سعادة اليوم
الثعلب الأزرق
ظهر حديثا
الأمر للقدر
أنا قاتلة
ما أجملها
حبان
التيه
شوط القبس
القيد
قانون الرجل
اعرف نفسك
أرض الجحيم
الدمية الجديدة
نشوة الحكيم
بينيلوب
سعادة اليوم
الثعلب الأزرق
ظهر حديثا
الأمر للقدر
أنا قاتلة
ما أجملها
حبان
التيه
شوط القبس
القيد
قانون الرجل
اعرف نفسك
أرض الجحيم
الدمية الجديدة
نشوة الحكيم
بينيلوب
من هناك
من هناك
تأليف
طه حسين
سعادة اليوم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «أدمون جبرو»
وليس ينبغي أن يخدعك هذا العنوان فتقدر أنك ستقرأ تحليل قصة خلقية اجتماعية تعرض للسعادة، وتصور الناس لها في هذا العصر، فليس بين القصة التي نلخصها في هذا الفصل وبين هذا الموضوع صلة ما، وإنما «سعادة اليوم» اسم أداة من هذه الأدوات التي تتخذ في الدور، نستطيع أن نطلق عليها هذا الاسم العامي المبتذل «المكتب»، ونريد به هذه المائدة التي تتخذ للكتابة، وفيها أدراج كثيرة تحفظ فيها السيدات أوراقهن وما لهن من هذه الأدوات الدقيقة المتنوعة. «فسعادة اليوم» في هذه القصة ليست شيئا غير هذا. هو لفظ أطلق في عصر من العصور الفرنسية، وفي طبقة من الطبقات الفرنسية على هذه الأداة الشائعة. وقد أعطت هذه الأداة الشائعة اسمها لهذه القصة؛ لأنها كانت تحتوي سرا من أسرار أسرة، فكشف هذا السر، وكان مصدر طائفة من الأحداث والانفعالات، عبثت بطائفة من القلوب والنفوس عبثا عرضه علينا الكاتب في قوة ودقة ومهارة خليقة بالإعجاب.
ولعلك لم تنس بعد هذه القصة البديعة التي حدثتك عنها في الشهر الماضي، قصة الفؤاد المقسم، ولعلك لم تنس بعد هذه العواطف المختلفة التي تتنازع القلوب، وتعبث بالنفوس فيما رأيت من قوة وعنف، فقصتنا في هذه المرة تشبه تلك القصة من هذه الناحية، فهي قصة جهاد عنيف بين عواطف قوية حادة تتنازع قلبا كريما بريئا من الشر والإثم، ولكنه في الوقت نفسه متأثر أشد التأثر بالحياة الاجتماعية، وما توارث الناس من عادة ورأي وحكم، وما تواضعوا عليه من خلق ونظام. هي قصة نفسية؛ لأنها تعرض عليك نفسا إنسانية في ظرف من هذه الظروف الحرجة العسيرة التي تكشف عن دخائل الإنسان، وتجرده، أو تكاد تجرده، من كل هذه اللفائف التي تلفه بها الحياة الاجتماعية. وهي قصة اجتماعية؛ لأن هذه النفس التي يعرضها عليك الكاتب إنما تألم وتحس ما تحس من عذاب، وتخضع لما تخضع له من حرب وجهاد بحكم الأوضاع الاجتماعية المتناقضة، وبحكم الأحداث الاجتماعية التي تحدث في حياة الناس من حين إلى حين، فتكونهم كما تحب لا كما يحبون، وتصورهم كما تريد لا كما يريدون. وهي قصة خلقية أيضا؛ لأن هذه النفس حين تتألم وتشعر بالعذاب مضطرة إلى أن تظهر شيئا من الجلد والقوة على المقاومة، وهي لا تقاوم عبثا وإنما تقاوم فرارا من شر، وحرصا على خير، ونفورا من الأذى، ورغبة في البر.
وهي بعد هذا كله قصة لم تنس المثل الأعلى الذي يضعه الأفراد والجماعات أمامهم حين يحبون، وحين يختلفون في أمورهم المتباينة، هي هذا كله، وهي إلى هذا كله نموذج اللفظ المختار المنتقى، والحوار الدقيق اللطيف، والمعاني الجيدة التي فكر فيها صاحبها فأحسن التفكير، ونسقها فأجاد التنسيق. وقد يستطيع هذا الفصل من فصول التمثيل الفرنسي أن يغتبط بعض الاغتباط، فهو غني بهاتين القصتين، وهو خير من فصول أخرى سبقته، ولم يظهر فيها كما رأيت في الشهر الماضي إلا لون من هذا القصص التمثيلي الفاتر الذي لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء.
ولأعرض عليك أشخاص هذه القصة كما تعودت أن أفعل بإزاء القصص الأخرى، فقد يكون هذا العرض أيسر سبيل إلى فهمها وتذوقها، ولكني حائر لا أدري بأي هؤلاء الأشخاص أبدأ، فالظاهر أن لهذه القصة بطلا ممتازا تدور حوله، ولكن أشخاصها جميعا أبطال ممتازون، وما أرى في حقيقة الأمر إلا أن لكل واحد منهم حياته القوية المؤثرة الممتازة. أأبدأ بهذا الشاب الذي تدور القصة كلها حوله، والذي يظهر أنه البطل الممتاز فيها، والذي يظهر في الوقت نفسه أنه ضحية أبيه وأمه وعصره؟ ولم لا! فلا بد من أن نبدأ بواحد من هؤلاء الأبطال، فليكن هذا الشاب. •••
جان بليسيه؛ شاب قد ناهز من عمره الثلاثين، جميل المنظر، قوي، عذب الخلق، حلو الحديث، رقيق القلب، ولكنه في الوقت نفسه بطل من أبطال الحرب الكبرى، أدركته ولما يكد يدع المدرسة، فدخلها جنديا، ولكنه أبلى فأحسن البلاء، وتقلب في مراتب هذه الخدمة العسكرية العاملة، وذاق آلامها ولذاتها جميعا، حتى انتهى به الأمر إلى أن أصبح ذا مرتبة عالية في فرقة الطيران، وقد أحسن البلاء في هذا اللون من ألوان الحرب، وجر عليه ذلك خطوبا وألوانا من الشرف، فرأى الموت وصافحه أو كاد، واضطر إلى المستشفى، وتحلى صدره بالأوسمة المختلفة، ثم انجلت عنه غمرة الحرب فإذا هو يعود إلى حيث يقيم أبواه في أحد الأقاليم الفرنسية، ويعيشان عيشة ثروة ونعمة وعمل وهدوء؛ يعيشان في قصر فخم من قصور العصور الوسطى، اشترته الأسرة حين أثرت، ولكن هذا القصر وما حوله من الأرض الواسعة مهملان أو كالمهملين؛ لأن رئيس الأسرة منصرف عنهما إلى مهنة الطب التي يحبها ويكلف بها، فإذا عاد الشاب إلى أسرته أسرعت ففكرت في أن تكل إليه تدبير هذه الثروة على أن يكون ذلك عمله في حياته، وأسرعت فاختارت له فتاة حسناء لتكون زوجه، وظهر اطمئنان الفتى إلى هذا النوع من الحياة، فعني بالقصر والأرض، وشغف بالفتاة، وشغفت به الفتاة أيضا، وأخذا يستقبلان الحياة في ابتسام وبهجة، لولا «سعادة اليوم» التي حدثتك عنها في أول الفصل، والتي ستظهر لهذا الفتى أن نشاطه وسروره وابتهاجه للعمل في هذه الحياة السلمية ليست طبيعية، وإنما هي علة يتعلل بها كارها، وإنما حياته الحقيقية في الحرب. وهذا الشاب من أبوين مختلفين أشد الاختلاف في الطبقة والتربية؛ فأمه من أسرة شريفة بعيدة في الشرف، تحفظ نسبها في القرون الوسطى، وتذكر ما كان لأجدادها من بلاء في تاريخ فرنسا، ومن مكانة في قصور ملوكها، وأم هذا الفتى قد ورثت عن أسرتها الشريفة هذه كل خلالها، فهي مترفة، مهذبة، رقيقة ممتازة، وقد أورثت هذه الخلال كلها ابنها الشاب.
أما أبوه فمن طبقة أخرى، من هذه الطبقة التي كانت مهضومة مظلومة قبل الثورة، والتي اكتسبت الحرية بعد الثورة، وجدت فأضافت إلى الحرية ثروة وقوة، واستئثارا بالحكم، وفيها خلالها، فهي نشيطة عاملة صريحة، شريفة الخلق، وفيها عيوبها أيضا، فهي غليظة خشنة، قليلة الحظ من التهذيب والرقة والامتياز، لا تتنزه عن صغائر تعافها الأرستقراطية، كان جد هذا الفتى يعمل في البريد، ولكنه جد حتى أثرى، وأحسن تربية ابنه حتى أصبح ابنه وزيرا في الإمبراطورية الثالثة، وترك هذا الوزير ابنا أحسن تربيته، فهو طبيب، وهو أبو هذا الشاب.
وهذا الشاب متأثر - كما قلنا - بما ورث عن أمه، نافر أشد النفور من أخلاق أبيه. فهو لا يكاد يحتمل أباه منذ رجع من الحرب. وهو يألم لهذا ولكنه لا يجد إلى اتقائه سبيلا. وأبوه يألم له أيضا، ولكنه يروض نفسه على هذا الألم، وقد علمته الحياة أن يروض نفسه على الألم. فقد نشأ - كما رأيت - ابنا لهذا الوزير، وأدركته حرب السبعين، وما تبعها من الهزيمة فتركت في نفسه ما تركت في نفوس الفرنسيين جميعا من هذه الآثار المؤلمة التي يمثلها ضعف العزيمة والاستسلام، ثم الطمع والشك.
وكان أبوه ضخم الثروة، فزوجه من امرأته الشريفة الفقيرة، وجد هذا الرجل في مهنة الطب حتى أحبها علما وعملا، واتخذها سبيلا إلى البر بالفقراء، والإحسان إلى البائسين، وهو شديد الإعجاب بأسرته وجدها ونشاطها، لا يكره مع ذلك أن يزدري الأشراف وخمولهم وكبرياءهم. ولكن الحياة كانت تدخر له ألما هو الذي جعله بطلا، كما أنه أسبغ البطولة على امرأته أيضا. وليس من الخير أن نتعجل فنكشف لك عن هذا الألم، فهو قوام الشطر الأول من القصة.
فلندع هذه الأسرة، ولنذكر الشخص الرابع من أشخاص القصة، وهو «جرمين داجوزون» خطيبة جان، فهي فتاة جميلة فتانة، ولكنها فقيرة، هي من أسرة نبيلة، ولكن أباها كان سيئ السيرة والخلق، وأمها كانت تعسة سيئة الحال، فأما أبوها فقد مات، وأما أمها فقد بقي لها من هذه الحياة السيئة ضرب من الاضطراب العقلي والخلقي، يمثله الغرور والشره، والتكلف، وما إلى هذه الأخلاق مما يجعل الإنسان موضع السخرية والإشفاق في وقت واحد، ولكن الفتاة لم تتأثر بشيء من هذا، وإنما نشأت نبيلة ذكية القلب، جلدة، قوية الإرادة، قادرة على المقاومة، ولكنها رقيقة محبة أيضا، ولم تكد تعرف هذا الفتى حتى أحبته حبا قويا عنيفا، ولكنه شريف ممتاز، يشبه حب الفتى لها.
هؤلاء هم الأشخاص، لم أعرض عليك من أمرهم إلا ما يمكن أن يعرف قبل أن تحدث حوادث القصة، فتكشف من نفسياتهم عما كان مخبوءا. •••
فإذا كان الفصل الأول، فنحن في أعلى القصر، في هذه الغرف التي تتخذ ملقى للأدوات العتيقة بعد أن يستغنى عنها، ويزهد فيها، فتترك في هذه الغرف مهملة وديعة في أيدي الزمان، يفنيها قليلا قليلا، وتهمل معها هذه الغرف قد أغلقت أبوابها من دون هذا المتاع، كما تغلق المقابر دون ما تودع من أجسام الموتى. وقد صعد جان إلى إحدى هذه الغرف، ففتح أبوابها ونوافذها للهواء والضوء، وأخذ يتفقد ما فيها من متاع في إعجاب وشغف، وما هي إلا أن أخذ ينسق من هذه الغرفة وما فيها مكانا يستقبل فيه خطيبته وأمها وأبويه لتناول الشاي. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لخطيبته حين علمت بأن في أعلى القصر أدوات قديمة من متاع القرون الوسطى، فأقبل الفتى يهيئ لها هذه الغرفة وهو يحاور في ذلك خادمه حوارا لذيذا خفيفا، فهو كلف بهذا المتاع القديم؛ لأنه يمثل حياة آبائه، ولكن خادمه منصرف عن هذا المتاع لأنه عتيق، قد عمل فيه الفناء، ولأنه يؤثر الجديد الذي لم ينله البلى. وانظر إلى الغرفة قد نسقت تنسيقا حسنا، وإلى طاقات الزهر قد وضعت في هذه الآنية القديمة، ثم انظر إلى الفتاة قد أقبلت، فما تكاد تنظر إلى هذه الأشياء حتى تفتن بها، وتمضي في الإعجاب والثناء. وما كان أخلقها أن تمضي في ذلك إلى غير حد لولا أنها تحب صاحبها، وصاحبها يحبها، وخلوتهما ضيقة محدودة، فلا بد من أن يتحدثا في الحب، ولا بد من أن يتبادلا هذه القبل التي يفتن الخطيبان في انتهاز الفرص لها.
وهما يتحدثان في حبهما في خفة ورشاقة وجد أيضا، ونحن نحس أننا لسنا أمام حب فاتر أو نزق، وإنما هو الحب القوي الحاد الذي لا يكاد يدخل القلب حتى يملأه ويستأثر به، ويندفع منه إلى جميع الملكات والعواطف والحواس فيخضعها لسلطانها، هذا الحب الذي كله ثقة وأمل، ورغبة واحترام وطمأنينة، وهما في هذا الحديث، وفي هذا الحب، وإذا الأسرة قد أقبلت، فلا ألخص لك ما يدور من حوار حول المتاع، ثم حول الشاي، فقد تستطيع أن تستغني عن هذا كله، وإنما ألاحظ أن الأب قد أقبل فرحا مبتهجا، فتغنى مع الفتاة بعض أغاني الأقاليم، وكانت الفتاة بهذا مبتهجة، وأمها كذلك، وامرأته أيضا، إلا الفتى فقد غاظه ذلك، وضاق به ذرعا، ولم يستطع أن يخفي ضيقه، بل عرض باللوم لأبيه، وقبل الشيخ هذا اللوم في ألم وغيظ وحزن وسخرية. وانقضى الشاي بين الضحك والحزن، تتقيه أم الفتى ما استطاعت.
ثم يعلن الشيخ إلى الفتاة أن في القصر غرفا كهذه الغرف فيها متاع أقدم من هذا المتاع وأجمل، فترغب الفتاة في أن ترى، ويقبل الشيخ على أن يظهرها على هذا المتاع. وينصرفون جميعا إلا الخطيبين تخلفا فيما يظهر ليختلسا كلمة أو قبلة، والفتاة تدعو صاحبها إلى أن يتبعها إلى حيث ترى المتاع، وهو يأبى ويتعلل، وما هي إلا أن تفهم من تعلله أنه لا يريد أن يرافق أباه، وأنه ضيق الذرع بأبيه وطبقة أبيه، وما لهذه الطبقة من عادة، وما فيها من عيب، وأنه شديد الإعجاب بأمه وطبقة أمه، وما فيها من ترف ولين ورقة، وانظر إليه وقد كشف هذا المتاع القديم الذي كان يسمى «سعادة اليوم»، فهو يظهر الفتاة على محاسنه، وما فيه من رشاقة فنية، وهو يوازن لها بين هذه الأداة الرشيقة التي تمثل ذوق أمه وأسرتها الشريفة، وبين تلك الأدوات الغليظة التي يمتلئ بها القصر، والتي تمثل ذوق هذه الطبقة الوسطى التي سادت بعد الثورة.
وقد تركته الفتاة، فعمد إلى هذا المتاع، وأخذ ينظر في أدراجه، ويستنشق رائحتها في شغف وفتنة؛ لأن هذا المتاع قد كانت أمه تستخدمه في شبابها، فهو إنما يتنسم شباب أمه، وقد جذب إليه درجا فتنسمه، ثم حاول أن يرده فيستعصي عليه كأن شيئا يعترض دونه، فينظر فإذا حزمة من الورق، فيسرع إليها متلهفا، ويتردد ثم يفضها، فإذا رسائل تنثر، فيسرع إلى هذه الرسائل يجمعها ويخفيها في جيبه، ولكنه يسمع صوتا فيبالغ في السرعة، ثم ينهض فينصرف، وقد أقبل أبوه فرآه موليا، ونظر فإذا رسالتان على الأرض قد أخطأهما الفتى، فيسرع إليهما فيدسهما في جيبه. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أيام على ما قدمت لك، والقوم مجتمعون في غرفة المائدة بعد العشاء، ومعهم الخدم جميعا كأنهم في حفل منزلي، والشيخ قائم أمام نار الموقد المتأججة يشتوي فيها بنفسه الشاه بلوط، أو «الكاستنيا» - كما يسمونه الآن - وهو يقص على الفتاة وأمها من عادات الإقليم وأحاديثه ما يضحكهما ويلذهما، وهم جميعا مبتهجون إلا الشاب فقد تنحى وانصرف إلى كتاب كأنه ينظر فيه، وإلا أم الفتى فهي قلقة لما تشاهد من ضيق ابنها، وسوء الحال بينه وبين أبيه. وقد انتهى عبث الجماعة إلى آخره، وأعلن الشيخ أن ستجمع طائفة من هذا الشاه بلوط الذي يشتوي، تخرج من الجمر، ثم يوضع عليها غطاء ما، ثم تجلس عليها أصغر الحاضرين سنا، وقد قبلت الفتاة، والخدم مبتهجون، وأمها مترددة متكلفة، ولكن الفتى يترك كتابه وينهى خطيبته عن هذا العبث فتأبى، فيلح فتزداد إباء، فيبالغ في الإلحاح فتغضب، ويفسد الأمر بينهما بعض الشيء، وتنصرف غير حافلة بأمها ونذيرها، وقد أعلنت أن خطيبها يجب أن يعرفها حق المعرفة، وأن يعلم قبل أن يتخذها له زوجا أن لها إرداة، وأنها قد تغلو في هذه الإرادة أحيانا. وقد فسد الحفل، وانقلب السرور شيئا يشبه الحزن.
