواح الشباب بشكل جماعي لافت مع وقوع عشرات الآلاف منهم أسرى في أيدي القوات الإيرانية. الخوف من هذين الاحتمالين السيئين كان أمرا شائعا جدا بعد موجة معارك خاسرة ابتدأ تواليها سريعا ربيع ذاك العام. لكن على كل حال، هذا النوع من رجال الأمن لم يكن كثيرا للأسف الشديد، بل كان نادرا جدا، والغلبة بشكل ساحق كانت للعناصر السيئة التي تحمل خصائص أقرب للبهيمية المتوحشة من أي شيء آخر.
لأول مرة كنت أرى المكان بتفاصيله الدقيقة، تطلعت إلى جدران المبنى بنظرات فاحصة، حتى إنه وأنا أرتقي درجات السلالم مسرعا محاولا اللحاق بمرافقي منتشيا باللقاء المرتقب، لمحت على حائط لوحة معلقة فيها توقيع لصديق لي كان رساما بارعا. تملكني شعور بمقت شديد له، وغضب عارم انفجر في حشاشتي، حين رأيت توقيعه على لوحته.
بدأت أصرخ بغضب في داخلي: كيف يسمح هذا المعتوه أن تعلق لوحته في هذا المبنى القذر وهو الذي كنا نعتبره من طليعة الثوريين ومن المثقفين الداعين إلى النزعة الإنسانية في الفكر والتعامل مع الآخر؟! إلا أني سرعان ما استرجعت وعيي موبخا نفسي: ما الذي دهاك؟ هل جننت؟ وما يدري الرجل بما يفعل برسومه حين تباع؟ هل عليه أن يتابعها واحدة تلو الأخرى؟ ثم كيف له أن يعرف أنها أخذت إلى مديرية أمن؟ إذا كانت الناس عندما تدخل إليها تختفي آثارها مثل ملح يذوب في ماء، فهل تبقى من آثار للوحة فنية حتى يمكن له أن يقتفيها؟
وأنا أصعد تكاثرت أمام ناظري صور صعودي الوئيد حين كانوا يقتادونني على هذه السلالم نفسها، وكيف كنت أحصي ثلاث عشرة درجة، وإن أخطأت في حسابها تثور حفيظتهم علي لينزلوا بي قصاصا عاجلا من صفع أو شتم. لا أذكر كم من خاطرة مرت علي حينها، إنما بكل يقين لو حاولت عدها لعجزت عن إحصائها، لا حين مرقت بسرعة البرق وقتئذ ولا الآن عندما أحاول استرجاع شريطها.
كانت أوصالي ساكنة ورأسي ترتعد فرائصه خشية اللحظة المرتقبة؛ أمواج هائجة من خواطر متضاربة وأفكار متناقضة وأسئلة حائرة وردود عليها كانت تنهمر، فتصيب لبها وتطفئ ظمأها بشكل عجيب. كل هذا كان يحصل في تلك الدقيقتين أو حتى الثلاث دقائق؛ المدة الكافية لاستغراق طي كل السلالم وصولا إلى غرفة اللقاء المنتظر. انبثقت وسط هذه الثورة العارمة خاطرة غريبة مرقت بسرعة البرق، كأنها صاعقة نزلت لتميت كل شيء وأذهبت كل فورة خواطري في سكون عميق. خاطرة كانت خارج نسق الأفكار وأثارت ذهولي وقتها، ولا أصدق حتى وأنا أكتبها الآن كيف أخرجت عنقها من بين هذا الركام الهائل من تلاطم بحر المشاعر واضطرابها؟ ومضة كانت مثل سنا البرق قالت لي: كيف يمكن لعقل الإنسان أن يحتوي كل هذه الأفكار ويجري هذا الكم العجيب من الحوارات الداخلية في لحظات معدودة؟ تملكني انبهار غريب بقدرة العقل وصرت أتأمل المسألة بروية وهدوء مثلما يفعل أي فيلسوف يفكر سارحا متأملا فيها، وهو يمشي على ساحل بحر هادئ، وتطير من فوقه نوارس بيضاء في نهار تظلل فيه الأرصفة سحب بيضاء تحجب عنه حرقة الشمس لا نورها، سرحت بعيدا في عالم آخر بعيد يقع في الصفحة الثانية من الكون. ومثل وحي الشعراء اندلق علي فجأة فيض من ثقة بما حبوت به كإنسان من قدرات عجيبة تدعو للفخر والإعجاب كما تستدعي التقدير والتأمل، أصابتني حينها رعدة من فخر وتواضع في آن واحد.
دخلت غرفة جوها ثقيل بدخان السجائر والأحاديث السابقة، مشبعة بالدفء، وفي قعرها حيث النافذة الوحيدة منضدة صغيرة نسبيا يجلس خلفها ضابط بزي مدنية، في حين كان هناك رجال آخرون واقفين طوال الوقت تحسبا لأي حدث طارئ على ما يبدو؛ لأن عيونهم كانت تتابع كل حركاتي وأنا أدخل عليهم بلا قيود. على اليمين كانت هناك أريكة صغيرة يجلس عليها والداي في انتظاري.
مشاعر الأسى والحزن تظلل وجهيهما، وعيونهما الشاحبة أمطرت نهر دموع لا يمكن وصف شدة جريانه ولا حرارته، نظرا إلي مشدوهين مبهوتين إلى أقصى الحدود؛ والدي يحدق في بنظرة تشي باضطراب شديد، بينما أمي يغزو محياها الوجوم وظلت طائشة اللب طوال المقابلة، ولم تقو على التفوه إلا بنزر يسير جدا من كلمات يمكن إحصاؤها بسهولة. استجمعت كل قواي وأضمرت ضعفي وإحباطي أمامهم. كان همي الشديد أن أفهم ما الذي يجري في الخارج، واستفهمت بطريقة مشفرة بعض الشيء عن شخص يهمني اعتقل بسببي، وتأكد لي عبرهما خروجه من المعتقل، وكان خبرا مفاجئا وسارا في الوقت نفسه. كانت مواجهة قصيرة سريعة لم تغير شيئا من الواقع الذي نعيشه، ولم تكن أيضا محل تفاؤل كبير كما يتوقع لها أن تكون، برغم أن حصولها كان أمرا غير مطروق في معسكرات الاعتقال السياسي.
حصلت من هذه المواجهة على بطانية وفيرة منحتني ورفاقي دفئا بصورة مثالية وعلى ثياب جديدة حسنت قليلا من هيئتي، وإن علمت بعدها أن رجال الأمن سرقوا الجزء الأفضل والأجمل منها، وحصلت كذلك على سجائر ووجبة طعام منزلي صنعت خصيصا لي والأكثر من ذلك قليل من سكينة وطمأنينة هدأت من روعي.
إلا أن هذه الزيارة لم تشع جوا للتفاؤل، بل على العكس من ذلك سادنا تشاؤم كبير بعدها. كانت زيارة غريبة في حصولها وأغرب في نتائجها؛ فقد علمنا أن مديرية الأمن هذه تعطي لأهل المعتقلين السياسيين فيها فرصة لإلقاء نظرة أخيرة عليهم قبل إيقاع حكم الموت بهم. عزز هذا التشاؤم استذكار حادثة وقعت من قبل لطلبة زملاء من جامعتنا (جامعة الموصل) سبقونا في زمن الاعتقال. لا أدري كم واحد مثلي من قاطني الزنزانة ازداد يقينه بأننا ننزلق سريعا إلى الهاوية التي سوف تبتلع الكل. أحد المعتقلين كان متيقنا من هذه النتيجة المنتظرة من هذه الزيارة، وهو نفسه كان رائدا في سبر غور تاريخ هذه الحادثة بهذه النظرة التشاؤمية، بل إنه هو من نقل أحداثها لنا بالتفصيل وكانت بالفعل مطابقة لحالتنا. توقعه لهذه النهاية طابق خاتمته المفجعة بالفعل فيما بعد مع آخرين التقوا أهاليهم وكانوا معنا في الزنزانة ذاتها أو في المعتقل نفسه.
راودني إحساس بأن الأرض ستنشق يوما بغتة وتبتلعنا إلى حيث لا رجعة، وشعور الاطمئنان الذي بدا على محيانا بعيد الزيارة بدأ بالانحدار سريعا وانتهى إلى وجوم. نعم، كانت الأمور تسير فعلا نحو هذه النهاية التراجيدية؛ إذ بعد زيارة الأهل المفاجئة والغريبة تم نقل مجموعة من سكنة الزنزانة إلى معتقل آخر يحتجز فيه بالعادة من حان وقت محاكمته. واستبدل شعور الارتياح والاطمئنان بشعور آخر من عدم وتلاش حين جاء فجر يوم أربعاء بضعة حرس لم نرهم من قبل بمزاج قاتم وطبع غليظ، ساقوا نفرا منا إلى معتقل آخر تمهيدا لنطق الحكم عليهم في محكمة صورية، تستلم قراراتها من ضباط التحقيق في دوائر الأمن. ها إذن قد أزفت الآزفة وقربت ساعة إسدال الستار على المشهد الأخير من فصول هذه الملهاة المأساوية.
خرجوا فجرا وغابوا ما يناهز الأسبوعين أو أكثر، لا أذكر ذلك تحديدا الآن؛ فقد مضى زمن طويل، ولم يعد الوقت مهما حينها لأنشغل بحسابه، ولم أعبأ وقتها ولا بعدها بعملية إحصاء الأيام التي سوف أقضيها في السجن فهي كلها متشابهة. كنا نترقب فجر أربعاء جديد وهو الموعد الدوري لنقل المعتقلين من مديرية الأمن إلى محكمة الثورة، غير أنا دخلنا في نفق من انتظار مقلق، وما كنا نخاله أمرا دوريا تحول إلى ترقب عشوائي ولد في كوامن نفوسنا مدا عاليا من القلق والحيرة.
غرقنا في تحليلات الموقف بفرضيات تخرج من بحر حيرة نخوض فيها ونخرج منها بعدم، ثم نضع هذا العدم على شاطئ حواراتنا بعناية فائقة كأنه صيد ثمين، كما لو كنا غواصين ماهرين استخرجنا للتو لؤلؤا نادرا من بطن حوت. وهذا حال من يعدم كل حيلة لكنه يأبى البلادة والكسل فيبني ولو من أوهامه عملا ربما يعاجله الحظ بضربة لم تكن في الحسبان ويخلق من الخيال حقيقة. وفي غفلة من إحدى الأماسي اندفع إلى الزنزانة عين من افترضنا أنهم قد حوكموا. اعترتنا الدهشة! ومثل مطر غيمة استوائية هطلت عليهم أسئلتنا ولم نجن منها إلا حيرة وخيبة أمل؛ لأنها كانت ترجع بلا أجوبة. أسئلتنا كانت مثل غيث ينهمر على نهر فلا نبت يستتبع هطوله ولا يزيد النهر إلا بما هو كائن فيه. كنا وإياهم في محل واحد وفي الموضع ذاته لكن بصفين متقابلين فكما نحن كانوا هم أيضا، لا يعرفون حقيقة ما جرى، سوى حكاية موجزة يكررونها بلا أي معنى. أخذوا إلى معتقل خاص تمهيدا للمحاكمة كالعادة المتبعة، وفي يومها ظلوا حبيسي شاحنة مغلقة أمام مبنى المحكمة ثم عادت الشاحنة بهم بعد سويعات إلى المعتقل الخاص نفسه، وظلوا طوال الفترة المنصرمة هناك في ظروف عجيبة سأرويها لاحقا. وها هم عادوا وانتهت الحكاية بلا نهاية مفهومة أو حتى بلا نهاية ولا تفسر أي شيء مما جرى أو سوف يجري.
رحنا نتخبط بفوضى؛ حينا تثري فينا آمالا كبارا وتارة أخرى تخنقنا بقسوتها. نتأرجح بين صور مزدحمة مشوشة توارينا ساعة في طمر النسيان وأخرى تطوف فوقنا مثل شبح تعيد إلينا الحياة. كان ليلا شتويا خيم علينا ببرده القارس يذكرنا بهشاشتنا ويزيد مصيرنا المجهول غموضا، كان علينا بعد عناء التفكير ومشقة الأسئلة السائبة أن نجبه هذه الحلكة المضاعفة إما بالقبول بأننا على وشك أن نفقد كل شيء أو نظل نتشبث بسراب الواحة النائمة خلف التل. لم يكن واردا أبدا زجر كلتا الصورتين عن أعيننا الشاحبة المنهكة فقد علقنا بينهما بلا فكاك، وفقدنا غريزة النسيان واستقرت شهوة القلق في قعر ذاكرتنا اليقظة أبدا.
إلى أن أيقظنا من نومتنا وحيرتنا صوت ضابط في ساعة متأخرة، قال بضع كلمات باستعجال ورحل سريعا، كلمات تحمل نبرة جديدة تخمد الحيرة وتحيي أملا في مواصلة الحياة ولو في زنزانة. كلمات ما زلت أحفظها حرفيا قذفها في داخلي عميقا صخب تنازع الصور وتجاذب أطراف القلق: «خفيفة إن شاء الله، السيد الرئيس أمر بإيقاف الإعدامات.»
تغير كل شيء، وقرار الحكم علينا بالإعدام اندلف إلى زاوية بعيدة منكفئا وصار يحدونا أمل حقيقي بمواصلة البقاء، على الأقل أنا شخصيا صرت متيقنا من هذا في قرارة نفسي، ووثبت أمامي تلك الرؤيا الغريبة التي رأيتها أول اعتقالي بأني سوف أحكم لعشرين سنة، لاحت لنواظري صور تجرجرني للأمام، وبت أتهيأ لأخمد رغبة اليأس والعبث التي استوطنتني لأشهر.
لم أقف على تبرير واحد أفسر به هذا التحول في الحكم علينا وظل عصيا على الفهم أبدا؛ لأن كل شيء في البلد كان يجري بقرارات مزاجية لفرد واحد وليس من اليسير فهم دواعي صنعها، بل كانت كأنها أحجية ولغز في أكثر الأحيان، ولا يوجد وصف ملائم لها إلا أنها نوبات انفعال وهلع تصيب هذا الفرد المتسلط على كل شيء في البلد هو وجهازه الخاص. هذا التحول في مصيرنا تزامن مع أمر أستطيع جازما القطع بحصوله. سأرويه بأمانة كما وقع ولن أعلق عليه حتى لا أوحي بشيء لا يمكنني نفيه ولا يمكنني أيضا أن أجعله حقيقة فولاذية لا تخرق. ومع هذا لا يمكن أن أغفل حقيقة أخرى وهي أنه قد حفر أخدودا عميقا في لا أملك نفسي عن الانجراف فيه مهما استجمعت كل غرائزي وأيقظت سائر شهواتي وكلما ركنت إلى سبل الفرار منه كنت أعود إليه آيبا وأقع فيه ثانية.
أجواء من جزع وإحباط كانت تسيطر علينا في ترقب المجهول تزامنا مع موعد المحاكمة الملغاة، هواجس كانت تهشم كل صور العالم الخارجي التي بدأت بدورها تتلاشى وتغرق في يم النسيان. تورم رأسي حينها لفرط ما كان يحمل من الوجع في ملاحقة القادم وأصبح فارغا خاويا إلا منها. صارت الزنزانة لجة تبتلع جسدي الذي بدأ يذوي متسارعا يسابق الموت القادم تطرقه فظاعات ذهنية في كل آن.
اصطناع الرزانة والتجلد لم يقو بالمرة على أن يواري القلق ولا الرعب من المصير المتوقع قدومه عاجلا؛ لذا صرت كما الآخرين - على الأرجح - تنهش في كوابيس يقظة موحشة. وإذا تملك أحدا يقين من أن سيفا قادما إليه قريبا سينحر أوداجه فإن حرارة حزه لأهون بكثير من لهب انتظاره. لشدة لوعتي في تلك الأيام تمنيت من صميم قلبي ألا ينزل بأحد وإن كان جلادي نفسه، ما كنت أعيشه من محنة قاسية. إني لأعجز الآن عن بيان ما كابدت من الألم النفسي ومضاضة كل لحظة كانت تمر علي، كنت أكتم هذه المضاضة حبيسة في أحشائي فتبالغ في إيلامي أكثر مما هي موجعة بنفسها ولوحدها. وعلى الأغلب هذا كان يحصل للجميع، لا أدري قد يكون حتى أكثر مما كنت أقاسيه وأكابده. لم نتشارك إبداء الوجع، بل حاولنا مواراته عن بعضنا حتى لا يؤذي أحدنا الآخر أو كنا نخشى أن ننكأ الجرح فيتضاعف الألم علينا.
صورة قاتمة لخروجنا من عنبر بارد في صناديق خشبية يحيط بها حرس قساة يحظرون البكاء ويمنعون العزاء، أمام نواظر أمهات ثكلى تغطيهن جلابيب سود ما أذن لهن من البقاء في هذه الدنيا. هيئة تدفع بقتامتها إلى كل الأشياء اللاتي تحيط بهن وتحيل أيامهن ليالي، وآباء لن يفارقهم عبوس أزلي، ويستعيضون بوجوم مقيم بدلا عن دموع لن يذرفوها علنا، وحين يفعلون فسوف تكون دموع كمد في الخلوات فقط، هربا من ملاحقة شماتة الآخرين ومن عيون رجال الأمن. شقيقات سوف يوصدن كل النوافذ والشبابيك؛ لأن دروب العشاق ستحول مسارها بعيدا عنهن خشية من مصير مشابه لمصير أشقائهن، وفرسان أحلام سوف يستنكفون المرور تحت نوافذهن، فقد صرن منتميات لطبقة الداليت الهندية المنبوذة ولا يجوز للأشراف مصاهرتها. سيخرج أشقاؤنا كل يوم إلى أعمال جديدة، على الأرجح سوف تكون حقيرة بعد أن يطردوا من وظائفهم الحكومية، يتحاشون نظرات الاتهام والريبة من الجيران وتتضاعف قتامة وحلكة الأيام بنهاراتها الدامسة قبل لياليها أمامهم حين يتحاشاهم صديق أو قريب كان يرتاد المقاهي والملاهي معهم. لا يمكن أن أصف جميع الصور الوخيمة؛ لأن حتى مجرد كتابتها الآن يقطعني بشفرات نصلها الحاد، وإني لأرأف بكل أحد أن يتخيلها. المهم أنها مرت علي وليتها لا تعاود المرور على أي إنسان. - هل تعرفون أني سمعت قولا دينيا مأثورا عن النبي محمد أنه قال: «لو قرئت الفاتحة سبعين مرة على ميت ونهض بعدها فلن أعجب لذلك؟» سألنا أحد الذين كان معنا في الزنزانة ممن كان يحفظ من أمور الدين ويمارس طقوسه أكثر من الآخرين، وحثنا على فعلها.
لا أخفي القول، عقلي لم يصدق أبدا ما كان يقوله صاحبنا، ولا كنت أدري من قبل ولا الآن هل فعلا هناك نقل موثوق معتمد بمثل هذا القول عن النبي محمد أم لا؟! رغم ذلك فإني لم أنبس ببنت شفة اعتراضا عليه، ولا حتى جربت إبداء أي نوع من أنواع التلميح للرفض أو التعجب ولو بتقطيب وجه أو رفع حاجب أو نظرة شزراء. بدا ما يقوله غريبا جدا وأقرب إلى الأسطورة المبالغ فيها من أي شيء آخر، لكني لم أنكر عليه قوله ولربما لو قيل لي هذا القول في غير تلك الساعة لكنت تفحصته وقلبته ألف مرة ومرة ومن كل الوجوه كعادتي المألوفة في النظر والتدقيق وما كنت لأصدقه في النهاية. غير أن قوله نزل كقارب نجاة لا مناص من التشبث به والعبور به للنجاة من خطر الغرق المحدق، وحل قوله علي مثل غيث يطمر ببرده لسعة نيران تكتوي بها حشاشتي. جلسنا مجتمعين هادئين بانكسار، كنت أسمع نشيجا خفيا من بعض رفاق الزنزانة ونحن نقرأ سورة الفاتحة لسبعين مرة بإخبات وفي صمت محكم خبت معه الآهات؛ كل الآهات. حين انتهينا تنفست عبق عطر ملأ رئتي بهواء نقي جاء من عالم آخر أشبعني بفيض من شيء أجهله، مثله مثل نسيم ربيعي يهب في ظهيرة يوم تموزي. انزوينا بعدها كل إلى محله في مخدعنا المشترك المزدحم وقد هدأت طباعنا كأننا قفلنا للتو من حلقة ذكر صوفي أنهكنا فيها الرقص عشقا.
هذا الحادث الغريب حصل في عشية اليوم الذي اقتادوا فيه بعضا من رفاقنا إلى المحاكمة الملغاة والتي تغير فيها الحكم بالإعدام إلى حكم آخر. عندما سمعت الضابط يقول: «خفيفة إن شاء الله، السيد الرئيس أمر بإيقاف الإعدامات.»
اندفعت تلك الليلة الصوفية بكل ما فيها إلى كياني ولم تخرج منه أبدا.
16
عدنا إلى الحياة من جديد بعد هذه الحادثة الغريبة أو المصادفة العجيبة وبدأت بعدها أحاول أن أرتب دواخلي لحياة طويلة في السجن، غير أنه صادفتنا أمور كثيرة كانت تثير الغثيان والاشمئوهي ترى لهفتي وإعجابي بها زاز والقرف منها ومن سلوك رجال الأمن والحرس الحافل بالتناقض. فجوة شاسعة جدا بين بريق الشعارات وبهرجة الادعاءات التي يتظاهر بها الحزب الفاشي هو والمروجون له، وبين واقع حاله وهذا ليس حكرا عليه، بل إنه عين ما يفعله جل أصحاب الجمعيات والأحزاب وحال مناصريهم الذين يقاتلون بشراسة لأجل السلطة، ولا يناضلون للفكرة كما يزعمون؛ لذا يستفرغون كل ما في وسعهم ويبذلون أقصى جهدهم لبلوغ مآربهم الخبيثة، فيرى لأجل هذا قادة تلك الجهات يزوون جانبا النظر في أخلاق أتباعهم الرذيلة وأصولهم المنحطة ما بلغوا بهم مآربهم في الجاه والسلطة والزعامة والثراء، بل إنهم يستعملون تلك الزمر من الأوباش والأراذل عن علم ودراية ولا يوفرون جهدا من حثهم وتشجيعهم على ارتكاب كل الموبقات ليرهبوا بهم خصومهم ويختصروا المسالك لأمانيهم الخاطئة. في بعض الأحيان تبلغ تناقضاتهم من السخف حدا يثير الشفقة على أصحابها ويبعث على الضحك ويدعو للسخرية من عفن عقولهم. وهذا كان حال العاملين في هذه الأجهزة القمعية فقد كانوا سيئي الطباع والأخلاق، لا ينطقون إلا سبابا وشتائم كأنهم لم يعرفوا لغة غيرها من ساعة ولادتهم؛ لذا كنت أراهم متعجبا يجيدون ألفاظها بطريقة فريدة لا تخطر على بال أحد ولم أسمع بها من قبل.
كنت أتساءل ونفسي عندما أصغي لهذا السباب المقذع المتبادل بينهم، هل هؤلاء بعد العمل يعودون لبيوت يسكن فيها أطفال وترعاها زوجات فترق قلوبهم لها وتحنوا عليهم، أم أنهم يسكنون صحراء قفر من كل شيء، جردتهم من مشاعر وأخلاق البشر؟ كانوا فاسدين لدرجة فظيعة، وإني لواثق من أنهم كانوا فاسدين بالأصل، قضوا أعمارهم سعيا في البحث عن مهنة يمارسون فيها رذائلهم فبلغوا مرامهم المطلق في هذه الحرفة الفظيعة بقبحها. كانت الدسائس والوشايات والنميمة زادهم اليومي، يتشاتمون على كل شيء، بل ولأجل لا شيء أيضا. من اليسير جدا أن تنشب المهاترات بينهم، ويكفي لحصولها مجرد ريح باردة تمر من فتحة باب موارب لينهمكوا في شجار لا يوفرون لفظا قبيحا إلا واستخرجوه من جعبتهم التي لا تنفد.
وأنا أسمعهم وأراهم على هذه الحال أحسب أنهم خلقوا لأجل هذا وحسب؛ قساة غلاظ لحد مرعب، غير أني لاحظت عليهم سلوكا غريبا حين كان يسمح لنا بمراجعة دورة المياه بعد كل وجبة طعام. كان يتناوب علينا حرس مخصصون لهذا العمل، ومن يأتي اليوم لا يأتي بالغد، ولم تكن تتغير مجموعة الحرس وحسب، بل تتغير الأخلاق معها أيضا، يأتي الحرس اليوم بأسلوب جاف غليظ يشبعوننا سبا ومهانة ويثيرون حنقنا وغضبنا، ويحل محلهم في اليوم التالي آخرون على النقيض من أصحابهم متساهلون، ويسردون علينا أحاديث وقصصا وقعت لهم كأنهم يسلوننا ويروحون عنا، يخال المرء بعدها أنهم لا ينتمون لهذا المكان، لولا زيهم العسكري والهراوات التي لا تفارق أياديهم والسلاح المركون دائما إلى جنوبهم. ولولا أني كنت أعرف هذا الحارس الوديع نفسه عندما كنت في الزنزانات الانفرادية، وكيف كان يظهر أنواع الفنون في إلحاق الأذى بالمعتقلين لصدقت أنه جاء بالخطأ لهذه المهنة لو رأيته لمرة واحدة فقط بهذه السماحة. هذان الوجهان المتضادان كان ترتيبا معدا من رؤسائهم لترهيب المعتقلين من جهة واحتواء غيظهم من جهة أخرى، وكانوا لا يعيرون بالا لتخالف صورهم ولا لتباين سلوكهم، فهذا الحمل الوديع نفسه بعد حين يصبح ذئبا مفترسا والعكس بالعكس، ويعرف كل من كان بالمعتقل أنها حرب نفسية معدة بإحكام للتلاعب بالسجناء السياسيين. لا يوجد أي سبيل لتغيير النظرة المستقرة عليهم بالعموم إنهم وحوش بمظاهر آدمية، إلا أن الحق لا بد أن يقال، واحد منهم كان يبدو فعلا أنه قد جاء لهذه الوظيفة لسوء حظه، وعلى الأرجح بفعل نصيحة حمقاء من صديق أو قريب دفعته إلى هذه المهنة الساقطة هربا من الحرب المشتعل أوارها حينها والتي كانت تلتهم أجساد الشباب ما إن يبلغوا السنة الثامنة عشرة من أعمارهم. يقينا إن أمثال هذا الرجل نكد الحظ الذي جاء بالخطأ لهذه المهنة الساقطة ليس مستحيلا تواجده، لكن في الغبراء من ذا الذي يمكنه أن يرى الأشياء الجميلة؟
رغم ذلك الاصطناع إلا أن طبائع الأشخاص وأمزجتهم الشتى وأفكارهم الخاصة كانت تنضح من تصرف كل واحد منهم؛ بعضهم كان يظهر خلاعة ومجونا ولا يكف عن الحديث عنها، وآخر كان يحمل مسبحة طويلة ويبدي تدينا كأنه درويش يقيم في صومعة على قمة جبل. هذا الحارس بالذات كان يختص ببلادة حيوانية وفظاظة مفرطة بشكل متفرد. كانت البداوة والقساوة تشع من محياه لكل من يراه ولو لبرهة واحدة ومن لهجته حتى لو سمعه شخص يتلفظ بضع كلمات لا معنى لها. عيناه زائغتان بالخلقة، قبيح المنظر بلا حاجة لهذا القبح الإضافي وبمرافقة هذه العيون المتشاكسة فيما بينها ازداد قبحا وبشاعة. قوي، قصير، ذو جثة مملوءة، لا يتوقف لسانه عن التسبيح والتهليل بينما كنا نخرج لقضاء حاجتنا. وفي يوم ما ولسبب مفرط في السخافة إلى الحد الذي لم أوفق لاسترجاعه من ذاكرتي رغم محاولاتي الكثيرة اليائسة للعثور عليه انفجر غاضبا مثل برميل بارود. لهذا السبب المفرط في التفاهة والمجتمع مع تلك البلادة، فهم هذا الحارس الغبي شيئا لا يمكن فهمه بهذه الطريقة المعوجة إلا من معتوه مثله فائق الغباوة وانفجر لأجل ذلك غضبه الهستيري على أحد المعتقلين وأشبعه ضربا وشتما بطريقة تشبه فتك وحش ضار منفلت من عقاله. بالمقابل كان صاحبنا المعتقل على عكسه تماما من النوع الفاشل جدا في إقناع أي أحد في أي أمر حتى ولو كان يملك كامل حريته، فكيف به الآن وتقلبه على البلاط ركلات من أقدام وحش أصم.
لم نملك خيارا ساعتئذ لنصرته في هذه المواجهة غير المتكافئة ولو جربنا ذلك تهورا لانقلب الحال بلا ريب إلى مجزرة حقيقية. ومع ذلك لم نقدر على التقوقع بالسكوت فانبرى أحدنا بطريقة رقيقة بعد أن لمس فتورا في ثورة هذا الدرويش الوحش فأقنعه بكلمات مختصرة لكنها كانت متماسكة وبليغة بأن الأمر لا يعدو سوء فهم، وأن هذا المعتقل لم يكن يقصد شيئا سيئا. حينها بدت على الحارس البدوي علامات تراجع وندم انعكست علينا فرحا وبشرى بإنقاذ المعتقل المسكين من عقاب مجاني ظفر به لا يمكن لأي أحد أن يبرره ولا بأي معيار أو مقياس. ولم تكتمل فرحتنا لنواجه معضلة أشد بعد ذلك؛ إذ قال لنا هذا الحارس الأمني الورع: «ادخلوا الزنزانة، لا أقدر على السماح لكم بدخول المرحاض الآن.»
بهتنا لذلك ولم نفهم، بعد أن ظننا أن كل شيء قد عاد لمجراه، إلا أنه أردف بثقة وبيقين رجل متدين غاية في الورع موضحا قراره الغريب. - لأني بينما كنت غاضبا أضرب صاحبكم، أقسمت يمينا ألا تخرجوا لقضاء حاجتكم اليوم؛ ولذلك لا أستطيع كسر يميني الآن لأن ذلك حرام.
تبادلنا نظرات دهشة وكتمنا قهقهة استغراب، ومن حينها ازدادت سخريتي ممن ينصتون خاشعين لتلاوة بورع بعد نهار طويل حرموا أنفسهم فيه من لذائذ الشراب والطعام ليهبوا بعدها لفعل أشد الموبقات. هذا الأمر تكرر حصوله من أولئك الحرس ورجال الآمن حيث كنا نراهم من كوة الزنزانة يتحلقون على مائدة إفطار رمضاني ثم ينهضون بعدها مسرعين تملؤهم الحماسة لجلد امرئ لا يعرفونه وينزلون به أشد العذاب ولو قيض لهم افتراسه لفعلوا. من يومها سخرت ولم أندم على ذلك أبدا من دين قوم يجيز كل هذه الفواحش والقبائح ولا يجيز كسر يمين على دخول مرحاض.
17
علي الآن أن أرجع قليلا للحديث عن أصحابنا الذين عادوا من المحكمة الملغاة والتكلم عن الظروف الخارقة في غرابتها وندرة حصولها التي عاشوها في المعتقل وهي أقرب للخيال من الواقع، ولا أفهم كيف يمكن لأحد أن يبررها أو يتغاضى عنها وعمن وقف وراءها أو يتهاون مع مرتكبيها. سوف أسرد بعضا من هذه الحكايات العجيبة التي لم أشهدها بنفسي لكنها كانت متواترة، إلى حد أنه يكاد لا يوجد سجين سياسي إلا ومر بها إلا القليل جدا، ونحن لحسن الحظ - أقصد المجموعة التي كانت تعيش معي في الزنزانة - كنا من هذه القلة القليلة.
مديرية الأمن العامة أكبر معتقل سياسي وتضم الشعبة الخامسة الرهيبة المتكفلة بالشأن السياسي أو بالأحرى الشعبة المختصة بتصفية المعارضة السياسية؛ ولذا يحتجز فيها أكبر عدد من السياسيين تمهيدا لمحاكمتهم الصورية في محكمة الثورة. محكمة سأروي في حينه تجربتي معها، وهو على كل حال مع أنه كان مشهدا زمنيا قصيرا جدا لكنه كان ثقيلا للغاية ينوء بعبء حمل، خلاصته تمثل واقع حقبة مظلمة امتدت لثلاثة عقود متوالية. سأترك هذا لوقته، أما الآن فلأقفل عائدا إلى رواية مشهد آخر وإن كنت أنقله لا عن عيان إنما عن سماع من مئات الأشخاص ممن التقيتهم أو عشت معهم، ولفرط ما يروى ويسمع من أغلب المعتقلين السياسيين صار كأنه أغنية شعبية يحفظها جميع الأطفال.
ما إن ولج رفاقنا في الزنزانة قادمين من رحلتهم إلى جلسة المحاكمة الملغاة، وإذا بأبصارنا تشخص مباشرة إلى أقدامهم العارية وسيقانهم المتورمة المنتفخة الغليظة جدا كأنها ساق شجرة معمرة بلا أغصان، لا ورق فيها ولا ثمر. هل رأيتم جذع سنديانة كم هو ضخم؟ كانت كذلك كما لو أنها مخصصة لتحمل عملاقا وليس أجسادا نحيفة شاحبة. كان منظرا يحمل تنافرا مقززا بين قاعدة عريضة متينة وبناء رفيع مثل خيط أوشك على الانقطاع؛ لهذا اختلطت المشاعر بعشوائية عندما صاروا في مرمى أبصارنا وتوزعت بين فرحة برؤيتهم أحياء من جديد، بين تعجب لعودتهم واستفهام عن سببها؛ لأن من يغادر للمحكمة كان لا يعود، وبين مظهر الأرجل العملاقة والخوف من السبب الكامن وراءها. لأن ما نراه الآن في الغالب هو أعراض عقوبة جديدة لم نألفها وستطالنا عن قريب كما وصلت إليهم. منظرهم الغريب أضاف هاجسا جديدا لسلة قلقنا التي تزداد ازدحاما بالهموم والمخاوف. اختلطت الأمور علينا كثيرا وصار الغموض والإبهام سمتها وباتت أرواحنا لا تعرف أين تقف وإلى من تلجأ وتسكن في تلك اللحظات.
منحنا أنفسنا جميعا فرصة لإيقاف ثورة الهلع هذه ولكبح الأسئلة التي أمطرنا بها النزلاء الجدد القدامى، وبعد أن انفرجت الأسارير بمجيء الضابط وهو يحمل بشرى إيقاف الإعدامات، بدأ أصحابنا يقصون علينا الرواية الغريبة بروية وهدوء عن رحلتهم إلى أرض العجائب: «كنا في مديرية الأمن العامة.» (هكذا استهلوا الحديث).
وبدأ الوصف المسهب وبيان التفسير لعلة هذه الأقدام الضخمة في حديث طويل استمر أياما، إلا أني سوف أوجز كل ذلك كما أفعل مع سائر ما حصل وإلا لو فصلت كل شيء فلن أنتهي أبدا.
رفاقنا الأربعة احتجزوا هناك بعد إلغاء المحاكمة، في زنزانة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران، وفيها دورة مياه بدون باب مساحتها متر مربع واحد؛ ولهذا المرحاض ثلاثة جدر يصل علوها لأكثر من متر واحد بقليل. للزنزانة باب حديدي محصن ضخم وموصد بأقفال كبيرة من الخارج، مغلق على الدوام وفيه فتحة صغيرة في الأعلى يمرر منها الطعام إلى القاطنين في الزنزانة. ولهذه الزنزانة فتحة واحدة للتهوية بحجم خمسة وعشرين سنتمترا طولا وعرضا تقريبا، توجد فيها مفرغة هواء صغيرة تناسب حجمها الصغير، وخلف تلك المفرغة وضعت صفيحة معدنية سميكة بها ثقوب صغيرة كثيرة كي تسمح للهواء بالمرور منها وتحجب أيضا الرؤية كاملة عن أي مشهد في الخارج وتمنع أي شعاع للشمس من الدخول إلى الزنزانة. يتدلى من السقف مصباح باهت فيما الأرضية إسمنتية خشنة كما هي كل أرضيات المعتقلات والسجون التي مررنا بها. إلا أن كل هذا لم يكن هو الأمر الاستثنائي ولا حتى المثير للاشمئزاز في القصة بالنسبة لنا كما يبدو لغيرنا حتى الآن. هذا الوصف المقرف لهذه الزنازين سوف يزعج وربما يسبب بعض الآلام النفسية كما لا بد له أن يفعل بالعادة لكل إنسان ألف العيش في الفضاءات المفتوحة ويمارس حرية التنقل فيها، عندما يسمع قصصا كئيبة كهذه. رأيت بنفسي بعضا من آثار هذه الحكايات عندما كنت أرويها شفاها لبعض من أراد أن يسمع بعض الذي كان يجري. وعندما أقول: إنها تسبب آلاما نفسية، فإني أعني ما أقول لأني تعرفت على طبيب نفسي فرنسي متطوع حاول مساعدتي بمعالجتي من آثار السجن النفسية، إلا أن المسكين أصيب بكآبة شديدة عندما سمع بهذه القصص وقرر أن يترك علاجي ويأخذ بعدها إجازة طويلة من العمل لمعالجة وضعه النفسي وحالة كآبة أصيب بها جراء هذه القصص. في الحقيقة لم أحدثه إلا عن نزر يسير جدا وتأسفت كثيرا لما حصل له، وهذا هو ما جعلني لاحقا أحترس بشدة عندما أحدث غرباء عما حصل لي.
الأمر الخارق للعادة كان العدد الذي يسكن في هذه الزنزانة، ففي أحسن الأحوال يصل إلى سبعة وعشرين معتقلا وفي مناسبات كثيرة يكون أكثر من هذا وقد يصل إلى ثمانية وثلاثين معتقلا. أمر لا يصدق فعلا، فكيف يمكن أن يعيش كل هؤلاء في هذه الستة أمتار المربعة؟ ويجوز لي أن أقول: إنها خمسة فقط. إذا اقتطعنا منها متر دورة المياه. لكن الحقيقة لا ينبغي أن تخفى، فإن أفضل الأماكن كانت دورة المياه. طبعا ليس القصد عندما يختلي السجين فيها؛ لأنه بالأصل لا توجد هكذا خلوة إلا في الأحلام، بل لأنها أرحب الأماكن للجلوس والوصول إلى هذه البقعة الأثيرة يسير بالتناوب وفق نظام يشمل الجميع، وكم كان يسعد المرء حينما يصير من نصيبه السكن في مربع دورة المياه.
تغطى فتحة المرحاض الشرقي بأي شيء متوفر يمكن أن يخفي الفتحة فقط، لتصبح أرضا مستوية، ليس استنكافا من محتوياتها؛ فإن هذه المحتويات تعاصر سكان الزنزانات ليل نهار في كل مكان زرناه لاحقا، ولم يعد أي سجين بحاجة إلى الاستعلاء عن روائح هذه الأماكن. كل المطلوب من هذا الغطاء أن يجعل الفتحة مترا مربعا حقيقيا بلا تجاويف ويغدو بعدها نزلا يتسع لأربعة أشخاص محظوظين. لعله الآن قد بانت علة تضخم أقدام رفاقنا الذين عادوا إلينا من تلك الزنازين في رحلة المحكمة الملغاة، وإذا لم ينكشف ذلك لحد الآن، فلنذهب إلى حكاية اللقلق وهي كفيلة بتفسير كل شيء.
طائر اللقلق الذي عشعش في رأسي منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما، ليست حكاية عذبة بريئة، كقصة اللقلق الذي يعرفه الأطفال الأوروبيون حين يسألون أهليهم كيف يأتي الأطفال إلى هذه الدنيا فيشبعوا فضول سؤالهم بأن لقلقا قد جاء بهم. قصة ظريفة رأيتها فيلما سينمائيا اسمه: «وداعا أيها اللقلق». على كل حال هذه قصة عندما كانت الحشمة لها محل في العوائل الأوروبية، أما وقد مات اللقلق الأوروبي مع مصرع الحشمة في أوروبا وربما في العالم كله. فإن لقلقي لم يرحل بعيدا، بل ما يزال يعشعش في رأسي مثلما يستوطن برج كنيسة بغدادية، يبيض ويفرخ فيه وكلما رحل عنه يعود.
أراد العتاة بهذه الزنزانات الرهيبة أن يحطموا نفوس المعارضين ويسحقوا عزيمتهم قبل أن ينزلوا العقاب الأخير بهم. كانت هذه الزنزانات ممرا إلى موت محتوم، في السنتين الأوليين من حرب الخليج الأولى، وكانت هذه الزنزانات - وعددها اثنتان وثلاثون زنزانة - تودع يوميا عشرات الشباب إلى محكمة الثورة حيث يتلقون أحكام الإعدام. وهو الحكم الوحيد الذي يناله المعتقلون السياسيون أيا كانت تهمتهم أو السن الذي بلغوه ولو كانوا دون الثامنة عشرة إلا قليلا جدا منهم ممن كان يأخذ الحكم بالسجن المؤبد إما بضربة حظ أو مشيئة قدر لا يعرف أحد مغزاها والحكمة منها.
بمعدل ثلاثين فردا في ستة أمتار مربعة لا يرتدون إلا ملابس داخلية كان يتشكل المشهد الثابت؛ ولأن الجو خانق يكتم الأنفاس والحر شديد إلى حد أن السقف كان يمطر على مدار الساعة ما كان لهم أن يرتدوا غير هذه الملابس. المطر ينزل بفعل أنفاس المعتقلين التي لا تجد سبيلا للخروج من هذه الزنزانة لا هي ولا العرق المتصبب من الأجساد المنهكة التعبى، وحتى أكثر الأيام قساوة في برد الشتاء القارس لم تكن تعني شيئا بالمرة لدى سكان الزنزانة؛ لأنهم لم يكونوا يشعرون به أبدا جراء اكتظاظهم المتواصل. أكثر السجناء كانوا يفقدون ما عليهم من ثياب في التعذيب وعندما ينتهي التحقيق معهم يعطون أي شيء يستر عورتهم وعلى كل حال لم يكونوا بحاجة لأكثر من هذا فالمكان لم يكن يلائمه ارتداء أردية كثيرة.
لن أقول كم هو خانق ذلك المكان، بل أروي حادثة واحدة فقط حصلت في هذه الزنزانات تفسر كل شيء. ففي أحد الأيام انقطعت الكهرباء أو قطعت وتوقفت مفرغة الهواء عن عملها، ولأن القصة مفرطة في القسوة تكاد نفسي تخرج من بدني حين أتذكرها؛ لأني أعرف بعض أبطالها فسوف أختصرها بكلمات موجزة جدا. نفد الهواء ومات بعض من سكان الزنزانة اختناقا؛ لأنه لم يعد هناك هواء كاف يستنشقونه. لقد نفد الهواء في الزنزانة، نعم نفد الهواء، وأعدموا شنقا بلا حاجة لحبل مشنقة يفعل ذلك بهم، ومن كان محظوظا منهم دخل في غيبوبة وبعضهم أصبح لسانه ثقيلا من جراء هذه الغيبوبة، وأصابت آخرين علل استدعى الشفاء منها وقتا طويلا. أحد الضحايا كان زميلا لي في المدرسة الثانوية وما يزال وجهه يطل علي بالخال الذي يزين خده كلما تذكرت هذه الزنزانات الفظيعة. هناك أفل نجمه وغاب للأبد وما زال أهله ومحبوه يتشوقون للمعة خاله ويترقبون ظهوره.
