Desde las Grietas de la Oscuridad: La Historia de un Prisionero cuya Inquietud es que Aún no ha Terminado

Nahid Hindi d. 1450 AH
38

Desde las Grietas de la Oscuridad: La Historia de un Prisionero cuya Inquietud es que Aún no ha Terminado

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Géneros

هذا المقدار الضئيل لم يساعد الأبدان على المقاومة، في وقت كانت تتورم الأقدام من جراء الوقوف المستمر . المعاناة الأشد كانت دخول الخلاء؛ إذ ينبغي خروج الأشخاص الخمسة منه وعليهم أن يجدوا مكانا مؤقتا لأنفسهم وسط هذه الكتلة البشرية المتراصة، وكان هذا مصدر إزعاج كبير جدا ومحنة حقيقية؛ إذ كيف تجد مكانا لخمسة أشخاص مقابل واحد فقط دخل دورة المياه، وبسبب هذه المعاناة كان البعض لا يحبذ الجلوس في دورة المياه؛ لأنه عرضة لتهديد مستمر بإخلاء المكان، بينما يفضله آخرون رغم ذلك لأنه المكان الوحيد الذي يمكن الجلوس فيه والاستراحة من عناء الوقوف اللقلقي المستمر. وكم هو مقرف أن يكون خيار المرء بين الوقوف لقلقا أو الجلوس في مرحاض لا أمر ثالث بينهما. الحسنة الوحيدة في الزنزانة هو توفر ماء جار كثير؛ لأن هذه الوفرة لن يطول بقاؤها خصوصا في السجن.

وبرغم هذا الضيق والأغلال التي تقيد حركة المعتقلين؛ فإنهم كانوا يحملون في قلوبهم عزيمة هائلة وإرادة جبارة. لم يمنعهم هذا العذاب كله من الجلوس في هذه الزنزانات نفسها، ويعقدون فيها ندوات يتحدثون فيها عن أمور ثقافية، ويتبادلون المعلومات، ويجرون النقاشات والحوارات في أمور شتى حتى السياسية منها، وجعلوا من هذه الزنزانات مدارس ثقافية. لم يتوقف حس المعارضة للظلم، بل كان يزداد ويترسخ في صدورهم كلما ازداد عذابهم وعرى التضامن تتوثق فيما بينهم ولا يحسبن أحد أن خفة الدم قد غادرتهم أو أنهم فقدوا حس الفكاهة والتندر، أبدا بل كانت المزحة حاضرة دائمة حتى إن أحدهم أطلق كلمة تندر خالدة، حين قال لو قيض لي يوما الخروج من هذا المعتقل فسوف أصنف كتابا يحكي يومياتي أسميه: «الوقفة اللقلقية في السجون العفلقية». وأنا أنقل مقولته هذه عسى أن يفي بوعده ويكتب كتابه المنتظر.

قبل أن يحين موعد محاكمتنا، انتثرت كثير من القصص القصيرة لم أعد أتذكر الكثير منها؛ لأنه لم يكن هناك من قرطاس أدونها فيه سوى ذاكرة مشحونة بكثير من وقائع ثقيلة تحتل مساحة كبيرة منها، ولم يبق مع لطمات الدهر ما يسعني الاحتفاظ بكل هذه القصص القصيرة. إلا أن بعضها تمكن من النجاة ومنها ما سوف أسرده .

مثل سائر المعتقلات هناك أصناف متنوعة من المعتقلين لأسباب أمنية، ولا يمكن أن يصنفوا جميعا بالمعتقلين لأسباب سياسية، أو لأنهم ذوو نشاط معارض، بل حتى إن بعضهم كان من أتباع السلطة وأجهزتها القمعية. جاء إلى الزنزانة يوما أحد المعتقلين ممن يسكن المنطقة القريبة من الحدود السورية وقص علينا نشاطه التخريبي لصالح المخابرات العراقية في سوريا من تفجير بعض الأهداف المدنية هناك وبعض الأعمال الإجرامية الأخرى. اعتقل بعد عودته من السجن في سوريا تحسبا من كونه عميلا مزدوجا للمخابرات على طرفي الحدود.

حدثنا عن السجون السورية وطرق التعذيب فيها، مثل وضع المعتقل في عجلة ودحرجتها من علو بالسجين وهي طريقة لم نتعرف عليها في المعتقلات الأمنية العراقية، ربما لم تكن تعجبهم؛ لأنها قد تكون متخلفة قياسا لما عندهم من وسائل أكثر تطورا أو لأنها أقل فعالية قياسا بما يملكونه. وعلى ذكر وسائل التعذيب فإنها على - ما يبدو - كانت وفق مواصفات عالمية، فكما قيودنا كانت تحمل عبارة «صنع في رومانيا»؛ فطرق التعذيب يبدو أنها حصيلة نصيحة من خبراء أجانب، فقد رأينا في أحد الأيام وفدا يتجول في مديرية الأمن ويبدو من سحنهم أنهم من شرق آسيا، توقعنا أنهم قد يكونون من الصين لعلاقة النظام الجيدة مع الحكم الصيني آنذاك.