ومضى كل إلى مضجعه، ويظل المسرح خاليا حينا، ثم إذا الشاب قد أقبل إلى المكتبة يلتمس فيها شيئا، فيستخرج مجمعا للصور، وينظر فيه كأنه يبحث عن صورة بعينها، حتى إذا انتهى إليها اختلسها ودسها في جيبه، وما يكاد يفرغ من هذا حتى يحس صوتا، فيرد مجمع الصور، ويظهر أنه يأخذ كتابا، وقد أقبل أبوه، فيسأله ماذا يصنع، فيجيب الفتى أنه قد امتنع عليه النوم فأقبل يلتمس كتابا يستعين به على الأرق، يجيب الشيخ: وهذه حالي، فلنتحدث قليلا.
وما يكادان يبتدئان الحديث حتى يصل الشيخ إلى ما كان يريد، فهو يريد أن يتعرف من شأن ابنه مصدر هذا الضيق الذي ظهر عليه منذ أيام، والذي أقلق أمه، ونغص عليها الحياة، أو قل إن الشيخ يعرف مصدر هذا الضيق، ولكنه يريد أن يتحدث فيه إلى الفتى. أما الفتى فيتكلف الجواب، ويحتال في اتقاء الشيخ، ويعلن إليه أنه ضيق الذرع بهذه الحياة التي يحياها بعد الحرب، والتي لا عمل فيها، وأنه يريد أن يعمل وأن يكسب، وألا يكون مدينا بحياته لأحد. أما الشيخ فلا تخدعه هذه المحاولة، وما هي إلا أن يصل إلى عرضه في صراحة، فيعلن إلى الفتى أنه قد عثر بطائفة من الرسائل، ولكنه نسي منها اثنتين ويدفعهما إليه، وأنه قد قرأ هذه الرسائل وعرف ما عرف من أمرها، وأن هذه الرسائل هي التي تنغص عليه حياته، فإذا أظهر الفتى شيئا من الدهش أنبأه الشيخ في هدوء وألم مبتسما بأنه يعرف ما في هذه الرسائل منذ ثلاثين سنة، ثم يقص على الفتى القصص.
فليس الفتى ابنه، وإن كان ابنه أمام القانون وأمام الناس وأمامه هو أيضا؛ ذلك أنه قد كان تزوج من امرأته دون أن تحبه كما يتزوج أصحاب الثروة من الفقيرات في غير حب ولا كلف، فلما لم يجد من امرأته حبا ولا حنانا ولا هياما زهد فيها، وانصرف عنها إلى اللهو والعبث، وفرحت هي بهذا الزهد والانصراف، وفي ذات ليلة لقي صديقا له كان رفيقه في المدرسة، وكان من الأشراف، وكان قد أحب امرأته، وكانت قد أحبته، وكانا يريدان الزواج، ولكن الفقر حال بينهما وبينه، فلأمر ما حرص صاحبنا على أن يستأنف الصلة بينه وبين صديقه القديم. وانظر إليه يتهم نفسه أشنع التهم في لطف ورقة وكرم أيضا. انظر إليه يحدث الفتى بأنه اجتهد في أن يتردد صديقه على بيته، وتتجدد الصلة بينه وبين حبيبته القديمة لأمر لا يكاد يتبينه، وربما كان منه أنه أحب أن يثير في نفس امرأته حبها القديم لهذا الرجل لعلها تتورط في شيء من الإثم، فيتخذ ذلك حجة عليها، وعذرا لنفسه من آثامه الكثيرة. ومهما يكن من شيء فقد كان ما لم يكن منه بد، وأثمت المرأة، وكان الفتى نتيجة هذا الإثم، فأما أبوه فقد ندم وألح عليه الندم حتى التحق بجيش من جيوش المستعمرات الأفريقية، وجاهد حتى اشترى خطيئته بالموت. وأما أمه فقد لقيت في الحمل آلاما ثقالا، وتعرضت في الوضع لخطر الموت، ووقف زوجها بين الأمانة لمهنته كطبيب يجب أن ينقذ المريضة، والانتقام لنفسه كزوج يريد أن يقتل الخائنة، فوفى لمهنته وأنقذ المريضة، حتى إذا تم لها الشفاء لم يجد في نفسه القدرة على استئناف الانتقام فصفح وعفا، وندمت زوجه وثابت، وكانت بينهما مودة استحالت حبا قويا شريفا استفاد منه الطفل، فنشأ بين قلبين يحبانه، ويعطفان عليه.
وقد سمع الفتى هذا القصص، ولكنه بطل من أبطال الحرب قد تعود الهول وتجشمه، وتعود المكروه وصبر نفسه عليه، فهو يألم ولكنه يكظم ألمه. وهو بين أمرين يتنازعان قلبه ونفسه؛ السخط على أمه وأبيه لأنهما وضعاه في هذه المنزلة الكريهة، والبر بهذه الأم التي لقيت في سبيله ما لقيت من ألم، وتعرضت في سبيله لما تعرضت له من خطر، وهذا الشيخ الذي كان يظنه أباه، والذي كان ينكره ويضيق به، والذي ظهر الآن أنه ليس منه في شيء؛ أيحبه لأنه نشأه وترباه كما ينشئ الأب ابنه في مودة وحنان وحب، أم يبغضه لأنه ليس منه في شيء، ولأنه هو الذي عرض أمه للإثم والخطيئة، وهو الذي اضطر أمه إلى أن تلده في غير رضا الأخلاق والقانون؟ وأبوه! أيحبه لأنه أبوه أم يبغضه لأنه ورط أمه في الإثم، وجنى عليه هذا الوجود المنكر؟ وخطيبته! ماذا يصنع بها؟ أيمضي في حبها، ويكتمها ما عرف من أمره، فهو إذن يغشها ويدلس عليها، أم يظهرها على كل شيء، وإذن فإلى أي حال ينتهي حبه وكبرياؤه وكرامته؟
وهذه الثروة الضخمة التي يكلها إليه الشيخ أيقبلها وليست له، أم يردها، وإذن ماذا يصنع؟ فأنت ترى إلى هذا الموقف المعقد، وإلى ما فيه من حرج.
وموقف الشيخ! أتظنه يخلو من الحرج؟ كلا! فقد عفا عن امرأته، وقد استطاعت امرأته أن تمحو ما في نفسه من موجدة، وهو يحب امرأته ويريد أن يحميها من كل مكروه، وقد كان هذا يسيرا ما خفيت القصة على الفتى، ولكن الفتى قد عرف القصة، ووقف الشيخ منه في صراحة موقف الغريب فماذا يصنع؟ وكيف يعصم امرأته من احتقار ابنها وسخطه؟ وهو كان أحب الفتى، واتخذه ابنا حقا، وقد ظهرت خبيئة الأمر فما له بشيء هذا الفتى؟ ومع ذلك فلم يأثم الرجل، ولم يقترف خطيئة، وإنما تكلف اتهام نفسه ليخفف عن امرأته، وليعطف الشاب على أمه، ما خانها، ولا تعمد إغواءها وتوريطها في الإثم، ومهما يكن من شيء فهو لا يطلب الآن إلا أن تجهل امرأته أن ابنها قد ظهر على جلية الأمر، وهو يائس أو كاليائس من حب هذا الفتى، وقد ضحى بنفسه مرة، فلم لا يضحي مرة أخرى على أنه قد لقي من حب امرأته ما عزاه عن تضحيته الأولى، فلعله يلقى من إحسانه إلى الناس، ومن حب الفتاة ما يعزيه عن التضحية الثانية. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى أسبوعان على ما كان في الفصل الثاني، ونحن نرى الشيخ في عيادته يستقبل المرضى، ويطب لهم، ولكنه متعب قد ظهر عليه السأم والضيق، حتى إذا انصرف آخر مرضاه دعا الخادم فيأمرها بأن تذهب إلى الصيدلي، وتطلب إليه أن يحتال في ألا تدفع إليه إحدى مرضاه ثمن الدواء، فهو كثير وهي فقيرة، ولكنها عزيزة النفس لا تقبل الصدقة، فليخدعها الصيدلي إذن، وليخيل إليها أن الدواء رخيص، وليضف قيمته الحقيقية إلى حساب الطبيب.
وانظر إلى امرأة الطبيب، قد أقبلت محزونة تشكو إلى زوجها ضيق ابنها، وانصرافه عنها وعن خطيبته، وتلتمس لذلك العلل والأسباب، وتخبر زوجها بأن الرسائل متصلة منذ أيام بين ابنها وبين وزارة الحرب، وهي مشفقة من ذلك، والشيخ يعزيها في مودة وحب، ولكنه لا يظفر من تعزيتها بشيء، وهي تطلب إليه أن يتحدث إلى الفتى ويعظه لعله يكشف من أمره شيئا، ولعله يرده إلى حب أمه وخطيبته، والرفق بهما، فيتردد ثم يذعن، وتنصرف امرأته وترسل إليه الفتى!
وما هي إلا أن يتحدثا حتى نعلم أن الفتى قد طلب إلى وزارة الحرب عملا، فعرضت عليه بعثة في الصين حيث الحرب قائمة فقبل، ومهما يفعل الشيخ، ومهما يحتل، ومهما يتلطف للفتى، فلن يغير رأيه وعزمه، والموقف هنا بديع مؤثر حقا، اللين حينا والاستعطاف، والعنف حينا والنذير، والفتى ثابت لا يتزحزح عن موقفه قيد شعرة، ولم يتزحزح عن موقفه وهو ابن الحرب قد كونته كما أرادت لا كما أراد! لقد أنفق من عمره أربع سنين في قتل وتدمير، يقتل النساء والأطفال والشيوخ والشبان، لا رأي له في ذلك ولا إرادة، ويواجه الموت يتقيه مرة، ويرسله على الناس مرة أخرى، فكيف تريده على أن يكون كغيره من أبناء السلم! إنه يعلم حق العلم أنه يمزق قلب في هذه الصورة! فليكن مصدر ألم، وليكن مصدر موت، فكذلك أرادت الجماعة أن يكون. وقد أيس منه الشيخ، وأقبلت أمه يائسة أيضا تسأله: أحق ما أنبأتني به خطيبتك من أنك مرتحل إلى الصين؟ يجيبها: نعم! فما أشد تأثير هذا الموقف بين الفتى وأمه تستبقيه ضارعة فلا يحفل. تحاول أن تعرف السر الذي يضطره إلى هذا فلا تفلح، وهي تفترض الفروض وتتوسل إلى الفتى بخطيبته، ثم يخيل إليها أنه لا يحب هذه الفتاة فتجتهد في صرفه عنها. ويكون بينهما حوار بديع مؤلم، نتمثل فيه نحن إلى أي حد نسيت هذه المرأة إثمها، وانصرفت عن خطيئتها، وإلى أي حد أثر هذا الإثم في نفس الشاب، وأفسد عليه أمره.
وينصرف الشاب وقد أيأس الشيخين من نفسه، ولكن أمه قد عرفت الآن أنه قد ظهر على جلية الأمر! فانظر إليها منتحبة بين ذراعي زوجها، وهو يعزيها وينبئها بأنه قد اتهم نفسه ما استطاع ليخفف عنها الوزر أمام ابنها. فإذا رآها تسرف في البكاء خيل إليه أنها تبكي ندما لما تذكر من إساءتها إليه، ولكنه لا يلبث أن يتبين أنها إنما تبكي على ابنها لا عليه، فليضح بنفسه مرة ثالثة!
أليس يحب هذه المرأة، أليس يحب هذا الفتى، فليعز هذه وليجتهد في إمساك ذاك، ولكن ليس إلى إمساك الفتى من سبيل. •••
فنحن في الفصل الرابع وقد أخفق الشيخ وامرأته والفتاة في صرف الفتى عن عزيمته، ونحن في طولون ثغر فرنسا الحربي حيث يأخذ الفتى سنته الحربية إلى الصين. وقد أقبل الجماعة يودعونه. ونحن في أحد المطاعم المطلة على البحر حيث السفينة، وحيث يستطيع المودعون أن يروا السفينة حين تقلع، ويتبعوها بأبصارهم حتى تغيب. وأنا أعفيك من هذا الحوار اللذيذ الطويل بين الشيخ وصاحب المطعم، وأنتهي مسرعا إلى هذا الموقف البديع بين العاشقين، فقد التقيا وتعاهدا على الحب والأمانة والوفاء. وأعلن كل منهما إلى صاحبه خبيئة نفسه، ولكن انظر إلى الفتاة تطلب إلى صاحبها أن يرفق بأمه فقد أثمت كارهة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم لنفسه العصمة من الإثم! وأن يحب الشيخ ولو قليلا فقد كان زوجا برا، وأبا رحيما، وما ذنبه في كل ما كان!
فإذا سأل الفتى صاحبته كيف عرفت سره؟ أجابته: لقد أخبرتني به أمك، واتخذتني سبيلا إلى استعطافك، وحملك على الرفق، وانظر إلى الفتى وقد تأثر بهذا كله؛ بمكان أمه من نفسه، ومكان هذا الشيخ الخير البريء، ومكان هذه الفتاة الطاهرة المحبة تستعطفه على هذين البائسين، وقد أقبل الشيخان، فالفتى رفيق بهما ما استطاع، يظهر لأمه من العطف والمودة ما يملؤها رضا، ويقبل الشيخ ولكن دون أن يقول له شيئا، والشيخ يرضى بهذه القبلة وهو واجم؛ لأنه كان ينتظر كلمة مودة لم يظفر بها.
وقد أقبل ضابط من السفينة يتعجل الفتى، فيودع القوم جميعا، ولكنه لا يقول للشيخ هذه الكلمة التي كان ينتظرها ، وقد مضى نحو السفينة وهم جميعا يتبعونه بأبصارهم إلا الشيخ فهو على كرسيه واجم محزون، ولكن القوم يسمعون من الفتى صوتا لا يتبينونه، ثم لا يلبثون أن تبينوا، فإذا الفتى يدعو أباه، وإذا هم جميعا يدفعون الشيخ دفعا إلى النافذة حيث يرى الفتى، ويسمعه يدعوه بهذه الكلمة التي كان ينتظرها «إلى اللقاء يا أبت!»
الثعلب الأزرق
قصة تمثيلية وضعها الكاتب المجري فرانسوا هرزج، وصاغها في الفرنسية الكاتب الفرنسي «رينيه سوسيه»
يقول النقاد الفرنسيون لهذه القصة: إنها وضعت منذ خمس عشرة سنة فلقيت فوزا عظيما في بودابست، ثم ترجمت إلى لغات مختلفة، فأعجبت بها الجماهير في فينا وبرلين وروما ولندن وأمريكا، ولكنها لم تمثل في باريس إلا هذا العام.
والنقاد الفرنسيون يجمعون، أو يكادون يجمعون، على أنها قصة جيدة، متقنة الوضع، بديعة التنسيق والتأليف، ولكن هذه القصة لم تنقل إلى الفرنسية كما وضعها صاحبها، وإنما صاغها الكاتب الفرنسي صيغة جديدة، فجعل أشخاصها فرنسيين، وأجرى حوادثها في ضاحية من ضواحي باريس، ولاءم بين نظامها وبين الذوق الفرنسي في التمثيل، ومن هنا يتفاوت النقاد الفرنسيون في تقدير ما ينال المؤلف والصائغ من حظ في الإحسان والإجادة، ثم من حظ في الثناء والتقريظ، فمنهم من يضيف جمال القصة إلى المؤلف المجري، ويأسف أسفا كثيرا أو قليلا لأن الصائغ الفرنسي لم يكن أمينا في الترجمة والنقل، ومنهم من يضيف هذا الجمال إلى الصائغ الفرنسي، ويرى أنه قد أحسن الإحسان كله حين غيرها وعرضها على الفرنسيين في هذه الصيغة الجديدة التي تلائم ذوق باريس.
وقد يكون من العسير علينا أن نحكم في قضية كهذه؛ لأننا نجهل الأصل المجري، ولم نوفق لترجمة ألمانية أو إنجليزية لنوازن بين الأصل وبين الصيغة الفرنسية لهذه القصة، لا سيما أن النقاد الفرنسيين يحدثوننا بأن الكاتب الفرنسي قد غيرها تغييرا شديدا، وبدل أشخاصها تبديلا باعد بينها وبين الأصل إلى حد ما.
على أن النقاد مهما يختلفوا فيما بينهم متفقون على أن الكاتب المجري نفسه متأثر في قصته هذه وفي غيرها من القصص التمثيلية بالأدب الفرنسي، وهم يذكرون تأثره بموباسان، وهنري بيك، وماريفو، فهي إذن في رأيهم قصة فرنسية عادت إلى فرنسا.
ومهما يكن من شيء فإن من المحقق أن هذه القصة على جمالها ودقة موضوعها، وعلى ما فيها من قوة في التصوير لا تخلو من شيء غير قليل من ضعف التأليف، فأنت حين تقرؤها لا تستطيع أن تنسى أنك تقرأ قصة وضعت للتمثيل بحيث لا يستطيع جمالها الفني أن يشغلك عن تأليفها، وعما تكلف الكاتب فيها من هذه الحيل التي يتكلفها أصحاب التمثيل للملاعب، فحركات الأشخاص مثلا حين يدخلون ويخرجون، وحين يذهبون ويجيئون، وحين يظهرون ويستخفون ليست حركات طبيعية، وإنما هي في كثير من الأحيان حركات متكلفة، نرى تكلفها ونحسه، حتى ليخيل إلينا أن هؤلاء الأشخاص قد اتصلوا بحبل أو سلك يجذبه شخص خفي ليظهروا حين يجب أن يظهروا، وليستخفوا حين يجب أن يستخفوا، وما هكذا يكتب أفذاذ الكتاب في التمثيل؛ أذلك عيب الكاتب أم ذلك أثر الصائغ؟ هذا شيء لا نستطيع الفصل فيه كما قدمنا.