توزيع المكان كان من أشد المعضلات التي واجهت بواكير طلائع المعتقلين السياسيين، إلا أنهم اكتسبوا خبرة كبيرة بمرور الأيام أورثوها للأجيال اللاحقة منهم، وكان التقسيم المثالي كالتالي: بما أن عرض الزنزانة متران، إذن فهو يكفي ليمتد به أي شخص فيصار إلى أن ينام أربعة عشر شخصا بطريقة متعاكسة قدم أحدهم عند رأس الآخر، ينامون على جنوبهم بالطبع اقتصادا للمسافة؛ لأنه من المستحيل أن يستلقي أحدهم على ظهره، ويذهب أربعة إلى خمسة أشخاص على الأكثر إلى دورة المياه ليجلسوا فيها، فيما يقف متكئين على الحائط عشرة آخرون، ويبقى لدينا خمسة أشخاص أو عشرة حسب العدد الموجود؛ إذ قد يصل بعض المرات إلى ثمانية وثلاثين شخصا كما قلت آنفا، وهؤلاء البقية هم اللقالق؛ إذ يستحيل أن يجدوا مكانا يقفون فيه، فمن يقف على الحائط يجد فيه سندا وداعما له بينما يحاول أن يجد لإحدى قدميه موضعا يستبدلها مع الأخرى بين الحين والآخر. أما من يقف في الوسط فعليه أن يظل واقفا هناك لمدة أربع ساعات كاللقلق على ساق واحدة، يستبدلها بالساق الأخرى عند التعب، ويظل مواظبا على وقفته اللقلقية بلا أي عون يسنده أو يتكئ عليه.
هذا الوضع كان يستمر لأربع ساعات كاملة وتحدث مناوبة بين الواقفين مع النائمين، وهكذا دواليك. بعض المعتقلين كان يسقط مغشيا أحيانا لشدة إرهاقه أو لحمى عارضة تصيبه أو مرض يعتل بجسده المنهك من جراء التعذيب، وبعض منهم فارق الحياة لهول ما تعرض له من تعذيب أو لتردي حاله جراء سوء التغذية؛ لأن الطعام المقدم للسجناء لم يكن يكفي لمقاومة هذه الظروف؛ إذ كانت تقدم ثلاث وجبات في اليوم الواحد، في كل واحدة منها قطعة خبز واحدة من صمون هش مصنوع من طحين الذرة يذوب سريعا في الفم لا يسد جوع أحد، ودجاجتين في العشاء يتقاسمها الجميع، وبضعة أكواب من الرز في منتصف النهار، وقطعة من جبن على شكل مثلثات في أول النهار مع ثمانية أقداح شاي توزع على الكل لمن أراد أن يشرب منها.
هذا المقدار الضئيل لم يساعد الأبدان على المقاومة، في وقت كانت تتورم الأقدام من جراء الوقوف المستمر . المعاناة الأشد كانت دخول الخلاء؛ إذ ينبغي خروج الأشخاص الخمسة منه وعليهم أن يجدوا مكانا مؤقتا لأنفسهم وسط هذه الكتلة البشرية المتراصة، وكان هذا مصدر إزعاج كبير جدا ومحنة حقيقية؛ إذ كيف تجد مكانا لخمسة أشخاص مقابل واحد فقط دخل دورة المياه، وبسبب هذه المعاناة كان البعض لا يحبذ الجلوس في دورة المياه؛ لأنه عرضة لتهديد مستمر بإخلاء المكان، بينما يفضله آخرون رغم ذلك لأنه المكان الوحيد الذي يمكن الجلوس فيه والاستراحة من عناء الوقوف اللقلقي المستمر. وكم هو مقرف أن يكون خيار المرء بين الوقوف لقلقا أو الجلوس في مرحاض لا أمر ثالث بينهما. الحسنة الوحيدة في الزنزانة هو توفر ماء جار كثير؛ لأن هذه الوفرة لن يطول بقاؤها خصوصا في السجن.
وبرغم هذا الضيق والأغلال التي تقيد حركة المعتقلين؛ فإنهم كانوا يحملون في قلوبهم عزيمة هائلة وإرادة جبارة. لم يمنعهم هذا العذاب كله من الجلوس في هذه الزنزانات نفسها، ويعقدون فيها ندوات يتحدثون فيها عن أمور ثقافية، ويتبادلون المعلومات، ويجرون النقاشات والحوارات في أمور شتى حتى السياسية منها، وجعلوا من هذه الزنزانات مدارس ثقافية. لم يتوقف حس المعارضة للظلم، بل كان يزداد ويترسخ في صدورهم كلما ازداد عذابهم وعرى التضامن تتوثق فيما بينهم ولا يحسبن أحد أن خفة الدم قد غادرتهم أو أنهم فقدوا حس الفكاهة والتندر، أبدا بل كانت المزحة حاضرة دائمة حتى إن أحدهم أطلق كلمة تندر خالدة، حين قال لو قيض لي يوما الخروج من هذا المعتقل فسوف أصنف كتابا يحكي يومياتي أسميه: «الوقفة اللقلقية في السجون العفلقية». وأنا أنقل مقولته هذه عسى أن يفي بوعده ويكتب كتابه المنتظر.
قبل أن يحين موعد محاكمتنا، انتثرت كثير من القصص القصيرة لم أعد أتذكر الكثير منها؛ لأنه لم يكن هناك من قرطاس أدونها فيه سوى ذاكرة مشحونة بكثير من وقائع ثقيلة تحتل مساحة كبيرة منها، ولم يبق مع لطمات الدهر ما يسعني الاحتفاظ بكل هذه القصص القصيرة. إلا أن بعضها تمكن من النجاة ومنها ما سوف أسرده .
مثل سائر المعتقلات هناك أصناف متنوعة من المعتقلين لأسباب أمنية، ولا يمكن أن يصنفوا جميعا بالمعتقلين لأسباب سياسية، أو لأنهم ذوو نشاط معارض، بل حتى إن بعضهم كان من أتباع السلطة وأجهزتها القمعية. جاء إلى الزنزانة يوما أحد المعتقلين ممن يسكن المنطقة القريبة من الحدود السورية وقص علينا نشاطه التخريبي لصالح المخابرات العراقية في سوريا من تفجير بعض الأهداف المدنية هناك وبعض الأعمال الإجرامية الأخرى. اعتقل بعد عودته من السجن في سوريا تحسبا من كونه عميلا مزدوجا للمخابرات على طرفي الحدود.
حدثنا عن السجون السورية وطرق التعذيب فيها، مثل وضع المعتقل في عجلة ودحرجتها من علو بالسجين وهي طريقة لم نتعرف عليها في المعتقلات الأمنية العراقية، ربما لم تكن تعجبهم؛ لأنها قد تكون متخلفة قياسا لما عندهم من وسائل أكثر تطورا أو لأنها أقل فعالية قياسا بما يملكونه. وعلى ذكر وسائل التعذيب فإنها على - ما يبدو - كانت وفق مواصفات عالمية، فكما قيودنا كانت تحمل عبارة «صنع في رومانيا»؛ فطرق التعذيب يبدو أنها حصيلة نصيحة من خبراء أجانب، فقد رأينا في أحد الأيام وفدا يتجول في مديرية الأمن ويبدو من سحنهم أنهم من شرق آسيا، توقعنا أنهم قد يكونون من الصين لعلاقة النظام الجيدة مع الحكم الصيني آنذاك.
وبالعودة لهذا العميل المخابراتي الذي كان يبدو مرتاحا مطمئنا غير قلق من وجوده معنا في الزنزانة، وفعلا لم يتعرض لأي أذى جسدي، وعلى الأرجح أطلق سراحه عندما أخذوه بعد أيام من الزنزانة بطريقة فيها احترام؛ لأن اعتقاله كان يبدو إجراء احترازيا ليس إلا. تبادلنا الحديث معه كان من باب الفضول وحسب، ولم نشركه في أي نشاط خلال وجوده، وتحوطنا كثيرا منه لسبب لا يخفى. وكما جاء غادر بلا أثر ولا مشاعر خلفها عقبه. مر علينا فلاحون ورعاة وطلبة لأسباب كثيرة لكنها لم ترق لمستوى يعرض أصحابها لخطر حقيقي مثل الذي كنا فيه.
زنزانة كبيرة بعيدة عن زنزانات المعتقلين السياسيين ضمت عددا كبيرا من المعتقلين لأسباب أغلبها غير سياسية بالصميم، وإن تعلقت بها بنحو أو آخر في زمن كان كل شيء ممكن أن يصير تهمة سياسية. كثير من هؤلاء المعتقلين كانوا قرويين بسطاء اعتقلوا في حملة تأديبية جماعية في مسعى من السلطة لإنزال العقاب والقصاص بسكان القرى حتى وإن خرج منها رجل معارض واحد. هذه الحملة التأديبية القاسية كانت بسبب نشاط معارض مسلح كانت تقوم به جهات أيزيدية في مناطق شمال العراق متاخمة لسوريا. كان الحرس يعاملونهم بازدراء واحتقار وتكبر بغيض، ويسخرونهم بالقوة للقيام بأعمال التنظيف في مديرية الأمن رغم أن أغلبهم كانوا من كبار السن. كان مشهدا مفجعا أن ترى حارسا طائشا قد بلغ العشرين من عمره للتو وهو يذيق العذاب المر لرجل أربعيني ويسخر منه ويحثه للعمل بالركل على مؤخرته والصراخ عليه. ولأن القرويين يكونون أشد الناس تعلقا بالدين ويحظى بقدسية كبيرة في نفوسهم أكثر من أي أحد غيرهم من طبقات الشعب، خصوصا مع الجهل السائد بينهم والسذاجة التي هم عليها، فقد وجد رجال الأمن ذلك فرصة سانحة لأن يستغلوا هذه السمة الخاصة المتجذرة فيهم لإيذائهم بسب معتقداتهم ولعن مقدساتهم.
كنا نتطلع إليهم وهم في وجوم صادم يسمعون تلك الألفاظ البذيئة عاجزين عن إظهار أي من مشاعر الاعتراض حتى على قسمات وجوههم خشية العقاب الجسدي الذي لا يوفره رجال الأمن لهم في أي مناسبة. كان منظرا يفطر القلب حقا ويجلي بوضوح مستنقع الحقارة والنذالة الذي خرج منه رجال الأمن، وحجم الغل الكامن في صدورهم لكل ما يمت بصلة للمشاعر الإنسانية.
لم تتوفر أمامنا حلول كثيرة لتغيير هذا الواقع الصعب الذي يعيشونه، وبالمقابل لم نقو على البقاء ساكتين عليه. قدمنا اقتراحا للحرس بأن الجزء الخاص بنا من ممشى صغير يؤدي إلى دورة المياه، نتطوع نحن لتنظيفه يوميا وإعفاء هؤلاء القرويين منه. لم يكن هذا الاقتراح يغير من الواقع كثيرا؛ فإنهم سوف يبقون هم ونساؤهم مسخرين لأداء هذه الأعمال الحقيرة في قلعة الخوف، ولن يوقف فعلنا عوضا عنهم في تنظيف هذا الموضع الصغير سبل الازدراء والاستكبار ولا فحش الألفاظ والإهانات وربما أفعال أخرى أكثر قبحا لم نرها ولا نستبعد حصولها من هذه الضواري البشرية. كل ما سعينا إليه هو إبعاد المشهد المؤلم عن نواظرنا رحمة بأنفسنا وليس شفقة عليهم؛ لأننا لم نكن في حاجة لمزيد من الألم والضيم أكثر مما هو متوزع في أرجاء نفوسنا ويسكن جوانحنا.
كان من المتوقع أن نكبح مشاهد السخرية والإهانة وتسير الأمور سلسة، وهذا ما جرى فعلا في الأيام الأولى؛ لأننا نقوم بعمل تطوعي ولا نتوقع مضايقة من الحرس. غير أنه في أحد الأيام جاء شاب نزق، وبينما كنت أحمل قطعة مبللة من قماش خرق أمسح بها البلاط دفعني هذا الحارس النزق بعنف مصحوب بلفظ سخيف يريد أن يكرر معي ما كان يفعله مع القرويين البسطاء، إلا أنه فوجئ بردة الفعل الغاضبة مني. إذ استدرت إليه مباشرة ملقيا قطعة القماش المبلل على الأرض في غضب واضح تظهر علامات الحدة علي ومزمجرا ببضع كلمات حادة متوعدا ومتقدما نحوه بانفعال شديد. ولحسن الحظ كان باب الزنزانة مفتوحا ويمكن لرفاقي التحرك بسهولة لنجدتي وهذا ما حصل، علا صراخ بيننا وحاول يائسا أن يردعهم بالقوة فجرب رفع ساقه كي يركل أحدهم لكن رفيقي كان أسرع منه فأمسك بطرف قدمه وأطاح به على الأرض وسحق كل تجبره بمنظره المضحك وهو يتزحلق على الأرض المبللة.
عمت الفوضى المكان وملأ الرعب قلب الحارس من حجم الغضب والإصرار الذي انفجر عليه من زملائي مما اضطره للهروب بعجل مستعينا بغيره من الحرس الذين هرعوا إليه والصدمة تعلو محياهم وجلين محاولين احتواء الموقف خشية تطوره إلى ما قد يعرضهم لمساءلة كبيرة من رؤسائهم. وبين لين من الكلام وزعيق أعادوننا إلى الزنزانة التي لم نكن أصلا في وارد الخروج منها؛ لأننا لم نفكر بذلك بالمرة، بل كان حادثا عرضيا ورد فعل صنعته اللحظة وليس خطة معدة للتمرد أو العصيان. سارعوا لإبلاغ دائرة التحقيق كما هي عادتهم في الوشاية والسعي في كل صغيرة وكبيرة، وجاء موفد منها مستفهما، فقلنا له نحن معتقلون سياسيون نقبل بالتحقيق الأمني على ما فيه، لكن لن نقبل أن يعاملنا أحد كعبيد لأننا لسنا كذلك. مر الأمر بسلام ويبدو أن تخفيف حكم الإعدام كان له أثر أيضا في ردة الفعل المتعقلة والهادئة من دائرة التحقيق، وتفهم مفوض التحقيق (م. ع.) الأمر، بل إنه قال لنا كلمة كانت تحكي إقرارا منه بخطأ الحارس الذي لم نره ثانية وكانت تحمل رجاء منه لنا بالهدوء والتعاون على تمرير القضية بهدوء: «مهلا، مهلا بالحرس إنهم إخوانكم.»
كلمته زادتنا قوة إلى صلابة عزيمتنا وإصرارا على ألا تثنينا أقسى المصاعب عن الفخر والاعتزاز بحريتنا وكبريائنا في كل آن وفي أي مكان نكون فيه.
18
مثقلا بملل، أضحيت به كأني لفافة محشوة بسأم سمج قبيح، قضيت أشهرا تسعة منتظرا الخروج من هذه الحفرة التي صار الوقت فيها جامدا بلا حراك. سأم رسم بريشة بشاعته تجاعيد على جسدي، وغرز في أحشائي كائنا يتلوى في عروقي مقرضا جفني في اليقظة والمنام ويتقلب معي في كل سكون وحركة. حركة! عذرا، أي حركة هذه التي أتحدث عنها؟ حتى مشاعر الألم أصابها الجمود وبدأت ذكريات العالم الآخر تغادرني مع أوجه الذين التقيتهم من الغرباء، بل حتى الذين أعرفهم. نسيان مثل طمي سيل جارف بدأ يطمر الأشياء كلها، وكان علي أن أكف عن التفكير بما وراء الجدران؛ لأنه كان كابوسا يقض مضجعي ويجرفني إلى سعير.
فقط من عاش في هذه الصناديق المغلقة - لا أحد سواه - يعلم ماذا يعني هبوب رياح الماضي العاتية. لن يرى أحد غيره في هبوبها كيف تتطاير الأشياء في كل الأرجاء لا تجد مأوى لها تلوذ به إلا أبوابا مؤصدة وطرقا مسدودة، فترجع تدور وتدور حتى تفنى رهقا ولا تسكن بسكون الريح، بل تخر إلى القاع تتلوى ألما وتشكو داء لا دواء له.
عند غبش طرقنا زوار الفجر مندفعين بصخب لا يوائم إشراقة الفجر، وأجبرونا أن نرتقي سلالم كثيرة صعودا ونزولا، ثم حشرنا في عربة مغلقة ضمتنا إلى عتمتها، بعيون سملت بخرق قاتمة وأكف شبكت بالحديد واحدة إلى الأخرى، ومن ثم إلى عمود أفقي يمتد على طول العربة الصندوق. أجلسنا على صفيح معدني يشع ببرودة الموت في لهيب أواخر حزيران، وزحفت بنا - الزنزانة - السيارة في رحلة طويلة نحو مدينة متخمة بأسماء سلام لم تنعم بها أبدا، ولم تخذل عادة العرب في تسمية الأشياء بضد حقيقتها. وصلنا إليها والشمس معلقة في كبد السماء تطرق الحديد بعنف كأنها تبحث عن الخبيئة التي يواريها، وهو يصرخ من لفعها سخونة. بينما كانت الشمس تواصل طرقها المجنون كنا نأمل أن يفتح الباب لكنه ظل موصدا. يزداد الطرق منا هذه المرة بأقدامنا على أرضية العربة المصفحة مع تزايد ارتفاع حماوة الحديد ونحن نرنو بعيون مغمضة إلى أي فرد منهم يولج مفتاحا في الأقفال لنغادر صخب الشمس وصرخات الحديد.
كان هناك بابان في هذه الزنزانة الجديدة المتحركة؛ باب مغلق علينا وباب آخر يجلس عنده الحرس. فتحوا كوة صغيرة من أعلى الباب تسرب منها ضوء سطع بشدة من وراء العصابة التي غلفت عيوننا، وصاحوا بنا: «ضاع المفتاح، انتظروا إلى أن نجده.»
عادوا وصفقوا الباب الخارجي بقوة وهم يرعدون ويزمجرون غضبا علينا. ضاع الضوء وتلاشى الهواء مع اختفاء المفتاح، وبدأت أنوفنا تفتش عن بقاياه المندثرة بلا جدوى. فار العرق من أجسادنا بينما كان الحديد يستعر غضبا من لسعات الشمس. ارتعشت أصواتنا موقنة أننا قطعنا نصف تذكرة إلى الغربة الأخيرة. رحيل لم يكن يخطر على بالنا أنه سيكون بهذه الطريقة الفظيعة.
لن أبالغ أبدا لو قلت: إن أجسادنا تصببت كل السوائل التي فيها عرق، وما زلت أذكر كيف أن العرق كان ينهمر من أرنبة أنفي، كأنها صنبور ماء مفتوح على آخره. حينها تمنينا كلنا أمنية واحدة وبصوت عال، الموت إعداما لا ضير فيه، لكن لنشم جرعة هواء واحدة ولتقطع بعدها الرقاب. اقتربنا من الإغماء وتلاشى كل شيء ولم نعد نقوى على الحركة، تمايلت أجسادنا إلى الأمام تترنح من الضعف، بل أوشكت على كامل الانهيار.
فجأة هب علينا نسيم ثلجي، أو هكذا حسبنا الهواء اللافح وهو يلامس العرق الذي غطسنا به. نفخت هذه النسمة الروح فينا من جديد، وأنهت لذة قطيع وحوش ثملة برغبة سادية، لم ينته تعارفنا بها بعد؛ فقد كان علينا أن نلتقيها في قادم الأيام والسنوات لمرات ومرات في سلسلة طويلة، حلقاتها وجع وألم شبعى بالنكد والأسى والأنين.
أوقفنا بمواجهة حائط آخر من حيطان كثيرة تأملتنا بصمت وانكسار ونحن ندير قفانا لهراوات في هذه المرة وفي غيرها وهي تنزل على أجسادنا بقسوة تتكسر ولا يرحمها حاملها، يدفعها مهشمة ويسحب أخرى، ومع ذلك كنا لم نزل نملك الجرأة لنسأل أنفسنا والعجب يتملكنا لماذا يحملون كل هذا الكم من الحقد والضغينة لأناس لا يعرفون حتى أسماءهم. أكثر ما في الحروب مدعاة للقرف أن ترى عدوا يحاربك ويفتك بك بأقصى ما عنده من همة ونشاط فقط لكي يستمر هو في الرزح تحت العبودية ليس غير.
زججنا في زنزانة لا تكفي لأن يمتد فيها أحد، وفي آخرها كان يوجد مرحاض ومثل طفل يحظى بلعبة جديدة انتشينا فرحا به. فهذه أول مرة يصبح في قبضتنا مرحاض بعد أن حجزتنا عنه طويلا سلاسل وأقفال وأبواب مصفحة. وسط هذه الدهشة والفرح اغتسلنا بماء وفير نراه لأول مرة أزاح عنا رهق الرحلة المرة. فتحت الأرض ذراعيها، صارت هي الوسادة والغطاء والفراش واستقبلت غفوتنا عليها، تنتظر مخاضا جديدا بالشجى ولن يكون الأخير.
طرقتنا شمس أربعاء حزيراني ولأول مرة على خلاف عادتها معنا بالاحتجاب وراء أسوار المعتقلات، أطلت علينا هذه المرة من نافذة سيارة الدورية التي راحت تشق الزحام وتاهت نظراتنا في الشوارع لتنشر الملح على الجروح وتسقينا مذاق ألم الفراق ممزوجا بدموع تسربت من المآقي بلا استئذان لتروي ظمأ النفوس.
أيتها المدينة التي طالما نثرنا عشقنا لك على أوراق سرية نرسم لوحة جميلة فوق أسوارك التي كانت تخنق أنفاس ساكنيها. في طرقاتك سحنا ولهين نبوح بهوى تيم قلوبنا، همسنا به في آذان من أوشك أن يبلغ سن الرشد ويقع في غرام أحلام الحرية والعيش الرغيد لكل الناس. كنا نخلط كل هذا بخلاصات الكتب وعصارة الأفكار نتبادلها في غرف مزوية صغيرة نرسم مستقبلا جميلا لا نعرف متى يحل أوانه.
إيه أيتها المدينة، ما لك نسيت كل هؤلاء العشاق وأشحت بوجهك عنهم بعيدا، لم لا تقولين للمتسكعين على أرصفتك، إن قيسا المفتون عشقا بك ما عاد يراك إلا من خلف قضبان؟ وأنت أيتها العربة ما لك تندفعين بهذه الخطوات مستعجلة، لا تلتفتين يمينا ولا شمالا، تخوضين في بركة حزن يتطاير منها وحل الأسى فيغطي الوجوه الشاحبة؟ تأني تمهلي تريثي فما بعد هذا الخلاء الواسع هوة من نسيان مجنون. شبحت نظراتنا بعيدا تلتهم كل ما تراه ولم نكن بحاجة إلى نصيحة من ناصح لفعل هذا ومع ذلك لم أقدر على منع نفسي من القول لصحبي: «تمعنوا جيدا وأطيلوا النظر فإنها آخر النظرات، نبوءة عن دهر عصيب قادم أتى بها وحي العذابات المتواصلة.»
بلغنا مبنى قذرا في ثكنة عسكرية لننزل إلى صالة مملوءة بكراس خشبية على شكل أريكة طويلة لا مساند لها، لونها أخضر كأنه مقتبس من لون مخافر الشرطة. المصطبات موزعة في اتجاهات شتى كأعمار الجالسين عليها بلا جامع واحد ولا قاسم مشترك. شيبا وشبانا بملابس مدنية متهرئة وبعضها عسكرية، يجلسون طويلا ينتظرون محكمة لن تدوم سوى دقائق يسيرة. اضمحل الخوف وانمحى الارتياب تماما من قلوبنا وأفعمنا بهمة زائدة تتنفس ثمن الحرية وتهزأ بالظلام. نعم طمأنينة كاملة وسكون شامل حل علينا ولم نعد نبالي بما ينتظرنا.
نزعنا ألبسة التوجس ونحن نتبادل الكلام مع حرس انتشر في كل مكان من القاعة أو مع صحبة من معتقلين آخرين لم نقابلهم من قبل ولا أذكر أني رأيت أحدا منهم بعدها أبدا. ساعات من ترقب ونحن نرى أفواجا تصعد وعندما تنزل تغيب منها وجوه سيقت من باب جانبي إلى قسم الإعدام.
لأول مرة نسمع بمواد في قانون العقوبات ونسأل بعض الحاضرين عنها وعن الأحكام المتوقعة وفقها. فكان واحدا من أغرب الأجوبة التي سمعتها طوال حياتي، إنها مادة قانونية تشمل أحكاما من الإفراج إلى الإعدام!
جواب كان يلخص حقيقة الإجراءات القضائية التي تتم في هذه المحكمة، لا منطق فيها تماما ولا تدري ماذا سيفعل بك لأنك باختصار لا تعرف عن تهمتك شيئا سوى أنك عدو للحزب، للثورة، ولا يوجد أي دليل ضدك على هذا الاتهام سوى الاتهام نفسه.
لحسن حظنا أننا قدمنا للمحاكمة في حقبة جديدة قللت فيها أحكام الإعدام بشكل كبير. في الحقبة الأولى التي امتدت إلى نهاية السنة الثانية من الحرب. كان الإعدام يشمل كل متهم بغض النظر عن السن أو الفعل الذي ارتكبه، أو في الحقيقة بغض النظر عن التهمة التي وجهت له سواء كانت عن وشاية أو نميمة أو اعتراف منتزع تحت التعذيب أراد صاحبه الخلاص منه فأوقعه على غيره ولم ينج منه لا هو ولا صاحبه الذي وشى به. في تلك الفترة الدموية كان من ينجو من الإعدام ثلة قليلة أغلبهم بأعمار دون الثامنة عشرة، بل إن بعض اليافعين كانوا ينقلون إلى قسم طبي في أحد المستشفيات ليعاد تقدير أعمارهم ويرفع سنهم إلى الثامنة عشرة بتوصية من لجنة خاصة ليقدموا بعدها إلى المحاكمة وينفذ بهم حكم الإعدام. لن أقدر أن أقدم عددا دقيقا للذين حكموا بالإعدام في تلك الفترة إنما أقدر أن أقدم صورة يمكن أن تقرب المشهد لمن لا يعرف خبايا محكمة الثورة.
المحكمة تنعقد ستة أيام في الأسبوع من الصباح وحتى منتصف الليل، وأطول مرافعة لم تكن تتجاوز الربع إلى نصف ساعة، هذا إذا كان عدد المتهمين كبيرا، ومن ثم تتم تلاوة الأحكام في غضون دقائق، مثال واحد على نوع الأحكام التي كانت تصدر، أذكر واحدة من القضايا تشبه العشرات أو المئات من الدعاوى. صعد في هذه القضية لمواجهة الحاكم العسكري أربعة وسبعون متهما عاد منهم خمسة فقط بحكم السجن المؤبد والآخرون جميعا خرجوا من الباب الجانبي إلى قاطع الإعدام.
صعدنا سلما قصيرا لنقف حفاة بمواجهة ثلاثة قضاة عسكريين، إلى اليسار جلس ضابط أشقر بوجه متجهم طويل، كان انطباعنا عنه واحدا، إنه يشبه عنصر غيستابو نازي كما كنا نراهم في السينما. بدأ يلقي خطاب الادعاء يصفنا بالخونة العملاء المتعاونين مع الأعداء ضد القائد العظيم ومسيرة الثورة وقيادتها الحكيمة، والحق أننا لم نصغ إليه لأنه منذ أول الكلام أفصح عن مراده وطالب بإنزال أقصى العقوبات وأشد القصاص بنا، وباختصار طلب من الحاكم إصدار حكم الموت علينا.
سألنا الحاكم العسكري عن أسمائنا؛ ومن ثم سؤال آخر: «هل أنت متهم أم بريء؟»
وعندما كنا نحاول توضيح شيء ما، كان يرد علينا مقاطعا حازما بكلمة واحدة: «اخرس!»
هذا الحاكم تعرفت إليه للمرة الأولى هنا بزي عسكري ونحن نقف أمامه بملابس رثة حفاة الأقدام ممنوعين من توكيل محام وممنوعين من الدفاع عن أنفسنا، وأنزل علينا هو ومعاونوه حفنة من سباب، فقط لأننا قلنا له: إن هذه اعترافات تحت التعذيب. رأيته مرة ثانية عندما وقف ذليلا يدعي أن العقال العربي هويته ويطالب بحقوقه المدنية. لا أدري ما الذي كان يخطر بباله وهو يقف في هذا القفص، هل تذكر نهر الدماء الذي فجره من أعناق الشباب نساء ورجالا بأحكامه الجائرة الظالمة؟ وهل تذكر الجبروت والاستعلاء الذي كان عليه هو وزمرته؟ وهل مر عليه طيف الأمهات الثكلى؟ وهل عبرت من أمام ناظريه جموع أطفال قصر ذاقوا عذاب السجن بأحكام هزلية أصدرتها محكمته السخيفة؟ كم تمنيت لو كنت أقدر أن أرى عقله في تلك اللحظات وكيف كان يدور وهو يجلس في القفص ويواجه القاضي. أريد أن أعرف كيف يفكر هؤلاء عند مواجهة الموت في نهاية مسيرتهم الدامية، هل يرددون مقولة فرعون الخائبة وهو يغرق في يم موسى، وهل يداخلهم ندم وهم يرون الهاربين الخائفين منهم الذين كان يستعبدونهم ويقتلونهم لأنهم مستضعفون فقط وليس لهم ذنب آخر. اليوم ضحاياهم يمشون على البر بأمان، أما هو وأسياده القتلة فإنهم يدورون مثل جيفة نتنة لا تجد لها موئلا تستريح فيه لا في بر ولا في بحر.
ومن باب على اليسار خرج علينا رجل أعرج يلبس جبة محامي دفاع سمعت فيما بعد عبارة كان يكررها في المرافعات وهي كالآتي كما جاءت على لسانه: «إني فتشت طويلا في قوانين الأرض والسماء فلم أجد مادة قانونية ترحم هذه الحفنة من العملاء ، وأطالب بإنزال أقصى العقوبات بهم.»
للتاريخ والحقيقة، فإنه في قضيتنا طالب بملاحظة أعمار بعضنا ممن كان دون العشرين عاما، والرأفة بهم، أما الآخرون - وطبعا أنا منهم - فقد تبرع بنا مجانا لأقسى قصاص.
لم تدم كل المرافعة أكثر من عشر دقائق على الأكثر، ونزلنا ثانية إلى القاعة بحسب ادعاء الحاكم للمداولة، ثم نودي علينا ثانية لننتقل إلى رحلة عذاب جديدة، ونذهب هناك بعيدين عن الحياة منسيين تحت الأرض تحت عنوان السجن المؤبد وراء أسوار عالية تحجب عنا كل شيء.
في ذلك المبنى القذر بكل ما فيه، جرت أحداث كثيرة في دقائق قليلة لا يمكن لي مغادرتها سريعا، فكل واحد منها يصلح أن يكون نافذة كبيرة تشرف على تلك الحقبة المظلمة، ولا يحتاج أحد إلى تأمل أو فلسفة ليستبين الذي جرى. فقط عليه أن ينظر من هذه النوافذ المشرعة وسيفهم بسهولة ما جرى، بل وحتى ما يجري الآن فالأمر لم يتغير كثيرا بعد.
وجوه شاحبة يكتظ بها المكان، متوزعة على مقاعد خشبية، تحمل تنوعا بشكل غريب في كل الملامح والأعمار، وقطعا في الأفكار والانتماءات، لم يكن يوحدها شيء سوى الظلم الواقع عليها. عيونها شاخصة إلى اللاشيء، حائرة تنتظر مستقبلا مجهولا، بل ولا تدري لماذا هي هنا بالأصل؟! وهذا ما لفت انتباهي بشدة في ذاك اليوم الرمضاني القائظ، فلم أكن أتوقع أن جمعا بهذا الحجم - ممن لا دخل له بأي شأن سياسي - سوف يكون حاضرا بهذا الكم في هذه المحكمة المختصة بمحاربة أصحاب الرأي.
نعم، كنت أعرف أن الظلم فاحش لكن المشهد كان أكثر مما يستوعبه خيالي، وسوف يكون واحدا من معاناة الأيام القادمة، بل السنين القادمة بكلمة أدق. ورغم الأحاديث القصيرة التي أجريتها أو سمعتها في فناء تلك القاعة المنخفضة عن مستوى أرض المعسكر الذي كانت فيه، إلا أني أدركت أننا سوف نقف أمام قاض لا يفرق بين أعمى وبصير، وليس له من الأمر شيء سوى النطق بجمل كتبها غيره وتبرع هو للتلفظ بها سعيا للوقوع يوما تحت واحدة منها من حيث لا يشعر وقد حصل له ذلك بالفعل.
ومع أن رائحة الظلم كانت في كل زاوية تخنق فضاء القاعة الجرداء من الأثاث إلا من مروحتين معلقتين على علو شاهق، إلا أن الأنانية وعدم الإحساس كان يمكن أن يرى ماثلا في كثير من حركات وإيقاعات بعض الحمقى والضعفاء ممن كان يحسب على المعارضة السياسية، وهو لا يفقه حرفا واحدا من أبجديتها. فبينما كانت الأحكام تصدر تباعا وترسل إلى الموت المعتقلين زرافات ووحدانا، وفرقا أخرى إلى السجن بلا ذنب مقترف. كانت هناك مجموعة من المعتقلين تقفز مهللة بمجد القائد، وهي تهبط طائرة من باب المحكمة الداخلي المطل على الفناء الداخلي وهي تصرخ يحيا العدل. أي عدل هذا الذي رأيتموه وأنتم ترون إخوة معكم يساقون للموت أو السجن؟!
هل ينتصب ميزان العدل مستويا فقط لأنكم ظللتم أحياء، ولو غرق الكون كله في بحر الظلام. لم يخف أحد رفاقي استنكاره الشديد وانزعاجه المفرط من تلك الصرخة الحمقاء وعلق بصوت عال مستهجنا هذا الذل المقرف. كان أمرا مريعا فعلا أن تسمع هذه الصيحة من شخص صعد للتو حافي القدمين مجردا من كل حق مدني وإنساني، بل ومن كل شيء يملكه، حتى ملابسه الداخلية سلبوها منه ويرجع إليك من عين المكان الذي اغتصب فيه يترنم ويتغنى بعدله. إن هذا المنادي بهذا التملق الغبي ليس بأحمق وحسب، بل إنه وأمثاله هم من مكن العتاة المجرمين؛ لأنهم كانوا جيوش الذل التي يحارب الطغاة بها الأحرار.
أذكر أن الحاكم العسكري كان يحاول أن يضفي على جلسته الصورية شكليات قانونية ليظهرها وفق المقاييس؛ فسألنا، وبالتأكيد سأل كل المتهمين الذين مروا عليه قبلنا وبعدنا هذا السؤال نفسه: «هل عندك محام؟»
والإجابة المعتادة تكون بالنفي! فمن أين يتأتى لمتهم محروم حتى من رؤية الشمس أن يوكل محاميا. لكن عندما سأل الحاكم أحدنا رد عليه بغير المعتاد، بل بجواب ساخر: «سيدي، هو آني نعال ما عندي، من أين آتي بمحام؟»
وطبعا امتلأت بعدها أذنا صاحبنا - كما آذاننا - بحفنة ألفاظ كلها زجر وسباب.
الثياب الرثة والإعياء والشحوب وآثار التعذيب البادية على كل أحد لم تكن تحتاج إلى نباهة كثيرة للتعرف عليها، بل حتى أغفل مغفلي الدنيا كان له أن يعرفها من أول لمحة. ولا يحتاج لإدراك ذلك ولا حتى إلى نظرة واحدة، ليعرف أي قسوة بالغة تعرض لها السجناء، ومع ذلك كان الحاكم العسكري يبدي استغرابه عندما يرفض السجناء التهم الموجهة لهم، ويزدري إنكارهم الاعترافات المدونة بقولهم إنها انتزعت تحت التعذيب. وقد بالغ في إبداء سخريته عندما أنكر أحدهم الإفادة الموجودة أمام الحاكم، فقال له صاحبي: «هل تعرف يا سيدي (هكذا كنا نجبر على مخاطبة الضباط والمسئولين الكبار) لو أنك أنت بنفسك تعرضت للتعذيب الذي تعرضت إليه، لاعترفت بأي تهمة توجه إليك حتى لو كانت الانتماء إلى البوليساريو.»
لم أجد وصفا لتلك المحكمة يليق بها ويحاكيها سوى أنها تشبه لعبة الروليت الروسي ولكن بالمقلوب. أسطوانة كلها محشوة بالرصاص وواحدة فارغة فقط، ويقال جرب حظك فقد تنجو من الموت.
بدأ الحاكم يلقي الأحكام علينا وتبدأ كالعادة - أو هكذا حصل أمامي - من أقل الأحكام، يذكر هذه العقوبات مشفوعة بمواد قانونية وبدلالة مواد أخرى لا أعرفها ولم أسمع بها ولم يصغ إليه أحد وهو يتلوها؛ لأننا كنا ندرك أنها مهزلة وكوميديا قاتمة السواد لا علاقة لها بأي قانون سوى شريعة الوحوش، وصدقا أني لم أتعرف على هذه المواد إلا بعد سنوات طويلة حين بدأ الفرز الأمني بحسبها في ظرف خاص. وهذا لم يكن حالي منفردا به، بل كان أغلب السجناء هكذا، المضحك في هذه القوانين أن المادة التي كانت تعتبر مخففة في الزمن الذي حوكمنا فيها هي عينها التي حكم بها آخرون بعقوبة الإعدام قبل سنتين فقط. القانون لم يكن سوى جرة قلم ومطاط جدا، والأمر على الأرجح سوف يظل هكذا في هذا البلد، إن لم يصبح للقانون سطوة على القائمين به.
عندما بدأ بتلاوة الحكم الأخف لثلاثة رفاق كانوا معنا، انتقل بعدها إلى الحكم بالمؤبد على شخص آخر، ولم يتبق إذن بعد المؤبد سوى الإعدام؛ فتسمرنا بذهول ننتظر حكم الموت، لكن المفاجأة كانت أن حصتي مع اثنين آخرين هي السجن المؤبد أيضا، تنفسنا الصعداء وتبادلنا التهاني جميعا؛ لأن المقصلة أخطأت أعناقنا.
أحدهم كنا نشعر منه بغضاضة لضعفه المشين أمام المحققين الأمنيين، وعندما سمعنا نتبادل التهاني حاول أن يفعل ذلك معنا أيضا ويجارينا، لكني نهرته بقسوة وبانفعال مصطنع؛ لأني لم أكن في الواقع منزعجا من الحكم بالسجن المؤبد أبدا، بل كنت أتوقعه، وربما أتمناه كأحسن الحلول المتاحة، ولم يحدث ردة سلبية عندي عندما سمعته. إنما فعلت ذلك لأني كنت أريد أن أوبخه على ضعفه، ومع ذلك اعتذرت له لاحقا لهذه القسوة بعد سنوات، مع أني حتى اليوم ما زلت أرى أفعاله مزيجا من جبن وتهور، ومع ذلك غفرت له وسامحته تماما لأني أدركت بمرور الأيام أنه ضعيف التكوين نفسيا وحشر نفسه في موضع حرج جدا لا يناسبه بالمرة.
العمل الثوري ليس هواية أو لعبة يمارسها أي كان، ولا هو نزوة أو طيش مغامرين، بل هو منهج وسبيل برؤية مسبقة وبصيرة واضحة. سبب فشل كثير من الأعمال التي تبدو في الظاهر ثورية أنها لم تكن كذلك في حقيقتها، بل كانت مجرد ردود أفعال وطيش ومغامرة. الثورة فعل إنساني وليس رد فعل على ممارسة خاطئة لأحد ما، هي منهج لتحرير الإنسان من عوالق الغريزية ولا تتوقف في أي زمن وتستمر أبدا مع رحلة الإنسان في هذا الوجود؛ لذا الثوار يواصلون الثورة، أما الطائشون والمتظاهرون بها فينتهي غضبهم الهائج الذي يشبه الثورة عندما ينالون ما يتوق إليه ظمأ غرائزهم وليس لأنهم تحرروا منها.
حملت كل ما تبقى من ممتلكاتي بعد مصادرة المنقول منها وغير المنقول، ودسستها في قميص جاءني بعد زيارة لتركيا قبل الاعتقال بعام واحد. كان قميصا مميزا وكنت أشعر أنه جزء مني منذ أول يوم حصلت عليه، كنت أسميه مراد - ليس بلا سبب - فقد كانت له نضارة الشباب بمربعاته الحمراء السوداء وباسم صانعه «مراد» المكتوب تطريزا على ياقته الداخلية، وعلى الأكثر إنه كان اسم صاحب المصنع؛ ولذلك أطلقت عليه هذا الاسم. قميص ظل مصاحبا لي لمدة طويلة وكان شاهدا على وجودي في لحظة سيأتي وقت للحديث عنها في حكاية مثل حكاية قميص يوسف. ويبدو أن كل سجين رأي مرشح لأن يكون يوسف؛ جميل في فكره، مثير في تقلب أحواله، وشاهد أزلي على قيم الخير والجمال مهما حاول إخوته الأشقياء أن يطمسوها. لا غرابة إن صاروا بعدئذ نقباء قومهم أو خالهم آخرون أنبياء، لكنهم سوف يظلون مبرقعين بخطيئتهم أبدا، وعندما يمر ذكر يوسف أمامهم فسوف يبوحون بسر خبيئتهم النتنة ويتشكلون ثانية وثالثة وإلى ما لا يعد ولا يحصى من المرات، حسادا قتلة مجرمين حائرين في طمس جنايتهم التي عافها الذئب واستنكف منها. لن يتوبوا عنها أبدا فسوف يقض مضجعهم ذكره، وينفجر غضبهم بوجه محبيه فيهبون مثل مخبول فزع من كابوس، ليرتلوا بسخف ممل كلمات نشيد مقرف بال يحكي فشلهم وعجزهم وجبنهم وغريزيتهم الحيوانية:
تالله إنك لفي ضلالك القديم .
وأنا أوظب مراد بعناية زائدة كي لا يفقد شيئا من محتوياته، سرحت بنظراتي في وداع لرفيق شجاع، لم ألق نظرة الوداع الأخيرة عليه؛ فقد سبقني مع آخرين بيوم إلى تلك المحكمة المهزلة، وهناك اختفت آثاره للأبد من دون الثلاثة الآخرين الذين كانوا معه. تلاشت آثاره كلها من هذه الدنيا ولم أعد بعدها أراه متوثبا متحفزا ولم يصر بمقدوري أن أسمع أذني كلماته المنبثقة من بحر التحدي ولا أنتشي بضحكاته الساخرة من الأدعياء. وأنا أرمق جدران المحكمة بأسى وجزع، عاتبتها وهي التي احتضنت آلام وتأوهات عذاب غمد نصله عميقا فينا جميعا.
عاتبت هذه الجدر وجدر زنازين كثر مررنا بها برفقته، كيف له أن ينفرط منكن وأنتن اللاتي احتضنتن نغمات الدفء وكل الآثار التي نحتت شعارات الثورة، وأبيات الشعر التي كان كل ما فيها يفيض حبا وجمالا وثورة. حيطان دونت وصايا من غادر الدنيا سريعا وتاه جسده في كثبان رمل تطيح بها الرياح وتسافر بها إلى جهات الدنيا الأربعة، ولم تزل تضمهم إلى حناياها تخبئهم في قلبها بعيدا عن أعين كل الناس حتى عن بواصر ذويه ومحبيه تخشى عليهم أن يضيعوا في المدافن مع الآخرين؛ لأن المقابر لا تليق إلا بالموتى فكيف لها أن تحويهم وهم الأحياء، بل هم وحدهم الأحياء في هذا الكون الفسيح الوسيع وخلاهم موتى ما لم يلحقوا بركبهم.
أرواحهم لم تزل سائحة في براري وصحاري الوطن تلاحق حلمها في خلاصه من سوءة ابن العاص المقيمة في مضامير الفروسية والنزال. ولم تزل أرواحهم ترنو إلى يوم يخلو من حشود المهرجين كقردة وهي تنزو على منصة رئاسة خلقت للحكماء بنقاء فطرتهم لا للدهاة الثمل برجسهم. يوم لا ترى فيه صنما يطوف حوله همج رعاع ينعقون مع كل ناعق.
