وهذا أخوها يقبل فتتعجله الأخبار، فيخبرها بأن ما في الكتاب صحيح، وبأنه عرف تفصيل القضية، وبأن زوجها متهم بالسرقة، ثم بالنصب والاحتيال، وبأن التهمة - ثابتة - تثبتها كتب خطتها يد زوجها، وبأن الخصوم السياسيين لزوجها مسرفون في نيل هذا الرجل بالشر، يبتغون من ذلك شفاء شهوة سياسية ... وهي تسمع لهذا كله فيصعقها، ولكنها قويمة النفس، تستطيع أن تحتمل، فما أسرع ما تسترد صوابها، وإذا هي تفوض الأمر لأخيها، مظهرة الاعتماد عليه، والثقة به، ولكنها مع ذلك تثق بالله، وتعتمد عليه، فتترك أخاها وتذهب إلى حيث تصلي.
وهذان الغلامان قد أقبلا في نشاط ومرح وابتسام للحياة، وخالهما ينكر عليهما الإسراف في اللذة والابتهاج، ويود لو نظرا إلى الحياة في شيء من الجد فلا يفهمانه؛ لا يفهمان منه هذا الرأي الجديد، وهو لا يستطيع أن يبين، ولا أن يظهرهما على حقيقة الأمر، ولكنه يدور حول هذه الحقيقة، فلا يعيان عنه شيئا، والفتى يداعب أخته ويغيظها، ويعرض بما بينها وبين بعض رفاقه من صلة ثم يمضي، فإذا ألح الخال على ابنة أخته أخبرت بأنها تحب هذا الرفيق، وأن هذا الرفيق يحبها، وأن أمها تحس بشيء من ذلك، وتشجعها عليه، وأنها هي حريصة على أن تقترن بهذا الفتى مشفقة من رفض أبيها، معتمدة على خالها في حمل أبيها على القبول، وينصرف الفتيان إلى لعبهما.
وأنت تحس في أثناء كل هذا الحديث شوقا إلى أن تعرف كيف تنتهي القصة، وضيقا بكل هذه الأشياء التي تعترض مجراها، ولكن هذه الأشياء كلها لم تأت عبثا، فهي تزيد في حرج الموقف، فمرح هذين الغلامين وابتسامهما للحياة، وأمل هذه الفتاة وحبها بينما تحدق الكارثة بهذه الأسرة، كل هذا يضاعف الحرج الذي يحيط بهؤلاء الناس، وله أثره فيما سيصدر عنهم من الأعمال.
وقد أقبل الزوج فيتلقاه أخ امرأته مغضبا، ويسأله هل تلقى رسالة امرأته، فإذا أجاب أنه لم يتلق شيئا، قال له صاحبه: فهذا دليل على أنك لم تكن حيث أنبأت امرأتك، ثم يشتد الحوار بين الرجلين، ونفهم منه أن الزوج يعلم بكل شيء، أنه استيأس من موقفه وأنه إنما جاء ليمر بمكتبه فيأخذ منه بعض الشيء، ثم يمضي إلى حيث يلتمس النجاة، إذن فهو يريد الهرب من فرنسا! لا يحفل بامرأته، ولا يحفل بابنيه، ولا يحفل بما سيقال عنه، وما سيقال عنهم جميعا ... ولكن سفرين يقدر موقفه، ويقدر موقف أخته وابنيها، وشرف الأسرة، ومستقبل هذين الغلامين بنوع خاص، وهو يعلم أن هرب هذا الرجل أو سجنه قضاء على ما للأسرة من شرف، وهو يتمثل ابنة أخته وقد انقطع أملها، وانصرف عنها رفيقا، ويتمثل ابن أخته وقد حيل بينه وبين مستقبله في الجيش، ويتمثل أخته ذليلة مهينة محتقرة، يتمثل هذا كله ولا يرى مخرجا منه إلا أن يقتل هذا الرجل نفسه قبل أن يساق إلى القضاء، فهو يعرض لزوج أخته بالانتحار، فلا يلقاه الآخر إلا ساخرا مزدريا، فيخرج من التعريض إلى التصريح، فيأبى عليه الآخر، فيلح، فيشتد الآخر في الإباء، وكلما مضى الحوار بين الرجلين اشتد في نفس الأب حرص على الحياة والهرب، واشتد في نفس الخال حرصه على شرف أسرته، ومستقبل هذين الغلامين. وكان الأب قد ترك مسدسه على المائدة، فانظر إلى الخال يخرج المسدس من علبته، ويشير به إلى الأب، والأب يعرض عنه، والخال يلح، حتى إذا أسرف في الإلحاح، ومضى في طريقه إلى مكتبه تبعه الخال ومعه المسدس، هائجا ثائرا منذرا، والأب لا يزداد إلا امتناعا، والخال لا يزداد إلا نذيرا، وهذا الخادم قد أقبل يخبر بأن بعض الشرطة بالباب، ثم ينصرف، فيشتد الخال في الإلحاح، ويشتد الأب في الإنكار، ويمضي إلى مكتبه، ويتبعه أخ امرأته، وبينما هما يستبقان في شيء يشبه الصراع يعود الخادم ويقبل الصديق مسينيه وقد أغلق باب المكتب دون الرجلين ويسمع بينهما حوار عنيف، ثم يسمع انطلاق المسدس، ثم يعود الخال في ذهول تستطيع أن تقدره، وقد فهم الخادم وفهم الصديق أنه قد قتل زوج أخته، ولكن الشرطة بالباب، فما أسرع ما يمضي الخادم والصديق إلى حيث القتيل.