وموضوع القصة نفسه مطروق، سبق الكاتب إليه غير مرة، سبق إليه في قصص مختلفة، منها المضحك، ومنها المحزن، ومنها ما هو بين بين، ولكن هذا كله لا يمنع أن هذه القصة جيدة، يجد قارئها لذة قوية، ويضطر إلى أن يقف عند بعض فصولها وقفة التفكير والتأمل، وليس أدل على ذلك من هذا الفوز العظيم الذي ظفرت به في عواصم أوروبا وأميركا.
وليس في هذا شيء من الغرابة، فقد يطرق الموضوع الواحد مرات ومرات دون أن يحول ذلك بينه وبين الحدة وقوة التأثير في نفوس الأفراد والجماعات، ذلك حين يكون الموضوع نفسه قويا قوة لا تذهب بها الأيام، ولا يعمل فيها تغيير الظروف، وحين يكون الموضوع شائعا مألوفا، نشهده في مواطن كثيرة، وفي ظروف مختلفة.
ولست في حاجة إلى أن أذكرك بهذه الموضوعات الخالدة التي تناولها الشعر القصصي اليوناني، وأخذها عنه الشعر التمثيلي اليوناني فزادها قوة وتأثيرا، ثم أخذها عنه التمثيل الحديث، والقصص الحديث في فرنسا وألمانيا وإنجلترا فلم يزدها إلا قوة وقوة على الأخذ بمجامع النفوس كما يقولون.
والموضوع الذي طرقه كاتبنا من هذه الموضوعات التي إن لم تكن شائعة مألوفة في بعض البيئات التي قلما يختلط فيها الرجال والنساء، فهي شائعة مألوفة في كثير من البيئات الأوروبية، وهو موضوع يسير جدا: زوجان لم يصل بينهما الحب، ولا ما يشبه الحب، وإنما قامت صلاتهما الزوجية على المنفعة أو على المصادفة ليس غير، فهما يعيشان عيشة هادئة وادعة، لولا أن لهما صديقا قد اتصل بهما، وقويت بينه وبينهما الصلة، فهو يلازمهما لا يستطيع أن يقضي يوما دون أن يراهما، لا يستطيعان هما أيضا أن يحتملا الحياة إذا لم يرياه.
وهو خير ليس بالشرير، ولا بصاحب المجون والدعابة، ولكنه على ذلك صاحب قلب يخفق، ونفس تحب، فلا يستطيع إلا أن يحب صديقته وامرأة صديقه، وهو يخفي على نفسه هذا الحب، ويصوره في صورة الصداقة والمودة الخالصة، وربما كان صديقه مثله مخدوعا أو ربما لم يكن مخدوعا، وربما خدعت المرأة نفسها، وربما عرفت حقيقة الأمر، وأحبت هذا الصديق، ولكنها تجاهد هذا الحب، وتنتصر عليه، تسلك إلى ذلك ما تستطيع أن تسلكه من طريق، ولعلهم يستطيعون جميعا أن يعيشوا مطمئنين إلى هذا الحال الغامضة الواضحة معا، هم سعداء، أو هم يحسبون أنفسهم سعداء، ولعلهم يستطيعون أن ينفقوا حياتهم كلها في مودة كلها صفو مطرد، لولا أن يعرض لهم من الظروف ما يزيل الغشاوة عن الأبصار، ويشق الغلاف عن القلوب، فيروا ... وهم إذا رأوا قد يسعدون وقد يشقون.
هذا الموضوع مألوف في البيئات الأوروبية، تنشأ عنه في كثير من الأحيان ألوان من التعقيد في حياة الأسر، وصلات الأصدقاء، منها ما ينتهي إلى السلام والدعة، ومنها ما ينتهي إلى الشر والنكر، وقد طرقه كاتبنا هذا فصوره تصويرا حسنا مؤثرا، ولكنه لا يخلو - كما قلنا - من تكلف، ومن غلو أحيانا.
وأنا - كالنقاد الفرنسيين - شديد الإعجاب بشخصية هذه المرأة التي تدور القصة حولها، أو قل بقدرة الكاتب على اختراع هذه الشخصية الغريبة التي استطاعت أن تقاوم مهارة الصائغ الفرنسي، فاحتفظت بشيء غير قليل من طبيعتها المجرية، فهي غامضة أحيانا أشد الغموض، وهي واضحة أحيانا أشد الوضوح، وهي ضاحكة مغرقة في الضحك، ولكنها في الوقت نفسه تكفكف عبراتها، وتمسح دموعها مسحا رقيقا.
ولست أدري إلى أي حد وفق الكاتب والصائغ في شخصية الزوج، فأنا أفهم ألا يخلو الرجال ولا سيما العلماء من ضعف وسذاجة، ولكني أرى أن الكاتب قد صور هذا الزوج تصويرا اعتمد فيه على خياله أكثر مما اعتمد فيه على الحقائق الواقعة. •••
نحن في سان كلو؛ ضاحية من ضواحي باريس، في بيت تظهر عليه النعمة والثروة، وفي غرفة يظهر عليها الترف ولين الحياة، كما يظهر عليها الجد والعمل، ونحن نجد في هذه الغرفة رجلا قد جلس إلى مائدة بين الكتب والأوراق، وهو يتحدث ويتحدث لا يكاد يقف ولا يستريح، هذا الرجل هو العالم النباتي «فرانسوا دوجلي»، وهو يتحدث إلى مصوره الذي اتخذه ليصور له أنواع النبات في كتاب يهيئه للنشر، ولا نكاد نسمعه يتحدث حتى نتمثل العالم بما فيه من عيوب وخلال، فهو يتكلم مندفعا في موضوعه لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن الحديث شيء، وهو يتكلم لأن الموضوع يلذ له لا لأنه يريد أن يفيد سامعه، وسامعه متبرم به يريد أن يخلص منه ليدرك القطار الذي سينقله إلى باريس، وهو يحتال في هذا التخلص فلا يوفق له إلا بعد مشقة شديدة، وهو يخلص وقد استيأس من إدراك القطار.
فإذا انصرف هذا المصور، وخرج الأستاذ من غرفته لحظات، أقبلت إلى هذه الغرفة فتاة ظريفة، حسنة الصورة، متجملة ظاهرة الرغبة في أن تعجب الأستاذ وتقع من نفسه، تدخل، فما أسرع ما تهوي إلى علبة الحلوى فتزدرد منها شيئا، وتخفي شيئا آخر في حقيبتها، ثم تقف منتظرة أن يعود الأستاذ، فإذا عاد وتحدث إليها عرفنا أنها كاتبته التي تنسخ له ما يهيئ من فصول كتابه.
وهو يتلقاها مبتسما لها مبتهجا بلقائها، يسألها عما كتبت، فإذا هي قد أتمت عملها على أحسن وجه، فيقدم إليها بعض الحلوى فترفض معتذرة بأنها لا تحب الحلوى، فإذا قدم إليها السجارة اعتذرت بأنها لا تدخن، ثم يتركها لحظة وقد ترك سجارته على المائدة، فما أسرع ما تهوي إليها فتزدرد منها جرات، ثم تردها حيث كانت، ويعود الأستاذ فيستأنف معها الحديث، وإذا هي تظهر له رسما من عملها فيه صورة نبات، فلا يكاد الأستاذ يراه حتى يفتن به، وحتى يعلن إليها رغبته في أن تكون مصورته، وأن تضع له هي صور الكتاب، وهي سعيدة مغتبطة تصفق بيديها، وتكاد تقبل الأستاذ فرحا وابتهاجا، ولا تسل عن سعادتها حين يعلن إليها الأستاذ أنها ستقيم معه منذ غد، فتكتب له وتصور وتنسخ على الآلة الكاتبة.
وهما في هذا الحديث وإذا رجل يقبل، وهو «جان دي فيلييه» صديق الأسرة وخليطها، كان قد سافر يقضي الصيف في الألب، ولكنه استثقل السفر فعاد إلى باريس، وهو سعيد بهذه العودة؛ لأنه سيرى صديقيه، وسيأخذ مكانه بينهما كدأبه في كل يوم، وهو يسأل صاحبه عن امرأته، فيحدثه هذا بأنها ذهبت إلى باريس تصيد الثعلب الأزرق؛ لأنها مفتونة به، ولن تستريح حتى تظفر بهذا الصيد، ولكنها لا تصيده من الغابات ولا من الحقول، وإنما تصيده من المتاجر، فهي لا تلتمس الثعلب، وإنما تلتمس فرو الثعلب، وهي تخرج في طلبه كل يوم إذا أصبحت، ولا تعود إلا إذا أقبل المساء، وهو يدعها وما هي فيه من صيد؛ لأنه مشغول ببحثه عن النبات.
ويمضيان في الحديث حتى يصلا إلى لون من الطعام يحبه هذا الرجل الذي أقبل، وإذا الفتاة الكاتبة المصورة تزعم أنها تحسنه، وتعد بعمله إذا كان الغد، فلا تسل عن ابتهاج الأستاذ بهذه الفتاة النادرة الكاتبة المصورة الطاهية معا، ويتم الاتفاق بينهم على أن تهيئ لهم الفتاة من الغد هذا اللون من ألوان الطعام، ثم تتركهما يتحدثان.
والرجل يقص على صاحبه أنه رأى سيارة الراقص المعروف «ريالتو»، فأعجبته، ولن يستريح حتى يشتريها منه، وقد ذهب ليتحدث إليه في ذلك، فلقي خادمه يحمل زجاجات الشمبانيا، وألوانا من الطعام، ولكن الخادم أنبأه أن سيده غائب، فانطلق وهو يعلم أن سيده مشغول بإحدى السيدات لا يستطيع أن يستقبله، ذلك أن «ريالتو» هذا أستاذ رقص، وهو أجنبي جميل الطلعة، تفتن به تلميذاته عادة.
ثم يمضي «جان» في حديثه فيقول: إنه انصرف من بيت الراقص إلى الغابة، فما هي إلا أن رأى الراقص في سيارته ومعه امرأة لم ير منها إلا ساقها وحذاءها، وقد استقرت في نفسه صورة هذا الحذاء، فهو يصفه ويحقق وصفه حتى يسئم صاحبه، و«جان» هذا موسيقي بارع، فهو يجلس إلى «البيانو» ويأخذ في الإيقاع، وقد انصرف عنه صديقه إلى عمله.
وهما في هذه الحال إذ تقبل الزوجة «سسيل»، وكأنها قد سمعت إيقاع البيانو فعرفت وجود صديقها، فدخلت في رفق، ووقفت إلى جانبه، وأخذت ترافقه مغنية وهو يوقع، فيلتفت، ثم تكون التحيات، ثم الحديث، ثم تقع منه نظرة على ساقها وحذائها وإذا هو صعق، أو كالصعق؛ لأنه عرف الساق، وعرف الحذاء، وهو يعود فيصف الحذاء مرة أخرى لصاحبه، ويذكر الراقص، وتسمع سسيل هذا فتضطرب قليلا، ثم تخفي من أمرها ما تستطيع، وهي تبالغ في الإخفاء، وهو يبالغ في الوصف والإعادة والتكرار حتى يسأم الزوج فينصرف إلى عمله، ويدعهما يتحدثان كدأبهما دائما، فإذا خلا بعضهما إلى بعض كان بينهما حوار ينتهي بأن يتهم «جان» صاحبته بالإثم، وهي تدفع عن نفسها، وتغلو في الدفاع، وهو يتهمها ويسرف في الاتهام، حتى يفسد الأمر بينهما أو يكاد، ونحسن نحن في هذا الحوار أن الصلة بين هذين الصديقين ليست صلة مودة وصداقة، وإنما هي صلة حب يخفيها كل منهما على نفسه، وعلى صاحبه، ثم يدور الحوار، ويشترك فيه الزوج مرة أخرى، فيذكر أمر الكاتبة المصورة، ومهارتها في الطهي، وما تقرر من إعداد هذا اللون إذا كان الغد، وإذا «جان» يعلن أنه سيدعو الراقص «ريالتو» ليتناول معهم العشاء، وليذوق من هذا اللون البديع.
وكان المعقول أن يبقى «جان» حتى يتناول العشاء معهما، ولكنه ضيق الصدر، فهو ينصرف ويترك الزوجين لما بينهما من شأن. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في غد ذلك اليوم، وقد دنا الليل أو كاد، والزوجان ينتظران مقدم «جان»، ومقدم الراقص، و«سسيل» مضطربة محزونة تدخن فتسرف في التدخين، وزوجها يحاول أن يتعرف من أمرها فلا يظفر منها بشيء، وهو يعتذر إليها لأنه منصرف عنها إلى علمه ونباته، وهي لا تكاد تسمع له، فإن سمعت فلا تكاد تجيبه، وقد أقبل «جان» فتلقاه الزوج مبتهجا، وتتلقاه الزوجة محزونة مضطربة، فإذا خلا بعضهما إلى بعض كان بينهما حوار كحوار أمس فيه اتهام ودفاع، ثم فيه ما يشبه الاعتراف، ثم فيه ثورة الصديق، ولكن الراقص قد أقبل، فيتلقاه الزوج و«جان» و«سسيل» لقاء مختلفا؛ هذا مبتهج، وهذه مضطربة منكرة، و«جان» يدبر في نفسه أمرا، فأما الراقص نفسه فقد أقبل لا يقدر شيئا، ولا يفكر في شيء، وهو يتكلم ويمضي في كلامه، مثنيا على الزوج مرة، وعلى الزوجة مرة أخرى، وعلى صديقهما مرة ثالثة، وعلى البيت مرة رابعة، حتى إذا فرغ من هذا الحديث الطويل المضحك التفت إليه «جان» وأخذ يذكر حب النساء له، وكلفهن به، والرجل ينكر ذلك في ضعف ورفق، ولكن «جان» يلح ويذكر حظه عند هذه، وحظه عند تلك، ويسرف في هذا، وهو في أثناء الحديث يرقب الراقص مرة، و«سسيل» مرة أخرى، وكل شيء على وجه «سسيل» يثبت اضطرابها وتورطها.
وقد خرج الأستاذ لبعض شأنه، وخلا الثلاثة إلى أنفسهم، فإذا الراقص قد عرف المكيدة، وإذا «سسيل» تطلب إليه أن ينصرف، فيتردد فتلح، وتطرده طردا فينصرف، وقد ثبت كل شيء، ولم يبق شك في أنها قد أثمت معه.
ويعود الأستاذ، فإذا لم ير الراقص سأل أين هو؟ فيقال إنه انصرف، ويتكلف «جان» تأويل هذا الانصراف فلا يحفل الأستاذ بهذا، ولكن جان نفسه يريد أن ينصرف؛ فيدهش الأستاذ لذلك، ويسأل في شيء من الغفلة: «ماذا يحدث؟» فتجيبه امرأته في دعة وهدوء: «يحدث أني قد خنتك.» فيتلقى هذا الخبر في دهش هادئ، ويحاول أن يتبين الأمر، فتتركه امرأته معلنة إليه أن «جان» سيخبره بكل شيء ؛ لأنه كشف كل شيء.
فإذا خلا إلى «جان» لم يتردد هذا في أن يخبره بكل شيء في غضب وحقد وثورة لا يعدلها إلا هدوء الزوج ودعته واطمئنانه، والزوج يرثي لامرأته، ويشفق عليها، ولا يؤثم إلا نفسه، فهو قد انصرف من امرأته إلى العلم، وتركها مهملة لا يحفل بها، فليس غريبا أن تفتتن هذه المرأة، ثم يثور الزوج ولكن لا على امرأته ولا على نفسه، بل على صديقه؛ ذلك لأن صديقه قد سافر وأهمل «سسيل» وتركها وحدها، وكان من الحق عليه أن يبقى معها، وأن يرعاها ويحوطها، فإذا أنكر الصديق عليه هذا القول ولفته إلى أن هذا واجب عليه هو، أجابه: «أنت تعلم أني مشغول بالنبات.»
و«جان» يغريه ويذكي في نفسه نار الحفيظة، ينصح له مرة بالطلاق، وأخرى بمبارزة الراقص، والأستاذ يسمع هذا كله في هدوء وسخرية، ثم يجيب بحديث له قيمته، يمثل ذكاء وفطنة، وبصرا بالأمر، وإذعانا للقضاء، فالأستاذ يعلم حق العلم مصدر هذا الغيظ وهذه الحفيظة، وهو يقدر حب هذا الصديق لامرأته، ولا يتردد في أن يقول له: «إن كنت محفظا فلأنها خانتني مع غيرك لا معك.» بل لا يتردد في أن يقول له: «لوددت لو كنت أنت الآثم، فأنت صديق الأسرة تخفي مساوئها على الناس، وتخفيها علي أنا، فتضعني بمعزل عن هذه الأمور المنكرة التي تنغص علي الحياة، وتصرفني عما أنا فيه من عمل وبحث.»
وتقبل «سسيل» وقد تهيأت للخروج، فإذا سألها زوجها إلى أين تريد أن تذهب؟ أعلنت إليه أنها ذاهبة إلى بيت عمها تنتظر فيه الطلاق، ثم تطلب إليه أن يرافقها إلى هذا البيت، فليس ينبغي أن تخرج وحدها، فيقبل، وبينما هما يتهيئان للخروج تلتفت إلى «جان» قائلة: «لقد أردت المأساة فهذه هي المأساة، ولقد أردت أن تؤلمني فقد ظفرت، ولكن قد آن أن تألم أنت، وستألم كثيرا.» •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت سنة على ذلك اليوم، وتغير كل شيء في بيت الأستاذ، وقد تزوج الأستاذ، وقد تزوج الأستاذ من كاتبته ومصورته، ونحن نراها في أول الفصل تنهر الخدم، وتتصرف تصرف السيدة المسيطرة، وتدخل على زوجها فإذا هو منكب على كتبه، فتتحدث إليه في رفق، ولكن في سلطان وتغلب، وهو مذعن مطيع، ولكن على كره.
وهي تطلب إليه الانتقال إلى باريس إذا أقبل الشتاء، فيدافعها قليلا، فتلح، فيستسلم، ثم تعلن إليه أن لديها من العمل ما يمنعها من أن تعينه بالكتابة والتصوير، وأنها ستلتمس له الكاتب والمصور.