عند غبش لا أعرف مطلعه، امتلأ رفيقي وآخرون بالحياة استعدادا للرحلة الأخيرة، رحلة إلى نافذة تشرع فيها للريح أجنحة تنقل رغبة المتمردين عشاق الحياة في رفض الموت. نافذة تنقل إلى عالم الحقيقة عشاقا سلكنا معهم كل الدروب؛ الجد والهزل، الضحك والبكاء والمرح والشقاء. سافرت بهم الريح بعيدا عن الأوهام واقتربوا من ملامسة حقيقة الأشياء، لينعموا هناك بالسكون الخالد والراحة الأبدية وينثروا من علياهم على عالمنا بذور الحياة على الأرض، عسى أن يتلقفها زراع جدد مثابرون لتستمر الحياة على هذا الكوكب الضاج بالخطايا، لعل يوما يأتي تتحقق فيها نبوءة السماء ويصدق الكل - حتى وإن كان شيطانا مريدا - أن السماء تعلم ما لا يعلمه أي أحد وأنهم وحدهم العالمون بالأشياء، وغيرهم الجاهل والمستكبر عليه أن يسجد للإنسان الكامل دوما أبدا وسرمدا.
رحلة غادر فيها صحبة لنا كل هذه الأحلاف الخبيثة المتواطئة ضد غريزة التمرد فيهم؛ لأنهم كانوا حقيقة الإنسان التي عجز عن بلوغها الموغلون في شهوات الجسد. رفاق كانوا هم الماء الذي أعطى الحياة لكل شيء وما يزال يفعل. من رمادهم يصنع الشعراء قصائد، وبدمهم يكتب الأدباء روايات، ومن أجسادهم ينحت المثالون نصبا. ولولاهم لحار المصممون الأذكياء في متاهة البحث عن أسماء المباني والشوارع والساحات وقاعات المثقفين، ولولاهم لتوقف المؤرخون عن تدوين تتابع الأشياء. لولاهم لكان الكون سكونا محضا، بل عدما. هم إكسير الحياة، وهم كانوا الكلمة في البدء، وهم أيضا مسك الختام، هم قطر الغيث العذب الذي يسقي الجمر في قلوب الأحرار الولهين المتبعين آثار الحياة. هم ليسوا كغيرهم محض سراب يتوسل الصخر متملقا بعبارات فجة: افتح يا سمسم، عسى أن يحظوا بكنوز الخرافة من سندباد الوهم والخيال، بل هم حقيقة الوجود نثروا على الصخر القاسي دمهم فشقوا الأنهار وانكفأت كل الأوثان خاضعة ذليلة لهم في كل آن ترتعد خشية من ذكرهم.
هل سمعتم يوما أن الطغاة يحاربون أحدا غير الشهداء؟! وهل رأيتموهم يسعون لمحو ذكر أحد غيرهم مهما كان؟ ليس بحمق هذا ولا خطل رأي من العتاة، بل لأن الشهداء وحدهم هم حقيقة الخطر؛ لأنهم أحياء لا يمسهم سوى الخلود وما خلاهم أموات لن يعرفوا الحياة إن لم يلتمسوا سبيل الخالدين. وداعا صديقي، كنت غفورا واغفر لنا لو أصابتنا سنة أو نوم؛ فقد تعبنا من ممارسة الانتظار للحاق بك، وداعا وإلى لقاء.
الشق الثاني
السجن
1
ساروا بنا من جديد في العربة عينها التي أقلتنا من المعتقل إلى ضفة أخرى، سيسفح فيها العمر دمه على رصيف الانتظار. وأنا أغادر المبنى اتسعت حدقتاي إلى حد ابتلعت فيه كامل الأفق البعيد حيث تسكن المدينة التي تبني أرصفتها على جماجم الغائبين، وواريت الصورة في جوفي لأتزود بها في قابل الأيام. وما هي إلا دقائق معدودة حتى وصلنا إلى مبنى لا يبدو من واجهته الأمامية سوى طابق واحد علقت على واجهته لوحة خشبية بيضاء كتب عليها بخط أسود: «وزارة الشئون الاجتماعية»، وفي السطر التحتاني: «دائرة إصلاح الكبار قسم الأحكام الخاصة». استفزتني كلمة إصلاح رأيتها مثل لسان يندلع من وجه شيطان يسخر شامتا بنا. أن نقبر هنا أحياء في نزل موتى يسمى عندهم إصلاحا!
لا ضير ولا عجب في ذلك؛ فهذه ليست المرة الأولى في التاريخ. فكل الأفعال القبيحة كانت تخفي قبحها وتضمر زيفها وراء مظاهر خادعة، فأعتى الطغاة كانوا يحكمون باسم الإله مدعين أنهم معينون منه، بينما الأنبياء كانوا مطاردين غرباء تلاحقهم تهمة الجنون يتسكعون مع الصعاليك والمشردين يحملون صلبانهم سلما إلى الحقيقة. إصلاح يعني أننا منحرفون يجب أن نعاقب ونؤدب لنمشي على صراطهم الأعوج ونكون عبيدا للأقوى الأخرق. كلمة إصلاح أزعجتني كثيرا وتخيلت - وأنا أمر من تحتها - صورا لأيام سوداء قادمة وكانت فعلا كذلك في سوادها وأقبح مما تخيلت.
تقيأت أحلامي الكبيرة وأنا أمر من تحت اللوحة الخشبية الساخرة، ودلفنا إلى ممر، كان الظلام فيه واسعا لا تقوى على طرده زمرة مصابيح صفراء شاحبة فرادى، تتدلى من سقف أسود كما في كل الأماكن الأخرى التي سأزورها لسنوات تسع قادمة.
عند أول خطوات أدخلنا إلى غرفة صغيرة، استقبلنا رجل قصير سمين يتدلى كرشه أمامه يلبس زيا خاصا بالحرس وفتح سجلا ليدون أسماءنا فيه. كان له صوت مميز رفيع عال مزعج، وبدأ يدون الأسماء، ويسألنا عن تخصصاتنا العلمية، وعندما عرف أننا طلبة جامعيون بدأ بتوبيخنا: «ماذا تريدون أن تصبحوا وتحصلوا عليه، ألا يكفيكم هذا المستوى؟»
ويجيب نفسه بأننا أصحاب نوايا خبيثة ولم نتلق تربية صالحة وكلمات أخرى بإمكاني الآن أن أنمقها؛ لأني لا أريد أن أعيد سماع قرفها ثانية وأترك الخيال أن يتصور منها من يريد وهي تخرج من لسان جلاد فاشل لم يكمل سوى تعليم متواضع، كما هو واضح من خطه وسؤاله كيف نتهجى أسماءنا وهو يكتبها وظن أنه قد حانت له اليوم فرصة جيدة للانتقام لذاته الفاشلة.
صوته العالي وصداه المزعج يتكرر في الممر الطويل ذكرني تلك اللحظة بأبيات السياب:
ليعو سربروس في الدروب.
في بابل الحزينة المهدمة.
ويملأ الفضاء زمزمه.
كان يدون أسماءنا في سجل سري وهو يرمي علينا شتائم ترحيب خاصة وعبارات تأنيب، حتى ضقنا ذرعا بثرثرته، فقال له أحدنا زاجرا: وماذا تعرف أنت عنا حتى تعرف ماذا نريد؟
فغر فاهه ولم يصدق الجواب الجريء فكأنما لطم على فمه فسكت.
عندما كنت صغيرا وعمري لا يتعدى سبع سنوات كان لي صديق بعمري من الجوار ألعب معه دائما، وكنت كما هو يذهب أحدنا إلى بيت الآخر. وفي إحدى المرات رأيت على جدار في غرفة المعيشة خاصتهم أشياء كثيرة معلقة مصنوعة من حبات صغيرة ملونة لماعة تسمى «نمنم»، أعجبتني جدا لجمالها وألوانها البراقة واستهوتني كثيرا بمظهرها اللماع، ولذا سألت صديقي عنها، قالت لي أمه - لتشفي فضولي وهي ترى لهفتي وإعجابي بها - إن لها أخا في السجن هو الذي يصنعها ويرسلها إليها كهدايا في كل مرة يزوره أحد.
بينما كان يسير بنا الحارس في بداية الممر رأيت على اليمين صندوقا زجاجيا كبيرا من طابقين ولربما أكثر من ذلك، فيه معروضات تشبه تلك الأشياء الحلوة الملونة المعلقة في بيت صديق الطفولة. صورة الجمال انهارت من عيني وأنا أرنو ببصري إليها وكأني كنت أرى فيها ساحرة شمطاء تخفي بشاعتها بمظهر مخادع. كم هو مقيت إضفاء الجمال على القبح، والأكثر مقتا أن تصدق أنه بات جميلا فعلا؛ لأنك لا ترى سوى مظهره الخادع وتعمى عن لبه الماكر.
تابعنا المسير، وطلب حرس جدد - بزي مدني انضموا لجوقة الترحيب - منا الجلوس قرفصاء، فيما استقبلت وجوهنا حائطا، سألته في سري كم عدد الذين طالعت وجوههم، وهل حفظتها جميعا لتخبر الأمهات اللاتي سيقفن أمامك حائرات يدرن في هذا الممر على غير هدى يبحثن عن مغيبين ولا أحد ينزع قلقهن؟
ثم كان علينا أن نسير مهرولين إلى باب مصنوع من حديد ثقيل وفوقه قطعة صغيرة مكتوب عليها: «مخزن بطانيات». فتح الباب وكنا نظن أننا سوف نزود ببطانيات، لكن ما إن فتح الباب حتى دفعنا إلى داخل مبنى كبير وأصابتنا دهشة كبيرة لمنظره؛ إذ كان من طابقين؛ خمس زنزانات إلى اليمين وأخرى مثلها على اليسار في كل طابق. الواجهة الأمامية لكل زنزانة عبارة عن قضبان حديدية من أعلى السقف إلى الأرض، بينما كانت الزنزانة مكتظة بعيون تعبى تحملها رءوس حليقة فوق أجساد هزيلة.
استقبلنا بالهراوات من أشخاص ظنناهم رجال أمن، لكن تبين فيما بعد أنهم زمرة خونة لهم قصة سوف يحين وقتها فيما بعد، راحوا يضربوننا بدون سبب، ثم سحب كل واحد منا إلى زنزانة وحشر فيها، لأجد نفسي مع أربعة وأربعين شخصا في زنزانة مربعة ضلعها خمسة أمتار وفي إحدى الزوايا مرحاض صغير.
بالقرب من هذا المرحاض كان محل نومي إلى جنب سجين أتم للتو غسل أكواب بلاستيكية وصحون معدنية، وراح يمسح عن الأرض آثار الماء بأجزاء من نعال إسفنجي خارج عن الخدمة، وعندما انتهى من التجفيف أخذ النعال باحترام وعلقه في سلك يتدلى من سقيفة ثبتت على الحائط، وبدا لي جليا أن كل الأشياء لها قيمة هنا وإن كانت على وشك الانقراض.
صار مكان نومي الجديد تحت برميل ماء مشدود بإحكام، تطفو على سطحه ما لا يحصى من حشرات سوداء دقيقة الحجم لا أعرف اسمها، يبدو أنها تسللت من فتحات صغيرة للتهوية، في الحقيقة هي فراغات بين قطع بلوك إسمنتي ولم تغلق عمدا لتسمح بمرور الهواء. هذه الفتحات تطل على ساحة ترابية صغيرة تفصل القسم الذي نحن فيه عن قسم مجاور وصارت مكبا هائلا للنفايات؛ إذ كان السجناء يتخلصون من النفايات برميها فيها حين يفضل شيء منهم، وحين كانت المجاري تغلق تصرف فيها، إنه لا توجد سلة مهملات ولا أحد يجمع الفضلات إن وجدت. كذلك كان يفعل أي أحد يمر بالقرب من هذه الساحة من حرس السجن أو أي شخص آخر، ولا يهتم أحد برفع ما فيها أبدا.
إلى جواري امتد رجل طيب راح يسدي لي نصائح مهمة، أهمها أن أحذر من فلان وفلان. سأكذب لو قلت إني فهمت ما يقول. فكيف يمكن لمظلوم مسحوق تحت كل هذه العذابات والكراهية أن يكون ظالما وهو مظلوم؟! لكن عرفت مصطلحا جديدا اسمه المراقب وهو بمثابة العين لرجال الأمن في الزنزانة، وهذا حديث آخر طويل.
أشرعت نافذة بصري على الجدران الإسمنتية السوداء والأكياس الكثيرة المعلقة عليها التي تضم الأموال المهربة من الحكم القضائي بمصادرة المنقول منها وغير المنقول. أكياس كانت تحوي أسمالا وخردة ليس لها قيمة إلا في هذا المكان. حكم مصادرة الأموال كان يوزع على كل الدوائر الحكومية حتى لا يفلت شيء من مقصلة إفناء كل آثار المعارضين، وكان هذا أثرا جيدا صلح فيما بعد لتتبع عدد الذين سجنوا وقتلوا بطريقة رسمية ودليل إدانة لمحاكمة من ارتكب تلك الجرائم، محاكمة لم تعقد بعد رغم كل ما يقال عنها.
تاه بصري في هذه الصحراء الممتدة حيث يضيع الزمن فيها وأنا أتأمل رجلا ريفيا طويلا وقف وسط الجمع ضجرا من أشياء أجهلها وهو يردد عبارة ما زلت حتى اليوم أضحك من كيفية إلقائها بطريقته الكوميدية السوداء وبلهجته الشعبية: هاي شيگضيها العشرين سنة هنا!
ضحكتي الصادقة الصادرة بعيدا من قاع قلبي، كانت بداية كبيرة لموجة عظيمة من التفاؤل سرت في وجعلتني أحيل الصحراء التائهة بلا زمن إلى أرض خصبة حبلى بالعطاء، فهي ليست كالشوارع والأرصفة التي لفظتنا وصرن علينا سيوفا بتارة تحز الرقاب. بل هي أرض تجمع كثيرا من الطيبين ومنهم طالب جامعي يدرس القانون ككثيرين مثله كانوا هناك لم يكملوا دراستهم؛ لأن السلطة استبقت ثمرة نبوغهم فأجهضت أحلامهم. وقف يظللني مثل نخلة مريم تساقط علي نسمات هواء من منشفة باهتة الألوان كان يحركها فوقي بلا كلل ولا ملل، وهو يرى إجهادي وصعوبة تنفسي وأنا أضطجع تعبا من مرض السل الرئوي الذي وفدت إلى الزنزانة الجديدة أحمله معي من المعتقل. لمحني أبحث عن الهواء في جو الزنزانة المظلمة الرطبة فراح يحركه كما لو أنه كان يهدهد طفلا حتى ابتلعتني غفوة عميقة توائم بدني الذي كان يتجه نحو نقطة حرجة بسرعة كبيرة في الأسابيع الأخيرة.
أي فيض من البهاء هذا وأي خضرة داكنة نبتت على جدران الإسمنت يفوح منها عطرا. ابتسمت روحي لهذا الأريج واتقدت منتشية به، قد عدت إذن إلى عالمي الذي أحلم به حيث تضوع ريح الأنبياء وهي تلامس الأموات لتحييها وتبرئ الأكمه والأبرص وترش الماء على طين رخيص تسحقه الأقدام ليطير محلقا بأمان عظام، ويذرق على الذين أخلدوا إلى الأرض منسلخين من إنسانيتهم فباتوا يلهثون في كل أحوالهم ولا يصدر عنهم إلا أنكر الأصوات.
وبين تحذيرات صاحبي من الخونة وبين هذين الموقفين تشتتت مشاعري وتاه فكري وصرت بين حذر واطمئنان في الوقت عينه. عرفت أن الكلام أو الإشارة إلى أي شخص في زنزانة أخرى جريمة يعاقب عليها السجين بقسوة؛ ولذلك حتى عندما لمحت أحد رفاقي في زنزانة أخرى كما لمحني هو، لم أتبادل الإشارة معه كما حاول أن يفعل، بل هربت من أمامه؛ لأن ذلك سيؤدي إلى عقوبة مشتركة نتقاسمها. تأملت الحاضرين من سكان الزنزانة جميعا وبدا مشهدا غريبا بالنسبة لي، كانوا يتفاوتون بالمستوى الثقافي والتعليمي ولا يبدو أنهم جميعا ممن مارس عملا سياسيا أو فكريا معارضا. كنت قد تعرفت على قسوة التعذيب ومخرجاته لكن بصراحة لم أكن أتوقع أن يكون كثير من السجناء أناسا لا علاقة لهم بما كنا نفعله قبل الاعتقال من مقارعة السلطة.
أي ظلم هذا الذي يزج بأبرياء - لا علاقة لهم لا من بعيد ولا من قريب - في سجون مخصصة للسياسيين. كانت هذه صدمة كبيرة بالنسبة لي؛ لأني بدأت أكتشف وحشية لم أكن قد أدركتها حتى تلك اللحظة. أصبحت في ارتباك كبير لأني كنت أظن السجن مكانا لطبقة واحدة عشت معها في مراحل حياتي السابقة وتقاسمت معها الهموم والنشاطات والتفكير والتطلعات. غير أن الأمر ليس كذلك الآن، وعلي أن أحسن التصرف مع هذه التضاريس المعقدة؛ التضاريس لا أعني بها التنوع الطبقي الاقتصادي، ولا التفاوت التعليمي، فقد ألفت هذه التناقضات؛ إذ إن المنهمكين بالعمل السياسي لهم مشارب متعددة لكن أن تجد نفسك في سجن سياسي وحولك مجموعة تتعرف على العمل السياسي لأول مرة شيء آخر تماما.
الصعوبة ليس في هؤلاء فقط، بل أن يكون بعضهم غير مؤمن بهذا العمل، والأشد صعوبة أن يكون مقتنعا بالضد منه، بل ويزيد على ذلك حماسه العلني ضد المعارضين السياسيين ويحملهم كل ما حصل له. هذه التنوعات كانت واضحة جدا في أول زنزانة دخلتها في السجن، وكان الأمر بمثابة صدمة أولى لها تداعيات سوف تظهر لاحقا، وسوف يأتي الحديث عنها في وقت مناسب، ورغم ذلك كان في الزنزانة نفسها أشخاص متميزون.
قبل منتصف الليل يطفأ المصباح الشاحب الوحيد في الزنزانة وكان على الجميع بأمر من إدارة السجن أن يذهب إلى النوم الإجباري. كانت الزنزانة ضيقة خانقة إلى حد كبير بالعدد الذي فيها (خمسة وأربعين سجينا)، وفي جوها تشيع رائحة تبعث على الغثيان وعلى بلاطها الإسمنتي فرشت بطانيات سوداء رقيقة. كان النوم مهمة عسيرة؛ إذ لا يمكن الرقاد إلا على الجنب ويستحيل النوم على الظهر في أي لحظة، وكان لا بد من ترتيب نوم السجناء بطريقة التخالف، أي قدما سجين إلى جنب رأس سجين آخر. لا يوجد مجال على الإطلاق لرأسين متجاورين، ولو اضطر أحدهم إلى النهوض لسبب ما خارج عن إرادته - مع أن النهوض وقت النوم كان ممنوعا ويعاقب مرتكبه عليه - فإنه لو أفلت من مراقبة عيون الخونة، فسوف يقع في مشكلة أكبر؛ لأنه لن يجد فراغا يضطجع فيه حين يعود، ويصبح لزاما عليه مدافعة الأجساد المتلاصقة كي يحشر نفسه ثانية بينها.
في الليلة الأولى كانت إلى جانب وجهي قدما شاب برأس حليق مع صلع خفيف وتبدو على وجهه آثار واضحة من عصبية وتوتر دائمين يعكسها جبينه المتغضن، وكالآخرين كان يرتدي ثيابا خلقة. ذهبت في غفوة عميقة من إرهاق المرض ويوم المحاكمة الطويل وعلى حين غرة شعرت برفسة قدم بشرية تركلني على فكي، فتحت عيني لأجد الدم يملأ فمي. فتحت عيني مرهوبا خائفا مصدوما متوقعا الأسوأ قبل أن أتبين أن صاحبي الممتد إلى جنبي ممن يحلم كثيرا أثناء نومه، ويتحرك منفعلا مع كوابيسه المزعجة، وشاركني كابوسه هذه الليلة برفسة قوية. عدت لأرقد على وسادتي التي صنعتها من حذاء متهرئ كنت أنتعله بانتظار طلوع النهار من جديد ليسمح لنا بالحركة المحدودة من جديد في الزنزانة.
2
عند الصباح دخل رجال الأمن إلى قاعة السجن مع توزيع وجبة الطعام الأولى وبأيديهم هراوات، وقف أحدهم أمام الزنزانة بصحبة سجين مسئول عن توزيع الأكل (يسمى خدمات) فتح الزنزانة، ليطلبوا من شاب نحيف بجسد ضئيل لا يتجاوز عمره السابعة عشر عاما أن يخرج إلى الممر العريض واقتادوه إليه بعنف، عاد إلينا بعد ربع ساعة تقريبا بعد أن تم تعليقه من أطرافه العليا في حالة تشابه التعذيب الذي كنا نتلقاه في مديريات الأمن لإجبارنا على تقديم الاعترافات. لا أخفي شعوري حينها بخوف شديد اقترب من الرعب؛ فقد استذكرت مراحل التعذيب في التحقيق والعذابات التي تحملتها يومئذ وكنت أظن أن السجن لا يوجد فيه تعذيب ممنهج. من الممكن أن أعاني في السجن من ضيق في مكان أو نقص في طعام وشراب - كما كان يحصل في المعتقل بعد انتهاء التحقيق وربما قد أنال ضربة من هذا وهراوة من ذاك - لكن تعذيب منهجي لم أخاله موجودا. يبدو الأمر الآن كما لو كان عودة إلى مربع أول يأبى أن يكون له حدود ينتهي فيها بما يحمله من عذاب وآلام ولا يمكن لأي أحد أن يغادره؛ لأنه لا يوجد مربع ثان.
حاولت أن أستفهم عن سبب هذا التعذيب الصباحي غير المبرر، لأصدم بأنه لا يوجد سبب، ومع غياب السبب صار واضحا أن لا شيء يمنع من نزول العقاب بأي سجين، مهما حرص على أن يبعد الأذى عن نفسه. كان خوفي مبررا جدا؛ لأن السبب الحقيقي لتعذيب هذا الشاب اليافع لم يكن سوى أنه لا يروق لأحد رجال الأمن. ففي يوم ما دخل رجل أمن إلى قاطع السجن ووقف أمام الزنزانة ولسبب ما أشاح هذا الشاب بوجهه عنه بلا قصد، لم تعجب هذه الحركة رجل الأمن ولم يقبل عذره بعدم التعمد، فاشتدت العداوة من رجل الأمن لهذا السجين وكان عليه أن يدفع ثمن هذه العداوة بين الحين والآخر، هذه الغلطة التي لم تغتفر، لم أعرف شرعة أو قانونا تعدها ذنبا أو خطيئة إلا في ذاك اليوم.
جسدي محطم من المرض وقواي خائرة بالكامل وصرت لا أقوى على الحركة العادية، وكان هذا سببا حقيقيا آخر لتخوفي مما رأيته للتو؛ لأني لم أعد بقادر على تحمل التعذيب ثانية. فزعت كثيرا من هذه القصة وكان الخوف والفزع واضحا على وجهي لأنها مفاجأة مرعبة ونموذج مخيف لما ستكون عليه قادم الأيام.
الزنزانة التي وضعت فيها كانت واحدة من أسوأ الزنزانات، لوجود مراقب فيها بأخلاق وضيعة للغاية، جبان رعديد لحد لا يوصف، يقدم معلومات أمنية عن السجناء الآخرين إلى الأمن بطريقة طوعية من أجل لقيمات وشربة ماء زائدة. المراقبون على الزنزانات كان تعيينهم يتم من قبل الخدمات بموافقة الأمن، وكان تقريبا جميع الخدمات والمراقبين في الفترة التي دخلت فيها إلى السجن من المتعاونين مع الأمن تقريبا، البعض منهم - خصوصا الخدمات - كانوا يقومون بكل الأفعال الخسيسة حتى تصل بهم الخسة والنذالة إلى تعذيب السجناء بأيديهم، وباعوا أنفسهم وضمائرهم للأمن بشكل كامل، بل كانوا أشد قسوة منهم في بعض الأحيان. كل ذلك كان مقابل أجر زهيد، وهو أن يناموا خارج الزنزانات المكتظة في مكان أكثر راحة بقليل مما نحن فيه، ويأكلوا من الأكل البائس نفسه الذي يقدم لنا لكن بحصة أكبر. مقابل هذه المنح الوضيعة كان عليهم أن يراقبوا السجناء ليل نهار على كل صغيرة وكبيرة، ويتولوا بأنفسهم تقديم المعلومات عن أي مخالفة ولو كانت صغيرة لإنزال العقاب المر بالسجناء. الغريب في الأمر - والذي صدمني كثيرا - أن عدد المنافقين لم يكن قليلا؛ إذ في زنزانة يسكنها خمسة وأربعون شخصا كان هناك متعاونان بصورة علنية واضحة لا شك فيها ولا لبس، ينضم إليهما آخران مذبذبان كانا محل خشية سجناء الزنزانة، ولربما هناك شخص خامس لم تسنح له الفرصة لفعل ذلك لا يساعده وضعه الجسماني لأداء هذه المهمة الحقيرة. وبحساب الرياضيات كانت نسبة الخونة المؤكدة تقارب الخمسة بالمائة، وهذا الحال يسري تقريبا على كل الزنزانات الأخرى، وأقدر أن أقول: إن نسبة الخمسة بالمائة كانت فعلا هي نسبة الخونة من المتعاونين ممن جاهروا بخيانتهم العلنية وصاروا بمواجهة كل السجناء في عداء علني له قصص كثيرة لاحقة. إلا أن المفارقة تكمن فيما حصل لاحقا، فرغم تبدل الأحوال بعد عقود من الزمان وانقلابها رأسا على عقب، فإن أيا من السجناء لم يقم بأي عمل عدائي انتقامي ضدهم، كما كانوا هم يفعلون مع السجناء في تلك الزنزانات.
كنت متوجسا جدا في أيامي الأولى في الزنزانة ومع أني خبرت سكانها جيدا، إلا أن الحذر كان سمة لازمة في جميع أحاديثي، وحرصت أن تكون سطحية جدا لتبعد أي شبهة عني. فوجئت بشيء كنت أملكه ولم أكن أحسب أنه سينفعني كثيرا، بل ويمنحني حصانة وعصمة من وشاية المخبرين؛ إذ عندما دخلت السجن كان معي قليل من النقود حصلت عليها من مواجهة أهلي في المعتقل، ولم أك أخال أنها ستنفعني بشيء أبدا في هذا المكان المقفل. ولذا فوجئت عندما علمت أن رجال الأمن يأتون بين الحين والآخر ويسمحون للسجناء باستخدام ما عندهم من أموال قليلة لشراء علب الدخان والحليب المجفف ومعجون الأسنان وأشياء أخرى يسيرة. كانت السجائر هي المادة الأغلى والأنفس عند السجناء وإليها تشرئب الرقاب وتلوى الأعناق، ومطمع دائم للمراقب وأتباعه ولا سبيل للوصول إليها إلا عبر أموالي؛ ولذا صارت استراتيجية المراقب المحافظة على علاقة طبيعية معي؛ لأن خلاف ذلك يعني حرمانا منها. وكان حريصا على إبعادي عن أنظار رجال الأمن وأذاهم خشية أن أنقل إلى زنزانة أخرى فيضيع الكنز البورجوازي من بين يديه.
رغم ذلك لم تشجعني هذه الحصانة على التهور ولا على التفريط بسلوكية توخي الحذر الشديد والاقتصاد في العلاقات والأحاديث مع رفاق الزنزانة بشكل عام. بالطبع كنت أتجنب المراقب تماما وأتحاشى أي تطور للعلاقة معه. أحد السجناء كان يتقرب إلي بتملق شديد ووضع نفسه في منصب أمين صندوق السجائر التي أشتريها، كان يتوفر على قدرة هائلة على الكذب واختلاق الأحداث والوقائع والأشخاص ولا يكاد يفتح أي موضوع للحديث، مهما كان الموضوع غريبا وبعيدا عن عالمنا إلا وأظهر لنا أن له صلة عميقة به، وأنه مشارك بهذا الحدث بطريقة أو أخرى. في يوم ما طرح حديث عام، وذكر أحدهم لسبب - لا أذكره الآن - دولة إريتريا التي كانت حينها ترزح تحت السيطرة الإثيوبية، فانبرى هذا الرجل وقال: هل تعرفون من فجر الثورة الإريترية ضد الاحتلال الإثيوبي؟ لم يرد عليه أحد لأنه موضوع لا يستأثر باهتمام أحد، وبصراحة لا أعرف من فجر هذه الثورة حتى هذه اللحظة، انتظرنا جوابه الموسوعي ليقول لنا: إن ابن خالته جاسم قد فعل ذلك! لا تنقطع بطولاته وبطولات عائلته إلا حين يدخل رجل الأمن إلى القسم، وحتى قبل أن يقف رجل الأمن قبال زنزانتنا كان صاحبنا هذا يتحول إلى دجاجة مسكينة فقدت صوتها من الرعب كأنها سمعت وطء نعال من يحبسها في القفص جاء ليذبحها ولا أدري كيف كان سيكون حاله لو رأى عصا الجلاد.
تقريبا بعد عشرة أيام من دخولي السجن وعند غياب الشفق تماما، دخل ضابط أمن معروف بقساوته ليرتكب مجزرة بشعة. هذا الضابط الوحش يقال إنه ابن شقيقة نائب الدكتاتور ولم يكن سهلا بالنسبة لي التأكد من دقة المعلومة، إلا أنه كان يحمل شبها غريبا به، إضافة إلى انحداره من المدينة نفسها؛ ولذا لا أستبعد صحة المقولة. عرف هذا الضابط ببشاعة ظلمه وبارتكابه لجرائم تعذيب كثيرة بحق السجناء، كنت شاهد عيان على بعضها. إلا أن أبشع جرائمه كانت في استبدال السجناء السياسيين ممن قضوا محكوميتهم من صغار السن بمجرمين عتاة محكومين بالإعدام مقابل رشا مالية. ولم يتفطن أحد لهذه الحيلة التي كان يقوم بها هذا الوحش؛ لأن المحكومين من أمثالنا كانوا محرومين من مواجهة الأهل ومن كل حقوقهم، وأخبارهم مقطوعة تماما ولا يعرف عنهم شيء وكانوا يعدون من الأموات.
لذا أضحى من المستحيل أن يفكر أحد بالسؤال لمعرفة مصير ابنه؛ لأن المعتقلين والسجناء السياسيين خط أحمر لا يصل إليه أحد إلا وعرض نفسه لعقاب صارم. لهذا السبب استسهل هذا الضابط استبدال السجناء السياسيين بمجرمين محكومين بالإعدام لارتكابهم جرائم جنائية. كان متأكدا من أن لا أحد سيجرؤ على السؤال عما يجري ومستعينا على ما يبدو بصلة القرابة بشخصية قوية في الحكم في إرهاب الآخرين.
كان يتفق مع المجرم المحكوم بالإعدام على مغادرة البلد فور إخراجه من السجن؛ وبذلك تختفي آثار الجريمة، غير أنه في إحدى المرات استسهل أحد المجرمين المحكومين بالإعدام الأمر ولم يغادر البلد على الفور حسب الاتفاق، ولحسن الحظ بينما كان يمشي في أحد الشوارع المهمة في العاصمة، لمحه ضابط شرطة جنائي كان قد أجرى التحقيق معه بنفسه، فاستوقفه وسأله عن كيفية خروجه من السجن وهو محكوم بالإعدام؟! أثارت أجوبته الهزيلة المرتبكة ريبة ضابط الشرطة فألقى القبض عليه في الحال لارتيابه بأنه قد فر من السجن. وعند التحقيق معه اكتشف المحققون الأمر الأدهى حين علموا بأمر استبداله بشخص آخر من السجناء السياسيين بالتعاون مع ضابط الأمن المسئول عن السجن الذي كنت فيه. وتبين فيما بعد أن هذه ليست الجريمة الوحيدة، بل واحدة من سلسلة جرائم وقعت لأشخاص كثر.
أصابنا العجب بعد سبع سنوات حين واجهنا العالم الخارجي لأول مرة، ونحن نسأل عن سجناء كانوا معنا؛ لأن الإجابة الصادمة كانت تأتي بأن جثثهم قد سلمت لأهاليهم بعد تنفيذ حكم الإعدام بهم، وآخرون أصلا لم تصل جثثهم إليهم. فقط صودرت شهادة الجنسية وهويات الأحوال المدنية من عوائلهم وأبلغوا بإعدامهم شفهيا وظلوا مجهولي المصير حتى يومنا هذا. إثر هذه الفضيحة الإجرامية أبعد هذا المجرم من وظيفته كمشرف على السجن الذي كنا نحتجز فيه، مما خفف علينا بعد إبعاده كثيرا من جرائمه الوحشية التي كان يرتكبها بشكل متواصل. ومع ذلك لم يتلق عقابا كبيرا؛ لأن أرواح السجناء السياسيين لم تكن ذات أهمية بالنسبة للسلطة القمعية، وربما أيضا لقرابته من رأس السلطة. سمعنا فيما بعد أنه أبعد إلى السلك الجنائي كعقوبة له كما كان يفعل بالعادة مع ضباط الأمن المغضوب عليهم من السلطات الأمنية العليا.
في تلك الليلة دخل هذا الضابط إلى السجن وكانت ليلة عيد، طلب من الخدمات والمراقبين أن يقدموا أسماء السجناء الذين كانوا قد امتنعوا عن الأكل والشرب في هذا اليوم لأسباب دينية. ولم يكن طلبه سؤالا، بل كان يريد أشخاصا ليعذبهم حتى وإن لم يصوموا وبعضهم كان بالفعل كذلك. إلا أن الخدمات والمراقبين كانوا يحملون من الجبن والخوف من العقاب ما لا يستطيعون معه أن يردوا على طلب هذا الضابط المتهور المجنون المهووس بالتعذيب، خصوصا أنهم قد علموا بنيته الأكيدة بإنزال عقاب شديد بالسجناء، حين جاء مع مجموعة من رجال الأمن مجهزة بهراوات خاصة لإقامة حفل تعذيب في تلك الليلة. وبدأت المجزرة ، كل من يرد اسمه فهو مذنب وإن أثبت بألف بينة ودليل أن لا ذنب له، وهو الأسلوب ذاته الذي كان يجري في التحقيق، التهمة هي الذنب.
خلال دقائق جلس في الفناء العريض عدد كبير من السجناء، من زنزانتا فقط اثنا عشر شخصا. بدأت حفلة تعذيب لمدة ساعة تقريبا، يمر أربعة من رجال الأمن ويضاف إليهم أربعة آخرون من الخدمات ينزلون أقصى ما يملكون من قوة عندهم على السجناء، بعصيهم وبالهراوات والكيبلات الكهربائية ضج المكان بصرخات الألم وسط صمت وخوف ملأ المكان كله. لم يتوقفوا عن الضرب حتى بعد أن أغمي على عدد من السجناء، انتهت الحفلة في فصلها الأول عندما شعر الجلادون بالتعب والإرهاق لتبدأ فصلا جديدا. حيث أفرغت زنزانة كانت مخصصة للمصابين بمرض التدرن الرئوي، تم نقلهم إلى قسم خاص سوف أحل عليه قريبا، ليوضع في هذه الزنزانة كل هؤلاء المتهمين بالعصيان، بزحام رهيب وإن كنت لا أدري كم كان عددهم بالضبط أو تقريبا. لم يكتف هذا الضابط بهذا العقاب، بل أمر بوضع بطانيات على القضبان الحديدية ليسد عليهم كل نور، وخفضت حصتهم من الطعام والماء إلى النصف، وهي حصة بالأصل لم تكن تكفي لسد الرمق، وظلوا على هذا الحال عدة أسابيع. الغريب في الأمر أنه بعد أن أخرجوا من هذه الزنزانة لم يكونوا فرحين جدا كما هو المتوقع، بل بدا على بعضهم الأسف حيال ذلك. وعندما سألت أحدهم عن سبب هذا الشعور الغريب، قال لي: «كان مكانا آمنا لا يوجد فيه مراقب متعاون مع الأمن، والبطانيات تحجب الرؤية عن رجال الأمن والخدمات؛ لذلك كنا نتصرف بحرية كبيرة، نتكلم بما يحلو لنا ونفعل ما نشاء. أما نقص الضوء والأكل والشرب فهو أهون بكثير من هذا الرعب اليومي جراء ملاحقة عيون الخدمات ورجال الأمن لنا ليل نهار.»
بصراحة كان كلامه على غرابته مقنعا للغاية. هذا الإحساس بفقدان الأمن صار دافعا لكثير من السجناء للمخاطرة والقيام ببعض التصرفات للحصول على فرصة كهذه.
3
بعد هذه الليلة المرعبة تناقص عددنا في الزنزانة إلى ثلاثة وثلاثين سجينا، كانت انفراجة كبيرة في المنام لليلتين تقريبا، وبسبب هذا النقص الكبير في العدد حشر معنا سجناء جدد ممن وصلوا حديثا من المحكمة، وعاد العدد إلى طبيعته تدريجيا خلال أيام قليلة، إلى أن رفعت العقوبة عن المعاقبين الذين طلب منهم العودة، كل إلى زنزانته التي خرج منها، وفي لحظة واحدة قفز عددنا إلى سبعة وخمسين سجينا وأصبحت الزنزانة مكتظة بشكل مثير للاشمئزاز؛ لأنه لم يعد هناك من مكان للنوم ولا حتى للجلوس، وضاعف من تقززنا حصول حادث غريب تلقينا بسببه عقوبة جماعية قاسية.
كان رجال الأمن يغيرون الزنزانات لسبب أجهله، يأتون ويطلبون منا أن نخرج كلنا ونذهب إلى زنزانة أخرى فيما يأتي سجناء آخرون إلى زنزانتنا، وهكذا كل الزنزانات الأخرى. انتقلنا إلى زنزانة جديدة تقع في ظهر قسم آخر يوجد فيه سجناء سياسيون يعيشون بمثل ظروفنا، يسمى «ق2»، اختصارا لاسم «القاطع المغلق الثاني»، ونحن في «ق1». عندما ننتقل إلى زنزانة جديدة نبدأ بالبحث عن ثقب صغير بين الجدران لنحشر فيه مسمارا أو ما يشبهه لنعلق به «عليجة» تحوي كل أملاكنا من ثياب أو أشياء أخرى.
لم يكن من السهل إيجاد الثقوب لحشر الشناق الحديدي المستخدم عادة لتعليق أكياس صغيرة نضع فيها أغراضنا، وكان لا بد من الاستعانة بشيء ما للطرق والحفر قليلا بين قطعتي البلوك حتى يحصل على موقع ثابت نوعا ما. كان أحد السجناء يملك حذاء قديما، لا يصلح للانتعال أبدا، إلا أنه يحتفظ بكعب صلد ينفع كمطرقة. بعد أن انتهينا من استعماله؛ ولأن عددنا كان كثيرا جدا وامتلأت كل أنحاء الزنزانة بالبشر والأغراض، اخترع صاحبه طريقة مبتكرة للاحتفاظ به؛ إذ ربطه بحبل صنعه من أسمال بالية وأخرجه من فتحة التهوية الوحيدة في الزنزانة ليتدلى في الخارج، وليتمكن من سحبه ثانية عند الحاجة.
في المساء جاء رجل أمن مع أحد الخونة المتعاونين من «ق2» ليلقي علينا تهمة الاتصال مع السجناء في «ق 2»، وادعى أنه رأى يدا تمتد من فتحة التهوية في زنزانتنا تلوح إلى شخص ما في قسمه، صار علينا وفق هذا الاتهام تحديد اسم الشخص المتهم بالتخابر من زنزانتنا وعليه أن يعرف باسم الشخص الآخر في الزنزانة المقابلة. أصبنا بالذهول من هذا الموقف الغريب وكيف سنخرج منه، ولم تفد كل محاولاتنا بإقناع رجل الأمن بأن أحدنا أخرج الحذاء من فتحة الشباك ليس إلا ورفض هذا التبرير ولم يلتفت إليه.
مراقبنا كان جبانا رعديدا ووضيعا إلى حد بعيد ولا يجرؤ على رد الاتهام، بل بذل كل جهده ليرمي التهمة على أحدنا ويتخلص من هذه الورطة ويتملق بذلك إلى رجال الأمن والخدمات، بالمقابل كان لا يأمن إزاحته من منصبه ومعاقبته لو فشل في تقديم اسم متهم بهذا الذنب المخترع. ولما لم يعترف أحد بالتهمة عاقبنا على الفور رجل الأمن بإخراج عشرة منا بشكل عشوائي وأوسعوهم ضربا، وهدد بأنه سوف يعود مع كل وجبة طعام ويختار عشرة أخرى وعلينا أن نقدم المذنب وإلا فإنه سيعاقبنا جميعا، وصرنا في حيص وبيص ولا نعرف سبيلا للخروج من هذا المأزق.
الخونة بيننا يبحثون عن قربان ونحن بالمقابل على يقين من بطلان ادعاء المخبر؛ لأنه أصلا لا يمكن لأحد أن يرى أحدا من ذاك البعد بين القسمين ومن خلال هذه الثقوب الصغيرة. إضافة لذلك كنا نزلاء جدد على هذه الزنزانة في يومنا الأول ولا يمكن أبدا أن نعرف من يسكن قبالنا أو من خلفنا.
استمر الحال على ما هو عليه في الصباح وأخرج عشرة آخرين ليتلقوا عقابا جماعيا، وأصبحنا مع كل وجبة طعام يأتي إلينا رجل الأمن ونقدم له عشرة قرابين ليعاقبهم، وزاد الأمر على ذلك؛ إذ إن المسئول الأمني أصدر أمرا بمنعنا من الوقوف في الزنزانة مطلقا، حتى عندما كنا نريد الذهاب إلى الخلاء أو التحرك في داخل الزنزانة علينا أن نقفز إما مثل الأرانب أو نزحف كالسلاحف. كان وضعا قاسيا تكبدنا فيه محنة إضافية لكل ما نحن فيه من ظروف شاقة وأليمة.
مرت ثلاثة أيام بلياليها ونحن على هذا الحال إلى أن اقتنع رجل الأمن بأن المخبر متوهم فيما يقوله، بعد أن تصدى لإقناعه شاب شجاع ذلق اللسان استخدم خزينه من الكلمات المنمقة التي بالغت في مدح رجل الأمن ووصفه بأوصاف لم يكن يحلم أن يسمعها لترتفع نسبة الزهو والغرور عنده إلى مديات عليا سهلت إصدار عفوه علينا امتنانا لكلمات صاحبنا الذي تلاعب به بشجاعة؛ لأنه لو لم يقنع رجل الأمن بما قدمه من حجج لوضع نفسه في فوهة المدفع ولتجرع عقوبة قاسية.
في هذه الأثناء واصلت صحتي الانحدار السريع وهزلت إلى درجة قياسية؛ الحمى لا تفارقني وكنت أتعرق بشدة خصوصا في الليل، وتنفسي بات شاقا وأقضي ليلي ونهاري مستلقيا. وفي أحد الأيام عند الصباح وأنا أغسل وجهي سعلت في إناء كنا نغسل فيه وجوهنا وأيدينا جميعا، وإذا بدم أحمر قان يخرج مع السعال ليدق جرس الإنذار في الزنزانة؛ إذ كان هذا بمثابة إعلان رسمي على إصابتي بمرض السل الرئوي.
فزع المراقب وبعض أنصاره خشية العدوى وبدءوا يفكرون الآن بطريقة للتخلص مني ونقلي خارج الزنزانة. بالمقابل كان هناك آخرون يبالغون في تقديم الرعاية والعناية لي ويضيقون على أنفسهم كثيرا في المأكل والمشرب والمنام لأجل توفير الراحة لي التي لا تتوفر لأحد. تدهورت صحتي جدا وأصبحت على مشارف الموت الفعلي بحيث لم يخف بعض السجناء قلقهم من ذلك، بل إيمانهم الكامل بأنه لم يتبق لي إلا القليل جدا في هذه الدنيا، وما زلت أذكر أحدهم الذي كان يكبرني بسنوات قليلة وهو يجلس إلى رأسي يحدثني عن الدنيا الفانية ويقول لي: إن الموت حق، ويواسيني بكلمات صبر وتشجيع.