وبالعودة لهذا العميل المخابراتي الذي كان يبدو مرتاحا مطمئنا غير قلق من وجوده معنا في الزنزانة، وفعلا لم يتعرض لأي أذى جسدي، وعلى الأرجح أطلق سراحه عندما أخذوه بعد أيام من الزنزانة بطريقة فيها احترام؛ لأن اعتقاله كان يبدو إجراء احترازيا ليس إلا. تبادلنا الحديث معه كان من باب الفضول وحسب، ولم نشركه في أي نشاط خلال وجوده، وتحوطنا كثيرا منه لسبب لا يخفى. وكما جاء غادر بلا أثر ولا مشاعر خلفها عقبه. مر علينا فلاحون ورعاة وطلبة لأسباب كثيرة لكنها لم ترق لمستوى يعرض أصحابها لخطر حقيقي مثل الذي كنا فيه.

زنزانة كبيرة بعيدة عن زنزانات المعتقلين السياسيين ضمت عددا كبيرا من المعتقلين لأسباب أغلبها غير سياسية بالصميم، وإن تعلقت بها بنحو أو آخر في زمن كان كل شيء ممكن أن يصير تهمة سياسية. كثير من هؤلاء المعتقلين كانوا قرويين بسطاء اعتقلوا في حملة تأديبية جماعية في مسعى من السلطة لإنزال العقاب والقصاص بسكان القرى حتى وإن خرج منها رجل معارض واحد. هذه الحملة التأديبية القاسية كانت بسبب نشاط معارض مسلح كانت تقوم به جهات أيزيدية في مناطق شمال العراق متاخمة لسوريا. كان الحرس يعاملونهم بازدراء واحتقار وتكبر بغيض، ويسخرونهم بالقوة للقيام بأعمال التنظيف في مديرية الأمن رغم أن أغلبهم كانوا من كبار السن. كان مشهدا مفجعا أن ترى حارسا طائشا قد بلغ العشرين من عمره للتو وهو يذيق العذاب المر لرجل أربعيني ويسخر منه ويحثه للعمل بالركل على مؤخرته والصراخ عليه. ولأن القرويين يكونون أشد الناس تعلقا بالدين ويحظى بقدسية كبيرة في نفوسهم أكثر من أي أحد غيرهم من طبقات الشعب، خصوصا مع الجهل السائد بينهم والسذاجة التي هم عليها، فقد وجد رجال الأمن ذلك فرصة سانحة لأن يستغلوا هذه السمة الخاصة المتجذرة فيهم لإيذائهم بسب معتقداتهم ولعن مقدساتهم.

كنا نتطلع إليهم وهم في وجوم صادم يسمعون تلك الألفاظ البذيئة عاجزين عن إظهار أي من مشاعر الاعتراض حتى على قسمات وجوههم خشية العقاب الجسدي الذي لا يوفره رجال الأمن لهم في أي مناسبة. كان منظرا يفطر القلب حقا ويجلي بوضوح مستنقع الحقارة والنذالة الذي خرج منه رجال الأمن، وحجم الغل الكامن في صدورهم لكل ما يمت بصلة للمشاعر الإنسانية.

لم تتوفر أمامنا حلول كثيرة لتغيير هذا الواقع الصعب الذي يعيشونه، وبالمقابل لم نقو على البقاء ساكتين عليه. قدمنا اقتراحا للحرس بأن الجزء الخاص بنا من ممشى صغير يؤدي إلى دورة المياه، نتطوع نحن لتنظيفه يوميا وإعفاء هؤلاء القرويين منه. لم يكن هذا الاقتراح يغير من الواقع كثيرا؛ فإنهم سوف يبقون هم ونساؤهم مسخرين لأداء هذه الأعمال الحقيرة في قلعة الخوف، ولن يوقف فعلنا عوضا عنهم في تنظيف هذا الموضع الصغير سبل الازدراء والاستكبار ولا فحش الألفاظ والإهانات وربما أفعال أخرى أكثر قبحا لم نرها ولا نستبعد حصولها من هذه الضواري البشرية. كل ما سعينا إليه هو إبعاد المشهد المؤلم عن نواظرنا رحمة بأنفسنا وليس شفقة عليهم؛ لأننا لم نكن في حاجة لمزيد من الألم والضيم أكثر مما هو متوزع في أرجاء نفوسنا ويسكن جوانحنا.

كان من المتوقع أن نكبح مشاهد السخرية والإهانة وتسير الأمور سلسة، وهذا ما جرى فعلا في الأيام الأولى؛ لأننا نقوم بعمل تطوعي ولا نتوقع مضايقة من الحرس. غير أنه في أحد الأيام جاء شاب نزق، وبينما كنت أحمل قطعة مبللة من قماش خرق أمسح بها البلاط دفعني هذا الحارس النزق بعنف مصحوب بلفظ سخيف يريد أن يكرر معي ما كان يفعله مع القرويين البسطاء، إلا أنه فوجئ بردة الفعل الغاضبة مني. إذ استدرت إليه مباشرة ملقيا قطعة القماش المبلل على الأرض في غضب واضح تظهر علامات الحدة علي ومزمجرا ببضع كلمات حادة متوعدا ومتقدما نحوه بانفعال شديد. ولحسن الحظ كان باب الزنزانة مفتوحا ويمكن لرفاقي التحرك بسهولة لنجدتي وهذا ما حصل، علا صراخ بيننا وحاول يائسا أن يردعهم بالقوة فجرب رفع ساقه كي يركل أحدهم لكن رفيقي كان أسرع منه فأمسك بطرف قدمه وأطاح به على الأرض وسحق كل تجبره بمنظره المضحك وهو يتزحلق على الأرض المبللة.

Página desconocida