ثم يعلن إليها الأستاذ أنه قد وصلت إليه أخبار من «سسيل»؛ فيظهر عليها الحنق والموجدة، وتهم بالنيل من هذه المرأة، فيمنعها الأستاذ من ذلك، وينبئها بأن «سسيل» قادمة الآن لتتفق معه على زيادة الراتب الذي فرضه لها، فتأبى إلا أن تذودها عن البيت، ولكن الأستاذ قد وجد الحل الملائم، فسيأتي «جان» وسيستقبل «سسيل»، وسيتفق معها على كل شيء على حين يخرج الزوجان لبعض شأنهما.
وقد أقبل «جان» وعهد إليه صديقه بقضاء هذه المهمة فيأبى ثم يقبل، ونحن نرى أنه قد تألم كثيرا، وقد تغيرت حاله حتى أنكره الأصدقاء.
وقد خرج الزوجان وتركاه وحده يتردد في الغرفة ذاهبا جائيا، ثم يجلس إلى «البيانو» ويأخذ في الإيقاع الذي كان يوقعه في الفصل الأول.
ومن هنا تحسن القصة حقا، وتخلص من التكلف والتصنع، وترقى إلى الخيال البديع المؤثر.
هو إلى البيانو في إيقاعه، وإذا «سسيل» قد أقبلت، فتقف كما كانت تقف، وترافق كما كانت ترافقه، ويحس بها فيلتفت وقد بلغ التأثر منه ومنها أقصى مبلغ، وكأنهما قد نسيا كل شيء لحظة، وخيل إليهما أنهما في عهدهما القديم، ثم يفيقان فيبتادلان أسئلة وأجوبة قصارا، ثم يعرض عليها ورقة تركها زوجها القديم لتمضيها، فتقرأ فإذا هو يعلن أن يزيد راتبها على أن تعيش عيشة امرأة شريفة، فتمضي معلنة في سخرية أنها تؤجر على الشرف في حين يؤجر غيرها على الإثم.
ونحن نحس أنها لا تملك نفسها من التأثر والاضطراب، وأن صاحبها لا يملك نفسه أيضا، وقد أمضت وخرجت متعجلة؛ لأنها مدعوة إلى الشاي، فنسيت أحد قفازيها، فيهوي إليه «جان» ويحمله إلى فمه يقبله باكيا، وكأنها ذكرت ما نسيت فتعود غير منتظرة، فترى ... فتطلب قفازها، فيدفعه إليها، ثم تطلب إليه الورقة التي أمضتها، فإذا دفعها إليها مزقتها تمزيقا، فإذا سألها عن ذلك أخبرته أنها ليست في حاجة إلى هذا الراتب، وأنها مخطوبة، وأنها ستتزوج من رجل غني.
فقدر أنت وقع هذا في نفس «جان»، وهي تريد أن تمضي ولكنها لا تستطيع، وهي تتحدث إلى «جان» حديثا قصيرا فيه إبهام وغموض، وفيه جلاء ووضوح، ولكنها لا تلبث أن تفاجئ «جان» بأنها تعلم ما في نفسه حق العلم، وتقدر أن تألم ألما لا حد له، وهي تعلم من أمره كل شيء، وهو يعلم كذلك كل شيء، وقد أجلسته في المكان الذي تعود الجلوس فيه من قبل، وجلست أمامه كما كانت تفعل، وأخذت تتحدث إليه لينة مرة عنيفة مرة أخرى، معلنة إليه أنها أحبته منذ ست سنين حين كانت خطبا لزوجها، ولو قد دعاها في ذلك اليوم لأسرعت إليه، ولكنه لم يفعل إيثارا لمودة صاحبه، وهي مازالت تحبه، وترى زوجها صديقا ليس غير، وهي لم تخن زوجها وإنما خانته هو، وإذا هو ينكر أن تكون قد خانته، ويزعم أنه كان مخطئا كذابا، وهي تؤكد له أنه لم يخطئ ولم يكذب، فيجيبها بأنها إن كانت آثمة فهو يحب الإثم، ويكره الفضيلة، وإن كانت كاذبة فهو يحب الكذب، ويكره الصدق.
وينتهي بهما هذا الحوار إلى شيء من الذهول، يدفع كل منهما إلى صاحبه، وإذا هما قد اعتزما السفر معا، واستئناف حياة جديدة فيها الحب الصريح الذي لا تكلف فيه، ولا غشاء عليه، ولكنها تذكر أنها تعرف من أمره ومن خلقه ما تعرف، وأنها تؤثر أن يكون الزواج بينهما قبل السفر، فلن يعيشا خليلين، فيفيق عند هذا ويذكرها بخطبها الغني، وما أنبأته به من الزواج، فتضحك وتعلن إليه أنه هو خطبها، وأنه سيكون زوجها، وأنها قدرت ذلك كله منذ رأته، وهما يتهيئان للخروج وإذا الأستاذ قد أقبل ومعه امرأته الجديدة، فيدهش وتدهش امرأته، ولكنها تقبل على «سسيل» لتحييها كارهة ، وهي تلتمس لها اسما تدعوها به فلا تجد، فتجيبها «سسيل» أن انتظري أياما فستدعينني «مدام دي فيلييه»، فانظر إلى ابتهاج الأستاذ وإلى قوله: «لقد أضعتما الوقت في انتظار هذا اليوم، وما كان أحراكما أن تصلا إليه منذ أمد بعيد.»
ظهر حديثا
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «أدوار بورديه»
بهذه الجملة تعنون الإعلانات التي تنبئ الناس بظهور الكتب في فرنسا، وقد اتخذها الكاتب الفرنسي أدوار بورديه عنوانا لقصة تمثيلية، دهش لها الباريسيون أشد دهشة، ثم أعجبوا بها أعظم الإعجاب، وكان الأدباء أشد الباريسيين دهشا لهذه القصة، وأكثرهم بها إعجابا؛ ذلك لأنهم رأوا فيها أنفسهم، فمنهم من أعجبته صورته فرضي، ومنهم من لم تعجبه صورته فسخط، ولكنه لم يستطع أن ينكرها ولا أن يخفي ما بينها وبينه من المطابقة فاضطر إلى الإعجاب في شيء من التحفظ قليل أو كثير.
أما جمهور النظارة، فقد دهش لهذه القصة؛ لأنه لم يتعود أن يرى أمثالها في الملاعب، وإنما تعود أن يشهد طائفة من القصص تعرض عليه ألوانا من الناس يراهم في كل يوم، ويتصل بهم في كل حين من أحيان الحياة العملية. فأما الأدباء والكتاب فهو لا يكاد يراهم أو يتصل بهم إلا من طريق الكتب التي تذيعها المطبعة في كل يوم، وفي كل أسبوع بالعشرات والمئات، وقلما يتصل جمهور النظارة بكاتب أو أديب كما يتصل عادة بالصانع أو التاجر أو المهندس أو صاحب المال، فليس غريبا أن يدهش هذا الجمهور حين يرى الأدباء قد عرضوا أمامه في الملعب عرضا صريحا لا يخلو من قسوة، كما أنه ظريف لا يخلو من خفة وحيلة ودهاء، ثم ليس غريبا أن يدهش الجمهور؛ لأن الذي يعرض عليه هؤلاء الأدباء هذا العرض القاسي الظريف هو أحد هؤلاء الأدباء، فعمله هذا لا يخلو من شجاعة تسر وترضي، وتبعث على الدهش، ثم على الإعجاب.
وقد انقسم النقاد والأدباء في أمر هذه القصة، فمنهم من رأى أن الكاتب إنما أراد تمثيل طائفة بعينها من الكتاب والأدباء، هي هذه الطائفة التي تتنافس وتختصم، لا تحفل في تنافسها وخصومتها بشيء، والتي تتخذ الأدب والفن وسيلة إلى الثروة والشهرة، لا إلى الجمال الفني من حيث هو، ويجب أن نعترف بأن هؤلاء النقاد هم كثرة الذين تناولوا هذه القصة بالنقد، وذلك يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء النقاد جميعا قد سخطوا فيما بينهم وبين أنفسهم على هذه القصة، وأبوا أن يروا فيها صورا صحيحة للأدباء، فكانوا كالنعامة التي تخفي رأسها حتى لا ترى الصائد.
ونقاد آخرون - ولكنهم قليلون - رأوا أن هذه القصة تمثل ما في الأدباء من ضعف، ولكنهم مروا بذلك مرا سريعا، وأظهروا إعجابهم بلفظ القصة وأسلوبها، وما فيها من حركة خفيفة لبقة، وفي هؤلاء النقاد شجاعة، ولكنها شجاعة إضافية، فقد أبوا أن يخفوا رءوسهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يمدوا أبصارهم مدا طويلا.
وأولئك وهؤلاء - فيما أظن - لم يقدروا القصة قدرها، ولم يضعوها حيث أراد الكاتب أن يضعها، ولو قد فعلوا لرأوا أن ما في القصة من عبث بالأدباء، وتمثيل لما فيهم من عيب ونقص يمس ما يقع بينهم من التنافس والخصومة ليس شيئا بالقياس إلى الفكرة الأساسية التي أراد الكاتب أن يمثلها، والتي هي شيء آخر غير هذه الحياة المادية التي يقع فيها التنافس والاختصام بين الأدباء.
شيء آخر يمس طبيعة الأديب من حيث هو أديب ويعرفه تعريفا منطقيا صادقا ما نظن أنه يقبل نقضا أو اعتراضا، فالأدباء جميعا يختصمون ويتنافسون، ويكيد بعضهم لبعض، ويغري بعضهم ببعض. وليس هذا العيب مقصورا على الأدباء، ولكنه يتناول أصحاب المهنة الواحدة في كل فن وفي كل صناعة تناولا يختلف قوة وضعفا باختلاف المتنافسين، وتفاوتهم في حدة الأمزجة واعتدالها.
ولو لم يقصد الكاتب في قصته إلا إلى تمثيل هذا النحو من عيوب الأدباء لما كان لقصته خطر، ولما استحقت قصته هذا الفوز الذي ظفرت به، إنما الفكرة الأساسية التي تدور عليها القصة، والتي قصد إليها الكاتب معروضة عرضا واضحا في الفصل الرابع من فصول هذه القصة حين يظهر في جلاء وبداهة أن الأديب يمتاز بأنه لا يستطيع أن يحس شيئا أو يرى شيئا حتى يستحيل هذا الشيء في نفسه فنا يجب أن يكتبه، وينشر على الناس مهما تكن النتيجة التي تنشأ عن هذه الكتابة وهذا النشر، ومهما يكن في هذه الكتابة والنشر من خروج على المألوف، وتجاف عن العادات والأخلاق، وما يصل بين الناس عادة من صلات المجاملة وحسن العشرة، بل من صلات المودة والصداقة، بل من صلات الحب والإخاء.
فالأديب أداة ناطقة لا تستطيع الصمت، وهي تنطق بكل شيء وفي كل ظرف، لا يحول بينها وبين النطق إلا هذه القوى القاهرة التي تضطرها إلى الصمت أحيانا، فتصمت ولكن على كره منها ورغم، والأديب أداة تصوير تصور أبدا، ولا تستطيع أن تكف عن التصوير إلا حين لا تجد ما تصوره أو حين يعرض لها الفساد في مزاجها وتكوينها، وهي تصور دون أن تحسب حسابا بالنتائج هذا التصوير، وما قد يستتبعه من الأحداث في التصوير، وأكثر ما تصور هذه الأداة، وأحسن ما تصور حين تضطر إلى تصوير نفسها، وما يعرض لها من ألوان التأثر والانفعال، ولو قد خليت وتركت لها الحرية المطلقة لأظهرت للناس من دخائلها أسرارا لا تخلو من بشاعة فظيعة، ولكنها لا تخلو في الوقت نفسه من جمال رائع، فالأديب إذن بطبيعته مرن الضمير، لا يكاد يحفل بما يحفل به الناس في سبيل القول والتصوير إلا لأنه يضطر إلى ذلك اضطرارا.
هذه الفكرة هي التي قصد إليها الكاتب وأراد تصويرها، وهو في طريقه إلى تصوير هذه الفكرة قد ألم بطائفة من عيوب الأدباء ونقائصهم لم يكن له بد من الإلمام بها؛ لأنه يصور تصويرا صحيحا فلم يكن يستطيع أن يخفي شيئا مما يتألف منه شخص الأديب حقا.
ومع أن موضوع هذه القصة طريف، فقد وفق الكاتب إلى أن يتقن تمثيله كما لو كان من هذه الموضوعات التي تطرق في كل يوم، والتي سهل أمرها على الناس، فهم يتناولونها ويتصرفون فيها دون أن يجدوا في ذلك مشقة أو عسرا. •••
وفي الفصل الأول من هذه القصة بنوع خاص حركة خفيفة شديدة الخفة، سريعة قوية السرعة، تدفعك معها؛ فإذا أنت مسرع في القراءة، مسرع في التفكير، مسرع في تحقيق ما تقرأ وما تفكر فيه، وإذا أنت تحيا حياة كلها سرعة، وكلها لذة ورضا، وفكاهة واشمئزاز مضحك، حتى إذا فرغت من هذا الفصل احتجت إلى أن تستريح، وإلى أن تطيل الراحة بعض الشيء؛ لأنك قد جريت فأكثرت الجري، حتى إذا كانت الفصول الأخرى سرت سيرا هادئا مطمئنا، ولكنه ممتع مفيد، لا تكاد تخطو خطوة حتى تضحك أو تعجب، أو تستكشف من أمر الأديب شيئا لم تكن تقدره، وما تزال كذلك حتى تنتهي مع القصة إلى الأديب المنتج فتراه كما أراد الله أن يكون ممليا ما أنتجه من الآثار الأدبية بعد ما شاء الله أن يقتحم في سبيله ما اقتحم من هول يبعث في نفسك الإشفاق والازدراء معا. •••
نحن في دار من دور النشر في باريس، يشرف عليها رجل ماهر في صناعته، قوي الإرادة، حديد الفؤاد، مرن الضمير، فصيح اللسان، غريب الجمل، لا يفكر إلا في صناعته، ولا يعنيه إلا أن يفوز ويتفوق على خصومه الناشرين، هذا الرجل هو جوليان موسكا، ونحن نرى في أول الفصل رجلين يعملان، يملي أحدهما على صاحبه أسماء الكتب التي طلبتها المكاتب، ومقادير هذه الكتب، وهو يمضي في ذلك بطريقة مضحكة قد لا يكون من اليسير أداؤها في لغتنا العربية؛ لأنه يقرن بأسماء الكتب المختلفة باختلاف موضوعاتها الفنية والعلمية موازين هذه الكتب بالكيلوجرام. وبينما هما في عملهما هذا تختلف عليهما طائفة من الناس اختلافا سريعا، يعرض علينا أكثر أشخاص القصة، فهذا أديب يقال له بريجايون قد أقبل مسرعا يسأل عن صاحب الدار، فلما لم يجده أنكر تأخره في هذا اليوم، وأنبأ بأن لديه شيئا هاما يريد أن يفضي به إليه، وأنه سيعود بعد لحظة، وتفهم من حديثه أن لهذا اليوم في حياة الدار خطرا؛ لأن هناك جائزة أدبية كبرى هي جائزة زولا، يتنافس حولها الكتاب، وقد رشح لها صاحب الدار أديبا وجد في ترشيحه، وظفر بوعد الكثرة المطلقة من المحكمين أن يعطوه أصواتهم.
ثم ينصرف هذا الأديب ويقبل رجل آخر مهمل الزي، تقتحمه العين، يقال له مارك فورنييه، يسأل عن صاحب الدار، فلا يكاد يحفل به أحد، بل نحس من أهل الدار تبرما به، ورغبة في دفعه عنها وعن صاحبها، ونفهم أنه قد عرف صاحب الدار حين كانا يؤديان معا خدمتهما العسكرية، والرجل يلح في السؤال وأهل الدار يذودونه، ويمنونه بلقاء صاحبه بعد أيام، ولكن هذا أديب آخر قد أقبل متعاظما مشغول البال، فيستقبله أهل الدار في شيء من الإجلال والتكريم، وهو ماريشال مرشح الدار للجائزة، وهو يسأل عن صاحب الدار فينكر تأخره، ويسأل عن كتابه، فنفهم أنه قد طبع منه خمسة وعشرون ألفا، وأعدت النسخ لترسل إلى مكاتب باريس والأقاليم بعيد ظهور النتيجة، وقد كتبت العنوانات، وحملت العربات، وأعدت صور الكاتب الفتوغرافية، ولم يبق إلا أن ينسخ الكاتب اسمه عليها بخطه لتعرضها المكاتب بعد الظهر، والكاتب ينظر إلى هذه الصور فلا تعجبه؛ لأنها تمثله متقدما في السن كأنه قد بلغ الأربعين، ولكن صاحب الدار قد طلب أن تعرض هذه الصور؛ لأنها هي التي ينتظر أن تعجب السيدات، فيأخذ الكاتب في التوقيع، ثم يبدو له فينصرف على أن يعود بعد قليل.
وهذا صاحب الدار مقبلا ومعه كاتب مشهور فيلسوف أديب من المحكمين هو بورجين، فإذا دخلا تعرض مارك فورنييه لصاحب الدار، فينصرف عنه مزورا، ويمضي مع صاحبه إلى غرفته، ويقبل العمال يعرضون عليه أمور الدار في سرعة غريبة، فينجزها مسرعا، ناطقا بألفاظ قصار متقطعة، حتى إذا فرغ من ذلك في لحظة التفت إلى الفيلسوف الأديب وتحدثا في الجائزة، فنفهم أن كثرة المحكمين قد انقادت لهذا الناشر بفضل هذا الفيلسوف، ولكن من المحكمين من يتردد، فيقول الناشر لصاحبه: أفهمه أني أعتمد عليه في كتابة النقد التمثيلي لصحيفة كذا، فيغضب الفيلسوف؛ لأنه كان يرجو لنفسه هذا العمل، ويرضيه الناشر ويتفقان، وينصرف الفيلسوف على أن يرسل معه الناشر عاملا يأخذ منه أخبار المداولة ليوصلها إليه كأسرع ما يمكن.