لا أعرف لماذا لم أشعر بأي شيء في تلك الوضعية المزرية التي وصل إليها جسدي. لا أقدر أن أقول إني كنت صبورا على الأوجاع والألم وانحطاط قواي البدنية؛ لأني بصراحة كنت لا أشعر بأي شيء. الأمر بالنسبة لي كان يبدو عاديا جدا، وحتى عندما كنت أسمع كلمات المواساة والصبر لم أكن ألقي لها بالا على الإطلاق أو أعيرها أي اهتمام، بل كنت أرى أنه لا يستحق كل هذا العناء والتفكير منهم، وأراهم مهووسين بأمر ليس بذي بال. ولأبرهن على ذلك أني لم أتوقف عن التدخين حتى في هذه الظروف البائسة، إلا في مرحلة متقدمة عندما وصل بي العجز درجة تضاءلت فيها قدرتي على سحب الأنفاس للبقاء على الحياة ولم يعد هناك من مجال بعد للتمتع بلذة الدخان.
طبعا قد يظن البعض أننا كنا ندخن بشراهة من الضجر والملل الذي يملؤنا، وحتى نحن كنا نحسب أنفسنا من المدخنين المدمنين ولم أصح من هذه الفرضية الخاطئة إلا بعد سنوات، حين قابلنا طبيب في مستوصف المستشفى وسأل سجينا كان يشاطرني الزنزانة هل تدخن؟ - «نعم.» «أجابه رفيقي». وكانت «نعم» كبيرة استرعت انتباه الطبيب، فسأله ثانية: «كم سيجارة تدخن في اليوم؟»
فقال له صاحبي: «ثلاث سجائر باليوم، تمر كل سيجارة على عشرين مدخنا تقريبا في الزنزانة ليأخذ كل واحد منهم نفسا واحدا فقط.»
ضحك الطبيب مبتسما ساخرا. وانتبهت إلى العالم الغريب الذي نعيشه، وإلى كم المعتقدات التي نؤمن بها بشدة وهي وهم ظاهر.
أن نركب حقائق عالم على عالم آخر لا يمت له بصلة ونسقط تداعياته عليه بلا وعي فواصل الزمان والمكان والظروف الموضوعية، سوف يدفعنا إلى متاهة لا نهاية لها ويضعنا وسط لغز بلا حل.
كنا أحيانا ندخن بطريقة فكاهية بحق، وأكثر هزلية مما ذكرت؛ إذ عندما تنقطع السجائر عنا نروح نبحث عن بدائل لها. جربت واحدة من تلك البدائل مرة، وبعدها استسخفت الفكرة كثيرا لأمتنع بعدها نهائيا عن التدخين في السجن ولسنوات طويلة. كنا نجمع بقايا الشاي الذي يقدم لنا في الصباح ونجففه تماما، وكان لدينا صنبور ماء عاطل تم نزعه من أحد الحمامات؛ لأنه بالأصل لا يوجد ماء في الحمام، ولسنا بحاجة لهذا الصنبور العاطل ولا لغيره وإن كان صالحا. كنا نضع فضلات الشاي في هذا الصنبور ونحرقه ونسحب دخانه من الجهة الأخرى للصنبور وكأننا كنا ندخن غليونا. كان طعم الدخان لا يمت لدخان السجائر بشيء بل كان مرا لاذعا، ومع ذلك كنا نشعر معه براحة أكثر من تدخين السجائر؛ لأن مخلفات الشاي كثيرة، وكنا نحظى بأكثر من نفس واحد عند محاولة التدخين بهذا الغليون ولا يوجد تزاحم عليه بين السجناء كما كان يحصل في تدخين السجائر.
4
كان الجوع شديدا، يقدم لنا في الصباح حساء عدس وشاي وقطعة خبز صباحية (نسميها صمون باللهجة العراقية). كل صحن كان مخصصا لأن يأكل منه خمسة أشخاص أو أكثر؛ وهو بالكاد يكفي لإشباع شخص واحد. وفي الغداء يقدم لنا رز بمقدار قدح صغير، ومع ذلك لم يكن يصلنا هذا النزر الضئيل والمقدار البخس كل يوم، بل تقريبا مرتان أو ثلاث مرات في الأسبوع الواحد في أحسن الأحوال. عدا ذلك، كانت الوجبة الرئيسية في العشاء أو الغداء، عبارة عن حساء من شيء لا أعرف كنهه بالتحديد، يبدو حين يصلنا في قدر كبير (يسمى قزان بمصطلح السجناء) كأنه ماء ساخن تطفو عليه بضعة رءوس بصل وتسبح معه أشياء دقيقة سوداء، لا يدرى هل هي ديدان أم أشياء تؤكل. منظر القدر بما فيه يبعث على التقزز، ومع ذلك كنا نأكله بنهم شديد؛ لأننا كنا طاويين لحد المسغبة.
في مناسبات قليلة كان يصلنا لحم أو دجاج مرة في الشهر أو أكثر من ذلك، وفي مرات نادرة جدا حظينا بسمك، وكل ذلك لم يكف لسد الجوع أبدا.
الأواني التي نستلم بها الطعام مضحكة، مثلما هي الطريقة التي يسلم بها. كان القزان الكبير يصل إلى باب الزنزانة يدفعه واحد من عناصر الخدمات على صناديق بلاستيكية تسهيلا للحركة، ويبدأ بإعطاء كل زنزانة نصيبها. يقدم المراقب صحنا كبيرا من تحت القضبان لتسلم الرز، وبالطبع هذا الصحن الكبير ليس كما تشي به الكلمة؛ لأنه لم يكن في الحقيقة سوى غطاء لبرميل الماء البلاستيكي.
يبدأ المراقب بعدها بتوزيع الحصص التموينية بواسطة قنينة زيت بلاستيكية (تشبه قناني الماء والكولا حجم لترين) شقت إلى نصفين لتصبح أداة غرف، ويقدم الطعام لكل مجموعة سجناء في صحون معدنية مسطحة. وهكذا الأقداح التي نشرب بها، لها أشكال غريبة عجائبية منوعة مثل أدوات الأكل، ومن الممكن أن تكون عدلت طريقة استعمالها من أي شيء، كأن يكون علبة معدنية أو قعر قنينة زيت، وعلى كل حال لم يكن هناك الكثير من الماء لنشربه.
الماء يصل إلينا عبر خرطوم طويل، الذي يمر نصف ساعة على كل زنزانة لتتزود به بملء برميل بلاستيكي يشد بإحكام إلى الحائط الذي تتواجد فيه فتحات التهوية. ولأن الساحة الخلفية كانت مكبا ضخما للنفايات فكانت تتوافد إلى هذا البرميل حشرات لا عد لها ولا حصر وتموت فيه، ولم يكن هذا سببا رادعا للامتناع عن شرب الماء. كل ما كان يجري هو إزاحتها قليلا قبل الشرب وينتهي الموضوع وكأن شيئا لم يكن مع أنه كان يحصل في كل لحظة.
كان الماء شحيحا إلى درجة لا تصدق، وصل في بعض المرات إلى أن يكون حصة كل سجين نصف لتر تقريبا، وفي أحسن المرات ثلاثة أرباع اللتر في اليوم والليلة الواحدة، يستعملها السجين لكل الأغراض من شرب واستحمام وللشطف بعد قضاء حاجته ولغسل ملابسه وأواني طعامه. ولولا أن المكان كان مظلما لا تزوره الشمس بالمطلق لما أمكن لأي أحد العيش في هذا العطش المتواصل.
يحصل أحيانا أن يصل إلينا الخبز أكثر من المعتاد؛ لذلك لجأ السجناء إلى جمع كل الفتات المتبقي منه وتجفيفه في أكياس (جنفاص) بيضاء تشبه الخيش إلا أنها مصنوعة من خيوط نايلون صناعية، تعلق في أعلى الزنزانة قريبة إلى السقف، توفر لأيام المجاعة، وما أكثرها.
تمر علينا أيام صعبة من نقص شديد في الطعام؛ إذ يصبح ضئيلا في مقداره متأخرا في وصوله. عندئذ، كنا ننقع الخبز اليابس بالماء لتصيبه طراوة تيسر على الأضراس طحنه، وبعضهم كان يستلذ بأكله يابسا كل بحسب ما يروم ويشتهي، وبالأحرى كل بحسب درجة الجوع التي انتهى إليها. كنت وأنا آكله أحس بطعم الغبار في حلقي، ولكنه لم يحجزني عن جرشه ولا صدني عنه أبدا؛ لأن الجوع صاحب قلب كبير يتسع لكل أنواع الطعام، لا يحجز أحدا منه؛ لا جيدا ولا رديئا، ويشكر بعدها بامتنان مهارة صانعيه ولو كانوا أسوأ الطباخين. لا أقدر أن أصور الجوع الذي كنا نتلوى منه، هل تكفي كلمة مخمصة ؟ لا أدري.
بعض السجناء - خصوصا من حديثي السن المراهقين وبعضهم لم يتجاوز الثلاثة عشر ربيعا - كانوا - زائدا عن ألم فراق آبائهم وأمهاتهم بعد أن اختطفوا من أحضان أهليهم - يأنون من لهيب جوع يستعر ولا يجدون ما يخمدونه به، وحين يجتمع برد صرد وجوع جارف كان حتى الكبار يتأوهون من فعلهما القبيح. في إحدى الليالي شوهد أحد السجناء وهو يجلس منزويا تحت جنح الظلام يبكي، وراحت الظنون أن به أمرا جللا كان يتكتم عليه وها قد طفح الكيل به، فلم يعد قادرا على مواراته أو لربما دهمه شوق وحنين ما تملك من زجره كما كنا نفعل جميعا؛ إذ كنا جميعا نمارس لعبة فقد الذكريات ونفرغ أذهاننا من الماضي ونوصد الأبواب عليها حتى لا يصيبنا الجنون، لكن حين الاستفهام منه عن سبب هذا البكاء المباغت بلا مقدمات جاء الجواب المريع: «البرد والجوع يقتلني». (هكذا قال)، وعاد منخرطا في بكائه المرير.
إلا أن معاناة الصغار كانت أشد من ذلك، وصل الجوع ببعضهم إلى أن يصنع فطيرة لم يوص بها أمهر الطباخين. كانوا يأخذون قطعا من رغيف متيبس ويمسحونه بمعجون الأسنان كما لو أنه يدهن الخبز بزبدة أو قشدة، ويتلذذ أحدهم فرحا منتشيا وهو يقضمها مع مجموعة من رفاقه في حفلة أكل جماعية والبسمة تعلو محياهم، كأنهم يحتفلون بعيد ميلاد صديق لهم. لم يكن يسيرا تجربة هذا النوع من الشطائر؛ لذلك لا أعرف طعمها، لكن أعرف من تذوقها، بل ازدردها وأسكت عويل أمعائه الخاوية بها ولم يندم على ذلك.
مما يزيد الوجع والألم قسوة هو الانتظار، وما يضاعفه أكثر حين يكون الهدف المنشود والأمر المبتغى بمرأى العين تتحسسه الجوارح وتهفو إليه الجوانح لشدة قربه، لكنه ينأى بعيدا في غور عميق ولا يحول عنه ويحجز الإمساك به ويمنع الوصول إليه إلا وهم خادع. هذا ما كان يحصل في مرات كثيرة ونحن نتلوى جوعا ننتظر وجبة مقرفة من حساء لا طعم له، ونجبر ذائقتنا على التلذذ به برضا وقناعة مع أن الأولى بنا مجه وقيئه، لكن لا حيلة لذلك؛ لأن خيار الموت جوعا هو البديل لو امتنعنا عن قبوله.
كنت آكل ليس حبا في الأكل ولا رغبة في البقاء على قيد الحياة لأجل البقاء، إنما كنت أفعل ذلك لأواصل المقاومة وأتحدى بمواصلة الحياة عدوي الذي يريد أن يرغمني على الظن أن لا مكان لي في هذه الدنيا بهذه الأفكار وبهذا النفس المتمرد، ويجب علي إما الخضوع له أو مغادرتها إلى عالم آخر.
نافذة خيالاتي كانت تسرح بي بعيدا خارج الزنزانة، إلى كتب أدمنت مطالعتها، وقيم ومبادئ التزمت بها، أشربت بها وتجري في عروقي، منها نبت لحمي وعظمي وكل كياني. أسرح مثل خيول برية، أمرح في سهوب روايات أبحرت فيها من قبل، وقصائد عشقتها، أعلو هضاب كتابات جادة وألتقط من عشبها. الذاكرة كانت حية ولم تزل فيها بعد طرية كلمات ناظم حكمت وهو يقول في بعض أبيات قصيدة إلى مرشحي السجون كنت متيما بها قبل اعتقالي:
احرص على تناول حصتك من الخبز حتى اللقمة الأخيرة.
واحذر من نسيان الضحك ملء الفم.
الشاعر التركي يبرر ذلك بأنهم يريدون قتلك، فلا تمنحهم الفرصة لفعل ذلك. منطق سليم تلقفته وعملت به بإخلاص شديد، كنت أواصل الحياة لأنكد عليهم مسعاهم وأحبط مشروعهم ولأقول لهم: إننا باقون في هذه الدنيا وسوف يبقى صوتنا يطوف في الدنيا وصورنا سوف تظلل الأرض أعلى من السحاب، أما أنتم فسوف ترحلون ولن يبقى صوت لكم ولا صدى، وسوف تختفي عينكم هي والأثر.
كان أمرا يبعث على السأم والملل أن تجلس ساعات طوالا ترنو بعينيك إلى طعام ملقى أمامك، وأمعاؤك أودى بها الخواء إلى العجز حتى عن التلوي ألما. وتجد يدك مغلولة لا تجرؤ على كسر رغيف خبز أو خطف رشفة من حساء حسنته الوحيدة التي تشجع على الأكل أنه ساخن، وتراه يبرد ويفقد كل ما فيه، وسبب ذلك كله أن التلفاز يذيع خطابا للقائد الهمام، أو يعرض برنامجا يزور فيه قطعة عسكرية أو يقلد أوسمة لضباط. يستغرق عرض البرنامج أحيانا أكثر من أربع ساعات ونحن مسمرون إلى أماكننا. لا يسمح لنا بالحديث ولا بالحركة ولا الأكل والشرب ولا حتى الذهاب إلى المرحاض لقضاء الحاجة، ولو اضطر إلى ذلك. نظل ملتصقين إلى أماكننا، نجلس كأننا تماثيل شمع. ومن يرتكب أيا من هذه المحظورات، يعرض نفسه إلى عقاب كبير؛ لأن التجاوز على ذات القائد يعني الموت بحسب القانون، فكيف تفعل ذلك وأنت أصلا متهم بالخيانة ومعاداة الوطن والحزب القائد والثورة.
5
استطاع شاب شجاع أن يدبر لي بعض المضادات الحيوية، ساعدت على كبح تدهور صحتي ولو قليلا. وقام بفعل جريء آخر؛ فحين يوضع أمام الزنزانة كيس كبير فيه خبز لتؤخذ الحصة بحسب عدد السجناء، كان يستغفل عناصر الخدمات ووكلاء الأمن ويأخذ أكثر من الحصة المقررة بضع قطع إضافية ويدخرها لي ليمنحني فرصة أكبر لمقاومة المرض الذي يواصل تقدمه ويحرز انتصارات واضحة في جسدي. هذا الشاب كان طالبا في الكلية العسكرية حين اعتقاله؛ لذا كان شجاعا وجريئا وفعل أشياء كثيرة لإبقائي حيا وإعانتي على تجاوز الأزمة، وسوف أبقى أحتفظ له بهذا الجميل رغم تواضعه وخجله عندما أذكره بها شاكرا. مرة وبعد سنوات طويلة التقيته في ظروف مثالية وشكرت له موقفه الخالد، رأيت على سحنات وجهه حياء كأنه خفر العذارى مما دفعه للطلب مني متوسلا ألا أعيد ذكر ذلك. لم أعد أذكر ذلك أمامه، لكن هل بوسعي ألا أذكر ذلك في كل مرة تخطر على بالي تلك الأيام؟ كلا، ليس بإمكاني تجاوز صنعه لي؛ لأني أعرف أي مخاطرة كان يخاطر بها لأجل دافع إنساني في قلبه الطيب، وأي تضحية كان مستعدا أن يقدمها لإنقاذ حياة إنسان مثله. مثل هذا الشاب كان يلقى في غياهب السجون؛ لأنه يحمل قلبا طاهرا وأخلاقا رفيعة ويتصدى بنبله وعلو أخلاقه لنظام يحمل كل الرذائل والمفاسد.
مع كل هذه الجهود التي بذلها صديقي، إلا أن ذلك لم يحل من تراجع صحتي، مما أشعل مخاوف جدية من انتقال العدوى إلى الآخرين. الخوف كان واضحا على وجوه بعض السجناء ممن لا علاقة لهم لا بالسياسة ولا المعارضة ولا الثقافة ولا أي شيء يمنحهم لقب سجين سياسي من خصال التضحية. دب الرعب بين هؤلاء وانضموا لجوقة المراقب الذي بذل جهودا كبيرا عند الخدمات لإقناع الأمن بضرورة إخراجي من الزنزانة ونقلي إلى زنزانة مخصصة للحجر الصحي يودع فيها كل المصابين بمرض التدرن الرئوي، وقد نجحت مساعيهم لاحقا.
قبيل نقلي إلى زنزانة الحجر الصحي ورغم شدة مرضي، إلا أني لم أتوقف عن روح التمرد والاحتجاج. في كل زنزانة هناك شخص يسمى مسئول الماء، له من الأهمية والمقام الكثير؛ لأنه يمسك بالماء عصب الحياة، وبالعادة في زنزانة مثل التي كنت فيها حيث يوجد مراقب يعد واحدا من أكثر المتعاونين مع الأمن خسة وجبنا ونذالة، فلا بد أن يكون مسئول الماء متناغما معه. وكان كذلك وإن لم يش بأحد إلى الأمن يوما، إلا أنه كان انتهازيا رخيصا. ولأن الماء شحيح، فمن المفترض أن نحظى بحصص متساوية، إلا أنه كان يسرق لنفسه ويرشو المراقب بحصة زائدة. واجهت سرقته وأحرجته باعتراض علني. كان يحاول سرقة الماء حين يطلب عناصر الخدمات سحب خرطوم الماء من زنزانتا إلى زنزانة أخرى بعد انتهاء الوقت المخصص لنا، يقوم هو في هذا الوقت بوضع الخرطوم في إناء خاص مستغلا الوقت القليل الذي يستغرقه سحب الخرطوم، وبدلا من أن يضع الماء في البرميل المخصص له يقوم بإخفائه لصالحه. لم تكن الكمية أكثر من قدحين إلى ثلاثة أقداح، لكن كانت بالنسبة لي مهمة جدا، والأهم أنه فاسد يستغل منصبه للتلاعب بثروة عامة لصالحه الخاص؛ لذا كنت أراه أمرا لا يحتمل السكوت عليه.
الغريب أني اكتشفت خواءه وجبنه بحركة معارضة صغيرة، كان رعديدا تهزه كلمة، ويفزعه موقف تصد واحد. مثله مثل كل المتظاهرين بالجبروت من الطغاة يفزعون من كلمة حق يلقيها امرؤ أعزل. إن ما يجعلهم كبارا مرهوبين هو وهم الخوف الذي يملأ نفوس الناس وليس أي شيء آخر؛ ولذلك سعى هو الآخر للتخلص من وجودي في الزنزانة. تواجدي في محل واحد معه أرقه كثيرا إلى حد أنه بعد عدة سنوات حين جمعتنا الصدف مرة أخرى في زنزانة جديدة، وجدته أيضا مسئول الماء، وبمجرد دخولي إليها، أول شيء فعله أن جاء إلي مباشرة، هامسا، طالبا مني بود واستعطاف ألا أثير عليه المشاكل من جديد وأزيحه من منصبه، وحاول إرضائي بمبالغة زائدة في الاحترام.
ازدادت قناعتي من هذا الموقف بأن المتجبرين ما هم إلا جبناء ألبسهم خوف الناس لباس القوة والجبروت. وصرت أتمسك أكثر بمنهجي بألا أهاب أحدا منهم ولا أتردد في مواجهتهم، ويزداد عجبي من الخشية التي تعتمر قلوب كثيرين من وهم القوة التي يصنعها الطغاة والمستكبرون لأنفسهم، ويخضعون لكذبتها ويظنونها حقيقة راسخة لا يمكن الفكاك من سطوتها.
قد يقال إن الحديث عن هذين الكوبين من الماء به مبالغة كبيرة، وإني جعلت من الحبة قبة، وصيرت أمرا هينا معضلة عويصة، وأعطيتها عناوين ضخمة من استغلال منصب وتلاعب بالثروة العامة إلى آخره من الشعارات الكبيرة. أستطيع أن أؤكد أن الأمر يستحق وكان فعلي بالتصدي مبررا جدا. أما حديثي عن العناوين الضخمة فمرده أن من يظهر فحشه في الجرائم الكبرى فهو ليس بحادث جديد، بل هو تاريخ طويل من حوادث صغيرة تراكمت، غفلت أو تغافلت عنها عيون الناس، ولما تعاظم عددها كبر خطرها وانفجرت. كان من السهل جدا وأدها أو إصلاحها من قبل وهي لم تزل صغيرة. لا معلول بلا علة، وتراكم الكم يحدث تغييرا في الكيف، وإن المبادئ لا تتجزأ والقيم لا تتغير، ومن كان هنا فسوف يكون هناك؛ إن صالحا أو طالحا، شينا أو زينا. أما هذان القدحان فقد تشترى بهما حياة إنسان في ذاك المكان المنسي؛ لأن الماء كان معدنا نفيسا أغلى من الياقوت والزمرد، وكان كل سجين يحرص أن يتصرف به بعناية شديدة واقتصاد مبالغ به.
في ليلة من الليالي نهض شاب من رقدته، وقد مر به طائف ذكره بفحولته، وبعيد مغادرته اكتشف أن ما خرج منه من مني قد أدخله في ورطة وأصاب ملابسه وبطانية ينام عليها؛ ولأن الماء شحيح جدا فلا يمكن له أن يغسل كامل ثيابه أو سائر البطانية مما اتسخت به، فكان عليه أن يحدد أي موضع أصيب بالقذارة ويحاول أن ينظفه، لذا خاطر بالنهوض من مكانه ليلا وجاء بقطعة صابون، ورسم على المواضع التي يريد غسلها دوائر صغيرة حتى لا يهدر الماء ويبذره؛ لأن الحصة محدودة شحيحة. النهوض في الليل أمر محظور وجريمة كبرى، وصادف لسوء حظه أن لمحه أحد عناصر الخدمات وهو يخط بالصابون حدود ما يريد غسله فوشى به إلى الأمن.
مساء اليوم التالي دخل ضابط الأمن وزبانيته وأخرجوه من الزنزانة، ليعذبوه تعذيبا أسطوريا لانتهاكه قواعد السجن في النوم ولرسمه هذه الدوائر الصغيرة، متهما إياه بممارسة السحر والشعوذة، وأنه دجال إلى آخره من التهم السخيفة التي لا أصل لها ولا أساس. جرى تعذيبه لأجل أقداح ماء أراد أن يوفرها، ونتيجة هذا التعذيب كانت أن فقد هذا الشاب عقله. بعد تسع سنين حينما رأيته آخر مرة، وجدته كما هو ما يزال يعاني من آثار ذلك التعذيب الذي أفقده عقله، ولم يطرأ عليه تغيير ولا تحسنت حالته. إذن، ثورتي على مسئول الماء كانت تستحق الاندلاع. القصص كثيرة ولكني أوردت لها قصة واحدة، كمن يكتفي بنعيب غراب واحد من كل خربة.
كل يوم يحمل قصة ألم جديدة، ترى شخصا يتعرض للضرب والأذى لسبب لا تصدق أنه يعد ذنبا حتى في أخس الشرائع. في إحدى الأماسي دخل أحد رجال الأمن إلى القسم ورأى سجناء يشبكون أكفهم من بين القضبان متكئين على حديدها، اعتبر ذلك سوء أدب لا يغتفر. ولقنوا درسا في عدم تكرار هذه المعصية الكبيرة بالضرب المبرح بالهراوات على أكفهم حتى تورمت وانتفخت محمرة من جراء السياط التي تلقوها. كنت أنظر من آخر الزنزانة إلى منظرهم وهم يعاقبون ولا أكاد أصدق أني سوف أنجو من الضرب مهما حاولت أن أكون بعيدا متواريا عن الأنظار. إنه أمر لا بد أن يحصل، لأنه - وبكل بساطة - لا يوجد منطق لتجنبه.
في يوم آخر - وكان يوم عيد الأضحى - جاء رجال الأمن صباحا وأخرجوا سجينا وانهالوا عليه بالضرب، كان يركض نصف عار في الممر أمام مرأى كل من كان في الزنزانات، تنهال عليه الهراوات من كل صوب وحدب، لا يعرف أين يختبئ ولا إلى من يلجأ، صار جسده الأسمر أحمر قانيا، واختلطت دماؤه باحمرار جلده من أثر الصفعات والركلات والهراوات التي انهالت عليه. لم نكن نعرف - ولا حتى هو يعرف - ما ارتكب من ذنب ليتلقى كل هذا العذاب صبيحة يوم العيد. وبعد نصف ساعة تقريبا من جولات التعذيب المتواصل وأمام إلحاح منه بسؤاله للجلادين: «ماذا فعلت؟»
جاءه الجواب: «إنك حاقد.»
كان شجاعا وظريفا أيضا ولم تختف روح الطرفة لديه حتى بعد كل هذا العذاب، فقال للضابط: «سيدي، أنا كنت خائفا من أن أكون قد ارتكبت فعلا محظورا، لكن الحمد لله القضية سهلة؛ لأن كل السجناء حاقدون.»
رغم دموية المشهد وشفقتنا عليه مما لقي من الأذى، إلا أنه أضحكنا جميعا وأخرس الجلاد إلى حد أنه توقف عن ضربه وانسحب مستشعرا الموقف السخيف الذي وضع فيه.
لأسباب لا يجدر بي أن أسميها أسبابا؛ لأنها لم تكن سوى ذرائع واهية للانتقام منا، وقعت مشاهد كثيرة من التعذيب وبعضها كان فيه من حجم الوحشية وكمية السادية التي تحتويها بحيث لا يمكن لأحد أن يصدق أن بشرا قادر على فعلها. بعضها أفضى إلى موت الضحايا، إما مباشرة بعد الضرب أو بسبب عطل أصاب أحد الأعضاء الحيوية وتوفي إثر ذلك لاحقا.
أحدهم كبل ومدد على منضدة ما عدا رأسه، كان يخرج عنها، وعلقت قنينتا غاز موصولتان بسلسلة حديدية إلى طرفي عنقه كأنه مصلوب على لوح خشب وانهالوا عليه بالضرب. لم يكن يقوى على الحركة فيما الضربات تنزل عليه تسحق عظامه وتفتت جلده الطري لينزف من كل موضع، وعنقه كاد يكسر من ثقل ما تدلى منه، حمل شبه مغشي عليه إلى زنزانته وكانت هذه آخر مرة يرى فيها سليما ليناله مرض شديد، وتضاءل حجمه حتى صار شبحا ثم اختفى من السجن والدنيا إلى الأبد.
آخرون كانوا يعاقبون بأن يطلب منهم ارتقاء قضبان الزنزانة إلى الأعلى ثم تقيد أيديهم وأرجلهم إلى القضبان، ويبقون معلقين وقوفا أياما على ذلك الحال. أما ما كان يعرف بالفلقة فكان أمرا شائعا كثير الاستعمال. وفي مرات كثيرة كانوا يبالغون في إذلال السجناء فيطلب منهم التقلب على ظهورهم ورءوسهم في الممر بين الزنزانات، ومن يتردد أو يمتنع أو حتى يتوقف من التعب يلهبوه بالسياط.
كان الموت يدور بين الزنزانات، يبحث عمن يستعجل الرحيل. وفي زنزانة مجاورة لزنزانتنا بلغ المرض أشده بسجين، وبعد تفسيرات وشرح مطول لرجال الأمن أن الزنزانة لا تكفي أن ينام فيها أحد على ظهره وأن هذا السجين أضحى من الضعف بحال أنه لم يعد قادرا أن يقلب جسده ولا بد من نومه مضطجعا طيلة الوقت على ظهره، حينذاك سمح الأمن بإخراجه من الزنزانة وأن يسجى إلى جانب قضبانها في الممر كي يقدم له رفاقه في الزنزانة العناية اللازمة من أكل وشرب، إلا أنه لم يرهق رفاقه. ففي صباح اليوم التالي غادرنا ليسحب ببطانية كان ينام عليها ويتلاشى نجم آخر من سمائنا. وعقب ذلك عدنا إلى حياتنا اليومية بروتينها ننتظر حدثا جديدا مفجعا آخر.
لم يتوقف أي شيء، كل الأمور سارت كما هي؛ لأن الموت كان زائرا مقيما لا يثير فينا استغرابا إذا ما خطف أحدنا إلى عالمه الفسيح. الأحداث المفجعة والمحزنة كانت لا شيء بنظر رجال الأمن. وأذكر فيما كان صاحبنا تلفه بطانية ويخرج من الباب عينه الذي دخل منه، حصلت بعض الهمهمة أثناء توزيع وجبة الطعام الصباحية، فقال بصوت عال أحد أفراد الخدمات مؤنبا السجناء: «شبيكم اليوم؟ سامعين شي؟ صاير شي؟»
همس أحدهم في أذني: «لا ما صاير شي، بس واحد مات.»
6
أخيرا وبعد مناشدات كثيرة من مراقب الزنزانة للخلاص مني خشية العدوى من مرض السل الذي أنهكني ونصائح لي من مخلصين بأنه من الأفضل أن أذهب إلى زنزانة أخرى خاصة حصريا بمرضى التدرن لإمكانية حصولي على علاج، جاء أفراد من الأمن في إحدى الليالي وأخرجوني وآخرين من زنزانات أخرى لينقلونا إلى زنزانة الحجر الصحي. وضعوا على رءوسنا منشفة ليمنع أي أحد من التعرف علينا ونحن نسير في ممر طويل فارغ نحو زنزانة الحجر الصحي.
كان الممر ذاته الذي دخلنا منه أول يوم عند وصولنا السجن، على جنبيه توجد أقسام لسجناء آخرين ذوي قضايا لها علاقة بالسياسة أو الأمن الخارجي إلا أنهم غير متهمين بقضايا الانضمام إلى تنظيم معارض. كانوا يحظون بفرصة مواجهة أهاليهم في كل شهر مرة واحدة، ولديهم حرية أوسع بكثير منا؛ بإمكانهم التمشي في الممرات وفي ساحة كبيرة بحجم ملعب كرة قدم، يتعرضون للشمس يوميا ويطبخون أكلهم بأنفسهم، وكل واحد منهم له سرير خاص أو مكان خاص، أحيانا تكون الأسرة متعددة الطوابق إلا أنه مع ذلك يبقى لكل واحد منهم مكانه الخاص، وربما في فترات اكتظاظ السجن لا يجد بعضهم مكانا ينام فيه، لكن ليس بالطريقة التي كنا نعاني منها، فهم في حال بالنسبة لنا كان يعد فردوسا ونعيما. لا يتوهمن أحد أنهم كانوا مرفهين فعلا، إنما من ضرب بالموت يرضى بالعمى.
كان التواصل معهم مستحيلا إلا أنهم كانوا يعرفون بوجودنا الإجمالي، وكانت تحاك حول أوضاعنا قصص مرعبة تزيد من خشيتهم من الالتحاق بنا؛ لذا لم يجرؤ أحد منهم على ذكرنا ولو همسا. ومع كل هذا فإن رجال الأمن عندما يريدون أن يدخلوا إلى أقسامنا يغلقون كل الزنزانات التي يعيش فيها هؤلاء السجناء الذين كنا نسميهم سجناء الأقسام المفتوحة قبال تسميتنا؛ حيث كنا نسمى بسجناء السجون المغلقة والتعبير المختصر الشائع المفتوحة والمغلقة.
إذا أراد رجال الأمن إدخال شيء إلى أقسامنا يغلق السجن كله وتمنع الحركة في الممر بالتمام بعد إخلائه بالكامل من أي فرد حتى لو كان من حرس السجن؛ إذ لم يكن يسمح لأحد بدخول أقسامنا إلا أربعة أشخاص من الأمن مصرح لهم بصفة شخصية يستبدلون في فترات متباعدة. وفي أيام مواجهة سجناء الأقسام المفتوحة كان تمنع علينا الحركة ويحظر علينا الوقوف ونجبر إما على النوم أو الجلوس، ونؤمر أثناء ذلك بلزم الصمت المطلق لمدة تتراوح بين أربع إلى ست ساعات حتى لا تظهر أي علامة تدل على وجودنا للزوار القادمين من خارج السجن. بعض الأمهات المنكوبات بفقد أبنائهن كن يأتين يبحثن عنهم ويسألن سجناء الأقسام المفتوحة لعل أحدهم يعرف مصيرهم، لكن لا يحظين بجواب؛ لأن الخوف من عقاب الأمن كان رهيبا كما هو العقاب نفسه.
عرفت فيما بعد أن والدتي فعلت ذلك أيضا وحاولت معرفة مصيري؛ ولأننا كنا مثل شجرة آدم، أي شخص يلمسها يحظى بالشقاء الأبدي. كان سجناء المفتوحة يتهربون من الإجابة في أكثر الأحيان، إلا أن صديقا لي قال لوالدتي: إني أقبع خلف هذه الأبواب بطريقة الغمز والإشارة. وفهمت هي تلك الإشارة ورجعت مستبشرة ببقائي حيا وانتظرت سنوات بعدها لتراني لأول مرة.
لكن والدة أخرى بلغت من الجرأة والتحدي الكثير حين قال لها سرا أحد السجناء: ابنك يخفى وراء هذا الباب. وانسل بعيدا عنها. وقفت أمام الباب تصيح باسم ابنها، وكان صوتها عاليا يصل لكل السجناء، وابنها فيهم عاجز عن الإجابة. وعندما سمع رجال الأمن بصراخها حاولوا إفهامها أنها متوهمة ولا يوجد أحد خلف الباب، أبت تصديقهم وعرفت مكرهم وخداعهم وأصرت على طرق الباب المصفح والنداء على ابنها السجين السياسي المخفي، وعندما أجبرها الأمن بالقوة على مغادرة السجن صاحت منادية ابنها: «عفية ابني السبع، حكومة دبابات وطيارات وجيش وشرطة كلها خايفة منك وضامتك علي، عفية ابني السبع.»
في هذا الممر الذي شهد حكايات كثيرة من قتل سجناء من التعذيب الوحشي أو سحب جثث آخرين بعد أن قضوا مرضا وجوعا، سرت تلك الليلة وأنا مغطى الرأس بمنشفة، أمشي وئيدا وصاحبي. نهرنا أحد رجال الأمن يستعجلنا المشي إلا أننا كنا نبذل قصارى ما عندنا للبقاء واقفين وألا نهوي إلى الأرض، وكان المشي بالنسبة لنا مهمة عسيرة للغاية، فقال له صاحبه ردا عليه: «اتركهم، كلها أسبوعان ثلاثة ونخلص منهم للأبد.»
كان جليا أننا في الرمق الأخير، ولم يبق لنا من رحلة هذه الدنيا إلا صبابة كأس بلغ حد الثمالة. وصلنا إلى آخر الممر حيث فتحت منه باب جانبية على غرفة واسعة خاوية من كل شيء، ومنها فتحت باب أخرى قادتنا إلى ممر صغير مظلم على جنبه الأيسر ثلاث زنزانات تكاد تكون مربعة بطول ضلع يقارب الأربعة أمتار. وعلى الجهة اليمنى خمس زنزانات صغيرة؛ ثلاث منها بعرض متر ونصف تقريبا وأكثر من مترين بقليل طولا تسمى بالمحاجر، وزنزانة أخرى كأنها مخبأ على شكل حرف «L» بالإنجليزية لا يوجد فيها أي فتحة للتهوية أو الضوء، وزنزانة أخرى بأبعاد مترين في ثلاثة أمتار. صار نصيبي أن أودع في واحدة من تلك الزنزانات الكبيرة بسبب وضعي الصحي المتدهور.
كان المكان مشبعا برائحة مرض ثقيلة ونتانة ورطوبة، ومظلما أكثر من الأقسام الأخرى التي عشت فيها، إلا أن أبواب الزنزانات مفتوحة دائما وهذا تطور كبير غير مألوف؛ إذ يمكن هنا أن يتحرك المرء بين الزنزانات ويتزاور مع الآخرين. والأكثر أهمية أن الوشاة والخونة لا وصاية لهم في هذا المكان. كان المكان يعد آمنا منهم ومن مكرهم، وهذا الجو يسمح بتداول الأحاديث السرية بحرية أكبر من الأقسام الأخرى.
كان لكل زنزانة اسم خاص حصلت عليه من السجناء على سبيل المزاح والطرفة التي لم تعدم عندهم أبدا في أي لحظة حتى في أشد الظروف قساوة.
زنزانتي الأولى التي سكنت فيها في المحجر تسمى «عباد الرحمن»، وليس لهذه التسمية من سبب ديني كما يبدو للوهلة الأولى، إنما سكان هذه الزنزانة كانوا مرضى جدا ويمشون بتؤدة بالغة بسبب وضعهم الصحي الحرج، وبعضهم قد فارق الحياة لشدة مرضه. اقتبس أحد الظرفاء من آية قرآنية تقول:
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا
وصفا لطريقة سيرهم. وتلقف الآخرون الفكرة المضحكة وأصبحت تسمية شائعة تطلق على هذه الزنزانة.
الزنزانة الوسطى تسمى «بوليفيا»، ليس لأن فيها أحراشا ولا لأن سكنتها من أمريكا اللاتينية، بل لأنها كانت تشهد تغييرا في موقع المراقب بصورة سريعة، بحيث كانت تنام على اسم مراقب وتصحو على آخر بحركة مفاجئة غير مفهومة، في وقتها كانت بوليفيا تشهد موجة انقلابات كثيرة فأطلق على هذه الزنزانة هذا الاسم لتشابه الأحوال بينهما.
الزنزانة الثالثة تسمى «لبنان»، السجن في الصيف حار جدا لانعدامه من فتحات التهوية وخلوه من أي وسيلة للتبريد، إلا هذه الزنزانة بالذات تقع قرب ممر به مبردة هواء كبيرة مما أتاح لها التمتع بنسيم بارد يتسلل إليها من تلك المبردة، فيما الزنزانات الأخرى محرومة منه. السجناء اعتبروها منتجعا باردا ذا جو معتدل يصلح أن يكون مصيفا كما كان يفعل من يريد السياحة بزيارة ربوع لبنان ومصائفها في موسم العطلة الصيفية.
الزنزانات الصغيرة كانت محاجر انفرادية ليس لها تميز؛ لذا لم تحظ بأسماء خاصة، إلا الزنزانة المخبأ، الخالية من الضوء وفتحة التهوية، سميت «الكهف» لأنها تختلف في كل شيء حتى إنها بلا قضبان، مقدمتها باب حديدي يشبه باب مخزن أو هو كذلك بالفعل.
المكان كله يسمى «المحجر» اشتقاقا من كلمة زنزانة الحجر الصحي، وكان متميزا جدا في السجن، ليس لأن سكانه مرضى بالسل وحسب، بل لأنه كان آمنا من مراقبة رجال الأمن؛ لأنهم يخشون العدوى ويتجنبون الدخول إليه أو التقرب من نزلائه السجناء. وهذه نقطة ضعف حرص السجناء على تعزيزها عند كل رجل أمن يشرف على القسم ويحاول الدخول إليه. في الحقيقة كان المكان مقرفا برائحته لكننا تشبعنا بها ولم نعد نميزها. أذكر مرة حاول رجل أمن أن يبدي أمام رفاقه شجاعة وجسارة محاولا اقتحام المكان، لكنه ما إن دخل مترين أو ثلاثة، حتى خرج راكضا، وما إن وصل الباب تقيأ كل ما في معدته مستفرغا ما فيها. لم يصبر على عفونة المكان ولو لثوان قليلة. الحادث كان مبعث سرور لنا؛ إذ إننا نلنا به مزيدا من الحصانة والأمان، خصوصا أن الحادثة جرت على مرأى ومسمع من رفاقه الذين رأينا بعضهم بالكاد يمسك نفسه عن التقيؤ، وهم يقفلون باب القسم بسرعة ويهرولون هاربين من جحيمه.
هذا الأمان النسبي جعل سجناء عديدين يخاطرون بالوصول إليه مدعين الإصابة بمرض التدرن، تخلصا من وشاية الخونة ومراقبة رجال الأمن ومن التعذيب شبه اليومي النمطي الذي كان مستمرا في الأقسام الأخرى. وبالفعل نجح أكثر من واحد منهم بالوصول إلى المحجر بهذه الحيلة.
وجود ممر مفتوح على مدار الساعة سمح للبعض أن ينام فيه مما خفف شدة الزحام في الزنزانات، كما أن الأبواب المفتوحة تعني حرية لا بأس بها من الحركة مما سمح للبعض بالمشي نهارا في هذا الممر القصير. أما عدد السجناء فيه فكان يعتبر جيدا قياسا إلى أعداد السجناء في الأقسام الأخرى، على الرغم من أن عددنا بلغ مائة وثمانية وستين شخصا، في حقيقة الأمر كان مكانا مكتظا جدا خصوصا مع وجود كثير من المرضى فيه إلا أنه - ورغم كل ذلك - يعد مكانا أفضل من الأقسام الأخرى.
7
مرض التدرن مستوطن بشكل مزمن ولم يصب الرئة فقط كما في حالتي، إنما الإصابات توزعت على أجزاء أخرى من أجساد السجناء، ولا أعرف ماذا تسمى حالتهم من الناحية الطبية، إنما بحسب الشائع وقتها أن جميع هذه الحالات تندرج تحت اسم ال
TB
وهو مختصر للفظ الإنجليزي
Tuberculosis . رأيت البعض يشكو من إصابة في الرقبة وآخر في العظام وإصابات أخرى كثيرة مخيفة ومرعبة في مظهرها الخارجي. البعض كان طريح فراشه لفترة طويلة لا يقوى على مغادرته، وبعض آخر لقي حتفه جراء تدهور صحته وقلة الدواء.
الدواء قليل جدا ولا يمكن أن يكون علاجا حقيقيا لمثل هذا المرض؛ إذ لا يعدو عن كبسولات من مضاد حيوي وحبة فيتامين وقرص كأنه قطعة طباشير كنت أتجرعه مكرها. كمية الدواء لم تكن تكفي كل المرضى، وكان من اللازم أن يقسم على المرضى بطريقة عادلة وليس بالتساوي، وكما في كل الزنزانات والأقسام الأخرى، كان لدينا مراقبون وخدمات؛ لأنه عمل تنظيمي لتسيير الأمور وليس إجراء أمنيا بالأصل، وفي حالتنا هنا في زنزانة الحجر الصحي كان المراقبون والخدمات لا يقدمون معلومات للأمن كما في الأقسام الأخرى، بل كانوا بالعكس تماما يعملون لصالح إخوانهم السجناء ونظم أمورهم بما ييسر عليهم مصاعب السجن الجمة.
وضع شباب الخدمات نظاما عادلا حكيما لتوزيع الأدوية بمنح المريض الأشد ضررا دواء منتظما حتى يتجاوز مرحلة الخطر، وعند تحسن صحته تقلص الحصة تدريجا حتى يتجاوز مرحلة المرض ويصبح وضعه مماثلا لحالة السجناء الآخرين فتقطع عنه حينذاك . عندها يكتفى بمنحه إياها في فترات متفاوتة بحسب تطورات وضعه الصحي. هذا النظام لم يكن صالحا أو مقبولا من الناحية العلمية، لكن كان بيننا طبيب - وهو سجين مثلنا - ومريض هو الآخر بالمرض نفسه، هو من اقترح هذه الطريقة لتنظيم توزيع العلاج وللحفاظ على حياة أكبر عدد ممكن من السجناء المصابين بمرض السل.
