Desde las Grietas de la Oscuridad: La Historia de un Prisionero cuya Inquietud es que Aún no ha Terminado
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Géneros
لم يكن انضمامي للعمل السياسي الحزبي تأثرا بالآراء السياسية أو الفلسفية إلا هامشيا، الدافع الحقيقي كان توفري على خاصية لعلها تميزني عن بعض ليس بالقليل من أقراني، وهي الحساسية الشديدة من غياب الحرية؛ حساسية لم تزل تؤرقني وهي سبب رئيس لكل مواقفي تجاه الأحداث والجهات والذوات والأفكار.
أريد أن أعيش كإنسان حر وأرفض بقوة كل ما ومن يمنعني من ذلك، ولربما أصدق ما ينطبق على سلوكي وتصرفاتي هو ما قاله مكسيم غوركي: «جئت لهذا العالم كي أحتج.» وبالفعل هذا كان سببا مزمنا لانخراطي في كل النشاطات السياسية، وأيضا كان سببا حاسما في مروري بهذه التجربة المريرة. لم أزل غير آسف على مروري بها ولا أشعر بالندم عليها بالمطلق، ولن أبالغ لو قلت: لو قدر لي أن أعود بالزمن ثانية أو صادفني موقف مماثل مستقبلا لوقفت الموقف نفسه بلا أي تردد. الفارق الوحيد سوف يكون في زيادة الخبرة التي منحتني إياها الأيام الطويلة التي عشتها لحد الآن ومع ذلك لم تقو على قطع رأسي رغم فداحة آلام التجربة الكبيرة والمريرة. خبرة بلا شك يمكنها أن تجنبني كثيرا من فخاخ رجال الأمن السياسي وأيضا سوف تعفيني من مصاحبة الخونة والضعفاء.
ما إن تجاوزنا بوابة بغداد الكبيرة حتى سمح لنا بأن نرفع رءوسنا وأزيحت كاتمات النور عن بواصرنا. تبادلنا نظرات في دهشة وحيرة معا؛ إذ لم يكن هذا اللقاء الأول بين هؤلاء المكبلين بالقيود المحشورين في هذه العربة، ولا هو القاسم المشترك الأول بين بعض منا، بل سبقه في ذلك عدة لقاءات؛ لقاءات إما كانت جلسات فكر واحد يجمع بعضنا، أو لقاءات أخرى خاصة كان يسودها جو التمرد على الأعراف والمألوف من التقاليد والعادات، جو الثورة على الأوضاع السائدة.
انطلقت أسئلة كثيرة في سرنا مثل حمم بركان هائج: لماذا نحن هنا؟! وما الذي يجري؟ كيف تمكنوا من جمعنا هكذا بدون أن يتنبه أحد لمخططهم؟ كنا نتوقع الاعتقال في يوم ما، وأعددنا لذلك خطة سهلة تحسبا لذلك اليوم الموعود، إذا ما تعرض أحد رفاقنا للاعتقال. ولتجنيب الآخرين المصير نفسه، يمنح المعتقل فرصة ثلاثة أيام بلياليها للصمود أمام المحققين الأمنيين، ريثما يجد رفاقه ملاذا آمنا للاختباء فيه أو الهروب. لكن ما يحصل الآن هو أننا وقعنا في شرك جماعي بلا أي تنبيه أو جرس إنذار.
السؤال ظل حائرا يتنقل بيننا في نظرات مشتتة نختلسها بعضنا من البعض الآخر لمئات الكيلومترات، على طوال تلك المسافة بين مدينتي المدورة عاصمة وطني التي ترعرعت فيها أنا وآبائي؛ مدينة تحتضن ألما أزليا منذ يوم نشوئها، وبين مدينة أخرى قضيت فيها بعضا من سنوات طفولتي ودراستي الجامعية، مدينة حدباء لعلها احدودبت حزنا على العاصمة المعجونة بالألم طوال الدهر.
لم يوقف تشتت الأفكار ولحاقها العبثي بسراب الإجابة، حتى تلك الوقفة القصيرة عند مطعم شعبي على قارعة طريق عام في مدينة الملوية الشهيرة سامراء. وقفة كانت تكفي لتناول وجبة غداء أتى بها نادل شاب. ما زلت حتى هذا اليوم أحفظ الدهشة التي ارتسمت على وجهه ، وكيف جمدت كل عروق وجهه في وجل وانبهار، وهو يرى ملاعق تمسكها معاصم مقيدة من خلف الظهور ترفع الرز المخلوط بالفاصوليا العراقية (يابسة)، ثم تنحني إلى هذه الملاعق أفواه تسحب ما فيها في مشهد من كوميديا سوداء.