وهذا بريجايون قد أقبل فأدخل على الناشر فيدور بينهما حديث موجز سريع يغير كل شيء، ذلك أن هذا الأديب يخبر الناشر بأن مرشحه قد خانه، وأنه اتفق مع ناشر آخر على أن يعطيه كتبه المقبلة، وقد أمضي العقد بينهما أمس، فإذا سئل عن البرهان قال عرفت ذلك من كاتبة ذلك الناشر التي كانت تحب ماريشال فخانها، فهي تنتقم لنفسها، ثم يخرج ويعود ومعه الكاتبة التي تظهر العقد للناشر فينظر فيه ويرده إليها، ويمنحها مكافأة مالية، ويعدها بكتمان السر، ويصرفها فتصرف، والناشر مغضب مضطرب؛ لأن صاحبه قد خانه وعبث به، ولأنه بذل جهدا عنيفا حتى ظفر بأصوات المحكمين، وأنفق ستين ألف فرنك في الإعلان عن هذا الكتاب، وكانت نتيجة هذا كله الخيانة.
ولكنه رجل لا يعرف الهزيمة، ولا يطمئن إليها، ولا تؤلمه الخسارة المادية، فإذا هو يسرع إلى التليفون فيدعو فيلسوفه الأديب، ويعلن إليه في حزم أنه لا يريد بوجه من الوجوه أن يفوز ماريشال، ثم ينتظر، وهذا ماريشال قد أقبل، فيتلقاه مبتسما مبتهجا، ويطلب إليه في هدوء أن ينظما أمرهما، وأن يمضيا هذا العقد الذي يضمن له نشر كتب الأديب المقبلة، ويضمن للأديب موردا ضخما، فيتردد الأديب، ويلح الناشر.
ويشتد تردد الأديب فيشتد إلحاح الناشر؛ فيأبى الأديب، وهذا التليفون يدعو فيصغي إليه الناشر، فيكتب أرقاما على ورقة أمامه، حتى إذا فرغ أعلن إلى الأديب في هدوء أنه قد انتهى التصويت الأول، وأنه لم يفز فيه. فيسخط الأديب ويضطرب ويصيح، ويتهم بالخيانة فلانا وفلانا من المحكمين. ولكن التليفون يدعو مرة أخرى، ويصغي إليه الناشر، ثم ينبئ الكاتب بأن فشله في التصويت الثاني أعظم من فشله في التصويت الأول، فيشتد سخط الكاتب، وهنا ينبئه الناشر في سخرية بأنه لم يحسن حين اتفق مع خصمه، فيفهم الأديب، وإذا هو يبرق ويرعد، وينذر ويوعد، ولكن التليفون يدعو للمرة الثالثة، فيصغي الناشر، ثم يعلن بعد ذلك أن قد انتهى التصويت وفاز بالجائزة رجل مجهول لا يعرفه أحد، ولم يسمع به أحد، رجل من الأقاليم يقال له إيفنوس.
وقد خرج الأديب مغضبا موعدا، ولكن الناشر عنه في شغل، فما أسرع ما يستفسر أمر هذا الفائز بالجائزة، فهو رجل من مدينة أورليان، طبع كتابه «استيقاظ الفؤاد» في مطبعة من مطابع المدينة، فما أسرع ما يتصل الناشر بصاحب هذه المطبعة من طريق التليفون، فينبئه بالخبر، ويشتري منه حقوق الطبع، وما بقي عنده من نسخ الكتاب، ويأخذ منه عنوان المؤلف في باريس، ويرسل إليه جماعة من العمال في سيارة يؤدون إليه الثمن، ويأخذون منه نسخ الكتاب على أن يعودوا مع الليل، ثم يدعو أحد عماله فيعطيه عنوان المؤلف، ويأمره أن يمضي مسرعا، ولا يعود إلا ومعه المؤلف مهما يكلفه ذلك من مشقة وحيلة، كل ذلك في سرعة ولباقة لا حد لهما.
وما هي إلا لحظة حتى يعود العامل ومعه سيدة فينبئ صاحب الدار بأنه لم يجد المؤلف فجاء بامرأته، وتدخل جاكلين فتتحدث إلى الناشر، فنفهم من حديثها أنها لا تقدر فوز زوجها، ولا تفكر فيه، وأنها تعرف أن زوجها قد ألف كتابا وعرضه على هذا الناشر، وهي تظن أن هذا الكتاب قد أعجب الناشر وهي سعيدة بهذا، والناشر لا يفهمها، ثم ينتهي بهما الأمر إلى أن يفهم كل منهما صاحبه، فيعلن إليها الناشر أن زوجها قد ظفر بالجائزة، فإذا هي مغتبطة سعيدة، وإذا هي تنبئ الناشر بأنها هي التي قدمت الكتاب إلى المحكمين؛ لأن زوجها رفض ذلك لثقته بأنه لن يظفر بشيء، وهو موظف في إحدى الوزارات، وهو رجل من أورليان يقال له مارك فورنييه، فإذا سمع الناشر هذا الاسم ذكره وذكر صاحبه، وذكر أنه هو هذا الذي يتردد منذ أيام فلا يقبل، وطلب إلى زوجه أن تكتب إليه كلمة يحملها إليه بعض العمال ليأتي به، وبينما هي تكتب يقبل مارك فورنييه، فيتلقاه العمال في تبرم وازدراء، ويذودونه عن الدار ذودا، فينصرف وقد دعا الناشر أحد العمال وطلب إليه أن يمضي بهذه الكلمة، وأن يأتيه بمارك فورنييه، فإذا أدخله على الناشر تلقاه هذا في مودة لا حد لها، فهو يضمه إليه ويقبله ، ثم ينظر الرجل فإذا امرأته وإذا هو يعلم بفوزه، وإذا هو دهش قد أذهله النبأ، وانظر إلى الناشر يفتح أمامه أبوابا من الأمل، فسيقبض الجائزة خمسة عشر ألف فرنك، وسيقبض منه هو عشرة آلاف مقدما، ثم يستقيل من الوزارة وينصرف إلى الأدب، وإذا هو من الأغنياء، وإذا هو من أصحاب الصوت الذائع، وهم في ذلك إذ أقبل صحفي يستنبئ عن هذا الكاتب الذي فاز، فإذا رآه رغب في أن يأخذ منه حديثا، وفي أن يأخذ صورته، وما أسرع ما تؤخذ الصورة فيها المؤلف وامرأته والناشر، ولكن المؤلف قد أخذ يشعر بقيمته، وأخذت تظهر فيه الصفة الأولى من صفات الأديب، فهو يسأل مبتسما: أليس يحسن أن أصور منفردا؟ •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى على ما قصصنا عليك عام ونصف عام، وانصرف كاتبنا مارك فورنييه الذي اتخذ لنفسه اسم إفنوس إلى صناعة الأدب، واستقال من عمله في الوزارة، وأخذ من الشهرة الأدبية بحظ موفور، وكان قد اتفق مع الناشر على أن يتعجل إصدار كتاب آخر، وعلى أن يكون هذا الكتاب استمرارا لكتابه الأول الذي نال الجائزة، وهو منذ ثمانية عشر شهرا يعمل في هذا الكتاب الثاني، فلا تؤاتيه القريحة، ولا يكاد يظفر بشيء.
ونحن نراه أول هذا الفصل جالسا إلى مكتبه ينظر في صحيفة كئيبا ضيق الصدر، ثم يسرع إلى هذه الصحيفة فيمزقها مغضبا محرجا، وما هي إلى أن تقبل امرأته فيتلقاها فاترا، وتحدثه عمن لقيت في بعض زياراتها، ثم تسأله عن عمله، فينبئها بأنه لم يعمل شيئا، وبأنه لم يوفق إلى شيء، ويظهر لها ميله الشديد إلى الانصراف عن هذا الكتاب، بل عن الأدب كله؛ لأنه لا يحسن أن يكتب، وهي تلومه وتشجعه وتغريه، ولكنها لا تظفر منه بشيء، ونحس في هذا الحديث جهاد الرجل بين ما يشعر به من العجز، وما يشعر به من الاحتفاظ بمكانته الأدبية، وما يشعر به أيضا من طمع امرأته، وحرصها على هذه الحياة الجديدة التي تجد فيها الدعة والثروة، وتجد فيها الشهرة والرفعة. ثم نشعر بشيء آخر هو هذه الموجدة التي يحسها الأديب على الأديب إذا قدر التوفيق والفوز، فصاحبنا واجد على ماريشال؛ لأن الناس يتحدثون عنه، والنساء يتهالكن عليه، وصاحبنا يرى أن هذا الرجل ليس شيئا، وأنه من أصحاب الفن السهل الذي لا جد فيه ولا غناء، وامرأته لا تدافعه في ذلك، ولكنها لا تجاريه، وهي تنبئه بأن ماريشال قد يأتي بعد قليل ليراه فيكره ذلك، ويتبرم به، وهذا التليفون يدعو فنفهم من الحديث أن الناشر مقبل، ونرى كاتبنا شديد الضجر، مترددا بين الخروج؛ حتى لا يرى الناشر، وبين البقاء؛ حتى إذا رآه أخبره بعزمه على الانصراف عن الأدب، ولكن امرأته تستبقيه وتشجعه، وهذا الناشر قد أقبل فيلقاه وامرأته لقاء حسنا، وما هي إلا أن يدور الحديث على الكتاب المنتظر، فيزعم الكاتب أن قد مضى فيه إلى أمد بعيد، ويتعجله الناشر ويطلب إليه الأصل بعد ثلاثة أسابيع، فيتعلل، فيمد له الأجل أسبوعا، فيأبى، فيشتد إلحاح الناشر وإباء الكاتب، حتى يضيق الكاتب ذرعا، فيعلن أنه لن يكتب هذا الكتاب؛ لأنه لا يستطيع أن يمضي فيه.
وتستطيع أن تتصور غضب الناشر وغيظه بعدما أنفق من الجهد والمال ما أنفق، فهو يترضى الكاتب، ويتوسل إليه، ثم ينذره ويخيفه، ولكن الكاتب مصر لن يعدل عن رأيه، وهنا يدور حديث نفهم منه طبيعة هذا الكاتب، ومقدرته الفنية، فهو لم يخترع كتابه الأول اختراعا، وإنما صاغه من قصة وقعت بالفعل لامرأته حين كانت تعمل في المستشفيات في أثناء الحرب، فأحبت أحد الأطباء وأحبها هذا الطبيب، ولم ينته حبهما إلى غايته، وكانت الفتاة تكتب مذكرات وخواطر وقعت للكاتب بعد أن اقترن منها، فصاغ منها قصته تلك.
وهنا تظهر مهارة الناشر، وحرصه على منفعته، فهو يسأل هذه المرأة: ألم يحبك أحد بعد هذا الرجل؟ ألم يحدث في حياتك ما يحملك على كتابة الخواطر والمذكرات؟ فتجيبه: لا، فيشتد غيظه، ويسوء الحديث بينه وبين الكاتب، ويعرض عليه الكاتب إلغاء ما بينهما من عقد، وما يزال الأمر بينهما في شدة حتى يفسد، فإذا الناشر يتهم الكاتب بالخيانة والاحتيال، وإذا الكاتب يطلب إلى الناشر أن يخرج من عنده، فيأبى، فينصرف الكاتب معلنا أنه لن يعود من غرفته حتى يخرج هذا الرجل. ويخلو الناشر إلى جاكلين، فيكون بينهما حديث آية في المهارة والغرابة، والحرص على النفع، والتماسه من جميع الوجوه الممكنة. يعود الناشر فيسأل جاكلين: أليس بين الناس من يحبها أو يظهر لها المودة؟ فتجيبه: لا، فيلح عليها، ثم يعلن إليها أنه لو كان مكانها لالتمس لنفسه عاشقا ومغازلا، ولكتب خواطر ومذكرات تمكن صاحبنا من وضع قصته، فإذا أنكرت ذلك خيرها بين النعيم والبؤس، وبين السعة والضيق، وبين الشهرة والخمول، ثم فتح أمامها أبواب الأمل في ثروة لا حد لها، وشهرة تنتهي بزوجها إلى المجمع اللغوي.
وما يزال بها حتى تحس منها شيئا من الضعف، ثم يسألها الرجل مفاجأة: ما بال ماريشال؟ أليس يحبك؟ فتجيبه: لا، فيلح فتجيبه: إن هذا الرجل يحب النساء جميعا، ويتملقهن جميعا، وهو يتملقني كما يتملق غيري من النساء، وهو مقبل بعد حين ليرى زوجي، فانظر إلى الناشر منتصرا مبتهجا؛ لأنه ظفر بحاجته، فلا بد من أن تتلطف جاكلين لماريشال وتطمعه، وتقبل تملقه وغزله، وتكتب خواطر ومذكرات، وهي تأبى الأمر في نفسه، وهو يلح، فتقبل ولكن مع غير ماريشال، فيلح ويسرف في الإلحاح، ونحس نحن أن في نفس هذه المرأة ميلا خفيا إلى ماريشال، وأنها لا تحب أن تعبث به هذا العبث، وقد أقبل ماريشال فحيا تحية المحب، وما يزال الناشر بهما حتى يصل بينهما حديثا يشبه أن يكون حديث حب، وقد أغرى كلا منهما بصاحبه، ثم يدعهما ليصلح ما فسد بينه وبين الكاتب، فإذا خلى أحدهما إلى صاحبه أسرع ماريشال فأعلن حبه وهيامه، وهمت المرأة أن تدفعه، ولكنها تذكر الناشر، وما تحدث به إليها من الثروة والشهرة، وتذكر في الوقت نفسه ميلها الخفي إلى هذا الرجل فلا تدنيه ولا تقصيه، وإنما تترك له أملا مغريا، ويأتي الكاتب والناشر وقد اصطلحا، وتم الاتفاق بينهما على أن يستريح الكاتب أشهرا لا يكتب شيئا ، ولا يفكر في شيء، حتى إذا أخذ من الراحة بحظ استأنف العمل فتنقاد له المعاني والألفاظ، وإذا الكتاب قد تهيأ للنشر في وقت قصير.
وللناشر بيت على ساحل البحر في جنوب فرنسا، فهو يدعو الكاتب وامرأته إلى أن يذهبا إلى هذا البيت ليستريحا فيه. وقد قبل الكاتب، ورضيت امرأته، وفهمنا نحن أن الناشر إنما دبر هذا كله ليترك الفرصة لحب ماريشال؛ لعله يظفر بما يحمل المرأة على أن تكتب الخواطر والمذكرات.
وقد أحس الناشر أن ذلك لن يكون إلا إذا أرسل ماريشال مع الزوجين إلى ساحل البحر، وقد مهد لذلك فوفق فيه، وأصبح ثلاثة القوم مستعدين للرحلة إلى الجنوب، ورضي الناشر عن نفسه، وعن خطته، وعن فوزه، فهو يدعو ثلاثتهم للعشاء معه في مطعم من مطاعم الضواحي، وسيحملهم في سيارته، فأما الزوج فسيجلس في مؤخرها مع ماريشال، ولا خوف عليهم من البرد ولا من الهواء، ففي السيارة من أنواع الوقاية ما يحجب من البرد والهواء. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في أقصى الجنوب الفرنسي في بيت الناشر على ساحل البحر حيث يقيم أصحابنا منذ حين، ونحن نرى جاكلين تتحدث إلى الصحفي الذي رأيناه في الفصل الأول، وقد علم بمكان الكاتبين، فأقبل يطلب إليهما حديثين، فأما الزوج فقد تبرم بهذا الصحفي وخرج، والمرأة تعلل هذا الصحفي، وتطلب إليه أن ينتظر حينا، وأما ماريشال فقد أعد حديثه وكتبه، وها هو ذا قد أقبل يريد أن يقرأ على الصحفي هذا الحديث، وقد بدأ يقرؤه عليه، ثم خرجا يتمان هذه القراءة في الحديقة، ويقبل الزوج فإذا علم بمكان الصحفي أنكره، وسخط على ماريشال، فتدافع امرأته بعض الدفاع فيغضب، ونحس أنه يجد في نفسه شيئا، ثم يخرج ويعلن إلى امرأته أنه لن يرى هذا الصحفي، ولن يتحدث إليه.
فإذا فرع ماريشال من قراءة حديثه على الصحفي عادا إلى حيث جاكلين، فيتعجل الصحفي، فتنبئه بأن زوجها قد يتأخر، فينصرف على أن يرسل إليه الكاتب حديثه مع البريد.
ويخلو العاشقان، فلا يلبث ماريشال أن يلوم صاحبته؛ لأنها ما زالت به تطمعه وتغريه حتى ترك عمله في باريس، وأعرض عن سياحة كان ينتظر منها نفعا كثيرا، وأقبل معها، ولكنه لم يظفر بشيء، وقد ضاق بهذا الانتظار، وكره أن يكون ضحكة لها، واعتزم أن يسافر منذ غد. وما يزال بينهما الحديث حتى تعلن إليه المرأة أنها تحبه حقا، وأنها لم تدعه إلى اللحاق بها، ولو قد استطاعت لطلبت إليه ألا يفعل، ثم تقص عليه القصة كلها، فإذا هو ثائر مغضب؛ لأنه سيكون موضوعا لعبث الناشر والكاتب، وهو محنق لأنه سيكون موضوع قصته، وهو محنق لأنه لم يظفر في سبيل ذلك بشيء ما، ومهما تتلطف له جاكلين فهو لا يرضى منها إلا أن تزوره في غرفته، وهي تمانع وتغلو في الممانعة، ولكنه مصر على هذه الزيارة، فإن لم تفعل فهو مرتحل غدا، وقد أذعنت وقبلت هذه الزيارة، والتمسا لها علة، وهي أن تأخذ أداتها الكاتبة، وتذهب إليه كأنه يريد أن يملي عليها كتبا هو في حاجة إلى حفظ أصولها.