هذا الطبيب نفسه كان يوصينا بشدة على تناول الحصة الغذائية كاملة؛ لأنها الطريقة الوحيدة التي يسري معها مفعول الدواء في البدن بحسب قوله. هذه الوصية جاءت لأن فقدان الشهية كان العرض الرئيسي لدى كل المصابين، وبما أني واحد منهم فلم أكن أستسيغ تناول الطعام وأجد نفسي مكرها على تناوله، مع أن الطعام كان أفضل نسبيا من الأقسام الأخرى حتى إنه كانت تصلنا فواكه بين الحين والآخر. وكان السجناء رغم شدة المرض الذي يضربهم وقسوة الظرف الذي يعيشونه، إلا أنهم متعاونون فيما بينهم، ويعطون الحصة الأكبر من هذه الفواكه لشديدي المرض؛ لأنه بإمكانهم تقبلها دون باقي الطعام الذي كان تناوله أمرا شاقا. ومن العسير بمكان صد رغبة الامتناع عن الطعام لدى مريض التدرن، لكن كان لا بد من المحاولة، ويجب مقاومة هذا العرض المميت وهكذا بذلت كل جهدي على ما في الأمر من صعوبة بالغة.
استنهضت كل طاقتي في الممانعة، وبدأ يظهر تحسن طفيف في صحتي وتلك علامة مشجعة على فعل العقار في بدني وعلى سلامة طريقة العلاج المقترحة من الطبيب. ولحسن الحظ كان بيننا رجل نذر نفسه لمعاونة المرضى يتابع أحوالنا ويبذل جهودا عظيمة ويقدم خدمات لا يمكن إلا لمتدرب في معهد تمريض عال فعلها، مع أنه في حقيقة الأمر كان عسكريا من أصول ريفية ولم يتلق تعليما كافيا. كان يواصل حنوه علي ومساعدتي كما مع الآخرين على تجاوز الأزمة ويحثني كثيرا على الأكل قائلا لي: «حتى لو أكلت الأكل وتقيأته فعليك أن تواصل الأكل؛ لأن لا بديل عنه وهو العلاج الأمثل والوحيد.»
هذا الرجل وأمثاله وشباب الخدمات كانوا يقدمون جهدا عظيما ويعملون بإخلاص كبير لمساعدة السجناء المرضى والآخرين المحتاجين للرعاية والعناية. أعمال لا ينبغي إلا أن تذكر باحترام عظيم. كانوا يعينون بعض المرضى حتى على إخراج الفضلات من أبدانهم؛ لأن عضلاتهم أصيبت بالضمور الشديد ولم يعودوا قادرين على أداء أي من هذه الأفعال. أما تنظيف المرضى وغسل أرديتهم وفرشهم وتخليصها وإياهم مما كان يخرج منهم من بول وغائط فكان عملا يوميا روتينيا، يصاب بالدهشة كل من يراه لروح العطاء العظيمة التي يمتلكها هؤلاء الشباب، وقدرتهم الهائلة على التضحية والإيثار بلا أي مردود يأملونه أو فرض يدفعهم لذلك سوى مثل إنسانية تتوهج في قلوبهم البيضاء.
كان يصل إلينا في بعض المرات - لعلها مرة واحدة أو مرتان بالشهر - لحم أحمر مستورد على ما يبدو من دول بعيدة مثل أستراليا أو نيوزيلندا؛ لذا كان يقدم لنا صلبا متخشبا كأنه جثة في كفن، ولا يلينه سوى ماء ساخن يأتي معه في قدر كبير. بعض السجناء ولأسباب دينية امتنع عن أكله، لكني لم أفعل ذلك؛ لأني كنت بحاجة إلى أي شيء يعيد لي قوتي، ومع استعادة الشهية تناولت كثيرا منه إلى الحد الذي تجاوزت به مرحلة الخطر تماما، بما يمكن اعتباره تعافيا بمقاييس زنزانة الحجر الصحي التي هي معايير لا علاقة لها بتشخيص الأطباء ولا موازينهم في العالم الخارجي. لم أتوقف عن أكل هذا اللحم حتى بعد ذلك بكل صراحة، لأني لم أكن مقتنعا بالامتناع عنه لأي سبب، والمرض كان حجة جيدة لإيقاف أي نقاش حوله أو جدل يمكن أن يقترحه أحدهم. ولحسن الحظ لم يحصل ذلك النقاش في زنزانة الحجر الصحي؛ لأنه كان أمرا في غاية الحمق أن تقول لمريض أوشك على الموت: هيا امتنع عن الأكل لنستعجل موتك. في أقسام أخرى جرت مثل هذه النقاشات وانتهت عند الكل بعدئذ إلى نتيجة واحدة وهي ضرورة أكله بتوجيه من متخصصين في أمور الدين وعلومه، ولا من داع للوقوف عند أسباب وهمية تحول دون تناوله.
تغلب المنطق والعقل كما ينبغي له ذلك في تسيير أمور الحياة؛ لأن الحياة خلقت بالعقل وبه وحده تسير ، وخلا ذلك ما هو إلا قصص تسلية وخرافات وأوهام لا تليق بعاقل أن يعتنقها، فهي تليق بالجهلة وأنصاف المجانين وتجدر بهم وحدهم دون غيرهم.
8
التعارف بين السجناء أخذ في المحجر مدى واسعا لغياب المراقبة الأمنية؛ ولذلك نزعت حذري من الاختلاط مع الآخرين بعد أن استعدت بعضا من عافيتي، وبدأت أتعرف إلى السجناء الموجودين في القسم وأقيم علاقات مع بعضهم. وأكثر ما أثار استغرابي حين دخولي السجن، أن نسبة كبيرة جدا من السجناء ليس لها شغل بالمعارضة السياسية، كانت ضحية اعتقالات عشوائية وتصفية انتقامية لمناطق جغرافية معينة أو بسبب عداوات وخلافات شخصية أو أسباب أخرى لا علاقة لها بالتنظيمات السياسية. هناك بعض من السجناء مما يمكن لي أن أسميهم أطفالا لصغر سنهم عند اعتقالهم لم يتجاوزوا حتى الثالثة عشرة من أعمارهم. بينما آخرون كانوا كبارا في السن، وبعض قليل منهم طاعن فيه إنما لا شغل لهم بالسياسة لا من قريب ولا بعيد، وهم أبعد ما يكونون عن أي نشاط سياسي أو ثقافي معارض أو حتى موال، فهم منخرطون بحياة تقليدية لا شغل لهم بغيرها. راعني سماع قصصهم المضحكة المبكية التي لا يفهم منها إلا شيء واحد هو وحشية النظام وانعدام القانون بالمطلق.
أحدهم كان سائق شاحنة بالكاد يفك الخط وسيق إلى الحرب العبثية المندلعة آنذاك، وجاء تقرير أمني يخبر عن نشاط مشبوه لجندي يعمل مع حزب معارض يحمل نفس اسم سائق الشاحنة هذا. ما إن وصل التقرير الأمني إلى الفرع الأمني في الوحدة العسكرية حتى سارعوا إلى اعتقال سائق الشاحنة وأذاقوه العذاب باعتباره خائنا عميلا، والرجل غير مصدق لما يحدث فهو لا يفقه حرفا واحدا مما يقولون، بينما هم يطالبونه بكشف أسماء التنظيم السري الذي لم يسمع به أصلا. بعد أشهر من الاعتقال انتبه المحققون الأمنيون إلى الخطأ واعتقلوا الشخص الحقيقي المقصود وتمت محاكمته، ومن ثم نفذ حكم الإعدام به. وبطبيعة الحال استبشر صاحبنا سائق الشاحنة خيرا، وصار يرجو الإفراج عنه في القريب العاجل بعد هذا الاكتشاف المتأخر لتشابه الأسماء، لكن الأمور جرت بطريقة أخرى، فبما أنه اعتقل بتهمة سياسية وقد رأى السجون السرية؛ لذا لا بد من محاكمته وحكم عليه بالفعل بالسجن المؤبد وظل معنا في السجن نفسه يقضي مدة محكوميته. وبعد كل هذه السنوات في سجن مخصص للمعارضة، والسياسة هي الموضوع الرئيسي بين السجناء، إلا أنه حين خرج من السجن عاد لوضعه الطبيعي ولم ينشغل بالسياسة ولا همه أمرها يوما كما لم تهمه من قبل.
كنت أحب الجلوس مع رجل كبير بالسن مطلع لا بأس بثقافته العامة، سياسي حقيقي، عرفت بعد فترة أن له في السجن ابن عم - وهو رجل كبير مثله - وبدافع من الفضول تعرفت عليه هو الآخر ظنا مني أنه شخص مثقف كابن عمه، إلا أني دهشت لسذاجته وأن لا صلة له بالسياسة ولا بالثقافة ولا المعارضة بأي نحو من الأنحاء، بل إنه كان يحسب المعارضة السياسية أناسا سيئين يسببون المشاكل والمتاعب للناس ولا ينبغي التعاطي معهم. ولم يمكن بوسعي مناقشته لكبر سنه؛ ولأنه بسيط وساذج جدا، والحوار معه قطعا سيكون مضيعة للوقت. والسبب الأقوى لتعذر نقاشه أن الرجل نفسه لم يكن مستعدا للنقاش في أي شيء، ولا يشغله شيء سوى تدبر حاله اليومي. أثار أمره استغرابي وصرت أتساءل بفضول كيف وصل هذا الرجل إلى هذا المعتقل الرهيب؟! وعلى أي أساس اتهم بهذه التهمة الخطيرة؟ ظل الفضول يدفعني لمعرفة ذلك والحياء يمنعني من سؤاله؛ لأنه قد يعتبر تدخلا في أمر شخصي أو يعد استهانة واستخفافا به. مرة وأنا في حديث ودي كالعادة مع ابن عمه المثقف تدرجنا بالكلام إلى أن وصلنا إلى منعرج في الحديث كان من المناسب جدا فيه أن أطرح سؤالا يفض لغز هذا الرجل وأحجيته بلا تحرج، فقلت له: «فلان ابن عمك رجل طيب مسكين، وإني لأعجب لوصوله إلى هذا السجن. من هذا الذي اعترف عليه أنه منخرط في تنظيم سياسي؟»
فصعقني برده الفوري قائلا وبلا مقدمات: «أنا اعترفت عليه!» - «لكن لماذا؟ أليس الرجل بعيدا عن توجهاتك؟» - «نعم، هو كذلك.»
واستطرد ساردا لي قصته بالقول: «اعتقلت في مرة سابقة قبل اندلاع الحرب لعدة أشهر بتهمة الاشتباه بالتعاون مع تنظيم سياسي، ولما لم يجد المحققون أي دليل معتبر لإدانتي أفرج عني. في وقتها كانت التحقيقات ليست بهذه الوحشية وكان من الممكن الإفراج عن كثير من المعتقلين؛ لأن كثيرا من الاعتقالات وقتها كانت تأديبية والقليل منها يودي بأصحابها لعقوبة الموت أو السجن. المهم بعد خروجي من الاعتقال وكعادة العراقيين في الأفراح والأحزان بالاجتماع جاء جمع غفير من الأصدقاء والأقرباء لزيارتي وتهنئتي بالخروج من المعتقل، وفي جلسة عامة سألني أحدهم بدافع الفضول العراقي المعروف: لماذا اعتقلوك؟ هل فعلت شيئا ضد الحكومة؟ أجبته جوابا طبيعيا متوقعا من أي شخص يخرج من المعتقل، نافيا التهمة عن نفسه؛ لأنه ليس من المعقول أن تفرج عني الأجهزة الأمنية لعدم امتلاكها لدليل ضدي وأنا أتبرع بإدانة نفسي. فقلت له: كلا، لم أفعل أي شيء ضد القانون.»
فانبرى ابن عمي هذا - وبصوت عال سمعه كل الحاضرين - قائلا: «الحكومة لا تعتقل أحدا بلا سبب.»
بهتني بهذا التعليق السخيف، لم أرد عليه كي لا تتطور المسألة وأصبح في موقف من يهاجم الحكومة ويتهمها أمام تبرئة ابن عمي لها واتهامه لي بالعمل ضدها، لكني أسررتها في نفسي وقلت في داخلي: «يا ابن العم، أنا متأكد أنهم سوف يعتقلونني ثانية وحينها سوف أقدم لك الدليل القاطع على أن الحكومة التي تدافع عنها تعتقل حتى من لم يكن عنده شيء ضدها.»
وبالفعل بعد سنين اعتقلوني ثانية وبدأ التعذيب الذي تعرفه، طالبوني بأسماء الخلية الحزبية، حينها تذكرت ابن عمي على الفور وقلت لنفسي: ها قد جاء وقتها الآن، ولأدعو ابن عمي ليتنعم بضيافة الحكومة ورفاهية عدالتها، فقلت للمحققين على الفور: «إن ابن عمي فلانا معي في التنظيم.» وكما ترى هو معنا الآن ومحكوم بالسجن المؤبد، ليس هو فقط، بل اعتقلوا معه ابنه بعد ذلك وصار يحسب الآن من العوائل المعارضة الحاقدة على الحزب والثورة. ضحكت كثيرا وشعرت بالأسف عليه في الوقت عينه، وأيضا بالغضب على هذه الطريقة العشوائية في تصفية المعارضة وعلى وحشية التحقيق وإصدار الأحكام ضد المعتقلين.
كان قسم الحجر الصحي (المحجر) مثل كل الأقسام الأخرى يضم كثيرا من السجناء ممن لا شغل له بالمعارضة أو السياسة. وظل هذا الجمع على حاله نفسها حتى بعد كل سنوات السجن؛ لأنه لم يكن يفكر بالشأن العام بالمطلق ولا هو من أولوياته.
هناك أناس كثر يعيشون لذاتهم فقط وهمومهم ذاتية، لا يفكرون إلا بما يتعلق بها، قد يرى طيبا وديعا مسالما، إنما ليس مستعدا للدفاع عن مظلوم ينتهك حقه أمام عينيه، ويصنف الدفاع عن المظلومين في خانة الأشياء التي لا تعنيه ولا يشغل نفسه بها، إلا من باب التأسف فقط. وحين تزداد قوة الظالم وشراسته يستشعر هؤلاء المسالمون أن خطره بات قريبا منهم بسبب قسوة واستخفاف السلطة القمعية بكل القوانين، هذا الصنف من الناس يبدأ حينئذ - وخلاف المنطق - بلوم معارضي السلطة والمحتجين على إجراءاتها، وينسبون لهم تهمة إنتاج هذا الوضع الخطر بدعوى إثارتهم المشاكل ومشاكسة القانون، ويبدأ هذا الصنف من الناس حتى بتبرير هذه القسوة المفرطة من النظام. وكان معنا في السجن كثير من هؤلاء الناس، فهم رغم طيبتهم ووداعتهم الظاهرة إلا أنهم ليسوا بذي اهتمامات عامة ولا يملكون وعيا رغم ادعاء البعض ذلك لنفسه.
في السجن كان هؤلاء أحيانا يشكلون عقبة حقيقية أمام أفعال تحدي الجلادين التي يتصدى لها بعض السجناء الشجعان. وبعد كل معاناة السجن الرهيبة ورغم اختلاطهم بشخصيات سياسية مؤثرة فيه، إلا أن هؤلاء لم ينخرطوا في أي نشاط عام، وما إن خرجوا حتى ذابوا في المجتمع دون أي تأثير وما استطاعوا أن يحولوا مظلوميتهم إلى قضية، بل تحولت إلى مجرد ذكريات مريرة لا يتمنوا أن تعاد عليهم مرة أخرى.
بالمقابل كان هناك أشخاص كثر منخرطون جدا بالشأن العام وهم من أعطى للسجن طابعا خاصا، وهم من حوله إلى مدرسة فكرية سياسية وفي هذا كلام كثير سوف يأتي وقته.
هناك قسم ثالث ليس بالقليل ممن دخل السجن بلا قضية حقيقية لكنه كان كمن تلقى في السجن تدريبا وتعليما من خلال مخالطته سجناء آخرين، وانتفع من ذلك ليصبح شخصية رائدة في مجتمعه ويعمل بوعي وإخلاص لتغيير واقعه.
أما القسم الرابع: فكان ممن خرج من السجن مبغوضا مذموما لأفعاله الخسيسة التي قام بها في السجن من سعي ووشاية لرجال الأمن، أو قام بأفعال قبيحة يندى لها الجبين، ومن حسن الحظ أن هؤلاء كانوا نسبة قليلة جدا معروفين بالأسماء على نطاق واسع جدا بين كل السجناء. الكل كما كان يعرفهم، كان يحتقرهم ويتحين الفرصة للحد من تأثيرهم.
المحجر كان يعيش بحبوحة أمنية، لتخوف رجال الأمن من عدوى المرض وانتقاله إليهم، وتولى الإشراف عليه مراقبون وخدمات صالحون أغلقوا كل المنافذ أمام السعاة والوشاة. وفي أحد الأيام دلف إلينا واحد من هؤلاء السعاة، فأطلقت صفارة الإنذار بين السجناء بالإشارات والغمز، وكان لا بد من توخي الحذر إلى أقصى حد. بالمقابل كان لا بد من معالجة سريعة للموقف؛ إذ هكذا نوع من البشر يعيش على إثارة الخوف عند الآخرين ويبرز وجوده من خلاله، وعلاج ذلك يكون بنقل الخوف إليه لإيقاف عدوانيته وخطره. ومن العسير جدا تصديق الفكرة الساذجة التي تروج أحيانا بأن هذا النوع الخبيث يتوب عن جرائمه ويتحول إلى جزء صالح في المجتمع لو عومل جيدا. هكذا نوع أفضل ما يمكن فعله له هو نزع أنيابه لا تغيير طباعه التي جبل عليها، كما يروج بعض السذج وقليلو الخبرة. الانتقام صحيح إنه لا يحل المشاكل معه، لكن العقوبة القاسية تجعل خبيئته الخبيثة تتحجر في داخله ولا تجد منفذا للخروج. إن هؤلاء الناس بلا قيم أخلاقية وهمومهم مادية نفعية كلها؛ ولذا فإنهم ينتهزون أي فرصة لتحقيقها بغض النظر عن طبيعة أو مشروعية هذه الوسيلة. ولما كانت همومهم مادية نفعية فإن السلوك الأجدى بالتعامل معهم هو تهديد هذه الطموحات وحرمانهم منها، وسوف تجدهم حينئذ سلسين مطيعين، لكن الحذر كل الحذر منهم فإن طبعهم الرديء سوف يطل برأسه القبيح إلى عالم الخبث والجريمة في أول مرة يرى العيون قد غفلت عن طبعه الماكر.
وهكذا كان، إذ حوصر هذا الخائن بأعين تنظر إليه شزرا، توجس شرا كبيرا وأيقن أنه بات بين فكي مجرشة صماء سوف تطحنه وتحيله دقيقا ناعما تطؤه كل الأقدام وتذروه بعدها الرياح. ومما زاد من مخاوفه أن الحلقة الملتهبة كانت تتسع ولا يجد منفذا منها، ورغم اقترابها الشديد منه فإنها لا تطبق على رقبته، مما أدخل على قلبه رعبا مضاعفا، وصار الهلع فراشه والفزع لحافه. وصار متيقنا من انتهاء أسطورته وصار جل حلمه ألا يهلك تحت أقدام ضحاياه.
أصدر مراقب الزنزانة له أمرا بأن يتخذ من جوار المرحاض مضجعا له في أسوأ مكان يمكن أن ينام فيه السجين، وأدرك عندها وهو يرى مكانه أن أيامه السوداء قد ابتدأ عهدها الطويل. قاطعه الكل، لا يكلمه أحد ولا يتعامل معه أحد أبدا، إلا المراقب الذي كان يوجه إليه أوامر أكثر مما هي تبادل حديث معه.
في أحد الأيام اندلع شجار صغير بين سجينين وحاول أن يزج نفسه فيه قليلا بصورة ودية لفض النزاع، إلا أنه وجد أن المتشاجرين أنهوا خصامهم بسرعة قياسية والتفتوا إليه، وضربه أحدهم بكلتا قبضتي يديه على ظهره. من ضربه كان شابا ريفيا طويلا قويا جدا لو دفع أحدا مزاحا لأوجعه فكيف به وقد ضربه في أوج غضبه وبمنتهى قوته. ضربة لفرط قوتها وشدتها أجبرته على إفراغ ما في معدته بالحال، ومن حينها سكت هذا المنافق (كما كان يطلق على الوشاة) للأبد، ولم يحشر نفسه في أي أمر بعدها حتى خروجه من السجن.
لم تكن قصة هذا الساعي بالوشاية فريدة من نوعها، ونسبة الخونة لم تكن قليلة، وكان هناك عدد آخر مرشح للانضمام إليهم تحت قسوة الظروف الحياتية التي يعيشها السجناء. بالمقابل كان هناك سعي حثيث من نسبة ليست بالقليلة هي الأخرى للقضاء على هذه الجماعة الضعيفة الخائنة. وكان يجري التخطيط بهدوء وترقب لفرصة مواتية للإطاحة بتسيدهم على مناصب المراقبين والخدمات، وهما المنفذ الوحيد للتعامل المباشر مع رجال الأمن.
في فترة لاحقة ومع تراجع الوضع المتأزم على جبهات الحرب الذي كان يهدد وجود النظام نفسه قبل سنوات، وبعد أن استعاد النظام توازنه من ضربات عسكرية كبيرة أفقدته كل انتصاراته، بل ألحقت به هزائم نكراء، عاد من جديد ليوقف زحفا عسكريا معاديا، وبعد أن اطمأن إلى بقائه في سدة الحكم واستقرار الوضع العسكري، شهد السجن انفراجة أمنية نسبية. إذ خفت حالات الانتقام والتعذيب العشوائي - وإن لم تتوقف بالكامل - وساهم في ذلك بشكل واضح تزامن الوضع مع نقل الضابط المتهم بإعدام معارضين سياسيين مقابل الإفراج عن قتلة محكومين بالإعدام، القصة التي تقدمت روايتها.
هذا التخفيف الأمني النسبي كان فرصة مثالية للوثوب على الخونة، بدأ من تسلل شاب شجاع سريع البديهة إلى صفوف الخدمات، وصار يحتال عليهم بتقديم بلاغات إلى الأمن تكشف بعضا من أفعالهم التي يستقبحها رجال الأمن. وصار تدريجيا يتم التخلص منهم الواحد تلو الآخر ويستبدل بعنصر جيد. كانت عملية معقدة محفوفة جدا بالمخاطر، تنطوي على قدرة كبيرة ليس من الشجاعة وحسب، بل على سرعة البديهة والقدرة الكبيرة على التظاهر وادعاء الولاء للأمن، بينما كان في الواقع يخفي عكس ذلك تماما.
لم تنته المشكلة بإزاحة الخونة المنافقين من الخدمات وحسب، بل معاقبتهم في الزنزانات التي كانوا يدخلون إليها ومقاطعتهم بالطريقة نفسها التي قوطع بها ذاك الخائن في المحجر. تحول السجن بعدها إلى جحيم حقيقي على هؤلاء الخونة؛ إذ لم يسلموا حتى من الضرب على أيدي السجناء، وفقدوا كل حظوة عندهم لدى رجال الأمن، بل أصبحوا أعداء لهم وعاقبوهم بشكل مبالغ به أحيانا من الإذلال والإهانة. وهكذا حد من خطرهم إلى حد كبير، وإن لم يسلم السجناء من شرور بعضهم متسببين فيما بعد بمقتل عدد مهم من السجناء في أحداث مؤسفة. كما سوف يحل عهد من إذلال كبير وخزي عظيم عاشه الخونة في أحداث غير عادية شهدها السجن جسدت قوة السجناء السياسيين وقدرتهم على مناطحة النظام الفاشي حتى وهم في الأغلال وخلف القضبان.
9
فيما كانت تتحسن صحتي كانت صحة آخرين تسوء بسبب انتشار مرض السل الذي أصبح وباء كارثيا يهدد الجميع. أصاب المرض ثلث عدد السجناء تقريبا وانتشرت أمراض غريبة وحالات مرضية متنوعة كلها بسبب نقص التغذية والرطوبة والظلام وغياب الظروف الصحية. وفي أحد الأيام توقفت المجاري عن سحب المياه والقاذورات من المرحاض، وعندما أقول في أحد الأيام ليس حصرا به؛ لأن مثل هذا اليوم تكرر وقوعه لمرات عديدة. حاول السجناء بأساليب متعددة فتح المجرى الوحيد لها في المرحاض، أدخلوا أيديهم وكل آلة عندهم لإخراج ما علق فيه وسبب هذا الانسداد لكن بلا جدوى، بدأت تطفح المياه الآسنة إلى أرضية الزنزانة ورجال الأمن لا يلقون بالا إلى طلبات السجناء ولا يعيرونها اهتماما. ولأن أرض الزنزانة كانت مائلة قليلا نحو المرافق بطريقة هندسية لتصريف المياه فإن وصول المياه الآجنة لمقدمة الزنزانة حيث الباب والقضبان كان يتأخر قليلا عن الوصول لها بخلاف غيرها من زوايا الزنزانة؛ لذا تجمع السجناء في مقدمة الزنزانة، لكن الماء الآسن يواصل زحفه ويدفع بعضا من السجناء إلى تسلق القضبان والتعلق بها هربا من هذا الماء الآسن ومما يحمله من بقايا فضلات بشرية. أدرك آخرون أن لا مناص من هذه الفوضى واستسلموا لواقعهم، وصاروا يأكلون ويشربون وقوفا، بل حتى يناموا هكذا وأرجلهم تخوط مياها قاءتها المجاري بكل ما فيها.
في الليل والنهار يجمع السجناء المياه الثقيلة بآنية الطعام المتوفرة عندهم ويرمون بحمولتها من خلال الفتحات التي تسمى شباكا إلى ساحة الفناء الخارجي للتخفيف من منظر عدد الأشياء العالقة في الماء، ولتخفيف مستواه الذي يشهد مدا متزايدا. بهذا يفهم لماذا كنت أنعت الساحة بين الأقسام بأنها مكب هائل للنفايات ومصدر أساسي لكل الحشرات. يبقى الحال هكذا لنهارين متعاقبين بلياليها وأحيانا أكثر من ذلك، والسجناء إبان ذلك يأكلون في الآنية عينها التي يستعملونها للتخلص من الفضلات. وهذه لن تكون المرة الوحيدة التي نقسر فيها على الأكل في آنية ملوثة أو تناول طعام ملوث.
فضاء الزنزانة كان ضيقا ومزدحما للغاية بالسجناء وحاجياتهم. وأي شيء يراد خزنه أو استعماله لاحقا يوضع في آخر الزنزانة قريبا من المرحاض، مثل فردة النعال المستهلك الذي يستعمل بتجفيف الماء ، وكذلك حساء الصباح (الشوربة) الذي يحفظ أحيانا قسم منه لآخر النهار في جردل صغير؛ لأن بعض السجناء كان يمتنع نهارا عن الأكل والشرب لأسباب دينية خاصة بهم.
فردة النعال المستخدم للتجفيف - تكرارا في اليوم الواحد - لم تكن تربط بذاك الإحكام؛ ولذا كان يتكرر سقوط النعل وأحيانا يكون سقوطه في جردل الحساء. وحين يكتشف الحادث يستخرج النعال وينظف من الطعام العالق به فيما يتجمع الصائمون بعدها لتناول إفطارهم من الحساء ذاته؛ لأنهم لا يملكون شيئا غيره يأكلونه. كنت أمزح مع أحدهم يوما عندما تحدث عن الجراثيم التي تتكاثر في هذه البيئة القذرة، فقلت له: اطمئن يا عزيزي، هنا لا توجد ميكروبات ولا جراثيم ولن يأتي المزيد منها؛ لأنها باتت تخشى على صحتها.
أمام هذه الفوضى الشاملة في انعدام الرعاية الصحية بالمطلق، كان فريق من أطباء أو متدربين في التمريض أو حتى طلبة في كلية الطب اعتقلوا قبل إكمالهم الدراسة يعملون ما في وسعهم لتقديم المعونة بوسائل هي بنفسها تخلو من الظروف الصحية، إلا أنه ليس باليد من حيلة كما يقال.
انتشرت بكثرة حالة مرضية تدعى الجيوب المائية تصيب الرئة والصدر، وكان لا بد من سحب التقيحات والسوائل من تلك الجيوب، إلا أن الطريقة التي كان يتم فعل ذلك بها أشبه بحكاية رسوم متحركة تلائم خيال الأطفال، أو واحدة من بطولات جندي أمريكي لا ينتصر إلا في خيال مخرجي الأفلام السينمائية الهوليودية.
يأتي الطبيب السجين بخرطوم دقيق يستعمل فيما يعرف بالمغذي، ويثقب جسم المريض بأي أداة حادة متوفرة عنده لإدخال الخرطوم من خلالها، ليبدأ بعدها بسحب القيح من تلك الجيوب وسط صرخات الألم من المريض، وعندما ينتهي الطبيب من تلك العملية الجراحية يطحن قرص « بارسيتول أو أسبين» على موضع الجرح لتعقيمه، والأنكى من هذا كله أن الطبيب كان يقف في الممر والمريض داخل الزنزانة تفصل بينهما القضبان لتجري العملية من خلف القضبان. لم يكن هذا حادثا عرضيا أو عابرا يحصل لمرة واحدة، بل لمرات متعددة جدا. عمليات جراحية أخرى كانت تجرى باستعمال موس حلاقة لشق غدد وأكياس لا أعرف ماهيتها، لكنها كانت تنمو في أماكن متفرقة من أجساد السجناء. كل هذه العمليات الجراحية، رغم الآلام التي فيها، كانت تتم بلا تخدير؛ لأنه ترف غاية في الزيادة ولاستحالة توفره.
زرق الإبر كان هو الآخر من القصص الغريبة والحكايات العجيبة، ليس لأن عدم توفر الدواء الكافي وحده معضلة كبيرة، بل ندرة الإبر الصالحة كانت مأزقا أكبر. الإبرة برأسها الدقيق يمكن أن تستعمل لمرة واحدة فقط، وربما أكثر من مرة في بعض الحالات، أما الحاجة إلى الاستعمال المتكرر ولعشرات المرات فكان خيالا فرضه واقع الوضع الصحي المتدهور بكثرة الإصابات بشتى الحالات يرافقه نقص دواء هائل أجبر الأطباء على تقسيم دواء الإبرة الواحدة على أكثر من مريض.
قطعا إن رأس الإبرة الدقيق يغدو غليظا بعد الاستعمال المتعدد ولا يمكن له أن ينفذ في الجلد، مما يعني عمليا عدم صلاحية الإبرة للاستعمال. ولأن الأشياء كلها في السجن ذات قيمة كبيرة ولو كانت تعد نفاية غير قابلة للاستعمال بنظر من يعيش خارجه، كان لا بد أن تبرد الإبر ليعاد استعمالها، إنما هذا حل صعب للغاية فمن أين تحصل آلة برد؟ ومع العجز عن إيجاد واحدة منها فقد اهتدى المشرفون على الأمور الطبية إلى حل لا يرد على بال ولا يمر على خاطر؛ إذ وجدوا أن بحوزتهم أكبر آلة برد ومتوفرة في كل زاويا السجن وأركانه. إنها الأرض الإسمنتية الخشنة، وهكذا جاء الحل السحري الناجع وبه انتهت المشكلة، ونفخت الروح في الإبر العاطلة ودخلت الخدمة من جديد. صار بالإمكان استخدام الإبرة مرات ومرات مع زيادة في الألم يتحملها السجين وهي تنفذ إلى الجسد، وهذا أمر لم يكن صعبا عليه تكبده، وهو الذي عانى أكثر بكثير من هذا من الألم وتحمل أنواع الصعاب والمشقة.
قصة الإبر لا تنتهي هنا؛ إذ إن تعقيمها هو الآخر أمر لا مناص منه، وللقيام بذلك لا بد من توفر ماء مغلي. في المحجر زود رجال الأمن السجناء بعلبة معدنية صغيرة لتعقيم الإبر، أما الأقسام الأخرى فقد حرموا منها ؛ لذا جرى تدبير الوضع بتوصيل سلك كهربائي من المصدر الوحيد للكهرباء في المصباح المعلق بالسقف، وفي نهاية السلك توضع ملاعق وتدخل في الماء لتعمل على تسخين الماء بطريقة الدائرة الكهربائية، الماء الزائد عن حاجة التعقيم كان يستخدم في تحميم المرضى. وفي قسم الحجر الصحي وبسبب انعدام الرقابة الأمنية كانت عملية غلي الماء تجري بشكل مريح وبصورة واسعة؛ لأن أغلب سكانه من المرضى، بينما كان الاستحمام بالماء البارد عملا روتينيا يفعله باقي السجناء ولا يتغير ذلك صيفا ولا شتاء. ظلت طريقة تسخين الماء تستخدم بنجاح في المحجر إلى أن وقع حادث كبير في أحد الأيام كاد أن يؤدي إلى كارثة كبرى.
فبعد أن استسهلت عملية تسخين الماء، أصبح الماء الحار مطمعا في أيام الشتاء حتى لغير المرضى مع ضعف الأجساد وقسوة البرد. وبدلا من الإناء الصغير لتعقيم الإبر صار برميل ماء بلاستيكي هو المستضيف لهذه العملية المحظورة، وجرت الأمور كما كان يشتهي السجناء ويرغبون إلى أن جاء اليوم الموعود. ففي يوم شتائي محشو بالبرودة ضاعف قرسه وهن الأبدان ورثاثة اللباس وتهالك الفرش وقلة الأغطية التي ما فتئنا نستعين بها في اليقظة والمنام لرد غائلة البرد عنا. وبينما كان الماء يغلي بأقصى ما يمكن له ذلك ويشتد فوران الماء في غفلة من العيون، تحلق قربه بعض السجناء يستلذون بدفء يبعثه البخار المتصاعد وهو ينفذ بسخونته إلى عظامهم المنخورة من المرض والبرد. وبينما هم يتسامرون ضاحكين وإذا بصرخة فزع تملأ كل جوانب زنزانة الحجر الصحي تتبعها صرخات. الممر الضيق يزدحم بحشد يعدو على غير هدى وعلى وجه أفراده سيماء فزع ورعب تغطيهم سحابة ضخمة من بخار كثيف كأنها دخان أبيض. سحابة استوعبت كل شيء، وكأنها غبرة معركة خلفتها ثورة خيول جامحة لا تتوقف عن الخب، وسيطر الذهول على الجميع وظن البعض من السجناء أن رجال الأمن شنوا هجوما لقتل السجناء، وما هي إلا دقائق حتى تبينت الكارثة ولاح جزء من تداعياتها الحقيقية.
كان الماء يواصل فورانه بعد أن بلغ درجة الغليان وقارب حدا لم يعد البرميل البلاستيكي بقادر على تحمله ليذوب من شدة الحرارة منصهرا، وينهار البرميل بحمولته الكاملة ساكبا الماء الحار بغتة وبسرعة خاطفة على كل من كان يجاور البرميل في غفلة منهم. حاولوا الفرار، لكن لم يقدروا على الإفلات؛ لأن الكهرباء كانت لم تزل تسري في الماء فأوقفتهم في مواضعهم وأسقطتهم أرضا، كل من وثب هاربا غطس بغير أهبة ولا استعداد في بركة ماء يغلي لتسلخ جلده كاملا، إلى أن بادر أحد السجناء بمهارة وخفة إلى نزع السلك الكهربائي، لكن حينها الماء الساخن كان قد فعل فعلته بالوجوه والأجساد بشكل رهيب.
كان الموقف أكبر من أن تتلافاه إسعافاتنا الأولية البائسة؛ لذا تم الاتصال بالأمن لنقل المصابين بالحروق ونقلوا بالفعل لمستشفى مدني خارج السجن في جانب الكرخ من مدينة بغداد. جرت هناك معالجتهم بشكل أولي، إلا أنه كاف لإنقاذ حياتهم من موت محقق حرقا وأعيدوا للسجن ثانية بعد ثلاثة أيام وظلوا قرابة الشهر عراة لا يستطيعون ارتداء ولا حتى قطعة ملابس واحدة لشدة الحروق التي ألمت بهم.
تدبر السجناء أمرهم بصنع ما يشبه القفص غلف بالبطانيات لتدفئتهم ورفع الحرج عنهم بحجز الأنظار والعيون عن أجسادهم المجردة من كل شيء حتى من الجلد. نجوا من الموت وظلت أجسادهم طوال حياتهم تحمل ذكرى الحادث المروع، وفقد السجناء فرصة الاستحمام بالماء الحار من جديد خشية انكشاف أمرهم بعد أن مرت هذه الحادثة بسلام. لم يجر تحقيق في الحادث لسبب لم نفهمه، لعله كان حسن الحظ أو لأن القسم كان مخصصا للمرضى، ولم يشأ المسئول الأمني الذهاب بعيدا في التحقيق خشية اضطراره لإنزال العقاب ببعض السجناء ومع تردي وضعهم الصحي العام كان أي عقاب سيتحول إلى مذبحة حقيقية، وإلا في الواقع لم يكن أي أحد ليصدق ولو كان أبلها كبيرا أن علبة معدنية صغيرة مخصصة لتعقيم الإبر هي التي سببت كل هذه الحروق.
الأفعال المحظورة كانت تنطوي على مخاطرة كبيرة بنفسها وبعواقبها، ولبعضها قصص طريفة ومنها هذه القصة؛ ففي إحدى المرات وصل خبر إلى رجال الأمن بحدوث عملية تسخين للماء في إحدى الزنزانات ودخل رجل أمن إلى أحد الأقسام بغتة وتوجه بسرعة ومباشرة إلى الزنزانة المقصودة. سرعة الحدث لم يكن بالإمكان معها التخلص من الماء الذي بدءوا بتسخينه للتو، إلا أن السلك الكهربائي وعدة التسخين تم إخفاؤها وسط حشد السجناء بسرعة. توجه رجل الأمن إلى البرميل صارخا بوجه السجناء مستفهما: كيف حصلتم على هذا الماء الساخن؟
فأجابه أحدهم ببرود شديد: «سيدي لا يوجد عندنا ماء ساخن إنه ماء بارد.»
ارتسم الاستغراب على محيا رجل الأمن وسأله باستنكار: «وهذا الماء ماذا تسميه؟» (مشيرا إلى برميل الماء الساخن).
فتقدم السجين بثقة كاملة وهدوء تام، ووضع كفه مغترفا بيده الماء وقال له: «سيدي، هل تقصد هذا؟ إنه ماء بارد.»
أصاب الذهول رجل الأمن فدعا سجناء آخرين وقال لهم: «ما هذا؟»
كان الجواب جماعيا: «سيدي إنه ماء بارد.»
طلب منهم جميعا أن يضعوا أيديهم واحدا تلو الآخر في الماء، وكانوا يفعلون ذلك بلا أدنى تردد وبعضهم يرسم على وجهه ابتسامة عريضة. رجل الأمن ينظر إلى المشهد وهو لا يصدق ما يرى وأصبح في شك حتى من نفسه، يعاود مد يده يشعر بسخونة الماء، بينما السجناء كلهم يقسمون له وهم يدخلون أيديهم مرارا وتكرارا بأن الماء بارد ولا يبدو عليهم مظهر ألم أو حرقة ولا أدنى تردد وهم يفعلون ذلك. حتى رجل الخدمات لما علم إصرار السجناء والمكيدة التي نصبها السجناء بسرعة البديهة لرجل الأمن اضطر إلى أن يؤكد على صحة أقوالهم وقال: «سيدي، نعم إنه بالفعل ماء بارد.»
خرج رجل الأمن غير مصدق نفسه، ولا يعلم أهو في حلم أم علم، بينما انبطح السجناء بعدها على ظهورهم من الضحك في واحدة من أطرف الوقائع.
10
هناك أشياء لا يمكن التخلص منها مع انعدام النظافة؛ لأنها كانت مستوطنة في الأجساد وفي شعر الرءوس، والحل الوحيد لإبعادها كان بالتخلص من كامل الشعر. لذا كانت تجري عملية حلاقة الرأس بحفلة جماعية في فترات متباعدة وكانت أقرب إلى جز الشعر منها إلى الحلاقة. البعض من السجناء كان يفضل استخدام شفرة حلاقة لإزالة شعر الرأس تماما تخلصا من عملية تنظيفه؛ إذ إن الاستحمام كان أمرا عسيرا حصوله، وكان هو الآخر يحصل بطريقة جماعية نظرا لشحة الماء؛ لذا كان يتم تحديد يوم مخصص للاستحمام الجماعي فترفع كل البطانيات السوداء الرقيقة العسكرية المخصصة للنوم من على الأرض، وتصبح الزنزانة بعدها حماما عاما يقف السجناء فيه مجردين من كل ثوب إلا سراويل قصيرة لستر العورة، ويبدءون بوضع رغوة الصابون على كامل أجسادهم بعد أن ينالوا رشقة ماء خفيفة. خلال دقائق يجب أن ينتهي الجميع؛ إذ إن خرطوم الماء لا يسمح ببقائه في الزنزانة لأكثر من نصف ساعة وخلال هذه الفترة ينبغي ملء برميل الماء المخصص لكل الاستعمالات الأخرى من شرب وشطف أوان ولقضاء الحاجة. العملية كانت مضحكة بكل ما فيها لأنها بالواقع لا تحقق من النظافة إلا الشيء اليسير، إلا أن السجناء كانوا يعيشون فيها لحظات سعادة خاصة ويخلقون لأنفسهم جوا استثنائيا من المرح بتبادل الطرائف والمزاح. إنها فرصة استثنائية فعلا فمن أين يمكن لهم أن يتوفروا على لحظة كهذه يحظوا بها مع كل هذه الكمية الوفيرة من الماء.
كان القمل مقيما دائميا بأنواعه الثلاثة؛ قمل الرأس، قمل الجسم، وقمل العانة، والعثور عليه غاية في اليسر بأقل جهد وفي أول حملة تفتيش عنه. تنطلق حملات التفتيش بشكل مستمر؛ لأنه يقف وراء ظاهرة الحك المزعجة المزمنة التي تصل في بعض المرات مدى لا يطاق، يهرش السجين معها كل مكان في جلده الخارجي، من قمة رأسه إلى تحت إبطيه وعند المواضع الحساسة التي يحار كيف ينبشها بحثا عن هذا الكائن المزعج.
في إحدى المرات حلت علي لعنة الحكة بشكل جنوني، وصرت لا أحتملها فأصررت وقتها على حز كل شعرة نبتت على جسمي في الحال. بالطبع لا أقدر على القيام بهذا إلا بمساعدة من سجين آخر طلبت منه ذلك فآثر الانتظار قليلا لبعد تناول وجبة العشاء التي أوشكت بعد أن صب الحساء في الأواني المعدنية، إلا أن هستيريا أصابتني من ذاك الهرش وصرت أصرخ بوجهه أن يترك كل شيء ويقوم من فوره ويخلصني من الشعر خصوصا تحت إبطي بالحال. الموقف هزلي مبك مضحك، أنا أشعر بنار حرقة مستعرة جراء الحك والقمل يواصل قرصاته متلذذا، والسجناء وهم يتهيئون لتناول العشاء يضحكون على إصراري على الحلاقة الفورية وعلى غضبي وأنا أدور كمن يرقص من الألم، حتى أنا استغرقت في ضحك طويل على نفسي لكن بعد أن خلصني صاحبي من شعري ومن الأقزام الساكنة فيه.
نوع القمل الذي يعيش في فروة الرأس كان السجناء يسمونه كالبتوس، وفيما يبدو أنها تحريف لاسمه الإنجليزي «
» وربما سمعت اللفظة من طبيب ما بطريقة خاطئة وأنتجت هذا المصطلح الغريب. ولم يكن من السهل أبدا التعرف على مصدر بعض المصطلحات الخاصة في السجن وتشعر كأنها لغة خاصة ولدت هناك في زمن سحيق عندما بلبلت الآلهة الألسن في بابل القديمة.