عندما وصلنا إلى حيث كانوا يريدون لنا أن نصل من المعتقلات - وهو مديرية أمن نينوى - كان طرف الليل قد امتد وغطى كل أحياء المدينة التي تجولنا كثيرا في شوارعها وأزقتها الصغيرة، وارتدنا مقاهيها وملاهيها ومسارحها ومكتباتها يملؤنا صخب الشباب وحيوية الثوار. عندما اقتربنا من مشارف المدينة كانت عتمة الليل قد نزلت بثقلها على الشوارع، ومع عودة الخرق من جديد تضاعفت ظلمة الدنيا حلكة وزادتها اسودادا، لتغطي العيون الهائمة والنظرات التائهة التي كانت تواصل إبحارها في يم المجهول والتيه بحثا عن تفسير لما يجري.
ارتقينا سلالم كثيرة بحث كثير ونهر لا يتوقف من رجال الأمن إلى أن بلغنا فسحة في طابق علوي، رأيتها فيما بعد وكانت شاهدا للحظة كان يمكن لها أن تكون نقطة تاريخية وعلامة فارقة سوف يأتي الكلام عنها لاحقا. الردهة كانت تتوسط غرفا ضيقة كما رأيتها فيما بعد وتعرفت على جغرافيتها، أما الآن فلم أكن أدرك أبعادها ولا أين نحن بالتحديد؟ باعدوا المسافات بيننا قليلا على خلاف مشينا السابق، حيث كان يمسك أحدنا بالآخر ونحن نسير صعودا على السلم. أمرنا بالبقاء وقوفا، وفي أي حال لم يكن لنا أن نختار هيئة سواء من وقوف أو جلوس ولا حتى النوم، ليس في هذه اللحظة فقط، بل لسنوات طويلة متوالية، سيكون ذلك بمشيئة غيرنا في أغلب الأحيان وتبعا لتعليمات جائرة لا يحكمها قانون ولا نظام تتغير بحسب تغير مزاج شرطي يعاني مللا من علاقة عاطفية أو فشلا بها أو مصاعب في العمل لا يعرف حيلة لتيسيرها.
وقفنا بصمت في الردهة لدقيقة أو دقيقتين أو أكثر بقليل من وقت لا أذكر مقداره الآن، لكنه كان قصيرا جدا لم يستغرق سوى انتظامنا في الوقوف لا أكثر من ذلك. ثم فجأة تحولت أجسادنا إلى كيس ملاكمة يتلقى مهارات رجال الأمن المدربين جيدا على فنون القتال. لم يكن بإمكان أحد منا توقع الضربات القادمة إليه بقصد أو التائهة منها، ولا رؤيتها. ولم تكن أمامي من وسيلة للدفاع سوى تكوير جسمي، إلا أن ذلك لم يساعدني كثيرا ولا أوقف ترنحي بسبب زخم الضربات وقوتها. الأرض بدأت تدور بي وصارت هشة لا يمكن الوقوف عليها وتحول الترنح إلى نوبات سقوط متكرر.
كنت أحاول في كل مرة أن أعاود النهوض لكن ببطء لعل ذلك يؤخر من اندفاعهم نحوي، قبل أن أهوي تماما في مرة أخيرة منزوعا من أي قدرة أو قابلية على القيام مجددا؛ سقطت على بلاط بارد لتبدأ بتقليبي عليه أحذية صلبة رفسا برءوسها المدببة. لا أظن أن أيا من أصحابي كان وضعه أفضل مما كنت عليه، لكن لم يكن لي شغل بهم ولا كنت حتى أشعر حينها بوجودهم، اللهم إلا حين تند منهم صرخات فزع وألم. كان الأمر باختصار كل في شغل عن غيره وكل يصارع لوحده وحوشا ضارية كاسرة انفلتت من عقالها فجأة. أحسست أن الكون خلا من كل شيء حتى من صانعه، ولم يتبق فيه إلا أنا وهؤلاء القتلة، لم يكن هناك من شيء يمكن التقاطه والتشبث به، رأسي أصبح خاويا تماما كأنه قطعة فضاء خارجي لا يمكن له حتى أن يرجع الصدى.
Página desconocida