وقد صعدت هي تبتغي آلتها الكاتبة، وانصرف هو إلى غرفته وهو يقول: إذن فسيكون بينها وبيني شيء لا تستطيع أن تظهر زوجها عليه، ولكن الزوج قد أقبل، ولم يكد يستقر حتى يرى امرأته تهبط ومعها أداتها الكاتبة فيستوقفها، ويسألها فتخبره، فيحظر عليها الذهاب، فتأبى، فيلح ويأخذها بشيء من العنف، ويرسل الخادم لتعلن إلى ماريشال أن السيدة معتذرة؛ لأن بعض الأمر قد طرأ لها، ثم يعلن إليها أنهما مرتحلان غدا إلى باريس، فتأبى، فيعلن إليها أنه يريد ذلك وكفى.
وهذا الناشر قد أقبل ومعه الفيلسوف الأديب الذي رأيناه في الفصل الأول، وكانا منتظرين، فإذا سلما وذهب الفيلسوف ليستريح سأل الناشر صاحبه الكاتب: كيف يجد نفسه، فيخبره بعزمه على السفر منذ غد ليفرق بين امرأته وبين ماريشال بعد أن أصبحت عشرتهما خطرة، فيضحك الناشر منه، ويهزأ به، وينبئه بأن هذه قصة مدبرة، وأنه اتفق عليها مع جاكلين، وأهدى إليها دفترا تكتب فيه الخواطر والمذكرات، فأما الكاتب فلا يطمئن لهذا الحديث. وتدعى جاكلين، وتسأل فلا تجيب، فإذا ألح عليها الرجلان أخرجت دفترا ودفعته إلى زوجها، فينظر فيه فإذا هو نقي لم يكتب فيه حرف واحد، وإذن! فقد كان الأمر بينها وبين الرجل جدا لا هزلا، وقد احتفظت لنفسها بخواطرها ومذكراتها، فأما الكاتب فكئيب محزون، يائس، قد أثقله الهم. وأما الناشر فيغريه ويعتذر إليه، وأما المرأة فقد صعدت، ثم عادت وقد تهيأت للسفر تريد أن تعود إلى أهلها، فإذا سألها زوجها قالت: إنها تريد أن تخلو وتفكر لترى جلية ما يضطرب في نفسها، فيأبى إلا أن يصحبها، وما يزال بها مهتما وشاكا وجزعا ومنذرا حتى تقبل؛ ذلك أنها تحب زوجها كما يحبها، وإنما هي أزمة عرضت لها كما تعرض لغيرها من النساء والرجال.
سيسافران إذن، ولكنها تطلب إليه الإذن في أن ترى صاحبها، وتودعه لآخر مرة بعد أن تقسم له أن لم يكن بينها وبينه إثم، فيأذن على كره منه، ويمضي ليتهيأ للسفر، ويقبل ماريشال، فيكون بينه وبين صاحبته حديث قصير، ويتفقان على أن يلتقيا غدا في أورليان، أما هو فنفهم أنه يريد أن يتم خطته، وأما هي فضعيفة لا تستطيع المقاومة في هذه الأزمة العنيفة.
وقد سافر الزوجان، وإذا نحن نرى الناشر والفيلسوف ومعهما ماريشال ينبئهما أنه سيتبع هذه المرأة إلى أورليان، فيأبى عليه الناشر ذلك، ويحاول أن ينصرف عنه فلا يفلح، حتى إذا أحس منه الإصرار الذي ليس بعده رجع اتخذ أقرب الطرق إلى الإقناع، فأعلن إليه أن المجمع اللغوي سيمنحه الجائزة الكبرى، وأن المجمع اللغوي محافظ لا يمنح الجوائز لمن يعرف عنهم الإثم، فلا يكاد ينبئه بذلك حتى يتردد، ثم يعلن إيثاره للجائزة على الحب. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضى حين من الدهر على ما حدثتك به، وقد عاد الزوجان إلى باريس، وانصرف الكاتب عن الأدب، واستأنف عمله في وزارته، وانقطعت الصلة بينه وبين الأدباء والأندية الأدبية، وأصبح كما كان من قبل موظفا عاديا، ولم يبق من هذه القصة إلا ذكرى مؤلمة تنغص على الزوجين حياتهما، فهو واثق بأن امرأته لا تحبه، شاك فيما كان بينهما وبين ماريشال، وهي تكره منه هذا الشك، وتضيق به، وتعيش معه عيشه الممرضة مع المريض، وتحمل في نفسها آلاما خاصة لا تتحدث بها إلى أحد إلا الفيلسوف الذي احتفظ بما بينه وبينها من صلة، فهو يزورها من حين إلى حين.
وقد ساءت حالهما المالية سوءا شديدا، فكثر الدين، وألحف الدائنون، وأنذرت الخادم بترك العمل إن لم تؤد إليها أجرها. وجاء النذير بأن التليفون سيقطع، وهي تطلب إلى زوجها أن يقترض شيئا على مرتبه من الوزارة، فيجيبها بأنه قد فعل ذلك مرة، وليس له أن يعود، فتطلب إليه أن يلتمس عند الناشر قرضا، فيرفض في عزة وإباء، فتعلن إليه أنها ستبيع بعض حليها، وقد انصرف وبقيت وحدها، فتدعو الخادم وتأمرها إن جاء بعض الدائنين أن تنكر مكانها.
وقد دق الجرس وعادت الخادم تنبئ بأن ماريشال يستأذن، فتدهش جاكلين لمقدمه، وتهم أن ترفض استقباله، ثم يبدو لها فتأذن له، ويقبل ماريشال، وقد لعب الخيال برأس هذه المرأة، فأحيا في نفسها كل شيء، ورد الأزمة إلى حدتها الأولى، وإذا هي تعاتبه لزيارته.
وتنكر هذه الزيارة، وتعتذر إليه؛ لأنها أبرقت إليه ألا يتبعها في أورليان وقد خيل إليها أنه أقبل مستأنفا للحب والمودة، ولكنه لم يقبل لشيء من هذا، إنما أقبل يعرض عليها قصة صغيرة صور فيها تصويرا بديعا ما كان بينهما من الأمر، ولم يرد أن تنشر قبل أن تقرأها، بل قبل أن تكون أول من يقرؤها، فلا تسل عن وقع هذا النبأ على نفسها، فقد انهدم كل ما بناه الخيال، ونظرت فإذا قيمة حبها ومودتها وما احتملت في سبيلهما من ألم، وما تعرضت له من خطر، وهذه الحياة المنغصة، وهذا البؤس؛ قيمة هذا كله عند هذا الرجل أنه يصلح موضوعا لكتاب!
وهي تدفع إليه قصته، وتعتذر من قراءتها، فيخرج مغضبا محنقا؛ لأن هذه القصة خير ما كتب.
وقد دق الجرس وأقبل الفيلسوف، فرآها كئيبة محزونة، فيسألها، فتنبئه، فيغضب، فيخيل إليها أنه يغضب لما تغضب له، ولكن الفيلسوف لم يغضب لهذا إنما لأنه وضع من هذه الحادثة قصة تمثيلية ويسوءه أن يسبقه ماريشال إلى إذاعتها، فهو إذن كصاحبه! لم يكن صديقا ولا معزيا ولا وفيا، ولم يكن يتردد عليها، ويتصل بها إلا ليكون أشخاصه ويقومهم، وإذن فقد قضي عليها وعلى زوجها أن يألما ويشقيا ويحرما ليكتب ماريشال قصته، وليكتب بورجين تراجيديا أو كوميديا.
وقد أقبل الزوج فتدهش لمقدمه، فينبئ بأنه لم يذهب إلى الوزارة هذا اليوم، وينصرف الفيلسوف فإذا خلا الزوجان رأينا نفس المرأة قد تغيرت، فإذا هي ممتلئة حنانا ومودة لزوجها، وإذا هي تثوب إليه راضية مطمئنة، أليس هو الذي احتمل ما احتمل من ألم صامتا، فلم يستغل ولم يكتب، وهي تنبئه بنبأ ماريشال والفيلسوف؛ فيثور ويغضب وينذر، وهي تهدئه، وتهون عليه، وقد دنت منه فوضعت رأسها على كتفه راضية مطمئنة، مستأنفة حبها الأول.
ولكن الزوج يرد رأسها عن كتفه، ويظهر على وجهه الاضطراب والاستخذاء، فإذا سألته أنبأها بأنه هو أيضا قد كتب كتابا ... ثم فصل ذلك، فنفهم أنه كان يذهب إلى الوزارة فيتم عمله الرسمي في لحظات، ثم ينصرف إلى كتابه فيمضي فيه حتى كتب ما يبلغ مجلدين، فتسأله: أين ذلك؟ فيظهرها عليه، ثم يصفه فإذا هو راض به، بل معجب به أشد الإعجاب، واثق بأنه سيظفر برضا الجمهور وإعجابه، ولكنه لن ينشره؛ لأنه لم يكتبه للنشر إنما كتبه لنفسه، فإذا أظهرت الشك في ذلك أعلن إليها أنه سيمزقه ويحرقه.
وهذا الجرس يدق، وهذه الخادم تقبل وتعلن أن بعض الدائنين يأبى أن ينصرف، وينذر بالمحضر، وهذا الجرس يدق مرة أخرى، وهذا الناشر قد أقبل لأن الزوج كان قد مر به فلم يجده فترك بطاقته، فأقبل لعل صديقه في حاجة إليه، ولكنه يعلن إلى صديقه قبل كل شيء أنه مستعد لمعونته إلا فيما يمس المال، فهو لا يستطيع أن يقرضه الآن قليلا ولا كثيرا. هنا يظهر الصراع بين المؤلف والناشر قويا عنيفا، ولكنه ممتع مضحك، ذلك أن الزوج يعلن إلى الناشر أنه لا يريد قرضا وإنما يريد جزءا من ثمن قصة أتمها ويوشك أن يقدمها إليه، فلا يصدقه الناشر، ولا يحفل به، بل يعلن إليه أن كتبه أصبحت لا تعنيه، ثم ينهض لينصرف، وإذا الكاتب قد أسرع إلى التليفون فدعا ناشرا آخر وأنبأه بأن لديه كتابا يريد أن ينشره، وأنه يحب أن ينشره عنده، وأن يلتقيا ليمضيا العقد، هنا تثور حفيظة الناشر فيذكر ما أنفق وما دبر وما كاد، ويكره أن تكون نتيجة هذا كله لخصمه، وإذا هو قد أسرع إلى التليفون فينتزعه من الكاتب انتزاعا، ويأخذ في المفاوضة، فيعرض خمسة آلاف، وتطلب جاكلين عشرة، ويأبى الكاتب إلا عشرين ألفا وإلا أن يرفض الناشر قصة ماريشال، فيذعن الناشر، وإذا الحياة قد عادت إلى جاكلين، وإذا الأمل قد ابتسم لها، وإذا الناشر قد استأنف الثقة بالكاتب، وهو يطلب إليه أن يستقيل فيأبى في شدة؛ لأن الوزارة أحسن مكان يصلح للتأليف.
وقد تم الاتفاق بين الرجلين، وانصرف الناشر وخلا الزوجان، فبينهما حديث فيه غبطة ومرارة، وفيه إذعان المرأة وطمعها، وفيه ألم الأديب وغروره، ولكنهما قد وعدا الناشر أن يقدما إليه الأصل بعد خمسة عشر يوما، فلا بد من البدء في تهيئة هذا الأصل، وهذه جاكلين قد جلست إلى المائدة وهيأت الآلة الكاتبة، وهذا زوجها قد أخذ يملي عليها كتابه في بطء، بينما يسدل على ذلك الستار.
الأمر للقدر
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
أما هذه المرة فسأدع ما يكتبه أصحاب التمثيل، وما تشغل به الملاعب في هذه الأيام إلى كاتب مات منذ سنين، وانصرفت الملاعب انصرافا مؤقتا عن قصصه التمثيلي، وإن كانت عقول الناس وأذهانهم لم تنصرف عنه بعد، ولا ينتظر أن تنصرف عنه قبل زمن طويل، وهو بول هرفيو.
ولست أدري لم تركت ما كان بين يدي من القصص التمثيلية الكثيرة التي ظهرت في هذا العام أو في العام الماضي وعدت إلى بول هرفيو أستعرض قصصه، وأتخير من بينها قصة أجعلها موضوع الحديث في هذا الشهر، أو قل إنني أعرف السبب الذي صرفني عن الكتاب الأحياء المنتمين إلى هذا الكاتب، وهو أني أحبه، وأعجب به ولا أعرف حدا لحبي إياه وإعجابي به، أحبه فأقرأ قصصه، ثم أعيد قراءتها المرة بعد المرة، فلا أسأم ولا أمل، بل أجد فيها كلما أعدت قراءتها لونا من اللذة جديدا، وفنا من الإعجاب طريفا، وإذا كان هناك شيء يصح أن أتساءل عنه فهو هذا الحب الذي لا حد له، والذي يزداد قوة كلما أمعنت في قراءة هذا الكاتب، لقد حللت طائفة من قصصه، وكتبت عنه غير مرة، ومع ذلك فأنا راغب في أن أعود إليه، وأن أستأنف الحديث عنه، لا أجد في ذلك مشقة، ولا أخشى أن يجد القارئ في العودة إليه مشقة أيضا، أذلك لأن فلسفة بول هرفيو في قصصه التمثيلية هي أشد أنواع الفلسفة الخلقية اتصالا بمزاجي الشرقي، وملاءمته لحياتي الشرقية؟ فالشرقي - سواء رضي أم كره - قدري مطمئن إلى أن هناك سلطانا قويا قاهرا يصرفه ويسيطر عليه، كما يصرف الأشياء من حوله ويسيطر عليها، هو مقتنع بهذا القدر، مطمئن إليه، مستسلم له، وحياته العملية كلها متأثرة بهذا الاطمئنان والاستسلام، كما أن حياته العقلية والشعورية متأثرة بهما تأثرا شديدا، تختصره هذه الجملة التي يرددها المسلمون عن اقتناع وإيمان واطمئنان، والتي كدت أستعيرها عنوانا لهذه القصة: «لا حول ولا قوة إلا بالله.»
ثم إن فلسفة بول هرفيو في الأخلاق، وفهمه للحياة يمثلان هذا النوع من القدرية التي يؤمن بها الشرقيون، ويذعنون لها إذعانا كون أمزجتهم تكوينا، فأنت حين تقرأ قصة من قصص بول هرفيو لا تكاد تمضي في القراءة حتى تحس أن الكاتب جاد في أن يزيل عن نفسك طائفة من الغشاوات التي تختلف كثافة ورقة، والتي تخيل إليك أن لك من الأمر شيئا، وأنك تستطيع أن تصرف حياتك وحياة الناس، وأن تؤثر في الأشياء من حولك بهذه الإرادة التي تمتلكها، وما يزال الكاتب يزيل هذه الغشاوات غشاوة غشاوة، وما تزال أنت تمضي معه متخففا من أثقالها شيئا فشيئا، واجدا لذة غريبة في التخلص من هذه الغشاوات، ومواجهة الحياة كما هي، حتى ينتهي بك الكاتب إلى آخر القصة، وإذا أنت مقتنع معه بأن إرادتك ليست شيئا، وأن ما كنت تحسبه لنفسك من قوة وبأس وسلطان لا يزن شيئا أمام هذه القوى العظيمة الخارجية التي تصرفك وتسيطر عليك، وتخضعك لسلطانها، سواء أردت أم لم ترد.
لا يبحث بول هرفيو عن طبيعة هذه القوة، ولا يعنيه أن يحددها ولا أن يصفها، ولا أن يتعمق فيما بعد الطبيعة ليتبين كنهها، وليتبين ما بينها وبين القوى الأخرى من صلة، كل ذلك لا يعنيه، وإنما الذي يعنيه هو أن يلاحظ وجود هذه القوى، وتأثيرها في حياة الناس، وإكراهها الناس على أن يسلكوا طرقا ما كانوا ليسلكوها لو أنهم أحرار، ويصطنعوا أمورا ما كانوا ليصطنعوها لو أن لهم إرادة أو اختيارا، لتكن هذه القوة دينية، أو لتكن هذه القوة طبيعية، أو لتكن هذه القوة اجتماعية، أو لتكن هذه القوة مزاجا مؤتلفا من هذه الألوان كلها، فطبيعتها لن تغير من الحقيقة الواقعة شيئا.
والحقيقة الواقعة هي أن هذه القوة تأخذ علينا الطرق، وتطيف بنا من كل ناحية، وتضطرنا إلى ما نأتي من الأمر في حياتنا الفردية والاجتماعية فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين الناس من صلة.
وإذا كان هذا حقا فخليق بنا أن نخفف من هذا الغرور الذي يملؤها، ويخيل إلينا أنا شيء مذكور، وأن نرى أنفسنا كما نحن ضعافا مسيرين لا حظ لنا من قوة، ولا قدرة لنا على المقاومة، ثم إذا كان هذا حقا كنا خليقين أن نلائم بينه وبين حكمنا على الأشياء، وحكمنا على الناس، فنقصد في المدح والذم، ونعتدل في اللوم والإطراء، ولا نسرف في تقدير التبعات، ولا نسرف بعد ذلك في تقديرنا ما يلائم هذه التبعات من مقاومة باللوم حينا وبالعقوبة حينا آخر، وإذا كان هذا حقا فخليق بنا أيضا أن نستقبل الحياة راضين مطمئنين، لا ساخطين ولا ثائرين، وما قيمة السخط الذي لا يجدي؟ وما قيمة الثورة التي لا تغني؟ وفيم نضطرب وفيم نثور ونحن مضطرون آخر الأمر إلى أن نذعن ونستسلم ، أليس الرضا بما لا بد منه خير من هذه المقاومة العنيفة التي ليست في حقيقة الأمر إلا جهدا ضائعا وضربا من ضروب اللغو.
فأنت ترى أن هذه الفلسفة التي تظهر في أول الأمر سوداء مسرفة في التشاؤم والاستسلام ليست أقل من غيرها دعوة إلى الخير، وترغيبا فيه، واتصالا بما ألف الناس من قواعد الأخلاق، فهي تأمر كما تأمر غيرها بالإحسان والصفح، والاعتدال في اللوم والذم، والاعتدال في الحمد والثناء، ثم هي تأمر كما تأمر غيرها بالرضا، واستقبال الحياة في طمأنينة، وابتسام عن علم بها، وحسن رأي فيها.