السجن عالم آخر خلف هذا الكون، والعيش فيه يبرز الجوهر الحقيقي لهذا العالم. ليس من قوام لهذا الوجود إلا بالحياة ولا قيمة للحياة إلا بالحرية ولا يمكن إدراك الشيء إلا بإدراك ضده. وحيثما يوجد الضد يوجد الوعي بحقيقة المعنى وعند غياب الضد لن تعرف إلا مظاهر الأشياء دون كنهها وحقيقة جوهرها.
الحياة، ليس أن تجري دماء في العروق، ولا أن ينبض قلب بضربات تلقائية بفعل لا إرادي، ولا هي هواء يملأ رئتين ويزفرهما، لأنه حتى الأجساد الميتة يمكنها أن تفعل ذلك. الحياة أن تشعر بالسعادة وتلمس بحواسك جمالا أحاطت هالته بك، ويصيبك غم عظيم ويعتريك حزن كبير عندما يزاحم الجمال قبح البهيمية ساعة يظلم الإنسان نفسه بظلمه أخاه. ليس هناك من مكان أكثر مناسبة لرؤية كل هذا بأفضل صوره وأدق معانيه أفضل من السجن، هناك يولد الوعي بمعنى الحياة وهناك تتكشف جمالات الحرية.
في عالم ينأى عن الأسوار الإسمنتية العالية وعن أبراج الحراسة يمكن تصور معنى الجمال والحرية، لكن الوعي بأدق معانيه يولد فقط في تلك الدائرة التي تغلقها أسلاك شائكة وخنادق محفورة بعمق قامة بشرية مغمورة بمياه راكدة وفي رقعة مظلمة تقع تحت مرمى بنادق قنص لجنود قاطنين في أبراج محصنة. نعم هناك يولد الوعي، وهل يولد الإنسان إلا من المعاناة؟
مصطلحات لم أعرف أبدا كيف اشتقت وبدت غريبة جدا على كل اللغات. أسمع تارة عنها حكايات تبدو مثل الأساطير تحاول تفسيرها وفك شفرتها وفض لغزها لكنها تختفي بسرعة مثل طيف عابر، ليبقى السجن أحجية عصية لا يمكن لأحد أن يدرك تماما كل تفاصيله ولا الأشياء التي تجري فيه، وإن سكنه وعاش فيه دهرا.
مصطلح مثل «الكانة» لم أجد له تفسيرا أبدا، حاولت أن أشتق له علاقات مع المسمى وأنسج له قرابات مع لغات شتى بلا جدوى. إنما لا بد من التعامل معه؛ لأنه الأمل الوحيد في ستر الجسم العاري ووقايته من برد لا يرحل في مكان حظر على الشمس الوصول إليه. نسيج سميك بني غامق في الغالب وأحيانا رصاصي يوزع في فترات متباعدة وبطريقة غير كافية كما هي كل الأشياء التي توزع ليس للاكتفاء إنما للإبقاء على الأنفاس تصعد شهيقا وزفيرا ليس أكثر من هذا. منظر الكانة الكريه يبعث على القرف والاشمئزاز ويثير مشاعر كآبة سوداوية تدفع للزهد بها والإعراض عنها رغم الحاجة الشديدة، حتى إني لم أسمع أو أر يوما تنافسا عليها من السجناء أبدا.
في أيام الشتاء مع ندرة الأغطية وبرودة الأرض الإسمنتية وتهلهل الملابس، يصير البرد جهنميا. ولم أشعر بالدفء أبدا طيلة السنوات العشر التي قضيتها هناك ولا حتى للحظة واحدة، وفي الليلة الأولى التي خرجت فيها من السجن وجدت فراشا أعدته لي والدتي فوجئت وأنا أدخل تحت أغطيته بكمية الدفء العظيمة التي يحتويها.
إيه، كأني اضطجعت في موقد، أحسست وأنا أغفو فيه بالبرد يتسلل خارجا من عظامي يصحب معه تعب السنين العشر. وقتئذ أدركت أني كنت واقفا مجردا من أي دثار في عراء تلفحني فيه رياح باردة طيلة عقد كامل.
في كيس من الخيش كان يصل إلينا الخبز أحيانا، وبعد أن يتم توزيع الخبز من الممكن أحيانا الاحتفاظ به بعيدا عن عيون الأمن . لم يكونوا في حقيقة الأمر يهتمون له؛ لأنه لا فائدة منه، لكن كانت لهم سياسة ثابتة باسترداد كل شيء يدخل إلينا ليسلبوا منا الشعور بتجدد الحياة. كانوا حريصين على أن نعيش مع الأشياء القديمة المستهلكة المندثرة ليشعرونا أننا صفحة من ماض انطوى ونوشك على الانقراض معه ولا يوجد أي أمل بتجدد الحياة أبدا.
كيس الخيش هذا صار سببا من أسباب الدفء مع وجود بعض خياطين مهرة قاسمونا العيش في الزنازين. كانوا يفصلونه ليكون على شكل كنزة أو معطف قصير ومن ثم يبطن بقطعة من الكانة ويصبح قطعة رائعة مميزة تحفظ حرارة الجسم. لحسن الحظ حظيت بواحدة منها من خيش أسمر؛ الأكمام والياقة مزينة بالكانة فصارت كنزة ملونة. حين ألبسها والآخرون عليهم ثياب لا تقيهم من شيء أبدو بينهم كأني أرتدي بدلة سموكن وأتمشى في سوق شعبي؛ رجل أربعيني صنع هو الآخر واحدة له على شكل معطف طويل يتجاوز ركبتيه بجيوب واسعة. وحين يمشي في الممر مسرعا كعادته في المشي ويضع يديه في جيوب المعطف العميقة كان يبعث الضحك فينا، كأنه عائد من صفقة عقدها للتو في مقهى المصبغة حيث يجلس كبار التجار قديما في بغداد.
وبرغم وجود صنعة ماهرين، لم يتمكن أحد من صنع ملابس داخلية؛ لأن النسيج القطني المناسب لصنعها استعصى عليهم، ولم تفد كل خبرتهم ولا نفعت مهارتهم في إيجاد بديل لها، لذا كانت الأغلبية الساحقة من السجناء لا يرتدونها إلا من احتفظ بواحدة منها من أيام خوال انقضت وأنى العودة إليها. كان غياب الملابس الداخلية سببا مهما في عدم الإحساس بالدفء؛ لأن الثياب كانت على الدوم فضفاضة ولم تكن يوما على المقاس. الهواء البارد يجد فيها ملعبا كبيرا وساحة رحبة يلهو فيها ويمرح، يقرص العظام ويوخز العضلات الضامرة ويجعد الجلود المتيبسة.
11
أين ذهبت قوتي وعضلاتي، عبارة كان يرددها سجين شغوف بممارسة رياضة الألعاب القتالية، وهو يقوم بحركات رياضية صباحا وفي بعض الأحيان مساء وسط حشد مزدحم من أجساد مستلقية في الممر الضيق. كنت أسمعه وأراه كما الآخرون ونسخر جميعا مما يقوم به؛ لأنه واحد من مجموعة لم تدرك بعد أن الماضي قد انقضى ولم تبق منه سوى عبر وذكريات.
مجموعة تظل تعيش الحاضر بعقلية أحداث مضت وتواصل رفض حقيقة راسخة منذ الأزل. إن العالم يتغير ولا يوجد نهر يستحم فيه مرتين. عقلية تمسكت بأشياء بلاها الزمن وهي تعطيها الخلود، معتقداتهم تشبه حلم مصري قديم بعودة مومياء ملك محنطة مع كنوزه ليعاود الجلوس على عرش تنازعه الورثة والأعداء من بعده ولم يفضل منه شيء. ملك أفضل ما فيه أنه قد يصلح لأن يكون قطعة أثرية يتفرج عليها فضوليون في متحف للأشياء العريقة.
هذا وآخرون مثله كانوا يترنحون من صدمات الواقع الذي يعيشونه، وهو يرطم أحلاما بعثرها الزمان في أدارج عاصفته الهوجاء التي ابتلعتنا إلى هذا النزل المظلم في العالم السفلي. وكلما كانت الأيام تواصل سيرها، كان توازنهم يختل أكثر وأكثر كما هو عنادهم في مواصلة البقاء خارج الواقع. تصلب لم يجد عقلهم معه من حل لهذه المعضلة المزمنة بالألم، إلا بأن يعلن استراحته وتقاعده عن العمل ويتركهم لفوضى من خيالات تسرح بهم وأفكار مبعثرة تشظي أفعالهم بلا عقد جامع.
بعضهم بلغ به الحال أن يؤذي نفسه وآخر يقوم بأفعال غريبة مضحكة، فيما آخرون يتكورون على أنفسهم يحيطونها بهالة كبيرة من كآبة سوداء لا يخترقها شيء، ويسير رويدا رويدا لكن حثيثا نحو جنون تام سوف يضم إلى حضيرته آخرين. لم ألم أحدا منهم؛ لأن ما جرى لبعضهم كان أفضل حل يجده ليتخلص من وقع ذكريات متعبة تسحقه بألمها الفظيع.
منذ بواكير دخولي السجن عرفت أنه علي أن أتعلم ألا أتذكر وأن أفرغ ذهني من الماضي، الشاعر التركي التقدمي والإنسان الرائع ناظم حكمت كان أثيرا عندي، وكنت متعلقا بقصيدة له اسمها «إلى مرشحي السجون» بما فيها من نصائح غالية ومعان نفيسة مثل الدرر الكامنة في أعماق البحار الواسعة، يوصي فيها المرشحين للسجون مثلي حين تبدأ رحلتنا، ألا نفكر بالنساء ولا بالأشياء الرقيقة، وأن نفكر بالصخور ومثلها من الأشياء القاسية حتى لا يصيبنا وهن ولا يعترينا ضعف. أوصدت كل الأبواب على ذكرياتي وبنيت بينها وبين العالم الخارجي حاجزا لا تقوى على اختراقه.
فيما بعد، حتى عندما أتيحت الفرصة لي للاتصال بهذا العالم الآخر كنت مستمرا على ألا أفكر به وأحسب السجن هو الكون الوحيد المأهول بالبشر، وما خلاه نجم بعيد مأهول يسبح في الفضاءات البعيدة لا تطؤه إلا روايات الخيال العلمي.
في أول الأمر، كانت إذا حامت صور منه حولي في يقظة أو منام، كنت أزجرها بعيدا عني وأنصحها بعدم التكرار، فلست أنا الشخص المعني بها كمن كان ينكر علاقته بتهمة، حتى أحلامي اختفت منها هذه الذكريات وخمدت شعلة التعلق بالماضي والحنين إليه. السجن علمني أن أعيش الواقع وأدع الماضي يتلاشى ويغرق؛ لأنه اختفى من صفحة الزمان ويجدر به أن يغرق في طم النسيان. من يعش فيه فسوف يورم رأسه ويأتي يوم يهشم رأسه بنفسه بطرق الجدران والصخور به ويدع المعاول تهدمه حتى يتخلص من هذا الورم، ولن يقدر على الخلاص منه إلا أن يذهبا سوية إلى اضمحلال وتلاش حيث تسمق منازل الفناء في هوة العدم.
الزنزانة علبة صغيرة، وما خلف جدرانها كون شاسع لا حد لأبعاده، قلت لنفسي ذلك في يوم اقتادنا رجال الأمن فيه إلى باحة واسعة في السجن حيث وقفت سيارة فحص الأشعة السينية للتأكد من حالات الإصابة بمرض السل الرئوي المنتشر بين السجناء مثل نزلات البرد الشتوية.
كان طقسا ربيعيا مشمسا راح بصري يبحر بسحره في السماء الواسعة بمنظر غريب لم تألفه عيناي منذ سنوات. «يا للهول، أحقا هذا العالم واسع جدا لهذا الحد؟ أوكل هذا الوسع وترامي الأطراف لم يقنع الناس ليتقاسموه ويعيشوا فيه بسلام؟ أحقا لا يكفي كل هذا الرحب والسعة ليعيش كل واحد منا في زاوية فيه يفعل ما يشاء فعله دون أن يزعج الآخرين؟»
أي تبلد بهيمي هذا الذي يغزو النفوس لتجعلها ترتكب كل هذه الفظائع، وأي شيطان فيها هذا الذي يظهر بعدها بمظهر الرصانة والوقار يبرر آثام فعلها، بل ويصنفها في خانة وصايا الرب العشرة . إنها آفة نفسية عميقة أو تشوه وراثي وخلل في الخلقة تدفع المرء لصنع كل هذه الجرائم الرهيبة ويظهر صاحبها بعدها بلا مبالاة، بل ويفخر بها ويوهم نفسه وغيره بأنه أحسن صنعا. لا يمكن أن يكون من يفعل كل هذا سوي الخلقة أبدا. لو كان كذلك فأي كوابيس تقض مضجعه الآن، وتجعله يتقلب في فراشه أرقا سهدا في كل ليلة؟ لكنه ليس كذلك. إنه حين ينهض من سريره مطلع كل نهار يعاود جرائمه كأنها قوته اليومي، كفافه الذي يعيش به وينبذ ضحاياه في قعر جب عميق مظلم أو تحت ثرى في صحراء لا أحد يعرف موقعها، تسأل ولا مجيب ما الدافع وما هو المغزى لإحداث كل هذا الألم بها.
هل صناعة الألم ترياق بمقدوره أن يشفي صدرا أوغر في كراهية كل ما يمت لنوع الإنسان من صلة، بل لكل ما في الحياة من جمال؟ كلا، إنه لن يفعل ذلك ولن يقوى كل الغل والبغض للإنسان أن يطفئ جمال الإنسان الرائع. ليس من شيء في هذا الوجود أجمل من الإنسان، سجد الكون كله له وخضعت له حتى الملائكة عنوان الجمال ومن يأبى سيبقى طريدا ملعونا شيطانا ترجمه بكل حجر ومدر حشود الحب الساعية إلى كعبة الكمال.
الحياة لن تتوقف، فما صنع الخريف بأوراق الشجر وظنونه الخاسرة بأنه قد بلغ عتبة النصر حين يحيلها جرداء من الورق، إلا آمال خائبة وأماني عاطلة. حين يأتي الربيع سوف تزداد قوة وترتفع أكثر ويواصل علوها ارتفاعا معانقا السحب والسماء تزين أغصانها بأوراق أشد خضرة تدخل الفرح والحبور في قلب من يرنو ببصره نحوها، وتظل العابر والمقيم بأفيائها وتمنح الجميع بلا تمييز ثمرا يانعا يجري فيهم الحياة. هكذا هي دماء الشهداء وآلام المعذبين مثل عذابات سنديانة عصية تحطم كل فئوس الأشقياء التي تريد النيل من بقائها السرمدي.
يا ألله! ما أجمل الإنسان حين يكون إنسانا.
عجز الطغاة رغم كل هذه العذابات والآلام وبما امتلكوا من ماكنة القمع الهائلة أن يجعلوا من السجن مقبرة للأحرار ، كما كانوا يحلمون ويمنون أنفسهم. لم يقدروا على فعل ذلك، السجن صار مصنعا يخرج منه ثوار جدد ومدرسة لأشياء كثيرة لم يستطع الظفر بها جمع غفير من الناس، وإن ظن بنفسه أنه يعيش حرا خارج القضبان.
بمجرد أن تم التخلص من الخونة الوشاة، انشغل الجميع بعملية تثقيف واسعة، تصدى لها سجناء يملكون الوعي والفهم والتفكير الصحيح وسعة الأفق، بغض النظر عن الدرجات العلمية التي بالأصل لا تتوفر عند أغلب السجناء حيث حرموا من إتمام تعليمهم جراء اعتقالهم. صارت لهؤلاء السجناء مكانة اجتماعية لهذه السمات التي يتحلون بها خصوصا أن هذه المؤهلات كانت تنعكس على سلوكهم الشخصي وحركتهم.
لقب المثقف والوجاهة الاجتماعية التي ينالها بواسطته كان يعطى في السجن ليس لكل من حفظ معلومة، بل لمن يقوم بدوره الرسالي، فليس مثقفا من لم يك يعرف مشكلات بيئته ولا يقدم لها حلولا، ولا يعد منهم وإن قرأ الكثير أو كان ذلق اللسان. المثقف من يشعر بالمسئولية تجاه مجتمعه وهو على أهبة الاستعداد للتضحية في سبيل ذلك. المثقفون هم صناع الرأي العام يتبنون كشف الحقائق وهم شجعان في كشفها وفي الدفاع عنها حين ينكص الآخرون؛ لأنهم أصحاب رسالة، إنهم كالأنبياء بين قومهم.
كانت تعقد حلقات صغيرة وأحيانا بشكل فردي للتثقيف في مواضيع شتى. وفي أوقات محددة ومناسبات معينة كان يجتمع كل سكان الزنزانة لسماع محاضرة عامة أو المشاركة في برنامج احتفالي. المناخ الثوري كان هو السائد في عملية التثقيف والاحتفالات وتصدح الحناجر بأناشيد تحرض على الصبر والثبات وعلى مواصلة الثورة والتحدي وتبشر بالنصر. بوارق الأمل بنهاية حكم الظلم وسلطة القمع لم تتوقف ولم تخل الإشارة إليها في أي برنامج خاص أو احتفال عام.
كثير ممن لم يكن له شغل بالمعارضة والسياسة بدأ يتعلم مفرداتها وينخرط في أجوائها، وبالطبع لا يمكن القول إن الكل كان مهتما بذلك؛ فبعض ممن وصل بقطار الصدفة لم تغيره الأحداث، وبعض آخر أصابه إرهاق وملل وتعب من المقاومة الصعبة والسباحة ضد تيار جارف واستسلم، فصار سطحيا في مطالبه، تلاطم به أمواج الحيرة والتوجس، وتنشب مخالب الموت بجذوة الحياة لتنتزعه إلى اتجاه معاكس يحسبها تستبقيه على الحياة وهي تغرس الخنجر تلو الآخر فيه ليغدو كأنه جثة تأكل وتمشي في زقاق مدفنها الأخير.
وبرغم ذلك فإن تلك الفئتين لم تشكلا عائقا أمام عملية التثقيف، وأصبح السجن مدرسة حقيقية. تبادل المعلومات يجري بشكل متواصل وبطريقة عمل الأواني المستطرقة، فكل يقدم ما عنده من خلاصة مطالعاته وخبرته إلى الآخرين. وبوجود عدد لا بأس به ممن يحمل ثروة معرفية وخبرة سياسية، تحول تبادل المخزون الثقافي إلى صناعة فكرية؛ إذ صار هناك الكثير ممن بات يستثمر وقته في التحليل والتفكير العميق ليخرج برؤى فكرية جديدة.
انهمك الشعراء - وما أكثرهم - في نظم القصائد في مواضيع شتى أغلبها يشع ثورية وتحديا، يشجعهم على نظم المزيد منها شباب يحول تلك القصائد إلى أناشيد تلهب الحماس وتشد أزر الجمع في مواجهة المحنة القاسية وظرفها الرهيب.
الاعتقال السياسي كانت له حسنة كبيرة على السجن؛ إذ بين هذا الجمع الكبير من السجناء لم يكن بينهم إلا قليل جدا من سيئي الأخلاق رديئي الطباع مستعدين لارتكاب أفعال رذيلة؛ لأن الأغلبية وإن لم تكن غير منخرطة بتنظيمات سياسية فإنها أيضا لم تعتقل بسبب ارتكاب فعل سيئ كما هو الحال في باقي السجون، بل جرى اعتقال كثير منهم لشبهات تحوم حولهم أو لأنهم مرتبطون بعلاقات خاصة مع شباب ثوري. وإلى جانب هذا هناك عدد كبير من السجناء ممن يلتزم بالفعل وليس بالقول فقط بأخلاقيات الثوار الرومانسية، من صدق ووفاء، أمانة ونبل، والتزام شديد بالسلوك القويم، بل مضافا لذلك، يحملون صفة غاية في الأهمية وهي الريادة والقدرة على توجيه أي جمع يحلون فيه. صفة رائعة وخصلة مدهشة مكنتهم من فرض نهج أخلاقي جميل في السجن. أحب كل السجناء ذلك والتزموا بتلك الأخلاق في تعاملاتهم وتأكدت بذلك مقولة آمنت بها مبكرا: «عندما يصلح القائد تصلح الجموع.» التي تتبعه في حركتها، وتختفي كل عيوبها الداخلية الصغيرة.
هذه العيوب بغياب قائد صالح مصلح تبدو مشكلة اجتماعية عميقة لا سبيل لحلها ولا للخلاص منها، أما إن ظهر رائد بخصال حميدة وأخلاق رفيعة يقود حركة المجتمع فإنه يجذبهم إلى شاطئ فطرة الإنسان الجميل، وحينها يتحدون في الأشياء الجميلة وتضيع كل العيوب الأخرى والعكس صحيح أيضا. المجتمعات بحاجة إلى من ينظمها في مسار مستقيم بقدرات فنية يملكها هذا القائد وأهمها حكمته وإخلاصه لشعبه ولمبادئه. ولحسن الحظ كان السجن يعج بالمخلصين ولا يخلو من الحكماء في الأقوال والأفعال؛ لذلك ارتقت الأمانة والصدق إلى درجة مثالية بين السجناء.
بسبب الزحام الشديد وتشابه الأشياء المستعملة كان يحصل في كثير من المرات أن يتوهم سجين في ملكية حاجة ما، ويعتريه شك بعائديتها، فيتركها زهدا وتعافها نفسه مع حاجته الماسة لها. تتحول القضية أحيانا إلى شبه معضلة؛ إذ تصبح هذه الأشياء كدسا متراكما في وسط الزنزانة لا أحد يعرف مالكه وتأخذ حيزا في الزنزانة الضيقة ولا يتقدم أحد لاستعمالها، وغالبا ما كانت تحل المشكلة بطلب إذن جماعي بحق التصرف يمنح إلى مراقب الغرفة أو شخص آخر محل اعتماد في الأمور الإدارية ليتولى توزيعها بما يقدر ويرى.
وفي فترة لاحقة عندما أصبح بإمكاننا مواجهة أهالينا، لجأ بعض السجناء - خصوصا من كانت أسرهم تعاني ضائقة مادية ويشكون من قلة اليد - إلى بيع بضائع كانت تصلهم من عوائلهم مثل السجائر وأشياء بسيطة أخرى لتمشية أموره المالية ولرفع الحرج عن عوائلهم وتخفيف العبء الذي ينوءون به. في أيام المواجهة كان ينشغل عن بضاعته بملاقاة أهله، لكنه لا يتوقف عن بيعها؛ إذ يضعها مفروشة على الأرض ويذهب لقضاء وقته مع عائلته، فيما يأتي السجناء الآخرون وبعض من زوارهم يتبضعون منها، يأخذون ما يرغبون ويضعون مقابلها عوضا ماديا بلا كاميرات مراقبة ولا أمن يقفون عند بوابات المحال ولا هناك من محاسب ولا رقيب إلا أخلاق آمن الجميع بجدواها وتواصوا عليها وصارت خيمة يستظل الجميع بأمانها وسلمها.
الأمر بدا غريبا جدا لمن لم يعش بيننا في سجون الاعتقال السياسي؛ إذ في مرة بينما أحد رجال الأمن يتجول في الأقسام أثناء المواجهة رأى عمليات البيع والشراء تسير بهذه الطريقة ولم يفهم ماذا يحدث بالضبط. ولما شرح له الموقف لم يصدق أذنه ولا عينيه، خرج مذهولا يردد كلمات استوحيت منها عبارة كتبتها في هذا الكتاب حين قلت: «عالمي الذي أحلم به حيث تضوع ريح الأنبياء وهي تلامس الأموات لتحييها.» وقف رجل الأمن يقارن بين هذا العالم الغريب المخفي عن العيون وبين عالم وحشي يعيشه. عيناه حكت ألما وهو يرى، بل كان يردد ويقول: «هل هذه هي الجنة أم هذا هو الفردوس يتجسد أمامي؟»
12
تطور الأمر إلى أكثر من التثقيف الجماعي أو الفردي إلى درجة أن البعض اندفع إلى محاولة بناء تنظيم سري داخل السجن. كانت عملية يشوبها حماس زائد وتفتقر إلى الحكمة رغم سلامة النوايا. خطوة قام بها متحمسون وانضم إليهم شباب حديثو السن ولم يحسبوا جميعا أضرارها ونتائجها بخلاف خطورتها الأمنية الشديدة وعدم جدواها المطلق في تحقيق أي فائدة في زعزعة النظام كما هو هدف العمل التنظيمي لإحلال بديل عنه؛ لأنها كانت تتحرك بمزاج أشخاص صنعوا هذا التنظيم الخاص ولا علاقة لهم بأي تنظيم سياسي حقيقي خارج القضبان، مما يعني بكل بساطة أنه مزاج أشخاص ورغبات ذاتية في بناء جسم تنظيمي يتولون هم شخصيا قيادته، وهذه آفة التنظيمات السياسية.
التنظيم السياسي حركة جماعية لتحقيق أهداف يسعى إلى بلوغها الفكر الذي تلتف حوله الجماعة، وليس هناك من تابع ومتبوع في الحركة إلا بمقدار تنظيم الحركة فيه. القطب الذي ينبغي أن يدور حوله الكل هو الفكر والهدف، لا الأشخاص مهما كانوا، وعندما يصبح بعض الأشخاص في التنظيم بمنزلة القيم على الفكر وتحديد غاياته ويصبحون هم من يحدد المسارات برؤيتهم الخاصة، حينها يفقد التنظيم السياسي جدواه ويتحول إلى ما يشبه دينا وثنيا يتحكم به كاهن يسكن معبدا، وما على أتباعه سوى تقديم القرابين والنذور على مذبحه. النخبة التي تسيطر على التنظيم وتسعى إلى التفرد تجهض التحرك الثوري بدلا من قيادته فيما لو تعارضت مصالحها مع مصالح الحركة الثورية. ولن يستطيع تنظيم تأسس على هذه الطريقة والمنهج أن يكون ذا جدوى ونفع أبدا.
بدأت هذه الخطوة الانفعالية المزاجية تقسم المجتمع المتماسك في جميع الزنزانات؛ إذ إنه في زنزانة محشوة بعدد كبير من السجناء لم يكن من العسير اكتشاف وجود علاقة خاصة بين مجموعة معينة منهم، وهم يتكتمون في أحاديثهم على أمر خفي، خصوصا أن كثيرا من السجناء كان مدربا على العمل السري ويلتقط بسهولة هذا النوع من العلاقات.
الثورية الزائدة مرض يتوفر دائما عند قليلي الحكمة. المتهورون والمتزمتون والمندفعون هم مشاريع تطرف سياسي ومرض طفيلي في أي فكر تغييري، والأفعال التي تصدر منهم غالبا تتسم بانفعالية كينونتها رد الفعل؛ سلوكهم يتسم بالانغلاق، وكل هذا جعل انكشاف أمرهم أكثر سهولة ويسرا في مجتمع السجن الخاص.
هذا الشرخ الاجتماعي متزامنا مع الرفض من قبل أغلب السجناء، خصوصا ممن كانت له ريادة اجتماعية، جعل هذا المشروع التنظيمي في وضع لا يحسد عليه، وأصبح عرضة لانتقاد شديد خلف عددا من المتاعب والمشاكل لأصحابه، وخلق جوا من التوتر العام في أكثر من مكان.
عدم الاستجابة لرأي الأكثرية والإصرار على أمر خاص لا يختلف كثيرا عن الجهود التثقيفية التي كانت تتم في الجو العام أجهض المشروع نهائيا، إلا أنه لحسن الحظ تم احتواء هذا التحرك في النهاية بشكل تام. لكن لم يكن ذلك بلا خسائر، بل أخذ وقتا ليس بالقليل وجهدا غير متواضع من الحوارات المطولة، وبنفس المقدار أحدث انقسامات وشجارات تطور بعضها للأسف إلى اعتداءات لفظية وجسدية.
لكن هذه الشجارات كانت ستحصل أيضا حتى بدون هذه الخطوة السقيمة؛ إذ إن هناك كثيرا مما يمكن له أن يسبب شجارا وخصومة بين السجناء، فأجواء الحرمان القاسية والضغط النفسي كانت تنتظر شرارة لتندلع فيها حرائق صغيرة سرعان ما تخمد؛ لأنها لم تكن سوى محاولة للتنفيس عن توتر وغضب يعتمل داخل النفوس. وكانت دوافعها في جميع المرات أسبابا تافهة جدا لكن يمكن تفهمها.
مثلا: أي شخص بعد تناوله الفطور كان مضطرا لقضاء حاجته أن يجلس أمام المرحاض في طابور طويل مكون من أربعين شخصا أو يزيد. لنتخيل كيف ستكون أعصابه حين يحاول جاهدا ألا يصدر منه ما يعيبه بعد أكثر من ساعة من انتظار ممل، ثم يأتي أحدهم ويحاول بحذلقة ماكرة أن يتخلص من طول الانتظار مدعيا أن لديه مغصا شديدا أو حاجة مستعجلة. سيحدث رد فعل غاضب خصوصا إن كان متأكدا أن هذا التفاف ماكر، وسوف ينفجر غضبا ويحدث شجار بينهم بالتأكيد.
يمكن لأي أحد أن يعيش في هذه الظروف أن تفسد طباعه وينقلب وحشا كاسرا، وهذا ما يحصل في السجون الجنائية حيث تتحول الخصومات الصغيرة إلى معارك دائمية، لكن في هذا السجن كان كل شيء ينتهي سريعا ويتم التصالح بين السجناء، مما جعل السجن رغم كل ما فيه قابلا للاحتمال.
كان السجناء يتحينون الفرص للتصالح والتغاضي أحدهم عن الآخر من هذه الخصومات الهامشية، ويستغلون المناسبات والأعياد للتصالح؛ لأنهم كانوا يرون في أنفسهم أنهم أصحاب قضية أكبر بكثير من سفاسف الأمور. حتى أنا - وبرغم الطبع الهادئ الذي أوصف به من أغلب من يتعرف علي - دخلت في هذه النوع من الخصومات لأكثر من مرة. مثلا في إحدى المرات، كنت أنام عند جدار به ثقب صغير يمكن من خلاله الاتصال بزنزانة مجاورة، هذا الثقب أصبح محجا لكثير من السجناء يتوافدون عليه للحديث مع سجناء آخرين في زنزانات أخرى. كان أمرا مضجرا فعلا وكم كان مزعجا ألا أحظى بالراحة حتى في الشبر الواحد المخصص لي. نعم إنه شبر واحد تضطجع به، حتى إنه في يوم صرخ أحدهم: «يا إلهي! حتى في القبر يعطون شبرا وأربعة أصابع!»
نعم، إنه مضجع أضيق من القبر ومع ذلك لا أحظى به؛ لأنه قرب ثقب صار برجا للاتصالات، بحق كان أمرا لا يحتمل، وفي مرة صار وقت النوم وظل أحدهم يواصل ثرثرته، رجوته أن يترك المكان ويدعني أرتاح، لكن في كل مرة كنت أرجوه المغادرة يطلب بضع دقائق إضافية. كنت متعبا ضجرا، ونفسي متكدرة مما فاقم تعبي. وبعد أن صار يقينا عندي أنه لا يعيرني اهتماما نفد صبري الذي - بصراحة - لم يكن كبيرا ساعتئذ . صرخت به وتبادلنا الشجار بكلمات غضب واستغرق الأمر عدة أيام فقط من إشاحة الوجه فيما بيننا لنستعيد العلاقة الودية من جديد، وكأن شيئا لم يكن.
الاتصال من خلال ثقب الحائط كان أبسط الطرق وأكثرها بدائية في منظومة الاتصالات التي تعامل بها السجناء، ولربما اخترعوا بعضا منها؛ لأنها لم تكن سوى كلام مسموع ينتقل من فم إلى أذن. كل ما في الأمر أن تضع فمك مرة على الثقب وتارة أخرى أذنك عليه لتسمع رد صاحبك. الثقب لم يكن طبيعيا في أغلب الأحيان، بل كانت تصنعه يد سجين تجد مكانا رخوا في حائط فاصل بين زنزانتين، وحينها يبدأ حفر دقيق للإسمنت عند نقطة التقاء أكثر من بلوكة، لإحداث ممر صغير يمكن أن يمر منه خيط ضوء رفيع جدا. هذا المقدار الضئيل يكفي لمرور الصوت وتبادل الأخبار والنميمة أحيانا، إلا أنه لم يكن الطريقة الوحيدة للتواصل.
كان هناك أشخاص يبرعون في التعامل بلغة المورس المعروفة عند العسكريين، يتبادلون الحديث والأخبار بواسطة هذه اللغة وبسرعة فائقة، ومع أني كنت أحفظ شفرتها جيدا، إلا أني لم أكن سريعا بما فيه الكفاية في استعمالها. كنت أفضل طريقة أخرى في التواصل، وهي الكتابة في الهواء وهي طريقة شائعة بين السجناء ومن إبداعاتهم الخاصة لأني لم أر لها مثيلا في أي مكان آخر. تعتمد أصول هذه الطريقة على رسم الكلمة في الفضاء بطريقة تقطيع الحروف، وعلى الشخص المقابل جمع هذه الحروف التي تشكل أجزاء الكلمة وإدراك معناها ودلالتها. كنت أجيدها وأستخدمها كثيرا للتواصل مع سجناء في زنزانات أخرى. لم تكن وسائل التواصل هذه مخصصة لتبادل التحايا والسلام أو الثرثرة وحسب، بل كانت أيضا قناة للتزود الفكري والتعلم والتدريس، وإن كانت تسرق وقتا مديدا وجهدا ضخما، لكن لم يكن هذا عائقا مهما؛ لأنه لا شيء عندنا أكثر من الزمن الذي لم يكن ينقضي أبدا.
ولأجل التواصل الثقافي والفكري كان السجناء يلجئون إلى طريقة أخرى في تبادل الدروس عبر الزنزانات؛ فقد كانوا يتبادلون المخطوطات فيما بينهم. ولما كان القرطاس والدواة من المحظورات، كان من اللازم إيجاد بديل عنهما. في السنوات الأربعة الأخيرة من سني سجني بدأ الوضع الغذائي بالتحسن قليلا، وصار يصل إلينا بين حين وآخر كأس صغيرة من اللبن، يتقاسمه أربعة أو خمسة أشخاص، لكن غطاءه العلوي - وهو من ورق السيلفون - كان حصرا من نصيب المهتمين بالأمور الثقافية إن كانت فكرا أو أدبا. وبالاستعانة بعظام دقيقة من الدجاج الذي يستعمل كدواة تحول السلوفان إلى قرطاس يجري الخط عليه بطريقة الحفر الدقيق الناعم، كل ما يراد تسطيره في أي موضوع سياسيا كان أو دينيا أو ثقافيا بشكل عام من شعر وأدب وغيره صار يدون على هذا القرطاس. ولم يكن هذا النوع الوحيد من القرطاس؛ ففي كل شهر تقريبا كانت تصل إلينا في زنزانة الحجر الصحي علب حليب توزع على المرضى، وبالعادة تمنح أولا للحالات المتدهورة جدا على الأغلب. كان الحليب يجلب إلينا معلبا في كارتون مغلف من الداخل بسلوفان سميك؛ ولأن كل علبة كانت تحوي لترا من الحليب السائل، فكانت القطعة كبيرة جدا تكفي لتدوين مقالة طويلة، وباستخدام عظام الدجاج كانت الكتابة عليه أسهل وأسرع ولا يعاني من تشققات كما هو حال سلوفان اللبن.
استخدمت هذا الورق كثيرا في الإعداد لمحاضرات كنت ألقيها في مناسبات عديدة، أو لتدوين أفكار كنت أظفر بها، خصوصا عندما يهجع الكل إلى النوم. كنت أحرص على استغلال فرصة الهدوء وأسرح بعيدا في تأملات عميقة أوصلني بعضها إلى اكتشافات فكرية جوهرية، أسست عندي لمبان فكرية جديدة طورت من فهمي لأشياء كثيرة، وربما أيضا سببت لي مشاكل ليست قليلة في حينها، لنقص في خبرتي ولبعض الحماس غير المبرر مني للجهر بآراء صريحة مقابل بعض محدودي الفهم والمتعصبين، وأشخاص منزعجين جدا من تسيد المشهد الثقافي من قبل مجموعة معينة كنت أحد أفرادها.
هذا الوضع المميز جعلنا في مركز اجتماعي حسن، بعض قليل من السجناء كان لا يروق له ذلك، واشتعلت الغيرة في صدره، واضطرم الحسد في نفسه المضطربة أصلا، فبدأ يختلق الأعذار وينتحل الحجج للتوهين من آخرين. الغريب أنه حتى في هذه الأوضاع المزرية حيث الحرمان من كل شيء، كان التنافس على المواقع والحسد متوفرا بصورة ملحوظة مع أنه لا يوجد شيء يستحق الاهتمام فضلا عن القتال عليه.
في إحدى المرات كنت أجلس متكئا على حائط، بينما تجتمع في إحدى زوايا الزنزانة مجموعة من الأشخاص لحل خلاف نشب بينهم، ولسبب ما أجهله الآن حجب بصري شيء ما عن رؤيتهم، لم أقدر على ملاحظة المشهد إلا من خلال النصف السفلي لأجسادهم، سقط نظري على أقدامهم وهم وقوف يهمون بالجلوس ورأيت أرجلهم حافية مجردة من أي نعل؛ مشهد غريب أحدث أثرا عميقا في. إنهم لا يملكون حتى نعالا ولو خلعوا أسمالهم البالية لكشفت عوراتهم في الحال؛ لأنهم لا يملكون سروالا داخليا ليرتدوه. هل هناك من شيء فعلا يستحق كل هذا التنافس والخصومات؟! وهل يوجد شيء ليس هنا في هذا المكان المقفر من كل ما يمت للدنيا وحسب، بل في كل هذه الدنيا يستوجب التنازع لأجله إلى حد تصل الأمور فيه إلى سفك الدماء وقتل الأبرياء؟!
ما أغرب نفس المرء حين توهمه بمغريات زائفة وهي في حقيقتها أوهام وعدم، أو كادت أن تكون كذلك في أكثر المرات. النوازع البشرية لا تتغير بتغير الظروف سواء كانت خشنة أو ناعمة، قاسية أو رقيقة. غرائز تبقى كما هي في كل الأحوال وكل ما تفعله تبدلات الظروف في منعطفاتها حين تدهم المرء على حين غرة، إنها تعطي دروسا مجانية لمن يريد أن يهتدي بنورها.
في هذه المنعطفات الحادة تتعرى الأشياء من تراكمات الزيف وتتبدى ماهية الحياة مجردة من أي زخرف وزينة، وتسقط الهالة الساحرة الغامضة التي طالما خدعت الأبصار وشوشت الأفكار وهي تتلوى مائجة. من أخذ الدرس يركلها هي وكل الأوهام التي تذهب بلب كل تواق نهم يشتهي متعا زائلة بلا تدبر ولا حسبان لعواقب وبيلة، ويقي نفسه عواقب تنزل به الضرر عاجلا أو آجلا.
كان تبادل المخطوطات يجري بسرية بالغة حتى بعد التخلص من الخونة، وهناك تحفظ كبير في تداولها؛ لأن السجن معرض لحملة تفتيشية في أي لحظة. كان أفراد الخدمات الصالحون يقومون بهذه المهمة، وإن بحذر شديد، وفي مرات أخرى كثيرة كانت تنقل داخل حاجيات أخرى وقد دست في مكان سري، إلا أن نقلها من قسم إلى آخر كانت مهمة عسيرة جدا وتتطلب مهارة فائقة.
يصنع حبل وفي آخره ما يشبه صنارة صيد ويرمى بأقصى ما يمكن من فتحة البلوك الوحيدة المسماة شباكا تسامحا. ما يراد نقله يكون بالعادة بعضا من الحاجات المهمة التي تجمع لمدة طويلة من الزمن، وتنقل إلى قسم آخر لحاجة ماسة إليه، وطبعا لا تخلو البضاعة من أوراق ومواد ثقافية في أغلب المرات. كانت العملية تستغرق ساعات أحيانا؛ لأنها تتم تحت جنح الظلام، كان الطرف الآخر يرمي بصنارته أيضا لمرات ومرات عسى أن تلتقط الحبل الذي رماه صاحبه في الجهة المقابلة، وعندما تعلق الصنارتان، يبدأ سحب الحبل بحذر بعد أن يربط به كيس البضاعة المهربة؛ لأن عرض الساحة بين القسمين كان يزيد على العشرين مترا، والأنكى من هذا أنها كانت مكبا كبيرا للنفايات وكل شيء فيها يشكل عقبة أمام انسيابية النقل سحبا.
في مرات كثيرة كانت الصنارة تفلت؛ لأن البضاعة تعلق في كومة نفاية كبيرة يصعب تجاوزها، ويضطر الطرفان إلى سحب حبليهما ومعاودة رميهما من جديد حتى تعلق مرة أخرى ويبدأ سحب آخر. يظل الطرفان في توتر وترقب طوال الوقت خشية أن يدهمهم حرس أو رجل أمن يسير في دورية ليلية، وكانوا بالفعل يمرون كثيرا لتفقد السجن من الخارج مما كان يوقف عملية التهريب في فترات استراحات إجبارية. إلا أنهما يستمران في محاولة تهريب البضاعة ويظلان واقفين طوال الليل حتى تتم العملية قبل طلوع الفجر مكللة بالنجاح في كل المرات.
13
رغم تخلصنا من الخونة، وفتح قسم جديد قلل نسبيا الزحام وصار عددنا في كل زنزانة بحدود خمسة وثلاثين شخصا، إلا أن الظروف الصحية استمرت في حالها السيئ وتواصل انحدارها. معاملة رجال الأمن لم تتوقف عن إذلال واحتقار السجناء وإنزال عقوبات قاسية بهم لأسباب بالغة في التفاهة. وكلما كانت أيام السجن يتزايد عددها ، كلما كانت الأمور تسوء أكثر، ويحتد الغضب والحنق أكثر عند السجناء ويتضاعف وجدهم وتستفحل الضغينة ويتفاقم كربهم.
بين فترة وأخرى - ليست متباعدة - يموت سجين بسبب هذه الظروف المريعة، وكثير منهم يصاب بنوبات من إغماء، أو يضحون بهيئة وحال يشعر معها بقلق حقيقي، إنهم في سبيل التلاشي وهجر الدنيا كلية، وبالفعل فارقنا أكثر من واحد منهم وحصل ذلك أمام ناظري مباشرة وأنا أشهد ترجلهم من الدنيا وعروجهم إلى سماء طالما انتظرنا عدلها.
شابان شهدت فقد حياتيهما جراء المرض الشديد على مقربة جدا مني، وسمعت كيف تخمد الأنفاس في مشهد مرعب. يجاهد صبي في صراع مع مجهول لسحب أنفاسه وذاك الغريب من عالم الميتافيزيقيا يطبق عليها. يرفع ساقيه محاولا أن يرفسه بهما، وهو يشدد عليه الخناق حتى ازرقت قدماه وهوتا وأحلامه بالبقاء، لتخمد ضراوة المعركة مع انقطاع آخر أنفاسه الأخيرة، وتسدل ستارة من حزن ووجوم على زنزانة تحوي جسدا غضا يسحبه رجال الأمن في بطانية سوداء بعد ذلك إلى غرفة مجاورة.
كنا نتلصص من خلال ثقب الباب على جسده المطروح منبوذا مهجورا بلا احترام، فيما يحاول قط سمين الاقتراب منه يدور حوله ثم يتراجع ويقعد بعيدا عنه في زاوية، كأنه يقول: لا تخف يا عزيزي، أنا لست وحشا كأبناء جنسك، ولا أحمل غلا في قلبي لإخوتك الصغار وهم يلاحقونني في الأزقة الضيقة، ولو كنت تركض معهم حافيا تقذفني بالحجارة من السطوح فلن أرد عليك الإساءة، أنا لا أملك كل هذا الحقد لفعل شيء كهذا كما فعله بك من كنت تحسبهم بشرا وتحسبني حين كنت تراني وحشا.