وهذه جوليان مقبلة، فيتلقاها أخوها، فتسأله عن زوجها هل أقبل، فيجيبها جوابا غامضا، ويتحدثان فما أسرع ما يصلان إلى الفاجعة، ألم تنظر فترى قفازي زوجها؟ ثم ألم تنظر فتفتقد المسدس؟ إنها لتسرع تريد أن ترى زوجها فيمسكها أخوها، ويخبرها بأنه قد مات ... فهي ذاهلة واجمة، ساخطة على أخيها؛ لأنه لم يحل بين زوجها وبين الموت، معلنة أنها تحب زوجها، وستحبه أبدا، ولكن أخاها يكشف لها عن جلية الأمر، وينبئها بمكان هذا الرجل من خيانتها، وما يزال بها حتى تقتنع، وإذا حبها لزوجها قد تغير، وإذا هي مثقلة قد انهدت قواها أمام هذه الكوارث المتصلة: هذا زوجها قد سرق، وكانت على ذلك تحبه، وهذا زوجها قد قتل نفسه وأسلمها، وأسلم ابنيها للذل والفقر، وكانت على ذلك تحبه، ولكن زوجها قد خانها، فأين ذهب هذا الحب؟ لقد كان تكره أخاها منذ لحظات، ولكنها الآن تثوب إليه، وتريد أن تعانقه وهو يأبى عليها ... فإذا أنكرت عليه هذا الإباء أخبرها بأنه قتل زوجها ... فهي مضطربة إلى اضطرابها، واجمة إلى وجومها، وهي تذكر وصايا التوراة: لا تسرق، وقد سرق زوجها، لا تقتل، وقد قتل أخوها، لا تشهد الزور، وهي مضطرة إلى أن تشهد الزور، وهي مشفقة على أخيها من الخادم، ألم يكن أمس موضوع سخطها؟ ألم يعنفاه؟ ألم يطرداه؟ فما يمنعه أن يثأر لنفسه؟ لقد سرق ولكن زوجها قد سرق، وقد سرق، وهو مضطر لينقذ ابنته من الموت، أما زوجها فسرق ليرضي خليلة، وليمعن في خيانة امرأته، وهذا الخادم قد أقبل ينبئ سفرين بأن بعض رجال الشرطة عندما نظر إلى القتيل لاحظ أن المسدس قد أصاب رأسه من بعيد فأخبره الخادم بأنه أدرك سيده وهو يحاول الانتحار فأراد أن ينتزع منه المسدس فلم يوفق إلا إلى إبعاد ذراعه عن رأسه، واقتنع الشرطي، والخادم يخبر سيده بذلك ليعلمه، وليحرص على ألا يناقضه إن سئل، إذن فهذا الخادم الذي سرق أمس واحتقر، وازدري، وطرد قادر على الوفاء! ولكن ما طبيعة هذا الوفاء؟ أليست هي الكذب، وشهادة الزور؟ وإذن فمتى كان يحسن الخادم، أحين يشهد الزور لينقذ حيا أم حين يصدق في الشهادة ليعاقب مجرما؟ •••
أما سفرين فهو يودع أخته، يريد أن يترك جوارها وجوار ابنيها، فهو لا يستطيع أن يرى هذين الغلامين وقد قتل أباهما، وسيكون حظه من الدنيا أن يرعاهم جميعا عن بعد، ويضمن لهم الحياة.
وهذا الصديق قد أقبل فإذا سفرين يستودعه أخته، ويوصيه بأن يرعاها في احترام وإخلاص، فيعده بذلك.
ولكن أخته تتعلق به ملحة عليه أن يعدها بأنه سيعود أو بأنه سيحاول العودة، فإذا أسرفت في الإلحاح أجابها: فيم الوعد؟ وهل أدري ماذا أصنع؟ وهل أستطيع أن أعلم شيئا؟ أليس الأمر للقدر؟
أنا قاتلة
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ليوبولد مارشان»
Página desconocida