ألهذه الفلسفة المتصلة بمزاجنا الشرقي أحب هذا الكاتب، وأمعن في حبه؟ أم أنا أحبه لأنه متصل بهذه الطائفة من الكتاب والشعراء القدماء الذين أثروا في الأدب الإنساني كله آثارا خالدة لا سبيل إلى أن تزول؟ فقصص بول هرفيو ليس جميلا لما فيه من فلسفة فحسب، بل هو جميل لأنه يتصل بالقصص اليوناني التمثيلي في تصوره للحياة، وفي تصويره لهذه الحياة، كما يتصل بهذا القصص التمثيلي القديم في إيثاره للجمال الفني، يلائم فيه بين الألفاظ والمعاني ملاءمة تبهرك بما فيها من جلال، يظهر في الألفاظ كما يظهر في المعاني كما يظهر في الأغراض التي يرمي إليها، وكما يظهر في الصور المختلفة التي يتخذها وسيلة إلى هذه الأغراض. وأنت حين تقرؤه مضطر إلى أن تفكر في إيسكولوس، يضطرك إلى ذلك هذا الجلال الذي يسبغه بول هرفيو على قصته كما كان يسبغه إيسكولوس، كما يضطرك إلى ذلك رأي بول هرفيو في القضاء، فهو بعينه رأي إيسكولوس في القضاء لا يفرق بينهما إلا أن إيسكولوس كان وثنيا يؤمن بآلهته الوثنيين، وبخضوعهم لهذا القضاء كما يخضع له الناس، وكان يتصور هذا القضاء تصورا وثنيا يونانيا لم يتأثر بفلسفة الفلاسفة ولا بعلم العلماء ولا بالحضارة الراقية المسرفة في الرقي، أما بول هرفيو فابن القرن التاسع عشر، لم يكن وثنيا، وإنما هو خلاصة كل هذه الحضارة الفرنسية، وما انتهى إليها من آثار الأمم القديمة، وما عمل فيها من فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ثم ما شهد من ازدحام الناس وتنافسهم في جميع ألوان الحياة، فقضاؤه ليس أقل عنفا ولا سلطانا من قضاء إيسكولوس، ولكنه قضاء متحضر مهذب، يلائم القرن التاسع عشر.
فلسفة بول هرفيو وفنه، واتصاله من هاتين الناحيتين بسلسلة الممثلين اليونانيين، والممثلين الفرنسيين في القرن السابع عشر، ثم تعرضه للمسائل العويصة الدقيقة، ومحاولته أن يجد لها حلا في القضاء والقدر، كل هذا حبب إلي هذا الكاتب، ورغبني في ترديد قراءته، وترديد الحديث عنه.
وهذه القصة التي أريد أن أحدثك عنها الآن هي آخر ما قدم إلى الملاعب قبيل الحرب، وقد أجمع النقاد على اختلاف أهوائهم وميولهم الفنية على الإعجاب بها والثناء عليها، وذهب بعضهم في ذلك إلى أبعد حد ممكن فوصفها بأنها آية من آيات الفن، ولست أذهب هذا المذهب ولا أغلو هذا الغلو؛ فقد قرأت من قصص بول هرفيو التمثيلي ما أعجبني وراقني، وأثر في نفسي تأثيرا أبلغ من تأثير هذه القصة، ولكني على ذلك أرى أن هذه القصة تلخص مذهبه الفلسفي تلخيصا وافيا أكثر مما تلخصه قصة أخرى من قصصه التمثيلية، وكأنه كان يحسن أن هذه القصة ستكون آخر قصصه، وكأنه كان يريد لهذا أن يعرض فيها مذهبه كاملا صريحا، وقد دفعه إلى ذلك ولا سيما في المنظر الأخير من هذه القصة.
وقد وضعت هذه القصة لملعب أجنبي، فقد يقال إن الكاتب لقي بعض الممثلين في إسبانيا، ورغب إليه هؤلاء الممثلون في أن يأذن لهم بترجمة شيء من قصصه التمثيلي فرضي، ثم وعدهم بأن يضع لهم قصة خاصة ثم عاد إلى باريس فوضع هذه القصة القصيرة، وأرسلها إلى إسبانيا، فما أسرع ما نقلت إلى الإسبانية، ومثلت في مدريد، بينما كان الأصل الفرنسي يمثل في باريس، ولهذه الخاصة أثر ظاهر في القصة، فقد يلاحظ القارئ في بعض الأشخاص حرارة وحدة وشعورا غاليا بالشرف تلائم المزاج الفرنسي، ومن غريب الأمر أن بعض النقاد الفرنسيين شهد تمثيلها في إسبانيا، وشهد تمثيلها في فرنسا، وأراد أن يقارن بين التمثيلين فاستخلص من هذه المقارنة أن القصة الفرنسية شيء والقصة الإسبانية شيء آخر، لا من حيث المعاني والأغراض؛ فقد كانت الترجمة دقيقة صحيحة، ولكن من حيث الأثر الذي يتركه تمثيلها في النفوس، فالتمثيل الإسباني عاطفة كله فتظهر فيه الحدة والحرارة، ويظهر فيه الشعور قويا عنيفا، بينما التمثيل الفرنسي مزاج معتدل من العقل والشعور، فالحدة فيه لا تكاد تظهر، وإنما يظهر هذا التأثير الشديد الذي يلطفه التفكير كما يظهر فيه هذا الحزن العميق الذي لا حظ فيه لإسراف الدموع، ولا لإسراف الصوت أيضا.
وأنت حين تقرأ هذه القصة تعجب بالألفاظ إعجابا شديدا، وذلك شأنك حين تقرأ آثار بول هرفيو كلها، وتعجب أيضا بالمعاني التفصيلية، ولكنك تحس في أول الأمر شيئا من البطء ومن الهدوء الذي لا يخلو من إسراف، ويخيل إليك أن الكاتب يطيل في غير جدوى، وتساءل نفسك إلى أين يريد أن ينتهي، ولكنك لا تكاد تفرغ من الفصل الأول حتى يكون الكاتب قد انتهى بك إلى عقدة شديدة، وشوقك إلى أن تعرف كيف تحل هذه العقدة، فأنت في حاجة إلى أن تمضي في القراءة، ولكن هذه العقدة ليست من الغرابة والطرافة بحيث تحول شوقك إلى شيء من الكلف غريب تشعر به أمام الحوادث الحادة، إنما أنت مشوق إلى أن تعرف كيف تنتهي هذه القصة، والكاتب في الفصل الثاني هادئ مطمئن، يسير معك في رفق ولين حتى يسئمك في بعض الأحيان، ولكن هذا الفصل لا يكاد ينتصف حتى ينقطع كل هدوء، وينتهي كل رفق، ويستحيل الأمر استحالة تامة، فإذا الحوادث يتبع بعضها في سرعة شديدة وعنف غريب، وإذا أنت قد فقدت هدوءك، وثرت كما يثور الكاتب، وإذا شوقك إلى الفراغ من القصة قد استحال إلى شهوة عنيفة فأنت تعيش مع الأشخاص عيشة حادة مضطربة، وأنت تحس في الوقت نفسه الغشاوات تسقط عن نفسك شيئا فشيئا، وأنت ترى نفسك بعد هذا كله فجأة قد وقعت أمام إثم عظيم فيه القتل، وفيه السرقة، وفيه الكذب، وفيه شهادة الزور، ولا أثر للإرادة الإنسانية الحرة في شيء من هذا بوجه من الوجوه، إنما هي ظروف قاهرة: منها ما يتصل بشهوات النفس، ومنها ما يتصل بالوراثة، ومنها ما يتصل بالنظام الاجتماعي، وكل هذه الظروف قد تظاهرت على أن تضطر جماعة من الناس إلى أن يتورطوا جميعا في هذه الآثام، وهؤلاء الناس جميعا بطبيعتهم وبتربيتهم، وباعتقادهم الديني بعيدون كل البعد عن هذه الآثام لو استطاعوا أن يتقوها ويجتنبوا التورط فيها، هم جميعا مسيحيون مؤمنون شديدو الإيمان بحكم أمزجتهم، وبحكم تربيتهم، وبحكم البيئة التي يعيشون فيها، وهم يتمثلون وصايا التوراة: لا تسرق، لا تقتل، لا تشهد الزور ... وهم مع ذلك مضطرون إلى أن يسرقوا، وإلى أن يقتلوا، وإلى أن يشهدوا الزور، ثم إلى أن يلاحظوا هذا كله، ويلاحظوا آخر الأمر أن السلطان كله للقدر. وليس هذا كله كل ما في القصة، بل أنت تجد فيها نوعا من المقارنة غريبا دقيقا، عمد إليه الكاتب في رفق ولين، بين خادم متواضع ضئيل اضطرته ظروف الحياة أن يسرق شيئا قليلا من سادته، فإذا هم ساخطون عليه، ناقمون منه، يعنفونه ويطردونه في ازدراء واحتقار، وهو مذعن مستسلم مستخز أمام ما اقترف من إثم، حتى إذا جل الخطب وكانت الكارثة، ظهر من هذا الخادم ما يجعله خليقا بإعجاب سادته، بل ما يجعل سادته مدينين له بالشكر، ويكرههم على أن يعترفوا له بالجميل، وهو على هذا كله حين سرق ما سرق لم يكن أشد منهم تورطا في الإثم، ولا أبعد منهم عما تعودوا أن يسموه شرفا وفضيلة. •••
نحن في قصر فخم في الريف الفرنسي تقيم فيه أسرة غنية، تتألف من زوجين وابنين، فأما أحد الزوجين فرجل غني نشأ في الطبقة الوسطى، وعمل أبوه في الشئون المالية؛ فأثرى وطمع له في زوجة من الأسر النبيلة فوفق إلى أن يزوجه من فتاة بعيدة الشرف، عظيمة الثروة، فأما الزوج فاسمه جايتان بيري، وأما الزوجة فاسمها جوليان دي شازيه.
وقد ورث الزوج عن أبيه مع ثروته ما يمثل الطبقة التي نشأ فيها، فهو رجل عمل لا يعرف التردد ولا الاضطراب، جريء حتى على الأخلاق، حتى على النظم الاجتماعية، ماهر في النفاق، يستطيع أن يخدع الناس عن نفسه، كما يستطيع أن يخدعهم عن أنفسهم، قد أظهر لامرأته أنه يحبها فاقتنعت بذلك وأحبته، فصدقت في حبه، على أنه لم يكن فيما أظهره من الحب إلا منافقا.
وأما امرأته فقد ورثت كذلك عن أسرتها شرفا في النفس، وكرامة، وأخلاقا رضية، وهدوءا، وصراحة، وسذاجة لا حد لها، مخلصة لا حد لإخلاصها، صادقة في حب زوجها، صادقة في حب ابنيها، معتدلة في هذا كله، محسنة كثيرة الإحسان.
ولهذين الزوجين ابنان؛ أحدهما: غلام يتهيأ لدخول المدرسة الحربية، والأخرى: فتاة جميلة ظريفة، قد بلغت سن الزواج وهي تدير في نفسها فكرة لها صدى في قلبها، فهي تحب وتريد أن تقترن ممن تحب.
ولهذه المرأة أخ عمل في الجيش، وارتقى فيه إلى مرتبة لا بأس بها، يشبه أخته في كرم النفس، وحسن الشيم، محب لأخته وابنيها، لا يعدل بهم أحدا، قد نزل لهم عن ثروته كلها أو كاد، ووقف حياته على هذين الشابين لا يبتغي إلا أن يجعلها أسعد الشبان.
ونحن نرى أول الفصل هذا الغلام جواشان في حالة سيئة، والخادم يعنى به؛ لأنه سقط عن فرسه، وكاد يصيبه التلف لولا هذا الخادم، وهو يشكر للخادم أن أنقذه، والخادم لا يرى في ذلك ما يستحق الشكر، وهو يطلب إلى سيده ألا يتحدث بشيء من ذلك إلى أمه حتى لا تشفق ولا تخاف حين يتصل بالمدرسة، وألا يتحدث بذلك إلى خاله؛ حتى لا يتخذه موضوعا للعبث والسخرية، والغلام يشعر بما في ذلك من تضحية يقدمها الخادم له، فلن تعرف أمه أن الخادم قد أنقذه، ولن تثني عليه، ولن تكافئه.
وتأتي أخته نويمى فترثي له، وتثني على الخادم.
ثم يأتي خالهما فيكون بينه وبينهما شيء من الدعابة ظريف. ولكن هذا القسم كله من القصة بطيء - كما قلت لك - لا يظهرنا على شيء مما يريد الكاتب إلا أنه يمثل لنا دعة الأسرة، وما هي فيه من ثروة ونعمة بال، كما أنه يمثل لنا هذا الخال سفرين دي شازيه ضابطا قوي النفس، شديد الخلق، كريما، رقيق القلب ...
وقد انصرف الفتيان وأقبلت أمهما فتتحدث إلى أخيها لبعض الشيء، ونفهم من حديثها أنها تنتظر صديقا لها ولأخيها هو مسينيه، كما نفهم من حديثها أن زوجها سيسافر لبعض شأن، ويقضي الليل بعيدا عن القصر ...
ويتركها أخوها حينا، ويقبل زوجها، فيكون بينهما حديث نفهم منه أنه ضيق الصدر بأخيها، وهي تلومه على ذلك، وتذكر ما كان لأخيها عليهما من فضل، وهو ينكر جميل أخيها، ويسرف في الإنكار، ثم نفهم من الحديث أنه يسافر إلى مكان لا يعينه في دقة، كما أنه لا يعين موعد عودته في دقة، فهو مريب في كل ما يقول، كما أنه مريب في كل ما يأتي، ولكن امرأته لا تحس شيئا من هذا.
وقد انصرف وأقبل الصديق الذي كانت تنتظره جوليان، فإذا تحدث إليها وتحدثت إليه فهمنا أنه صديق قديم، وأنه أحب هذه المرأة وخطبها فلم تجبه، فاحتفظ لها بود قوي طاهر.
ويأتي أخوها فيتحدثون قليلا، ثم تتركهما لبعض شأنها، فإذا خلا الرجلان أخبر مسينيه صاحبه بأن زوج أخته سيئ الحال، قد أتى من الأمر ما يمس شرفه، ويعرضه للقضاء، وفهمنا من حديثهما أن هذا الرجل يخون امرأته، ويسرف في خيانتها، فله خليلة ينفق عليها أموالا ضخمة، ثم نرى سفرين ثائرا يقسم ليكرهن زوج أخته على أن يغير من سيرته، وصاحبه يأخذ عليه العهد أن يكتم الأمر على جوليان، ولكن هذا الكتمان لن يطول أمره، فهذه جوليان مقبلة، وفي يدها كتاب تقول أنه أرسل إلى زوجها مستعجلا، وأنها ترددت ثم فضته، ونظرت فيه فإذا هو بشع منكر؛ لأنه يخبر زوجها بأن أمره قد رفع إلى القضاء، وهو متهم بالنصب والاحتيال، فأما هي فمغضبة ساخطة لا تحفل بهذا الكتاب، وإنما تنكر أن يكون في الناس من ينحط إلى كتابة مثله، وأما الرجلان فيضطربان لهذا الكتاب، وتحس منهما هذا الاضطراب، فتسأل وتلح فينبئانها آخر الأمر بأن هذا الكتاب قد ينم عن بعض الحق، ثم يعلنان إليها أنهما سيسافران فورا إلى باريس ليتبينا حقيقة الأمر، وليتداركا الشر قبل وقوعه ...
فقد رأيت اضطراب هذه المرأة أمام هذا الخطر الذي يوشك أن ينزل بأسرتها، ولكنها على ذلك مطمئنة لا تكاد تقدر ما تتعرض له. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد انقضى الليل، وانقضى أكثر الغد، وأقبلت جوليان إلى حيث تركناها أمس مضطربة بعض الشيء، تتعجل عودة أخيها من باريس، وهذا الخادم قد أقبل يعرض عليها حسابه؛ لأنه يريد أن يترك الدار بعد أن اتهم بأن سرق مائة فرنك، فاعترف بهذه السرقة، وبأنه اضطر إلى ذلك لينقذ ابنته من الموت، وهي لا تكاد تلتفت إليه، بل ترد إليه معلنة أن زوجها سينظر في هذا الحساب، والخادم يستعطفها ويدفع عن نفسه، وهي ترده رفيقة مرة، وعنيفة مرة أخرى.
وهذا أخوها يقبل فتتعجله الأخبار، فيخبرها بأن ما في الكتاب صحيح، وبأنه عرف تفصيل القضية، وبأن زوجها متهم بالسرقة، ثم بالنصب والاحتيال، وبأن التهمة - ثابتة - تثبتها كتب خطتها يد زوجها، وبأن الخصوم السياسيين لزوجها مسرفون في نيل هذا الرجل بالشر، يبتغون من ذلك شفاء شهوة سياسية ... وهي تسمع لهذا كله فيصعقها، ولكنها قويمة النفس، تستطيع أن تحتمل، فما أسرع ما تسترد صوابها، وإذا هي تفوض الأمر لأخيها، مظهرة الاعتماد عليه، والثقة به، ولكنها مع ذلك تثق بالله، وتعتمد عليه، فتترك أخاها وتذهب إلى حيث تصلي.
وهذان الغلامان قد أقبلا في نشاط ومرح وابتسام للحياة، وخالهما ينكر عليهما الإسراف في اللذة والابتهاج، ويود لو نظرا إلى الحياة في شيء من الجد فلا يفهمانه؛ لا يفهمان منه هذا الرأي الجديد، وهو لا يستطيع أن يبين، ولا أن يظهرهما على حقيقة الأمر، ولكنه يدور حول هذه الحقيقة، فلا يعيان عنه شيئا، والفتى يداعب أخته ويغيظها، ويعرض بما بينها وبين بعض رفاقه من صلة ثم يمضي، فإذا ألح الخال على ابنة أخته أخبرت بأنها تحب هذا الرفيق، وأن هذا الرفيق يحبها، وأن أمها تحس بشيء من ذلك، وتشجعها عليه، وأنها هي حريصة على أن تقترن بهذا الفتى مشفقة من رفض أبيها، معتمدة على خالها في حمل أبيها على القبول، وينصرف الفتيان إلى لعبهما.