الغضب يتزايد ككرة ثلج تواصل الانحدار، وغدا معه أغلب السجناء غير مبالين بالحياة، كثير منهم كان جسورا شجاعا ومستعدا للمواجهة بلا أدنى تردد وبلا حاجة لأن يغضب أصلا من سوء المعاملة، فكيف به معها؟ يحاول السجناء في كل مناسبة أن يتكتموا على آلامهم أمام رجال الأمن ويبدوا جلدا ومقاومة. وما زلت أحتفظ في ذاكرتي بصورة شاب تلقى صنوف العذاب مع آخرين، وحين انتهى التعذيب طلب منهم رجل أمن أن يهرولوا مسرعين إلى زنزانتهم. قام ورجع يمشي بكل هدوء ووقار، فعاجله رجل الأمن بضربات على ظهره لاستعجاله، لم يأبه لها وظل يمشي وكأن سياطهم ذباب يطنطن عند أذنيه لا يستحق منه الاهتمام سوى أن يهشه بيديه. وصل الزنزانة دون أن يغير من نسق خطواته ولم يرتبك في أي واحدة منها ولم يستعجلها ولا حتى بنصف خطوة.
كنا نمارس لعبة السعادة في رفع المعنويات، نشد أزر بعضنا بالتكاتف والتواصي، ونقول حالنا أفضل من حال غيرنا، حتى إننا في الزنزانة التي نقلت إليها بعد انتهاء فترة الحجر الصحي اخترعنا يوما كنا نسميه يوم الصبر. موعده السنوي في اليوم التالي ليوم وطني (عيد الجيش العراقي) تتردد قبله إشاعات كثيرة عن صدور عفو حكومي على السجناء ابتهاجا بذاك اليوم، وتتكرر فيه كل سنة الأخبار الكاذبة نفسها وكنا نعلم أنها إشاعات ليس إلا، ومع ذلك كان البعض يشتد به الشوق والحنين لزوجة تركها أو أطفال خلفهم كاليتامى، أو آخر يتوق للعودة إلى عالم بلا أسوار ولا قضبان، ويصيبه وهن وتراخ، ويحل به ضعف يزحزح قدميه ويرجرج موقفه. ضعف طبيعي، فما كنا سوى بشر يعترينا ما يعتري غيرنا من لحظات انتكاسة وقوة إلا أنا كنا نبغي مطاولة البغي وهزيمة السيف بالصبر. صار رأينا أن نقيم احتفالا عاما جماعيا في هذه المناسبة كل سنة في الموعد ذاته نترنم فيه بأناشيد حماسية، ونلقي قصائد وكلمات تشيع بيننا روح المقاومة والاستخفاف بممارسات الأمن وحربه النفسية، ونتجاوز لحظة الانكسار والضعف بالوثوب خطوة إلى الأمام في استجماع ولملمة كل قوانا.
من الأشياء الغريبة في السجن هو كثرة الشائعات والأخبار عن عفو رئاسي لإطلاق سراح وشيك. وكانت الإشاعات تروج بفكاهة؛ لأنها تبنى على معطيات وهمية هي للتهريج والمزح أقرب من أي شيء آخر. في إحدى الأمسيات، وقف أحدهم وسط الزنزانة وطلب منا الهدوء وبسمة عريضة على وجهه والبشرى ترتسم على محياه، وهو يقول: «عندي خبر مهم!»
أنصت له الجميع بخشوع واهتمام كما لو أنه كان يتلو قداسا: «صدر عفو سري جدا من مجلس قيادة الثورة على جميع السجناء السياسيين، وقريبا سوف تبدأ إجراءات إطلاق سراحنا، أرجو التكتم على الخبر؛ لأنه وصل عن طريق ثقة وأخشى من الأمن لو سمعوا بانتشار الخبر يتعرفون على المصدر.»
بادره على الفور شاب صغير لم يكن حينها قد أكمل خمس عشرة سنة من عمره بنبرة سخرية واستهزاء: «واضح جدا أن هذا العفو سري للغاية، والدليل أنت معنا في هذه الزنزانة المظلمة ووصلك الخبر.»
انفجر الحضور ضحكا، وتذكرت قصة «ملابس الإمبراطور الجديدة» والطفل الذي كشف عري الإمبراطور وزيف المنافقين. مثل هذه الأخبار كانت تشابه وتماثل الأحلام والرؤى التي كان يتحدث بها بعضهم. كان أحدهم مستودعا لا ينضب خزينه من أحلام ورؤى لا تنقطع عنه لصالحين وأولياء وأئمة وأنبياء ليس لهم من هم ولا شغل ولا عمل إلا المرور عليه لينقلوا له نبوءات تبشر بالفرج القريب، لم تتحقق ولا واحدة منها بالطبع لكنه لم ينقطع عن رؤيتهم ولا عن نقلها. آخرون كانوا يتحدثون عن نبوءات الأقدمين ويوافقونها مع واقعنا مبشرين بسقوط النظام وخروجنا منتصرين وأكثرها مبعثا للسخرية والازدراء لسخافتها كانت تقول إنه ورد في الأخبار الصحيحة عن السلف الصالح أن نهاية فلان (بتأويله صدام) تكون عندما يبلغ العراق نهائيات كأس العالم، وكانت النتيجة أن خرج العراق من هذه الكأس بثلاث هزائم متوالية وهزيمة رابعة حلت بصاحب النبوءة عندما لم نخرج من السجن نحن أيضا.
خلطة من عجز ويأس وجهل في جماعة لا تعايش واقعها، لا تريد الاعتراف به، ولا تحاول تغييره بنفسها لتلجأ إلى الخرافة والأساطير وتنعم برفاهيتها الزائفة وتخدع نفسها بسعادة وهمية.
تمر على جميع الأمم وأغلب المجتمعات ظروف طاحنة في ضراوتها، قاسية في وقائعها، مريرة في أحداثها، الجهلة والعاجزون فيها يركضون وراء الأحلام والخرافات والأساطير ليناموا تحت أفيائها، ليتفاقم قبح الواقع عليهم ويغرس مزيدا من حرابه في خواصرهم ونباله في صدورهم، ويجثو بثقل بشاعته، ويكلفهم سخفهم ثمنا باهظا وهم لا يفتئون يرددون وقائع أحلام لن تتحقق أبدا، ولن يقف على بابهم «غودو»، ولو ناموا الدهر كله في انتظاره.
14
الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بحتميتها كل البشر، وعلى الرغم من هذا إلا أن وقوعه يتحول دائما إلى حدث مزلزل ثقيل الوطأة على كل النفوس، وهذا ما جرى في ذاك اليوم المشهود.
شاب بغدادي في ريعان شبابه يحتضر من مرض عضال أصابه في السجن جراء نقص التغذية وانعدام الرعاية الصحية بالمطلق. جهد أفراد زنزانته - ومعهم شباب الخدمات - على الطلب من الضابط المسئول عن الأقسام المغلقة بتقديم بعض المساعدة له في محنته، واستنفدوا كل الحجج والسبل في سبيل إقناعه بأن هذا الشاب في وضع صحي مزر للغاية، وينبغي تقديم العلاج له وإسعافه، إلا أن رجال الأمن بالغوا في تجاهل الطلبات إذلالا وإهانة للسجناء. أصروا على عدم تقديم أي عون له، حتى لو كان يسيرا لجبر الخواطر وليس لإسعافه، فقد وصلت حالته إلى نقطة حرجة جدا، وأشك أن أحدا كان بوسعه إنقاذه، لم يقبلوا حتى أن يعاين طبيب السجن حاله، ولا أن ينقل لمستوصف السجن ليموت هناك. كان هذا خيارا سهلا وبإمكانهم أن يفعلوه بلا أي تكلفة؛ لأنه في الأول والآخر سيرقد هناك قبل دفنه.
مستوصف السجن هذا عبارة عن غرفة واحدة بسريرين، ويخلو من أي تجهيزات طبية إلا البدائي جدا منها؛ وهي ليست أكثر من حقيبة إسعافات أولية وبضع قناني مغذ، وبعض العقاقير الشائعة من أسبرين وبارسيتمول، ومضادات حيوية، ولم يكن صالحا لإجراء أي فحص متقدم أو إجراء أي عملية جراحية، وتقديم أي مساعدة طبية. نقلت إليه عند إصابتي بمغص كلوي حاد وفي ظرف كانت أوضاع السجن فيه جيدة، وقد تحسنت المعاملة كثيرا، ومع ذلك لم يستطيعوا تقديم أي مساعدة حقيقية لي سوى مسكنات ألم ليس غير.
بالعودة لقصة الشاب المحتضر، بعد تفاقم وضعه بدأت المخاوف الحقيقية من هبوط طائر الموت علينا من جديد تأخذ بعدا حقيقيا، حينئذ اتصل أحد أفراد الخدمات بالأمن من خلال جهاز اتصال داخلي قائلا له: «إنه يحتضر ويكاد يموت.»
رد عليه أحد رجال الأمن عليهم بوقاحة وصلافة واستهتار : «إذا مات لفه في بطانية وارمه خارج الزنزانة.»
كلمات رجل الأمن المتهتكة سمعها عدد كبير جدا من السجناء مباشرة؛ لأنه كان يتكلم عبر سماعة جهاز محاكاة داخلي. كانت مؤلمة ولها وقع قاس في نفس كل من سمعها، لما فيها من استهانة بالغة وازدراء شعر بها السجناء، صداها تردد في كل الزنزانات بعد أن تناقلتها الألسن.
نهاية هذا الشاب صارت عند كل واحد منهم نموذجا مثاليا لنهايتهم، وإنهم سيموتون جميعا بهذه الطريقة ويرمون مثل جيفة على قارعة الطريق لا يعبأ أحد لهم، ولن يحظوا حتى بمدفن لائق يستريحون فيه بسلام بعد رحلة الحياة المضنية بعذاباتها وآلامها. وقبل أن يمر وقت لتجرع هذه الإهانة وإذا بالخبر الصاعق ينزل ويدخل القسم في صمت رهيب وحزن عميق وغضب عظيم يغلي في الصدور. «لقد مات!»
الموت بوقعه المزلزل حادث مج لا تستسيغه النفوس، فكيف به وقد تزامن مع هذه الإهانة والاستخفاف. أصاب الذهول عقول السجناء والغضب بلغ أوجها وبدأ يفور في الصدور ينشد منفذا يخرج منه، ويزيد من غليانه الجسد المسجى أمامهم بلا حراك، كل شيء كان ينذر بانفجار عظيم. وعند الغلس دخل رجال من الأمن لإخراجه ملفوفا ببطانية كما وعدوا من قبل، السجناء كانوا كلهم مستيقظين مترقبين، وهمهمة احتجاج خافتة تسري مثل ريح ناعمة تسبق إعصارا.
ما إن فتح باب الزنزانة - يريدون سحب جثمانه - وإذا بصرخة احتجاج هادرة تنطلق من زنزانة ما مثل بركان يقذف أول حممه، وإذا بالسجن كله ينفجر معها بهتافات احتجاج مدوية مثل سيل جارف لا يتوقف ولا يخبو، بل يزداد مضيا في جريانه وتدفقا كلما سار إلى الأمام. ذهل رجال الأمن من هول الموقف وأسرعوا راكضين مع الجثمان مغلقين باب الزنزانة على عجل ومثله كذلك باب القسم الخارجي وهم يرتجفون من شدة الفزع. تظاهرة احتجاجية في جمهورية الخوف والقمع الرهيب، من يصدق هذا؟!
حدث وقع عجيب لهذا الاحتجاج؛ إذ إنها وقعت في آخر الليل مع إشراقة الفجر الأولى حيث يخيم الهدوء، صرخات مئات السجناء بأعلى أصواتهم مزقت ليل السجن والخوف وطلعت مع الفجر في روح كل نزلاء سجن «أبو غريب». تظاهرة تحد، كشفت عن ثائر أشوس قابع وراء القضبان ومقدام جسور لا تحجزه القيود ولا السلاسل. حدث قال بصريح العبارة: هنا يسكن الذين لم ترهبهم سنوات الإخفاء القسري، والذين لم تنل المعاملة الوحشية من عزيمتهم الجبارة، بل يواصلون تحدي أعتى نظام. صيحة وصلت إلى كل أرجاء السجن، وحار الأمن كيف يتعاملون مع الموقف؛ لأن إدارة السجن صارت تخشى انتقال عدوى الاحتجاج إلى أقسام أخرى. وحينها يصبح السجن في طريق الخروج عن سيطرة الأجهزة الأمنية بالكامل.
في أول النهار حاول رجال الأمن تجاوز الموقف رغم خطورته بتجاهل الحدث وإدخال الفطور الصباحي، إلا إنهم جوبهوا برفض شديد من السجناء وبمواصلة الاحتجاج، صار الموقف أكثر تعقيدا مع بدء الإضراب عن الطعام واستمراره طيلة النهار، مما استدعى تدخلا خارجيا من إدارة أمنية عليا بعد عجز إدارة السجن عن احتواء الموقف، وانتهى الإضراب إلى وعود نفذت على الفور بتحسين جزئي للأوضاع وإجراء أول مواجهة لعدد محدود من السجناء مع أهاليهم. تبعه تخفيف الضغط قليلا بفتح أبواب الزنزانات في ساعات محددة من النهار ليحظى السجناء - ولأول مرة - بحرية الحركة بين الزنزانات ولو كانت لثلاث ساعات فقط في اليوم، إلا أنها كانت انفراجة كبيرة.
بهذه الإجراءات الجزئية اليسيرة حاول الأمن احتواء الموقف المتفجر، ومن ثم يعاودون إجراءات القمع والتعذيب بعد امتصاص الغضب وتهدئة الثورة مستعينين بواحد من الخونة الذين فقدوا قوتهم فيما سبق للحصول على أسماء المحرضين على الاحتجاج. وبالفعل قام هذا الخائن وهو الشخص الوضيع نفسه الذي كان مراقبا في أول زنزانة دخلت فيها في السجن، بمحاولة إيصال معلومات خطيرة إلى رجال الأمن بصورة خفية، إلا أن أمره كشف وتعرض بعدها لمحاصرة ومضايقة من كل السجناء وتحولت حياته إلى جحيم في حكاية سوف يأتي وقتها.
خطط الأمن لبدء الثورة المضادة وإجهاض مكاسب الاحتجاج، بافتعال حادثة صغيرة يجري تطويرها إلى قضية كبيرة، وإنزال عقوبات قاسية بالسجناء ومن ثم تعود سلطة الخوف من جديد للتحكم بالمشهد. بعد التطورات ونتيجة للاحتجاج منح السجناء حق البقاء خارج الزنزانات إلى منتصف النهار ليعاد إقفالها عليهم من جديد حتى صباح اليوم التالي. كانت هذه السويعات القليلة فرصة للحركة وتبادل الزيارات بين السجناء، وساهمت في تخفيف الضغط النفسي وتخفيف التوتر وفتحت ممرا ضيقا للتمتع بالحرية. إلا أن رجال الأمن لم يرق لهم هذا التحول في حياة السجناء وخططوا لإعادة حقبة التضييق والتعذيب المنهجي. وفي نهار دخلوا فجأة بهراوات يصرخون ويضربون السجناء لإجبارهم على الدخول المبكر إلى الزنزانات بلا أي مبرر، إلا أن حساباتهم كانت غاية في الخطأ في التوقيت ولم يقدروا الموقف جيدا، ولا أخذوا بنظر الاعتبار أنهم في مواجهة مع سجناء سياسيين، عدد ليس بالقليل منهم امتهن المعارضة، ويبرع في حشد الأنصار وإثارة العواطف والحماس، وكثير أصابه يأس من الظروف المزرية ويتشوق للمواجهة مع رجال الأمن خلاصا من حياة لم تعد لها قيمة عنده ولا يكترث لها.
رفض السجناء الدخول إلا أن رجال الأمن كان يبدو جليا عليهم أنهم يتحركون بتعليمات محددة، ملخصها إجبار السجناء على الدخول القسري وإيقاع أذى شديد بهم إن بدا منهم أدنى احتجاج، في مسعى واضح لاستعادة زمام المبادرة التي فقدت منهم منذ الاحتجاج الكبير. تحول الرفض إلى شجار بالألسن ومن ثم تطور سريعا إلى اشتباك بالأيدي، ليندفع السجناء بشكل جماعي لنصرة أصحابهم نحو رجال الأمن الذين هربوا مذعورين من الثورة الجماعية. المقذوفات نزلت على رءوس رجال الأمن من كل حدب وصوب بأي شيء كانت تطاله أيدي السجناء، وتحول السجن إلى فوضى حقيقية لا يعرف رجال الأمن أين يختبئون ولا بمن يستنجدون، تشتت شملهم حتى إنهم باندفاعتهم السريعة إلى باب القسم الرئيسي نسوا صاحبا لهم وخلفوه بين أيدي السجناء الذين وضعوا سطلا في رأسه ليمنعوه من رؤية الوجوه وأشبعوه رفسا ولكما وركلا، وهو يركض باتجاه الباب الرئيسي، وهناك علق بين الطرفين؛ رجال الأمن يحاولون إغلاق الباب الخارجي خوفا من اندفاعة السجناء إلى الخارج، وهو يقاتل لأجل فتحه والإفلات من قبضة السجناء، وصار يتلقى الضربات من السجناء تأديبا له ومن رجال الأمن الذي خالوه سجينا يحاول اقتحام الباب والهرب، فصاروا يضربونه بعصيهم وهو يصرخ بهم طالبا النجدة، إلى أن تعرف عليه أحدهم من صوته وأنقذه بعد أن نال عقابا لا ينسى. دب الفزع بين رجال الأمن ولم يكتفوا بإغلاق الباب المحصن بالأقفال الثقيلة، بل استدعوا حدادا على وجه السرعة؛ ليغلق الباب المحصنة بواسطة اللحام وصار اقتلاعه أو فتحه أمرا مستحيلا.
استدعيت كل قوات حرس السجن وقوات إضافية على الفور، ودخلوا في أقصى حالات التأهب لبدء معركة حقيقية؛ لأن السجناء في هذه المرة سيطروا فعلا على القسم. كان العدد في كل قسم يربو على الألف سجين وجميعهم أحرار في الحركة داخل القسم بلا أي حواجز بعد أن تركت أبواب الزنزانات مفتوحة. بدأ رجال الأمن بإطلاق الرصاص الحي على جدران القسم من الخارج، إلا إنه لحسن الحظ؛ ولأنهم من قبل لم يتركوا أي فجوة في تلك الجدران المبنية بصورة محكمة لا يخترقها شيء، خاب رميهم وفشل مسعاهم في إصابة أي شخص. أما السجناء فقد انبطحوا جميعا إلى الأرض يتقون الرمي الأعمى بدرع الجدران الكونكريتية المسلحة القوية.
لم يتوقف رجال الأمن عن محاولاتهم؛ إذ صعد رجال مكافحة الشغب إلى نقطة عالية في سطح السجن ومن خلال فتحات تهوية على علو شاهق تطل على الممر بين الزنزانات، ألقوا قنابل مسيلة للدموع، لكن لم يفت هذا في عضد السجناء وواصلوا الهتاف عاليا بصرخات الاحتجاج، واستعان السجناء بالماء والبصل وبطرق بدائية أخرى لمكافحة تأثير الغازات المسيلة للدموع.
سيطر الرعب تماما على رجال الأمن؛ لأن السجن كله صار الآن يسمع الفوضى وسرت عدوى الانتفاضة إلى أقسام أخرى من السجناء السياسيين في الأقسام المفتوحة، وأصبح السجن برميل بارود حقيقي يوشك على الانفجار في أي لحظة. ولم يستقر الموقف الهائج إلى أن جاء وفد حكومي عالي المستوى لمعاينة السجن بإيفاد خاص من جهات عالية في الدولة مفوضا بصلاحيات واسعة على ما يبدو.
طلب الوفد من السجناء الأمان للدخول إلى القسم وإجراء مفاوضات معهم، وهنا كانت براعة السجناء ومهارتهم العالية في التفاوض ؛ إذ إنهم ردوا عليه ردا كان خطوة واسعة بإقناع الوفد الرسمي، وأجابوه بأنهم هم من يطلب الأمان، وإن الوفد له كامل الحرية باعتباره هو المسئول عن تحقيق النظام بالدخول إلى السجن واتخاذ الإجراء المناسب. كان ردا فاجأ الوفد؛ إذ إن ما نقل إليه على ما يبدو، أنه تمرد ومحاولة للسيطرة على السجن.
عندما دخل الوفد إلى القسم زاد استغرابه من الهدوء الكبير وأن لا وجود لأي آثار معركة؛ إذ قام السجناء بتنظيف القسم بسرعة بمبادرة ذكية اقترحها أحدهم لإبطال دعوى سوف يدعيها رجال الأمن بأنهم هوجموا من قبل السجناء. ولما لم يجد الوفد شيئا ظلوا يتبادلون النظرات فيما بينهم في شعور واضح بأنهم قد ضللوا من قبل رجال الأمن. ظل الوفد يجول على الزنزانات التي دخل إليها السجناء طوعا ويستفهم منهم عن سبب الصياح والمشكلة؛ فشرحوا له بنفس واحد أنهم يعيشون ظروفا معاشية قاسية، وأنهم يطالبون بتحسينها من تغذية وصحة والسماح لهم بمواجهة أهاليهم ورؤية الشمس بعد كل هذه السنوات.
أصر الوفد على التعرف على المطالب السياسية وحاول استدراجهم لذكر أي منها، أنكر السجناء أي مطلب لهم، بل قالوا له: نحن سجناء محكومون وفق القانون، ونطالب بحقوقنا كسجناء فقط لا أكثر من ذلك. ولما اطمأن الوفد أن لا مطالب سياسية تقف وراء الاحتجاج وأن لا وجود لحركة معارضة للحكومة - رغم محاولة الضابط المسئول عن السجن تدبير تهمة التظاهر السياسي، لكنه أحبط تماما أمام براعة السجناء في إدارة الأزمة الذين عاملوا الوفد باحترام كبير وأدب جم مما أعطى الوفد انطباعا مغايرا، بأن المطالب الحقيقية هي مطالب معيشية فقط؛ لذا قال في الحال: إن هذه حقوق لكم وليست مطالب، وسوف تنفذ على الفور.
توافق حصول هذه الأحداث مع قرب انتهاء حرب الخليج الأولى وبروز توجه حكومي نحو تخفيف القبضة الحديدية، وبدأت إدارة السجن بالفعل بتنفيذ الوعود الحكومية بسرعة وسمح لأول مرة للسجناء بمواجهة الأهل والحصول على الفرصة من جديد لرؤية شمس غابت علينا آخر مرة قبل سبع سنين عجاف . إلا أن الإذن بالمواجهة كان يسير بإجراءات روتينية مملة ومضحكة أحيانا. كان رجال الأمن يروحون ويجيئون ويسألون عن عناوين سكنى كل واحد منا، ثم يقولون: لم نستطع العثور على العنوان الصحيح لربما تغير سكنهم، سوف نجري بحثا جديدا عن أهاليكم، وحالما نجدهم سوف يتم تبليغهم للحضور إلى المواجهة. تكرر هذا الادعاء منهم وكنا نقابله بمزحة: لكنكم حين اعتقلتمونا أخرجتمونا من تحت الأرض في خمس دقائق.
هنا تدخل قميصي التركي «مراد» الذي جاء معي من المعتقل وأرسلته مع عائلة أحد السجناء ليبشر أهلي بأني ما أزال حيا، وصل قميصي إلى متجر والدي الذي تمكن من التعرف عليه، وتأكد أني ما زلت على سطح هذا الكوكب أتنفس الهواء مثله، وإن كنت أقطن مكانا قصيا، واستبشر به بعد أن بلغ اليأس فيهم منهاه، حتى إن والدتي لم تلبس غير اللون الأسود طيلة سبع سنين حدادا علي، وعلى العادة البغدادية بالنذور، كانت تذهب والدتي ماشية حافية كل سبت إلى المشهد المقدس في الكاظمية، تسأل يوما تشرق الشمس فيه علي من جديد.
15
في مستهل الأسبوع الثاني من بداية الخريف، وبعد مرور عام كامل من انتهاء حرب الخليج الأولى، استقبلنا أهالينا - لأول مرة - في مواجهة جماعية عامة، كانت حدثا غريبا عاد منه كل سجين بقصة غريبة ومشاهد عجيبة ومشاعر مختلفة. وجوه الآخرين مسحت من الذاكرة واستعادتها كانت تشبه رحلة النواخذة في استخراج اللؤلؤ، تحتاج إلى غوص عميق بعدة بدائية.
كنا كشجرة أصابها جفاف شديد، احتواه زمن ممتد بسكونه وظله الكئيب ما جعله دهرا لا ينقضي، ونست معه طعم الماء. كنا كذلك بحرماننا من مشاعر العاطفة والرحمة حتى ظننا أن ليس للبشر شيء منها، وأنها مثل خرافات الأقدمين. فجأة نزل علينا غيث غزير يكفي لأن تبحر به حتى سفينة نوح؛ التعرف على الأهل مهمة ليست بيسيرة وتتطلب إعادة ترتيب السجين لعالمه الداخلي وتعديل ذكريات طغى عليها الألم والغضب والحزن والأسى، تعديل أفكار المرء عن نفسه مع مستقبل يقترب منه مهمة لا يوجد أكثر منها مشقة ولا أزيد صعوبة.
كنت واقفا أنتظر قدوم أحد ما لمواجهتي في ذلك اليوم، عندما أذاعوا اسمي في سماعة داخلية، لم نكن نعرف من يأتي لمواجهتنا، فقط نعرف أنه مسموح لنا بالخروج إلى ساحة المواجهة بعد أن يذاع اسم السجين لنقف هناك منتظرين قدوم الزوار. دخلت امرأة لم أتعرف عليها، رأيتها تتلفت يمينا وشمالا تبحث عن الشخص الذي تقصده مما لفت انتباهي، وبينما هي تدور حائرة بين الوجوه مثلي، وصلت قريبا جدا مني بحيث كان بإمكاننا فقط لو - فقط - تستدير باتجاهي؛ لوضعنا عيوننا أحدنا بعين الآخر مباشرة، وأن يسمع كل منا أنفاس الآخر في صعودها ونزولها. سمعتها تسأل أحد السجناء عني، أشار إلي وأنا أواصل النظر إليها مدققا - ولم أزل غير قادر على التعرف عليها - ثم سمعتها وهي تفتح عينيها بدهشة لتناديني باسمي، حينها فقط اكتشفت أنها تشبه خالتي، بل هي خالتي.
لم أتعرف على شقيقي الأصغر هو الآخر؛ لأنه كبر وصار شابا جامعيا، وبدا لي والدي مسنا جدا، قضى معظم الوقت يومها في نوبات بكاء ينخرط فيها فجأة، يسبب لي معها اضطرابا شديدا يطيش بلبي، وأنا أنظر إليه مشدوها مبهوتا لا أعرف ما الذي علي فعله لمواجهة هكذا موقف. كان أهلي يجلسون قبالي يمعنون النظر في، ويرقبون كل حركة تصدر مني، ولم يخفت توترهم إلا بعد أن تكررت مواجهتي، واطمأنوا لتكرارها؛ فهدأ روعهم بعد أن أصبحت أمرا عاديا، يتكرر كل شهر مرة ثم صار كل أسبوعين. كثيرون جدا من أقاربي تجنبوا الحضور لمواجهتي خوفا على سمعتهم لدى الدولة، خشية أن يلحقهم أذى محتمل في مستقبل وظائفهم إن أعلنوا قرابتي منهم، ولم أعر ذلك اهتماما.
كان معنا في زنزانة المعتقل ضابط برتبة كبيرة، كان يعلم أنه محكوم عليه بالإعدام حتما ولن ينجو من الموت شنقا، كان يقول لشقيقه الخائف الذي لم يكن له من الأمر شيء واعتقل بسبب قرابته منه فقط: لا تخف يا أخي الصغير، سوف تخرج من المعتقل وبعد سنوات سوف تمشي في الأسواق وتقول للناس أنا أخو الشهيد فلان وسوف تبحث عن امتيازات باسمي. «بطرس سوف ينكرنا ثلاث مرات؛ مرة في السجن، وأخرى في المواجهة، وثالثة حين نخرج من السجن، طالما حرس القيصر وكهنة المعبد ما يزالون يحكمون أورشليم، وبعدما يصيح الديك معلنا فجر الأمان؛ سوف يخرج حينئذ في الشوارع والطرقات ويقول أنا تلميذه المقرب وحواريه، ويجول في كل مكان ليكرز باسمه ويقول خذوا دينكم مني أنا الباب المؤدي إليه، ويبدأ في توزيع صكوك الغفران ويعطيهم شهادة نعيم يحوزها بعيدا عني.»
صور مأساوية كانت تحملها كل مواجهة، إحدى العوائل أبلغت بأن تأتي إلى السجن لتستلم جثة ابنها إلا أنها فوجئت بابنها يدخل عليهم، فأغمي على رب الأسرة في الحال وسقط مغشيا عليه، وحار الأهل بين الترحيب بابنهم المغيب منذ سنوات وبين إسعاف الأب المغمى عليه. إلا أن أشدها مأساوية كانت يوم رفضت أم تصديق ابنها حين واجهته؛ لأنه كان طفلا قاصرا حين الاعتقال بعمر ثلاث عشرة سنة تقريبا وتقدم إليها في المواجهة - وهو شاب عشريني - بشنب خطته عليه سنوات الألم، وذقن مرسل من حزن الفراق وهو يناديها باسمها: «أماه يا أماه، أنا وليدك الصغير.»
محاولا الارتماء في حضنها عائدا لطفولته التي أريقت في هذا القبو المظلم. الأم المفجوعة بصغيرها كانت تبعده عنها، وتقول له: «أنت ماكر محتال، ابني طفل صغير، وأنت مزيف عميل للأمن، يريدون أن يستبدلوك بابني ليقتلوه.» جلسا على التراب أحدهما قبال الآخر في حالة انهيار شامل، هي تبكي شوقا لأمومتها التي عجزت لسنوات أن تمنحها لصغيرها وهو يبكي حنانا مفقودا. السجناء وبعض من الزوار متحلقون حولهما في مشهد مفجع. كانوا مثل بندول يتأرجح بين بكاء على حالهما وبين محاولة لإقناع الأم بأن صغيرها قد عاد إليها، لكنه لم يعد يجري وراء الكرة مع الصبيان في الأزقة، ولا يلعب بالكرات الزجاجية الملونة (الدعبل) في الحواري؛ غدا شابا مثقلا بالهموم يحمل عذابات لم يقو على تحملها كهلة وشيوخ.
لا أنسى يوما كنت أنتظر دخول أهلي وإذا بامرأة تبكي تقترب مني وتسألني عن فلان وفلان وفلان وفلان وفلان، نعم خمسة لا أعرفهم ولا سمعت بأسمائهم من قبل، سألتها: «من هؤلاء يا أماه؟»
قالت - وهي تولول - والدموع تغسل وجها من غبار الزمن: «أبنائي الخمسة؛ لما سمعت أنكم في مواجهة، قلت: لا بد أن يكونوا معك، فهل تعرفهم يا ولدي؟»
افترشت التراب تبكي وأنا أقف على رأسها أنقل لها أسوأ خبر يمكن أن تسمعه، أن لا أحد منهم هنا. نحرت آخر آمالها على التراب بين قدميها وهي تهيله على رأسها وتولول: إلى أين أذهب حتى أعثر عليهم يا أماه.
كان خليقا بي أن أهدئ من روعها وألا أوصد الأبواب أمامها، لكني فعلت عكس ذلك بحماقة، أو كأنما الموت صار خبرا عاديا عندي، ولم أدرك أي جحيم صببته بكلماتي على رأسها المتشح بالسواد، كما هي سائر ثيابها حتى نعلها والجوارب.
كنت - ولست وحدي في ذلك - أعود متعبا من المواجهة يصيبني إرهاق شديد كأنما كنت أحتطب في غابة جبلية منذ الغبش حتى الغسق ولم أفتر ولا لهنيهة واحدة. وما إن أعود إلى الزنزانة أستلقي مسترخيا لأنزلق في غفوة عميقة. قبل المواجهة كنا ننشغل كثيرا في الاستعداد لها، وساعة اقتراب اللقاء تضطرب أعضائي بشدة ويتزايد وجيب قلبي ويرتج رأسي وتخفق حواسي كلها، فات وقت طويل جدا حتى صارت المواجهة شيئا قريبا من المألوف.
الأمر بالنسبة لي استغرق أكثر مما استغرق من أهلي، الذين كانوا يرجعون إلى حياتهم وينشغلون بأمورهم اليومية، بينما كنت أعود لأنشغل بمحاولة التوافق مع هذا العالم الغريب الذي أطل برأسه علي. مسافة شاسعة ظلت تفصلني عن العالم الذي بدا غريبا جدا، فقد توقف الزمن عندنا منذ ساعة اعتقالنا ولم تتحرك عقارب الساعة إلا حين ولج من الباب أولئك الأقرباء الغرباء من ذاك الكون البعيد، كان مقدمهم زلزالا أصاب أرضا ساكنة تداعى كل بناء فوقها منهارا، وخرج من باطنها ما قد دفن لسنوات.
حدث انفراج واضح في وضعنا العام بحيث قل عدد السجناء في كل زنزانة، وفتحت أبواب الزنزانات بشكل دائم وصار التزاور بين السجناء والاتصال متاحا للجميع. تحسنت كمية المياه الواصلة بشكل كبير، ولم نعد نعاني من شحتها؛ لا في مشرب ولا في استحمام، المواد الغذائية تصل إلينا من الخارج، وكذلك الأدوية والثياب الجديدة، واستغنينا عن زي السجن وعن طعامه إلا بحدود الخبز اليومي وبعض الوجبات اليومية التي لم يكن سهلا إعدادها.
أتيحت لنا الفرصة الكاملة لإعداد الطعام واستخدام معدات الطبخ كاملة من مواقد بسيطة لكنها تفي بالغرض المطلوب. صار صوت السجناء قويا عاليا حتى إنهم فرضوا على الأمن إخراج خائن من الأقسام بعد انكشاف وشاية قام بها للإيقاع بمجموعة من السجناء، رضخ الأمن لمطلب السجناء خشية تجدد المواجهة معهم من جديد.
كان يوما مشهودا؛ إذ وقف الخائن ذليلا يحتمي برجال الأمن وسط صيحات غضب وهياج عارم من السجناء، فيما كان أكبر ضابط مسئول عن السجن يدور بين الأقسام باذلا أقصى جهد عنده؛ يقفز بين المكر حينا وممارسة المرونة واللين حينا آخر لمفاوضة السجناء وإقناعهم بقبول هذا الخائن في أحد الأقسام. إلا أنه لم يفلح وفشل فشلا ذريعا في الحصول على الموافقة من أي قسم على قبول هذا الخائن المنبوذ، مما اضطره إلى أخذه إلى مكان منعزل. الرفض الجماعي والإصرار الشديد على لفظ الخونة الوشاة بعيدا عنهم صار درسا قاسيا وعبرة كبيرة لم يجرؤ أحد بعدها من الخونة والضعفاء على اللجوء إلى الوشاية أو للتعامل العلني، بل ولا حتى السري مع الأمن.
صارت الفرصة مواتية لكل شيء حتى لممارسة أنشطة رياضية وإقامة مباريات دورية في كرة القدم المصغرة؛ إذ لم يكن هناك من ملعب حقيقي يصلح للعب فيه، بل ولا توجد حتى قطعة أرض تصلح لذلك. الحصول على الكتب من خلال المواجهات صار ممكنا، بل تمكن كثير من الأهالي إدخال المذياع لأبنائهم السجناء، وبعض - قليل جدا - تمكن من تهريب كاميرات فوتوغرافية بطرق سرية بوضعها في قدور الرز المطبوخ الذي كان يحمله الأهالي معهم بشكل عادي. باختصار شديد تغيرت الأحوال بشكل كبير وانقلب الحال رأسا على عقب في آخر سنتين.
تقلصت الأعداد في الزنزانات بشكل كبير جدا بفعل السياسة الجديدة بفتح أقسام جديدة لاحتواء أعداد السجناء ، ونقلت لأحد هذه الأقسام الجديدة ويطلق عليه «ق3»، وهو قسم غريب في تصميمه، مع أنه كان يحتوي - أيضا - على طابقين، إلا أن زنزاناته كانت تصل إلى الأربعين زنزانة، وصغيرة جدا بطول مترين وربع تقريبا وعرض يزيد عن المتر الواحد بقليل، وكل زنزانة لها باب مصنوع من قضبان حديدية قوية. هيئة الزنزانات كانت توحي - بلا أي لبس - أنها سجن انفرادي، إلا أننا كنا ننام تقريبا في كل زنزانة أربعة أشخاص، وكانت أبواب الزنزانات مفتوحة بشكل دائم مما سمح لنا بالحركة في أرجاء القسم بحرية طوال الوقت. في النهار تفتح بوابة خارجية مطلة على ساحة صغيرة ملحقة بالقسم لنمارس فيها ألعابا رياضية خفيفة، وأيضا كان بالإمكان أن نعد وجبات الطعام في غرفة صغيرة ملحقة بهذه الساحة. كانت انعطافة كبيرة في تحسن الأوضاع عندما انتقلنا إلى هذا القسم وشعرنا براحة كبيرة فيه مع سعته الظاهرة وقلة أعداد السجناء فيه.
16
استيقظنا صباح يوم من صيف لاهب بأحداثه على خبر مفاجئ تنقله محطات الإذاعات الأجنبية والمحلية وهي تتحدث عن اقتحام الكويت وغزوها الشهير من قبل القوات العراقية. وبينا كنا نستمع طوال الوقت بلهفة إلى نشرات الأنباء وتطورات الأحداث المتسارعة عبر الراديو؛ وإذا بأوامر طارئة تصدر إلينا على عجل تطلب منا إخلاء القسم «ق3» بالحال والتوجه فورا إلى الأقسام التي كنا فيها سابقا. وفي أقل من ساعة واحدة تم إخلاء القسم ليحل محلنا فيه سجناء جدد من طراز خاص، لم تتبين لنا هويتهم في بادئ الأمر وأصابنا فضول كبير لمعرفة القادمين الجدد لتزامنه مع غزو الكويت؛ مما ولد فينا رغبة كبيرة لاكتشاف هذا التلازم بين الحدثين. «ق3» بالأصل عائد لجهاز المخابرات المختص بالقضايا الخارجية، وسكانه من المحتجزين على حساب قضايا تهم جهاز المخابرات وليس مديريات الأمن الداخلي، ونحن إنما وضعنا فيه سابقا لشغوره وعدم حاجة قسم المخابرات له، الذي كان يدير قسما مجاورا له ويشبهه في التصميم بالضبط. لم نكن نملك أي فكرة عن المعتقلين في هذين القسمين؛ لأنهما كانا تحت رعاية حصرية من المخابرات، ولا يسمح لأي أحد بالتدخل فيه حتى لو كان من الأمن أو إدارة السجن وفي حالات خاصة يستعينون بسجناء محددين للقيام ببعض التصليحات الفنية الطارئة وسط إجراءات أمنية مشددة. لذلك اتجهت توقعاتنا إلى سجناء من طراز خاص وكان حدسنا في محله عززه سماعنا لأصوات متباينة تكشف عن تنوع في الأجناس والأعمار، ولم نك متأكدين مما نسمعه بشكل قاطع، إلا أنه ولد عندنا شكوكا قوية استنادا إلى خبرتنا التي صارت كبيرة الآن، بعد هذه المدة الطويلة في السجن، وتعاملنا مع ظروف وأحداث مختلفة. أن يكون هؤلاء السجناء من العوائل أمرا ليس بغريب؛ فقد حصل هذا في السابق حين اعتقل النظام عوائل بأكملها من مدن وقرى في العراق، مثل بلد والدجيل وقرى كردية كثيرة. غير أن ملف اعتقال العوائل تم تصفيته بإطلاق سراح المتبقين منهم بعد أن نفذ الإعدام بأعداد غفيرة منهم وعثر على رفاتهم بعد عقود في مقابر جماعية، فيما ظل قسم آخر في عداد المجهول. ووصلت أخبار هذه العوائل إلينا من شيبة وشباب، بل وحتى أطفال نقلوا إلى أقسامنا كسجناء بعد أن صدرت بحقهم أحكام بالسجن لمنع عودتهم إلى مدنهم وقراهم. ومن خلال المواجهات تأكد لنا نبأ إغلاق هذا الملف كاملا.
إذا لم يكونوا من هؤلاء فمن يكونون إذن هؤلاء السجناء الجدد؟ صرنا نتلصص ونجمع الأخبار عنهم بأي وسيلة، وبعد عدة أسابيع استدعى جهاز المخابرات سجينا من الأقسام المغلقة اسمه «ح. گ.» من سكنة محافظة البصرة، وطلب منه القيام بتصليحات فنية طارئة، وحذره رجال المخابرات من الكلام أو إجراء أي حديث مع السجناء الجدد لأي سبب كان، وبحسب شهادته التي سمعتها شخصيا منه، وتأكدت منها حتى بعد خروجنا من السجن، أنه حين دخل هذا القسم رآه يشبه «ق3» إلا أن الزنزانات بدل أن تكون واجهتها من القضبان - كما هي العادة - وجد أن هذه القضبان قد أغلقت بصفيحة حديدية تمنع رؤية من في داخل الزنزانة، ولكن لأن عمله كان داخل الزنزانات فقد استطاع رؤية السجناء وهم يخرجون منها ويوضعون في الممر الوسطي، بينما يقوم هو بأعماله من تصليحات. يقول: رأيتهم جميعا من الشباب وكلهم يرتدون زي السجن الكانة باللونين الرصاصي والأحمر وأن الأغلب فيه الرصاصي، ومن لهجتهم عرفت أنهم كويتيون، وسمعتهم يتحدثون بينهم، وكان بعضهم قد بلغ به اليأس والإحباط حدا كبيرا بسبب المعاملة السيئة، ويتحدث عن بقائه إلى آخر عمره في هذا السجن.
لم يستطع «ح. گ.» تبادل أي حديث معهم ولكن استرق السمع لكل حديث كان يجري بالقرب منه باهتمام وعلم أنهم أسرى كويتيون وإن لم يستطع تحديد وظائفهم. وأغرب ما لفت انتباهه هو غرفة صغيرة أوسع من باقي الزنزانات كان فيها أسرى لم يسمح له برؤيتهم، ويبدو أن لهم خصوصية ما، إما لوظائف عالية أو وجاهة اجتماعية كبيرة، ولكن تبقى هذه تخمينات فقط. عدد الأسرى في هذا القسم - بحسب التقديرات غير الدقيقة بالطبع - لا يقل عن مائة شخص وربما يكون العدد ضعف ذلك إذ لم يتسن له معرفة العدد الحقيقي في كل زنزانة، ولكن لو طبقنا ظروفنا نفسها في «ق3» لربما يصل العدد إلى مائة وستين شخصا أو حتى مائتي شخص.
أما «ق3» الذي أخلينا منه فقد جاء إليه أسرى كويتيون ولكن من نوع آخر، وأيضا عن طريق العمال الفنيين حصلت على شهادة مباشرة؛ إذ دخل إليهم سجينان من القومية التركمانية «أ. ف.» و«أ. ص.» للقيام بإصلاح أعطال كهربائية، وحين دخلا أغلقت أعينهم ولكنهم قالوا للعنصر المخابراتي إنه لا بد من السماح لهم بالرؤية وإلا فإنهما لا يستطيعان أداء عملهما، فحذرهما من إجراء أي حديث مع السجناء. قالا بحسب شهادتهما إن الموجودين كانوا من الأسرى الكويتيين وتبين ذلك من زيهم الخليجي، وقد شاهدا نساء خليجيات بزي محتشم بأردية طويلة وغطاء رأس وبينهن أطفال بعمر يتراوح بين العشر سنوات والأربع عشرة سنة تقريبا، وربما أقل بقليل أو أكثر؛ ولأنها مشاهدات سريعة فلم يمكن التحقق من تفاصيلها جيدا خصوصا مع التحذيرات الأمنية. كان بين الأسرى شباب في العشرينات من العمر، ورجال بأعمار متوسطة. تقديرات الأعداد تكاد تكون مقاربة لما تم توقعه عن أعداد الأسرى في القسم الآخر الذي تحدثت عنه للتو. وبذا يمكن الحديث عن أربعمائة أسير كويتي كحد أعلى تم احتجازه في هذين القسمين، وتبقى هذه تخمينات وليست أرقاما تقريبية.
بعد عدة أسابيع - ومع بدء العمليات الحربية وتراجع القوات العراقية أمام الضربات العسكرية - سمح للأسرى الموجودين في «ق3» بالخروج إلى ساحة جانبية في القسم للتمشي أو لممارسة ألعاب رياضية، وطبعا من الممكن أن يكون قد حصل الأمر نفسه للأسرى في القسم الآخر إلا أنه لم تتوفر لنا فرصة للتأكد من ذلك.
صارت أصواتهم واضحة لكل أحد، وقطعت كل شك، وصار الأمر جليا للجميع؛ إنهم عوائل كويتية محتجزة. استرقنا النظر من خلال فتحات صغيرة في ممر السجن الكبير الملاصق للساحة الصغيرة حيث كان يسمح لهم بالتمشي، وكنا نقف هناك بحجة الاتكاء على الحائط، ونتظاهر بالانهماك في حديث طويل بينما في حقيقة الأمر كنا نواري زميلا لنا يجلس إلى جوار فتحة صغيرة تقع أسفل الجدار الفاصل بينه وبين ساحة القسم يمر من خلالها أنبوب ماء، وكنا نحفظ مكانها جيدا؛ لأننا سبق وأن سكنا في هذا القسم قبل فترة وجيزة. التواصل كان صعبا جدا؛ أولا: خشية المراقبة الأمنية، وخصوصا من المخابرات المعروفة قسوتهم. وثانيا: لأنه من الصعب جدا أن يثق أحد أفراد هذه العوائل بشخص مجهول يكلمهم من وراء جدار. وكان من الطبيعي أن يظنوا به الظنون، ومع ذلك خاطر شاب منهم للحديث معنا فيما كان رفاق له يلعبون كرة الطائرة مستغلا - على ما يبدو - عدم تواجد عناصر المخابرات بالقرب منهم، وبعد أن اطمأن لطريقة سلامنا عليه ونبرة حديثنا معه، عرفنا أنهم أسرى كويتيون محتجزون وبينهم نساء وأطفال.
لم يكن الوضع مريحا - للأسف - لتبادل أحاديث مفصلة، بل كل ما يجري هو أسئلة وأجوبة سريعة. علمنا بأنه سمح لهم بمغادرة الزنزانات مؤخرا، وتحسنت شيئا ما معاملتهم، وأتيحت لهم فرصة الخروج إلى هذه الساحة الصغيرة لرؤية الشمس وممارسة بعض الألعاب الرياضية. وبدا من خلال كلماته أنهم تعرضوا في أول أمرهم لتعذيب جسدي لم نعرف مداه، إنما المعاملة السيئة كانت حاضرة بلا شك. معاودة الاتصال ثانية كانت صعبة؛ لأن رجال المخابرات كانوا يتميزون بسمعة سيئة للغاية في التعذيب، حتى إن رجال الأمن أنفسهم كانوا يخشون الاصطدام بهم أو المخاطرة بانتهاك حدودهم الأمنية. بيد أن أحد رفاقي في السجن (س. ع. ش.) تمكن من التواصل عبر هذه الفتحة مع شاب كويتي آخر استبشر خيرا بعد أن نقل له أخبار تراجع الغزو وتقدم عملية تحرير الكويت، وفي خطوة جريئة جدا - بل مغامرة كبيرة - أوصل له صديقي راديو صغيرا بحجم الكف؛ مما أدخل عليه بهجة وامتنانا كبيرا. هذه البشرى بانتهاء محنتهم كنا أيضا قد نقلناها لذلك الشاب، وكنا مقتنعين بالتلازم بين تحسن معاملتهم وأخبار تقدم عملية تحرير الكويت، ويبدو أن الشاب الكويتي هو الآخر استنتج الأمر نفسه. أوصي صديقي هذا الشاب الكويتي أن ينقل قضيتنا إلى العالم الخارجي حين يعود إلى وطنه سالما وأن يعري هذا النظام الذي يذبح أبناء وطنه، بينما يدعي الدفاع عنه فيما هو ينكل ويخفي معارضيه في سجون سرية بظروف بشعة.
كنا نتوقع أن يعودوا سالمين مع انكسار الجيش في حرب الخليج الثانية، خصوصا حين وضعت حرب الخليج أوزارها، وبالفعل أفرغ القسم بعد فترة قصيرة من وقف إطلاق النار من جميع هؤلاء الأسرى، ونقلوا جميعا إلى جهة مجهولة كما جاءوا - وبعملية سريعة - دون أن يخلفوا أية آثار وراءهم. ظلوا لغزا لا يعرفه أحد من السجناء - كما هو مصيرهم - وبقيت الأسئلة عنهم حائرة تبحث عن جواب شاف. من كان هؤلاء الأسرى؟ وكيف جمعوا بهذه السرعة؟ ومن أين جيء بهم؟ والى أين أخذوا؟ وما قصة هؤلاء الذين منع كل أحد من رؤيتهم بالمطلق؟ أسئلة ظلت حبيسة في صندوق أسرار السجن الذي يخفي عجائب كثيرة. أملنا الكبير بعودتهم سالمين كان تقلقه دوما خبرتنا الطويلة والمريرة مع نظام وحشي لم يتوان عن ارتكاب أبشع المجازر المروعة بحق أبرياء مسالمين لا ذنب لهم.
17
أمر إخلائنا كان من الأحداث الغريبة جدا؛ إذ إننا لم نجد مكانا نأوي إليه حتى في السجن، سكان الزنزانات لم يعودوا يتقبلون فكرة زيادة الأعداد من جديد بعد فترة الازدهار التي شهدها السجن مؤخرا ... كنت أقول ونفسي، ها نحن صرنا تائهين في أول تبعة لهذا الغزو، ولم نعد نعرف أين نأكل ولا أين ننام، حياتنا انقلبت إلى فوضى في نصف ساعة، وانتهى الازدهار الذي تنعمنا به لعام واحد فقط، وكنا نأمل بأن عهده قد بدأ ليستمر طويلا، لننحدر سريعا في حالة عكسية من التشرد والضياع، فكيف أصبح حال الكويتيين الآن، وأحسست حينها بمعاناة الغزو الذي تعرضوا له.
لا أريد ولا أحب أن أكتب عن كل أمر حصل في السجن، ولا أن أصف كل زاوية وحجر فيه، وإن كان التأريخ يلزمني بذلك؛ لأن استرجاع الأحداث يرهقني، ليس في تذكرها وحسب لكن في مرارتها؛ ولأني أيضا لست بمؤرخ وغايتي التنبيه لتلك الوقائع لا سردها بالكامل، وإلا لو كان الأمر غير ما ذكرت ولو كتبت عن كل شاردة وواردة - وكلها تستحق ذلك - لاحتاج الأمر مني إلى أكثر من مجلد ضخم بمئات الصفحات ولربما أكثر من ذلك. كل ما في السجن كان قصة لوحده، وكل يوم فيه يصلح أن تؤلف عنه رواية، بل لو قلت: إن بعض المواقف وحدها التي لم تدم سوى دقائق يستحق أن يكون رواية كبيرة أو فيلما سينمائيا مشوقا لما جاوزت الواقع قدر أنملة. أترك هذا لخيال لمؤلفي الدراما ومبدعيها ولكتاب السينما والمسرح الجاد.
سوف أقدم وصفا مختصرا لحالة الازدهار التي عشناها لسنة تقريبا؛ من خلال هذه الزنزانة التي أصبح لكل واحد منا فيها له بطانيته الخاصة، وصار من الممكن أن يستحم أحدنا في كل يوم تقريبا، وحتى حصلنا على مبردة هواء صغيرة جلبها أهلي لي؛ لأننا لم نكن نملك مروحة هوائية في هذه الزنزانات الصغيرة كما كان في الزنزانات الكبيرة. وصار عندي مكتبة خاصة صغيرة مؤلفة من عدة كتب، ورجعت إلى مطالعة الروايات وكتب أخرى كانت تقع بيدي من سجناء آخرين كنت أتبادل الكتب معهم أو أستعيرها منهم. أحتفظ بأوراقي الخاصة في كراس وأدون عليه أفكاري، وحصلت على مذياع صغير خاص بي حرصت على الاستماع عبره بشكل منفرد وباهتمام كبير لكثير من البرامج السياسية والثقافية ونشرات الأخبار. إلا أن هذا كله انهار في ساعة الغزو وأصبحت أجرجر أغراضي وأدور بها مثل متشرد هائم على وجهه ليس له من مأوى يركن إليه ولا مضجع يستلقي فيه، وكان من الغريب أن تظهر نوازع أنانية عند عدد من السجناء الذين رفضوا التخلي عن وضعهم المريح نسبيا بسبب التحسن الأخير الذي طال الجميع، لم يرضوا باستقبالنا أو السكن معهم من جديد في الزنزانات وتقاسم المحنة المؤقتة، صرنا ندور تائهين حيارى يبحث كل واحد منا عن مأوى يبات فيه ليلته أو يجد موضعا يركن إليه مع عفشه المتواضع. لم نجد من بد بعد أن وصلنا إلى آخر النهار إلا أن نتجمع في ساحة شبه مفتوحة في أحد الأقسام، ونقضي ليلتنا هناك، بل ليلتين وثلاثة نهارات كاملة إلى أن فتح قسم جديد احتوانا واحتوى درسا جديدا عن عيوب نفس أزاحت الستار عنها ريح خفيفة للغاية.
18
مع اندلاع حرب الخليج الثانية، تزعزع الأمن وغابت الخدمات العامة بشكل شبه تام عن سائر البلد بسبب ضربات جوية عنيفة وقاسية تعرض لها البلد، وفي هذا الوضع بدأت أفكار الهروب تراود السجناء وصار بعض منهم يخطط لذلك بشكل متكتم عليه بشدة بالغة. وتمكن بعضهم من اختراق الأسوار العالية وعبور خنادق تحيط بالسجن مملوءة بمياه آسنة وتجاوز أسلاك شائكة مكهربة فقدت كثيرا من مناعتها وحصانتها مع ضياع الطاقة الكهربائية بسبب استهداف محطات الطاقة من قبل قوات التحالف الأمريكي-العربي الذي شن هجوما مدمرا على كل المرافق الحيوية المدنية في البلد في خطوة لم نفهمها وقتها، وكانت موضع تساؤل كبير؛ إذ لم يكن الربط بينها وبين تحرير الكويت ممكنا أبدا ولا مفهوما.
أول حوادث الهروب من السجن الرهيب والمحصن جيدا كانت من الأقسام المغلقة، في عملية جريئة هرب شخصان كان لهما خصوصية ومحسوبان على الأقسام المغلقة، وإن كانا بالحقيقية ليسا من السجناء، بل من المحتجزين دون توجيه تهمة لهما. مثل هؤلاء المحتجزين كان يوجد الآلاف منهم، بل عشرات الآلاف في أماكن شتى من البلد، سمعت قصصا رهيبة عن مواقع الاحتجاز هذه التي تقع في الصحراء في جنوب العراق، وعن المعاملة القاسية للعوائل من نساء وأطفال، وكيف كان يتم كل فترة بشكل دوري اختطاف مجموعة منهم بلا تمييز ليساقوا إلى مقابر جماعية سوف يتم اكتشافها كل حين في سنوات طويلة لاحقة وسط صمت ولا مبالاة يلف الحكومة والشعب وأوساط دعاة الثقافة والدولة المدنية وحقوق الإنسان ورجال الدين والأحزاب السياسية، ربما يمكنني الحديث عنها في كتاب آخر غير هذا مستقبلا رغم كل الألم الذي يسكن فيها.
كان الهروب الأول هروبا ذكيا جرى التخطيط له مع سجينين آخرين من الأقسام المفتوحة، وأحدث الهروب مفاجأة مدوية في السجن، وأذهل السجناء والإدارة معا، ولولا ظروف الحرب وارتباك سلطات الحكم آنذاك لكان رد الفعل قاسيا جدا ولوقعت بسببه عقوبات كبيرة يمكن لها أن تتحول إلى مجزرة، وبالمقابل لولا ظروف الحرب أيضا لما كان بإمكان أحد الفرار ولا حتى محاولته، بل ولا التفكير به أبدا.
عند كل شفق كان يجري تعداد للسجناء بإجراء روتيني يومي لا تتخلف عنه إدارة السجن أبدا للتأكد من وجودهم بإحصاء كامل عددهم، ومن ثم تقفل جميع أبواب الأقسام وفي الضحى تفتح الأبواب ثانية ليخرج السجناء في ساحات صغيرة متجاورة أحدها ينفذ على الأخرى وينهمك كل منهم بأمر ما يستهويه. بعض منهم كان حيويا مرحا نشطا قوي الإرادة، لم تقدر كل سنوات السجن الطويلة ولا العقوبات الصارمة أن تفت من عضده أو أن تسلبه إرادته، ولا أن تخلي قلبه من الشجاعة ولا عقله من البصيرة والحكمة، فيما آخر غدا ذا مزاج قاتم مظلم يسير منعزلا منفردا بمنأى عن الآخرين وبمنجى من الحوار وأسئلة متطفلة قد تجره إلى بث مكنوناته، يجترها وحده لتنعكس على وجهه حزنا وأسارير عابسة وصمتا على مدار ليله وطوال نهاره، لتفعل به أحزانه أضعاف ما تفعله ظروف السجن القاسية نفسها. هذا وذاك، كل واحد منهما ينهمك في عالمه فبعض يمارس الرياضة، وآخر يجلس تحت شمس الصباح الباردة يقرأ كتابا، ويتجمع آخرون في حلقات حوار ودردشة، وآخرون ينهمكون في صناعة أشياء يدوية، وآخرون يقفون وحدهم كأنهم جثث هامدة تنتظر الدفن.
في ذاك الصباح، وبينما الكل منشغل بعالمه الخاص، وإذا بصوت الحرس ينادي لتعداد على عجل وإخلاء الساحات والدخول إلى الأقسام فورا. شهد السجن حركة غير عادية وضوضاء وجلبة من الحرس حتى بعد أن تم التعداد الاستثنائي غير مفهوم الأسباب، أقفلت الأبواب في خطوة غير مفهومة إلى أن انجلت الغبرة بعدها لنكتشف أن مجموعة من السجناء قد هربت؛ اثنان من الأقسام المغلقة وآخران من الأقسام المفتوحة. تم اكتشاف ذلك بعد أن أبلغ نزلاء الزنزانة إدارة السجن عن اختفائهما من ليل البارحة، وكانوا يظنون أنهما يبيتان في زنزانة أخرى مع أصدقاء لهم؛ لأن أبواب الزنزانات كانت مفتوحة طوال النهار والمبيت يحصل أحيانا رغم أنه لم يكن مسموحا به.
هذا الهروب الجريء فتح بوابة الهروب أمام آخرين وكسر حاجزا نفسيا مهما، وكشف عن ضعف الدولة وقتئذ، وبالفعل نجح أكثر من شخص بالهروب بعدها. بعض محاولات الهروب كانت مغامرة شيقة تصلح لأن تكون فيلم حركة مثير على الطريقة الهوليودية. ومنها حادثة مثيرة حصلت بعد تزايد حالات الهروب من خلال إحداث فتحات في السور الداخلي للسجن، والعبور بعدئذ من فوق السجن الخارجي بتسلقه بواسطة حبال تصنع داخليا بطريقة محترفة؛ لذلك قامت الإدارة بتعزيز الحراسة على أبراج المراقبة وعلى الأسوار الخارجية بعناية كبيرة، وأصبح العبور على السور صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا؛ لأن كل نقاطه أصبحت تحت الأنوار الكاشفة وتحت مراقبة مشددة في الليل، الوقت المثالي لعمليات الهروب.
إلا أن أحد السجناء استطاع الهرب بمفرده وبدون مساعدة من أي أحد، ونفذ عملية فراره بخطة جريئة أبهرت الكل. وجد هذا السجين - المنحدر من عائلة كردية تسكن منطقة جبلية بعد مراقبة طويلة ودقيقة - أن النقطة الوحيدة التي لا تسلط عليها الأنوار الكاشفة تقع تحت برج المراقبة تماما، وتبقى منطقة مظلمة دائما وتشكل زاوية عمياء على الحرس القاطنين فوقها، ويستحيل أن يصدق أحد أن من يحاول الهروب فسوف يجازف بالصعود إلى أكثر النقاط تحصينا ويجعل من برج الحراسة نفسه ممرا لعبوره إلى الضفة الأخرى من سور السجن الخارجي. وبالفعل ألقى بحباله المتينة إلى هناك، وبدأ التسلق من تحت هذه النقطة تماما من تحت برج المراقبة، ليرتقي السور بخفة ورشاقة وهبط إلى الجهة الأخرى، فيما كان الحرس متيقظين طوال الوقت ينظرون إلى كل الزوايا، ولم يدركوا أن هروبه كان من بينهم إلا بعد أن عثر على الحبل في نهار اليوم التالي، وهو ما يزال متدليا من الدعامات الحديدية التي يستند إليها برج المراقبة تلوح به الرياح، كأنه يسخر من غباوتهم ومن خططهم الفاشلة. اختفى السجين الهارب تماما عن الأنظار من يومها ولم يعثر عليه أبدا لا من قبل قوات الأمن ولا من حرس السجن ولا أي جهة أمنية أخرى.
بسبب هذا الضعف الأمني السافر بدأ السجناء يفكرون بمحاولة هروب جماعي، وجرى الاستعداد لهذه المحاولة والتخطيط للسيطرة على السجن ليلا، بافتعال حادثة شجار واستدراج الحرس لها ومن ثم اعتقالهم والوصول إلى مفاتيح السجن وفتح الأبواب أمام جميع السجناء، إلا أن الفكرة ألغيت بعد ذلك لتسرب نية الهروب إلى إدارة السجن فأحبطت العملية. تراجع منظمو هذه المحاولة عنها في اللحظة الأخيرة لحسن الحظ؛ لأنها كانت تحمل كثيرا من العشوائية والارتجال، وكان يمكن أن تؤدي إلى مجزرة حقيقية إلا أني - وبصراحة - كنت متحمسا لها في ساعتها.
إحباط هذه العملية لم يوقف مزيدا من عمليات هروب فردية، وأحيانا لمجموعات صغيرة. بعض منها تم في أيام المواجهة حيث استطاع بعض السجناء الهرب باستنساخ أثر ختم كان يوضع على ذراع كل زائر، يقوم السجين الهارب بوضع ذراعه على أثر الختم وينقله إلى ذراعه بعد معالجة فنية، ويخرج مع أول طلائع المغادرين من العوائل الزائرة لأبنائها، موهما الحرس أنه زائر، ويقدم نفسه باسم زائر دخل إلى السجن فعلا بعد ترتيب بطاقة تعريفية له، ثم يخرج الزائر الحقيقي في وقت لاحق مع بطاقة تعريف شخصية يحملها مضافا إلى الختم الحقيقي الموشوم على ذراعه . لم تكن تساور حراس السجن الشكوك بعبور سجين باسم زائر حتى إن اكتشف خروج الاسم نفسه مسبقا بالرجوع إلى قوائم الزوار ويتم التغاضي عن هذا التكرار على أنه خطأ إداري، ويمر الموضوع وسط الفوضى التي كانت تعم البلد والسجن حينها بسبب ظروف حرب الخليج الثانية والانفلات الإداري والأمني. لم تكشف هذه الطريقة إلا بعد تكررها وإلقاء القبض على أحدهم بعد أن شك أحد الحرس بهوية السجين المتخفي المرتبك وهو يرتدي زيا غريبا محاولا إخفاء ملامحه، وحاول الفرار من الحارس الذي استوقفه في محاولة يائسة، ليلقي القبض عليه وتتوقف سلسلة الهروب في أيام المواجهة.
أما أغرب عمليات الهروب فكانت هروب شاب عرف بصلابته وجرأته، الغريب في العملية، أن هذا الشاب كان على وشك أن يطلق سراحه خلال أشهر قليلة لانقضاء مدة محكوميته إلا أنه قرر المخاطرة والهروب ولو تم إلقاء القبض عليه لدفع ثمن ذلك غاليا بسنوات طويلة إضافية يقضيها في السجن وعقوبة شديدة.
واحدة من عمليات الهروب المشوقة في جميع أحداثها حصلت حين ادعى سجين المرض الشديد في إحدى الليالي وأقنع الكل - بما فيها إدارة السجن - بإصابته بالتهاب الزائدة الدودية. تحسن معاملة إدارة السجن للسجناء في حينها وفرت فرصة لنقل السجناء المرضى ذي الحالات الخطرة والطارئة إلى مستشفيات خارجية للعلاج. وبالفعل تم نقل هذا السجين إلى مستشفى خارجي في منطقة الكرخ في منطقة سكنية كبيرة، وهناك ظل مصرا على ادعاء المرض، وأجريت له عملية الزائدة الدودية بالفعل، ليحظى بفرصة البقاء في المستشفى ريثما يتعافى من آثار العملية، ولكنه استطاع الهرب بعد ليلة واحدة قضاها في هذه المستشفى وهو ما يزال يئن من جراح العملية وآثارها. حمل أوجاعه معه في قصة مثيرة واستطاع الهرب إلى مدينته وتجاوز مفاوز تفتيش كثيرة رغم أن اسمه وزع عليها في أحداث مثيرة، ومن ثم أكمل رحلته إلى خارج العراق ليستقر هناك ولم يستطع أي جهاز أمني الوصول إليه أبدا.
19
ساد التفاؤل كثيرا وبدا أننا نعيش العام الأخير في السجن وعمر النظام، خصوصا مع اندلاع انتفاضة شعبية كبيرة شملت معظم أرجاء البلد، عززها فقدان السيطرة الحكومية على أربع عشرة محافظة من أصل ثماني عشرة بعد هزيمة قاسية مذلة للجيش في حرب الخليج الثانية كلفت البلد آلاف الضحايا من الجنود والمدنيين وخسائر مادية هائلة. توج كل هذا التهاوي لسلطة وهيبة النظام باستسلام مخز لقيادة طالما تبجحت بقدراتها الحربية الفارغة وبكبرياء أجوف، وجلست في الآخر راضخة مستسلمة لكل شروط الغزاة في خيمة صفوان الشهيرة. كانت تصلنا الأخبار عبر أجهزة الراديو التي شاع وجودها بين السجناء حتى بعلم سلطات السجن وإن بغير رضاها، وبدا أن عملية غزو الكويت قوضت النظام تماما ولم تعد المسألة سوى مسألة وقت قصير لسقوط حتمي لهذا النظام الهمجي العبثي.
تغير سلوك إدارة السجن تجاه السجناء بشكل كامل، وصار وديا جدا لكنه مرتبك أيضا، فمع أنهم ظلوا يمارسون دورهم الرسمي بإدارة السجن وتنظيم أموره وفق التعليمات العامة، إلا أنهم بدءوا يهابون السجناء بشكل جدي ويتجنبون إبداء أي مظاهر عدائية حتى مع صدور مخالفات جدية حقيقية. هذه المخالفات لو صدرت في وقت سابق - ولو بمقدار عشر معشارها - لكانت العواقب لا تحتمل، أما الآن فتمر بسلام وكأنه لم يحدث شيء. صار الحرس يتوددون للسجناء وسط إيمان من الكل من سجين وسجان أن هذه الحرب هي نهاية النظام الفعلية، وأنها دقت آخر مسمار في نعشه، وسوف يحمل إلى مزبلة التاريخ مقبرته ومقامه اللائق به في وقت قريب جدا، وما على الكل سوى قليل من الصبر لحضور مراسم الدفن الرسمية.
خلال أيام الحرب كنا نسمع صوت الانفجارات المرعب من الطائرات والصواريخ الأمريكية وهي تدك العاصمة عبر فتحات شبابيك علوية في أحد الأقسام الجديدة، كنا نرى لهب نيران الانفجارات الهائلة تضيء السماء وتزيدنا قلقا لما يحصل بالبلد، مع مخاوف جدية من احتمال تعرض السجن هو الآخر لضربة جوية مماثلة لهذه الضربات لكونه يقع في منطقة عسكرية (معسكر أبو غريب). وبالفعل سمعنا في إحدى الأمسيات أصوات انفجارات قريبة جدا أرعبتنا لشدتها ولهول قوتها، بل رأينا صواريخ كروز أمريكية تتجه إلى أهدافها ولا أحد يقدر على اعتراضها من الدفاعات الجوية وتعبر بسلام من فوق السجن وعلى ارتفاعات منخفضة جدا، بحيث كان بالإمكان أن نرى كل تفاصيلها بسهولة وكأنها من شدة انخفاضها طائرة تستعد للهبوط في مدرج مطار قريب.
في أحد النهارات - وبينما كنا في ساحة السجن الخارجية - مرت من فوقنا ثلاثة من هذه الصواريخ، وحاول حارس في أحد أبراج المراقبة أن يطلق الرصاص عليها ظنا منه أنه قادر على إسقاطها، فهب عليه السجناء بصراخ جماعي يوبخونه خشية أن يغير الصاروخ اتجاهه وينفجر فوق السجن. بالطبع هذا الاحتجاج لم يكن عن دراية ولا عن علم بهذه الصواريخ ولا بالشئون العسكرية؛ لأنه لا يوجد أحد من السجناء يملك معلومات عسكرية حقيقية بمستوى محترف إلا أشخاص قلة لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة وهناك شكوك جدية في اطلاعهم على معلومات تخص أسلحة متطورة كالتي نتحدث عنها. هذا الاحتجاج كان يعبر عن حالة الضعف المتردي التي بلغها النظام والأمن في السجن بحيث صار السجناء لا يهابون أحدا من رجاله، وبالأحرى صار الحرس هم من يهابون السجناء. لم تكن هذه الحادثة هي المرة الوحيدة التي عرت وكشفت هذا التردي الأمني في حراسة السجن والسيطرة عليه، ففي يوم - وفي عز الظهيرة - هرب أحد سجناء الأقسام المفتوحة من فتحة صنعها في السور الخارجي للسجن، واكتشف حركته أو بالأحرى اشتبه أحد حراس أبراج المراقبة بوجود حركة مريبة بين الأحراش والأدغال المحيطة بالسجن فبدأ يطلق النار عليها، فما كان من السجناء إلا أن بدءوا بالصراخ عليه، وهو يحاول أن يفسر لهم ما يحدث، وهم يردون عليه بكلمات هي أقرب للتهديد من النصح، كانوا يقولون له: «أخي، لا تورط نفسك! قد يكون هذا السجين الذي تدعي هروبه في مرمى طلقاتك وينال إصابة قاتلة منك.» - «إذا تعرض للموت ماذا سيكون ردك؟» - «هذا السجين حتما وراءه من سوف يطالبك بدمه لو حصل مكروه له.»
لم تكن هذه الحالة المنفلتة في السجن فقط، بل في عموم البلد، وكنا نراها ونسمعها في أحاديث الزوار وعلى وجوه أهالينا الذين نلتقيهم أيام المواجهة حينئذ. موجة التفاؤل الكبيرة بانهيار النظام في العاجل القريب كانت طاغية على كل شيء. مع أني كنت ضمن قلائل ينظرون بسلبية لدور القوات الأمريكية وهجماتها على البلد ولم أكن أرجو خيرا منهم، وما زلت مواظبا على عدم الثقة بسياسة أمريكا وأعدها أس البلاء في العالم كله وليس في منطقة الشرق الأوسط وحسب، وعندما أقول: من ضمن قلائل؛ لأن الجو السائد كان خلاف ذلك، وكان يتمنى سقوط النظام بأي طريقة، حتى إنه في أحد الأيام - وبعد نقاش عن هذه الحرب - وجه أحدهم لي كلمة فيها تشكيك بأصل معارضتي للحكم الفاشي. كانت لحظة عابرة لم تؤثر على علاقتي الشخصية مع هذا الصديق أبدا، وما زلت أحتفظ بصداقته حتى هذه اللحظة ولا أظن سوف يصيبها شيء في المستقبل سوى مزيد من عرى الوثاقة، لكنها كانت مؤشرا مهما على أن المعارضة السياسية ينبغي عليها أن توسع أفقها وتتخلى عن خصوماتها الشخصية، وأن تجعل غايتها إرساء المبادئ الحقة، وأهدافها في خدمة شعبها بوسائل صحيحة أخلاقيا، وأن تكون هذه الأخلاقيات هي المرشد والدليل القائد في جميع مواقفها السياسية ولا تسير وراء دوافع ذاتية ولا خلف مشاعر الانتقام الشخصي.
سبيل الانتقام الشخصي الأناني - رغم كل الأعذار التي تساق لتبريره - سوف يبقي الشعوب في تيه لا تجد منه مخرجا، وتظل تدور في حلقة معبأة بالكوارث والفتن وفي النهاية يضيع الشعب كله وإن كان معه بطل عبوره موسى النبي نفسه ولن يجد لهما أحد من أثر سوى حكايا قديمة تصلح للتسلية وللغارقين في أحلام لن يتحقق منها شيء لتغدو بطول أمدها كابوسا سرمديا مزعجا.
بيد أن الأمور جرت خلاف كل التوقعات واستعاد النظام سيطرته على أجزاء كبيرة من البلد، وبدأ بحملة قمع شديدة مماثلة تقريبا في قسوتها لحملة مشابهة جرت في السنوات الأولى للحرب، لكن هذه المرة لم تستغرق هذه الحملة سوى أشهر قليلة، ومع ذلك خلفت آلاما عظيمة وضحايا بأرقام مرعبة. وبعد أن أخذ النظام تفويضا غير علني من القوات الأمريكية بقمع الانتفاضة الشعبية بالسماح له باستخدام الطيران العمودي واطمأن إلى أن هذه الحملة العسكرية الجبارة التي دمرت كل شيء في البلد لن تستهدف السلطة القمعية ورأسها، بدأ عملية استرجاع النظام لسيطرته الكاملة على معظم المدن التي انشقت عنه في عمليات عسكرية وحشية خلفت رعبا عظيما وفزعا كبيرا بين الشعب، وموتا انتشر في صحاري وسهوب ووديان وجبال الوطن الذي تحول إلى محرقة ومقبرة هائلة. حينئذ انقلب التفاؤل الكبير الذي كان يظهر على وجوه السجناء وفي كلماتهم إلى تشاؤم أكبر منه.
في صباح يوم - وبينما كان السجناء في الأقسام المفتوحة يتجولون في ساحة كبيرة مخصصة لهم بحجم مساحة ملعب كرة القدم - صعد على سطح السجن رجال مسلحون ببنادق قنص، وصدر أمر لجميع السجناء بواسطة مكبرات صوت يدعوهم إلى الدخول فورا إلى الأقسام، وحذر بأن من يتخلف عن الاستجابة الفورية يعرض نفسه لخطر الموت. كان طلبا يستحيل تنفيذه بالسرعة التي طلب بها وفوجئ السجناء برصاص حي يوجه لهم من قناصة متهيئين لعملية قتل عشوائي مما أردى بعضهم في الحال، وهام السجناء يجرون في كل الاتجاهات لا يعرفون أين يختبئون ولا بمن يستجيرون. ثم بدأ هجوم كبير عليهم من قوات أخرى كانت على أهبة الاستعداد ومتهيئة للقيام بعملية انتقام كبيرة، وعاد الرعب من جديد يخيم بمشاهد التعذيب الانتقامي والقسوة المفرطة.
استمر الحال هكذا لعدة أسابيع، رعب وخوف يطبق على الأنفاس، وفي الليل تشن غارات أمنية على السجن من قبل قوات أمنية لا يعرف لصالح أي جهة أمنية تعمل، وفي كل مرة كان يتم اختطاف مجموعة من السجناء المعروفين بنشاطهم العام، مجموعة تلو الأخرى واقتيدوا إلى معسكر الرضوانية حيث جرت فيه تصفية المعارضة المنتفضة وهناك اختفوا إلى الأبد، ولم يعثر على أي أثر لهم بعد ذلك إلى يومنا هذا.
كان تنفيذ الاعتقال يتم بطريقة تدخل الهلع والفزع في قلوب السجناء، ويطبق صمت كامل حين تدخل مجموعة من الجلادين ليبدأ أحدهم بقراءة مجموعة من أسماء سجناء مطلوبين ثم يقتادونهم مكبلين معصوبي الأعين في اعتقال جديد. وسمعنا - فيما بعد وقت ليس بالقصير - قصصا مرعبة عن تصفية المتهمين بالمشاركة في الانتفاضة الشعبية، وآخرين كانوا في معسكر الموت هذا، بعد أن عاد بعض السجناء أحياء من هذا المعسكر الرهيب. كما سمعنا تفاصيل عن حوادث قتل عشوائي كانت تجري بإشراف أكبر الشخصيات المتحكمة بزمام الحكم في البلد، ومنها هذه القصة التي أنقلها بإيجاز مخل لقسوتها: «أحد أركان النظام (ح. ك) كان يشرف شخصيا على عمليات التعذيب، وهو شخص مشهور بقسوته، وشغل مناصب حكومية رفيعة، وقف على رأس مجموعة معتقلين في هذا المعسكر وبعد أن تعرضوا لحملة تعذيب في تحقيق وحشي أمام عينه، طلب منهم بأن يديروا ظهورهم له ويسيروا قائلا لهم: «سوف أطلق الرصاص، ومن تصيبه الرصاصة ويموت فهو مجرم خائن.»
وبدأ يصطادهم واحدا تلو الآخر بمسدسه الشخصي، ولم ينج منهم إلا قليل حالفه الحظ وقتها، لكن القاتل لم ينج، فبعد أعوام قليلة - فقط - ذبح هو وشقيقه ووالده وهدم داره من قبل نفس النظام وبأمر مباشر من سيده الذي اتبعه كالكلب الوفي طوال عمره.»
سمعنا بهذه القصص المرعبة بعد وقت طويل؛ لأن من كان يعود من هذا المعسكر يعود صامتا لا ينبس ببنت شفة عن سبب اختطافه واحتجازه في هذا المعسكر الرهيب ولا يتحدث عما جرى هناك، بل يرجع مقلا إلى حد كبير في أحاديثه الخاصة والعامة، ولا يتكلم إلا بحدود الحاجة. كان يبدو واضحا أن العائدين من هذا المعسكر الرهيب تعرضوا لصدمة نفسية هائلة، أفقدتهم القدرة على النطق وأزاحت الثقة منهم بكل أحد، لذلك لم يجدوا من يبثون إليه حزن تلك الصور الرهيبة التي شهدوها، واختاروا الانطواء والانعزال والتقوقع في مشهد كان يثير الرعب فينا، وربما حتى أكثر مما كان في تلك الصور نفسها من قسوة، وهكذا يفعل الرعب والخوف بصاحبه.
20
بعد مرور عدة أسابيع، وبعد أن أخمدت الانتفاضة تماما، توقفت هذه الإجراءات القاسية، وبدا أيضا أن النظام أضحى واقعا تحت ضغط دولي كبير للإفراج عن السجناء السياسيين في جملة ضغوط واسعة مورست لتجريده من قوته، بل تجريد البلد من كل شيء في مخطط كبير وعميق لهدم الدولة العراقية بالكامل، والسير بها وئيدا نحو مرحلة الدولة الفاشلة في عملية طويلة استغرقت عقودا. حاول النظام تفادي الضغط، وفي خطوة ترضية وتهدئة شعبية ودولية في الوقت عينه، أصدر عفوا عاما عن السجناء السياسيين بمناسبة يوم ميلاد الطاغية، الذي كان يحتفل به رغم كل الهزائم والجراح والجوع والموت المنتشر في أرجاء البلاد. إلا أنه - وبرغم كل هذه الضغوط - لم يطلق سراحنا - كما هي العادة في كل عفو كان يعلن عنه طوال عقد الثمانينات - واكتفى بإطلاق سراح السجناء السياسيين من الأقسام المفتوحة فقط. ورغم مرور عدة أشهر على وعوده بإطلاق سراح كل السجناء السياسيين لم تظهر أي بوادر على ذلك، وصرنا نظن أننا سوف نواصل حياة السجن كالمرات السابقة حتى مع هذه التطورات الدراماتيكية في البلد.
في هذه المرة كما في مرات سابقة تعرفنا على أسماء وأرقام المواد التي حكم بها علينا، وكانت أول مرة نتعرف بها على أرقام المواد القانونية التي حكمنا بها عندما صدر أول عفو رئاسي. أي من المعتقلين لم يلق بالا لما كان يثرثر به القاضي في المحكمة الصورية في قرار الحكم؛ لأن جو السخرية والاستهزاء واللامبالاة من هذه التمثيلية السخيفة والمحاكمة الصورية كان يسيطر على الأجواء. كان القاضي يحاول أن يظهر نفسه مع المحامي والمدعي العام كأنهم في محكمة حقيقية، وكأن التهم حقيقية تسندها أدلة قاطعة وبراهين ثابتة، وأن ما جرى هو تحقيق قانوني عادل وأن الدفاع قد بذل جهده واطلع على الملفات وفحصها بعناية وإخلاص، وليس أن الأمر كله كان عبارة عن تهم جزاف تلقى بلا أدنى دليل ولا برهان، وأن التعذيب الوحشي كان الوسيلة الوحيدة لانتزاع الاعترافات، وكثير من التهم كانت غير حقيقية كما هي الاعترافات، ولا أن القاضي والمدعي العام ومحامي الدفاع كلهم طالبوا بالموت للمتهمين، وكانوا يقفون في خندق واحد بالعداء السافر أمام معتقلين لا دليل عليهم سوى تهمة ألقيت عليهم بناء على شبهة، واستنادا إلى شكوك وظنون وتقارير وشاة ومخبرين.
وهل كانت المحاكمات أصولية حتى نقيم لها وزنا أو تلفت انتباهنا؟ ولماذا نعير انتباهنا لما يتفوه به حاكم عسكري تلقى الأوامر عليه بإصدار أحكام لا رأي له فيها ولا قرار؟ ألم يكن مجرد بوق ينقل صوت طاغية يحكم بالحديد والنار؟ جل السجناء كانوا لا يميزون بين مادة وأخرى، بل ولا يعرفونها أساسا للأسباب التي ذكرتها، حتى جاء أول عفو رئاسي في منتصف الثمانينات تقريبا، وبدأت وقتها حملة لإخراج بعض السجناء من الأقسام المغلقة إلى الأقسام المفتوحة، تمهيدا للإفراج عنهم. وجاء وقتها رجال الأمن يسألون عن أسماء السجناء وأرقام المواد التي حكموا بها لإعداد قوائم إدارية تنظم عملية إطلاق سراح المشمولين بالعفو.
استغربت ذلك وقتها؛ إذ لم أكن أميز مادة عن أخرى وكنت لا أظن أن بين سجين وآخر من فرق لا بشكل التحقيق ولا بنوع الاتهام، وكنت أظن أن الجميع في مركب واحد، لكن ساعتئذ تبين أننا لسنا كذلك وأن التهم تختلف ولم أتفطن إلى السبب الحقيقي لهذا التمايز إلا بعد فترة، حيث كان واضحا أن المحكومين في فترات التوتر الشديد على جبهات القتال، كانوا ينالون أشد الأحكام وأقساها ويحكمون بأسوأ المواد القانونية، أما من حكم عليه في فترة سابقة لاندلاع الحرب، أو في أولها حين كان الجيش العراقي يحقق فيها انتصارات كانت المواد القانونية أقل وطأة في عقوباتها وكذلك هي الأحكام. أضحيت أدرك من حينها أن التهمة التي حكمت بسببها لن ينالها أي تخفيف؛ لأنها أشد المواد قسوة، بل وصار البعض يخشى أن يمتد الحكم المؤبد أكثر مما هو عليه، خصوصا بعد أن تم تغيير قانون مدة السجن المؤبد من عشرين سنة إلى خمس وعشرين سنة في بلد كان يمكن أن يكون للقانون أثر رجعي بلا نقاش ولا اعتراض من أي أحد. ومن ينسى صدور قانون شرع حكم الموت لكل منتم لتنظيم معارض ولو كان قد انسحب منه بالفعل حتى قبل صدور ذلك القانون. قطعت بهذا القانون الغريب عشرات آلاف الرقاب من الشباب وبتهم ملفقة في كثير من الحالات. فإذا كان القانون يحكم بالموت على فعل لم يكن جريمة قبل صدوره، فهل كان يجد حرجا لو مدد الحكم على من هو أصلا الآن مدان بجريمة؟!
المناخ السائد كان يشير إلى ما هو معتاد من عدم شمولنا بأي عفو، وأصبحنا نكيف أنفسنا لذلك، وفي وقتها ظهر زعيم النظام، وقال: «لا يوجد لدينا سجناء سياسيون.» وسألنا أحد رجال الأمن عن ذلك وقلنا له: «إذن ماذا نعتبر نحن؟» فأجابنا برد يعكس الاستخفاف بالقانون والتلاعب بالألفاظ الذي تمارسه السلطة القمعية آنذاك: «أنتم نزلاء ولستم سجناء.»
لكن يبدو أن بعض الهاربين من السجن استطاعوا أن يسربوا أسماءنا - نحن سجناء الأقسام المغلقة تحديدا - إلى جهة دولية محايدة وسلموها قوائم مفصلة بشكل واضح جدا عن عدد وأسماء السجناء السياسيين في الأقسام المغلقة، مما اضطر النظام إلى الاعتراف - أخيرا - بوجودنا في السجن، وأجبر على إطلاق سراحنا في إجراءات سريعة مستعجلة، وخلال أقل من أسبوع واحد، قبل موعد زيارة مبعوث دولي كبير كان يحمل القائمة الطويلة بأسمائنا معه. وبالرغم من كل ذلك فقد استثني عدد قليل من السجناء وظلوا لفترات أطول، بل إن بعضهم أكمل عشرين عاما بالتمام والكمال في تلك الزنزانات المريعة.
في يوم شتائي قصير - تحديدا ليلة واحدة قبل عشية أعياد الميلاد - استدعيت لالتقاط صورة لي ولأخذ بصماتي. جلست مع مجموعة من السجناء في ساحة كبيرة جدا تفصل بين باب قسم الأحكام الخاصة والباب الخارجي للسجن، حيث قضيت خلفه تسع سنوات وأربعة أشهر وخمسة أيام.
جاء رجل أمن بدين معروف بغبائه وقسوته يطلب منا المسامحة وبراءة الذمة عما بدر منه تجاهنا، ويرجو ألا يحقد أحد عليه ويبرر ذلك بأنه كان يؤدي واجبه فقط، ثم يطلب من السجناء أن يتفهموا ذلك وألا تؤخذ الأمور على محمل شخصي. ثم قال: عليكم الآن وأنتم تخرجون من السجن أن تهتفوا بحياة السيد الرئيس القائد، وأن تشكروه على عفوه وكرمه ومسامحته لكم، ونحن صامتون لا نرد على أي من كلماته الغبية، بل إني همست في أذن صاحبي بشتيمة مقذعة ذكرت فيها اسم القائد نفسه صريحا.
هبط الغسق ونحن لا نزال في إجراءات الإفراج، أتطلع إلى الجدران الإسمنتية العالية ومن خلالها تنبعث أمامي صور فتية من خيرة شعبنا قضوا خلفها، وضاعت قدراتهم الخلاقة ومواهبهم الرائعة تحت سنابك خيل مسعورة، وطئتهم بحوافرها الحديدية وخلفت في صدورهم ندوبا عميقة سيحملها أمثالي من بقية السيف طوال عمره المتبقي.
خيم الليل على السجن ونحن نهم بالخروج عبر البوابة الكبيرة، وحينها سألني سجين كان إلى جواري: «ما هو شعورك الآن وأنت تخرج من السجن؟»
فأجبته بما كان يجول في ضميري. - بلا شعور.
لندن
07 / 09 / 2019
Página desconocida