وأنت تحس في أثناء كل هذا الحديث شوقا إلى أن تعرف كيف تنتهي القصة، وضيقا بكل هذه الأشياء التي تعترض مجراها، ولكن هذه الأشياء كلها لم تأت عبثا، فهي تزيد في حرج الموقف، فمرح هذين الغلامين وابتسامهما للحياة، وأمل هذه الفتاة وحبها بينما تحدق الكارثة بهذه الأسرة، كل هذا يضاعف الحرج الذي يحيط بهؤلاء الناس، وله أثره فيما سيصدر عنهم من الأعمال.
وقد أقبل الزوج فيتلقاه أخ امرأته مغضبا، ويسأله هل تلقى رسالة امرأته، فإذا أجاب أنه لم يتلق شيئا، قال له صاحبه: فهذا دليل على أنك لم تكن حيث أنبأت امرأتك، ثم يشتد الحوار بين الرجلين، ونفهم منه أن الزوج يعلم بكل شيء، أنه استيأس من موقفه وأنه إنما جاء ليمر بمكتبه فيأخذ منه بعض الشيء، ثم يمضي إلى حيث يلتمس النجاة، إذن فهو يريد الهرب من فرنسا! لا يحفل بامرأته، ولا يحفل بابنيه، ولا يحفل بما سيقال عنه، وما سيقال عنهم جميعا ... ولكن سفرين يقدر موقفه، ويقدر موقف أخته وابنيها، وشرف الأسرة، ومستقبل هذين الغلامين بنوع خاص، وهو يعلم أن هرب هذا الرجل أو سجنه قضاء على ما للأسرة من شرف، وهو يتمثل ابنة أخته وقد انقطع أملها، وانصرف عنها رفيقا، ويتمثل ابن أخته وقد حيل بينه وبين مستقبله في الجيش، ويتمثل أخته ذليلة مهينة محتقرة، يتمثل هذا كله ولا يرى مخرجا منه إلا أن يقتل هذا الرجل نفسه قبل أن يساق إلى القضاء، فهو يعرض لزوج أخته بالانتحار، فلا يلقاه الآخر إلا ساخرا مزدريا، فيخرج من التعريض إلى التصريح، فيأبى عليه الآخر، فيلح، فيشتد الآخر في الإباء، وكلما مضى الحوار بين الرجلين اشتد في نفس الأب حرص على الحياة والهرب، واشتد في نفس الخال حرصه على شرف أسرته، ومستقبل هذين الغلامين. وكان الأب قد ترك مسدسه على المائدة، فانظر إلى الخال يخرج المسدس من علبته، ويشير به إلى الأب، والأب يعرض عنه، والخال يلح، حتى إذا أسرف في الإلحاح، ومضى في طريقه إلى مكتبه تبعه الخال ومعه المسدس، هائجا ثائرا منذرا، والأب لا يزداد إلا امتناعا، والخال لا يزداد إلا نذيرا، وهذا الخادم قد أقبل يخبر بأن بعض الشرطة بالباب، ثم ينصرف، فيشتد الخال في الإلحاح، ويشتد الأب في الإنكار، ويمضي إلى مكتبه، ويتبعه أخ امرأته، وبينما هما يستبقان في شيء يشبه الصراع يعود الخادم ويقبل الصديق مسينيه وقد أغلق باب المكتب دون الرجلين ويسمع بينهما حوار عنيف، ثم يسمع انطلاق المسدس، ثم يعود الخال في ذهول تستطيع أن تقدره، وقد فهم الخادم وفهم الصديق أنه قد قتل زوج أخته، ولكن الشرطة بالباب، فما أسرع ما يمضي الخادم والصديق إلى حيث القتيل.
وهذه جوليان مقبلة، فيتلقاها أخوها، فتسأله عن زوجها هل أقبل، فيجيبها جوابا غامضا، ويتحدثان فما أسرع ما يصلان إلى الفاجعة، ألم تنظر فترى قفازي زوجها؟ ثم ألم تنظر فتفتقد المسدس؟ إنها لتسرع تريد أن ترى زوجها فيمسكها أخوها، ويخبرها بأنه قد مات ... فهي ذاهلة واجمة، ساخطة على أخيها؛ لأنه لم يحل بين زوجها وبين الموت، معلنة أنها تحب زوجها، وستحبه أبدا، ولكن أخاها يكشف لها عن جلية الأمر، وينبئها بمكان هذا الرجل من خيانتها، وما يزال بها حتى تقتنع، وإذا حبها لزوجها قد تغير، وإذا هي مثقلة قد انهدت قواها أمام هذه الكوارث المتصلة: هذا زوجها قد سرق، وكانت على ذلك تحبه، وهذا زوجها قد قتل نفسه وأسلمها، وأسلم ابنيها للذل والفقر، وكانت على ذلك تحبه، ولكن زوجها قد خانها، فأين ذهب هذا الحب؟ لقد كان تكره أخاها منذ لحظات، ولكنها الآن تثوب إليه، وتريد أن تعانقه وهو يأبى عليها ... فإذا أنكرت عليه هذا الإباء أخبرها بأنه قتل زوجها ... فهي مضطربة إلى اضطرابها، واجمة إلى وجومها، وهي تذكر وصايا التوراة: لا تسرق، وقد سرق زوجها، لا تقتل، وقد قتل أخوها، لا تشهد الزور، وهي مضطرة إلى أن تشهد الزور، وهي مشفقة على أخيها من الخادم، ألم يكن أمس موضوع سخطها؟ ألم يعنفاه؟ ألم يطرداه؟ فما يمنعه أن يثأر لنفسه؟ لقد سرق ولكن زوجها قد سرق، وقد سرق، وهو مضطر لينقذ ابنته من الموت، أما زوجها فسرق ليرضي خليلة، وليمعن في خيانة امرأته، وهذا الخادم قد أقبل ينبئ سفرين بأن بعض رجال الشرطة عندما نظر إلى القتيل لاحظ أن المسدس قد أصاب رأسه من بعيد فأخبره الخادم بأنه أدرك سيده وهو يحاول الانتحار فأراد أن ينتزع منه المسدس فلم يوفق إلا إلى إبعاد ذراعه عن رأسه، واقتنع الشرطي، والخادم يخبر سيده بذلك ليعلمه، وليحرص على ألا يناقضه إن سئل، إذن فهذا الخادم الذي سرق أمس واحتقر، وازدري، وطرد قادر على الوفاء! ولكن ما طبيعة هذا الوفاء؟ أليست هي الكذب، وشهادة الزور؟ وإذن فمتى كان يحسن الخادم، أحين يشهد الزور لينقذ حيا أم حين يصدق في الشهادة ليعاقب مجرما؟ •••
أما سفرين فهو يودع أخته، يريد أن يترك جوارها وجوار ابنيها، فهو لا يستطيع أن يرى هذين الغلامين وقد قتل أباهما، وسيكون حظه من الدنيا أن يرعاهم جميعا عن بعد، ويضمن لهم الحياة.
وهذا الصديق قد أقبل فإذا سفرين يستودعه أخته، ويوصيه بأن يرعاها في احترام وإخلاص، فيعده بذلك.
ولكن أخته تتعلق به ملحة عليه أن يعدها بأنه سيعود أو بأنه سيحاول العودة، فإذا أسرفت في الإلحاح أجابها: فيم الوعد؟ وهل أدري ماذا أصنع؟ وهل أستطيع أن أعلم شيئا؟ أليس الأمر للقدر؟
أنا قاتلة
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ليوبولد مارشان»
مثلت هذه القصة في باريس منذ ثلاثة أشهر، فأجمع النقاد على الإعجاب بها، ولكنهم على ذلك وقفوا منها مواقف مختلفة: فمنهم من أعجب إعجابا مطلقا، ومنهم من احتاج إلى شيء من التحفظ يختلف قلة وكثرة باختلاف حظه من المحافظة، والميل إلى التجديد في مناهج الفن التمثيلي.
والحق أن القصة تدعو إلى شيء من التردد في وضعها، وتصورها، وانسياق فصولها، ومناظرها، فموضوعها في ظاهر الأمر عادي تافه لا يكاد الناس يلتفتون إليه إلا أن يضطروا إلى ذلك، فإن فعلوا فما أسرع ما ينصرفون عنه؛ لأنه من هذه الموضوعات التي تطرق آذانهم في كل يوم، وتغدو بها الصحف وتروح، والتي أثارث أول الأمر شيئا من السخط، ثم لم تلبث أن ألفها الناس واطمأنوا إليها، فالعناية بموضوع كهذا وعرضه في ملاعب التمثيل خليقة أن تضطر الناقد إلى شيء من التردد، ثم وضع القصة نفسه لا يخلو من بعض الغرابة، فقد تعود الكتاب الممثلون أن يسيروا بالنظارة والقراء سيرا هادئا منطقيا حتى ينتهوا بهم إبان القصة أو آخرها إلى ما يثير في نفوسهم العواطف الحادة إن كانوا يريدون إلى إثارة هذه العواطف. أما كاتبنا فقد خالف هذا المنهج مخالفة تامة؛ فبدأ بما يثير العواطف، ويهز النفس هزا عنيفا في الفصل الأول، ثم مضى بقصته في تؤدة وهدوء ولين حتى انتهى بها إلى آخرها، ثم إن القصة في حقيقة الأمر توشك أن تكون قصتين، أو هي بالفعل قصتان، تبدأ أولاهما في الفصل الأول، وتنتهي إبان الفصل الثاني، ثم تبدأ الأخرى وتنتهي آخر الفصل الثالث. ومن الممكن جدا فصل هاتين القصتين، ولكن هذا الفصل يفسد إحدى القصتين وهي الأولى؛ لأنه يردها إلى شيء تافه لا قيمة له، ولا خطر، ويسيء إلى القصة الثانية؛ لأنه يردها إلى حوار مجرد، وإلى ضرب من الفلسفة لا عمل فيه ولا حركة، ومهما يكن من شيء فاقتران هاتين القصتين وإن كان في حقيقة الأمر مصدر جمال - كما سترى - خليق بأن يفاجأ النقاد والنظارة، ويضطرهم إلى شيء من التردد قبل الحكم للكاتب أو عليه.
تجد هذه الملاحظات كلها وملاحظات أخرى فيما كتب النقاد عن هذه القصة إثر تمثيلها لأول مرة، ولكنك تجد في الوقت نفسه إلى هذه الملاحظات - كما قلت لك - إعجابا شديدا لم يتردد النقاد جميعا في إعلانه، بل لم يتردد بعضهم في أن يغرق فيه، ذلك أن القصة خليقة بالإعجاب، وليس يغض منها أن موضوعها مألوف، بل ليس يغض منها أن يكون هذا الموضوع تافها مبتذلا إذا استطاع الكاتب أن يستغل هذا الموضوع التافه المبتذل، فيرفعه رغم تفاهته وابتذاله إلى حيث يجعله مصدرا للعظة والعبرة، والتأثر والتفكير.
وقد استطاع الكاتب - كما سترى - أن يصل بموضوعه التافه المبتذل إلى هذه المنزلة، وليس يكفي أن يكون الموضوع تافها مبتذلا ليزدريه الفن، ويعرض عنه، وإنما يخيل إلينا أن من مزايا الفن الصحيح أن يمس بعصاه السحرية هذه الشئون التافهة المبتذلة، فيرفعها ويجعلها مصدرا للفائدة العقلية أو الشعورية أو للفائدتين معا، ذلك أن هذه الشئون التافهة إنما هي مظاهر لحياة الناس، وليس في حياة الناس شيء وإن صغر يحسن أن يطرح ويزدرى لأنه صغير.
ثم ليس يغض من هذه القصة أن يكون الكاتب قد بدأ من حيث ينتهي الكتاب الممثلون، فأثار العواصف في أول قصته، وقد تعود الكتاب أن يهيئوا في أول القصة لهذه العواصف وألا يثيروها إلا إبان القصة، فما الذي يمنع هذا الكاتب أن يجدد ويخالف هذا المألوف الذي لم يحتمه على الناس إلا العادة، والذي ليس من التقديس بحيث لا ينبغي الانصراف عنه، وأمر العواصف النفسية كأمر العواصف الطبيعية الخارجية، لها الأسباب المهيئة التي تستتبعها وتثيرها، ثم لها النتائج التي تنشأ عنها بعد هدوئها، وكما أن العالم الطبيعي من الحق عليه أن يدرس العواصف قبل أن تثور ليعرف كيف تثور، وأن يدرسها بعد أن تثور؛ ليتبين ما ينشأ عنها من النتائج والآثار، فمن الحق على من يريد أن يتعرف النفس الإنسانية أن يدرس عواصفها وعواطفها قبل أن تثور كما تعود الكتاب الممثلون أن يفعلوا، وبعد أن تثور كما فعل كاتبنا هذا في هذه القصة.
ثم ليس يغض من القصة أيضا أن تتألف من قصتين ما دامت هناك سبيل إلى تحقيق الوحدة بين هاتين القصتين، بل إلى استخلاص إحداهما من الأخرى بحيث تستطيعان أن تكونا قصة واحدة.
وسبيل هذه الوحدة من قصتنا هذه واضحة بينة، فهذه المرأة التي تقترف الإثم، ثم تتأثر بنتائجه بعد اقترافه شخص واحد لا شخصان، ولو أنك درست حياة أي شخص من الأشخاص لاستطعت أن تجمعها، فتؤلف منها قصة واحدة؛ لأن حياة الأفراد والجماعات متصل بعضها ببعض، ناشئ بعضها عن بعض، فالوحدة هنا هي الأصل، والتفريق يصطنع اصطناعا، ويتكلف تكلفا على أنه وسيلة من الوسائل لتسهيل الدرس، وجعله سائغا ميسورا.
إذن فيخيل إلي أن هذه الملاحظات التي أخذ بها الكاتب لا تثبت أمام التفكير والتحقيق، وإنما ينبغي أن ينظر إلى القصة من حيث هي لنعرف هل وفق الكاتب في تصورها، وفي عرضها، وفي استخلاص ما استخلص منها من النتائج والآثار؟ ويخيل إلي أنه قد وفق إلى ذلك توفيقا حسنا لا بأس به.
ولعل تلخيص القصة أوضح سبيل إلى إثبات ما لكاتبنا من الحظ في هذا التوفيق: «موضوع القصة يسير سهل، ولكن يسره وسهولته لا يمنعانه أن يكون مثارا لكثير من الشكوك والخواطر يحسن أن يقف عندها المفكر الباحث: امرأة خانها خليلها، وأسرف في خيانتها، فتجد ما استطاعت في أن تترضاه، وتستأنف الحظوة عنده، ولكنها لا تفلح فتفسد عليها الغيرة أمرها، وتملك عليها عقلها وشعورها، فتقترف إثم القتل، ويعرف لها المحلفون هذا الضعف الذي اضطرها إليه الغيرة الحادة، فيعفونها من التبعة، ويبرئونها. وهي سعيدة بهذه التبرئة أول الأمر؛ لأنها أفلتت من الموت، وأفلتت من السجن، واستأنفت حظها من الاستمتاع بالحياة، وما فيها من هواء وضوء، وحرية وحركة وعمل، ولكنها إن أفلتت من المحلفين ومن القانون الاجتماعي فلن تفلت من قانون آخر داخلي نفسي هو قانون الذكرى، وما يسمونه تأنيب الضمير، فهي معذبة ترى نفسها آثمة، ولا تستطيع أن تطمئن إلى هذا الإثم، وهي تحاول أن تحيا، وأن تلذ، ولكن هذا الإثم ينغص عليها الحياة، ويكدر عليها صفو اللذة، فأنت ترى أن هذه المرأة كما تصورها الكاتب، وكما عرضها خليقة بالبحث والدرس، وأن هذه الأطوار المختلفة التي تتعاقب على نفسها قبل العاصفة وبعدها خليقة أن يقف عندها علماء النفس. ومن حول هذه المرأة أشخاص آخرون يختلفون فيما بينهم، ولكن كثرتهم تثير العناية، وهي خليقة بهذه العناية، من هؤلاء الأشخاص هذا الخليل الخائن الذي ذهب ضحية الخيانة والغيرة، وهذا الزوج الطائش الذي يعترف أنه مصدر ما تورطت فيه امرأته من إثم، وهذا المحامي الذي يحب متهمته، ويجتهد في أن يظفر بالمكانة في قلبها، ولكنه لا يستطيع إلا أن يلاحظ بأن بين ما يطلب وبين ما تستطيع هذه المرأة أن تعطيه أمرا بعيدا، ذلك إلى أشخاص آخرين ليس لهم من الشأن ما لهؤلاء الأشخاص الذي ذكرت لك.»
الحق أن القصة قيمة ممتعة للقارئ، ولكني أشك في أنها تستطيع أن تعجب الجمهور، وتستهويه في غير تحفظ ولا تردد، فجمهور النظارة كثير الطمع، قليل الرضا، وهو شديدة الميل إلى كثرة الحركة والعمل، سريع السأم والملل أمام هذا النحو من الحوار الفلسفي الدقيق الطويل، وأكبر ظني أن الفصل الأول من هذه القصة - وهو الفصل الذي لا أحبه كثيرا - قد أعجب الجمهور وراقه؛ لأنه سريع حاد، كثير الحركة، كثير الأشخاص فيه ذهاب وإياب، وفيه بنوع خاص إطلاق الرصاص وسفك الدم، وحضور الشرطة، والقبض على الجانية، وكل هذه أشياء تحب الجماهير أن تراها في الملاعب، فأما الفصلان الآخران فما أحسب أن الجمهور احتملهما إلا على مشقة وجهد. •••
نحن في فندق من فنادق نيس الكبرى، في غرفة المترفين، وهذه الغرفة تظل خالية حينا، ثم يقبل إليها اثنان: أحدهما رجل فرنسي أقرب إلى الشباب منه إلى الكهولة، شريف غني هو فرانسوا دي لارسان، والأخرى امرأة أمريكية نجمة من نجوم السينما - كما يقولون - جميلة بارعة الجمال فتانة الشكل واللفظ غريبة الأطوار، ولا يكاد هذان الشخصان يتحدثان حتى نحسن أن بينهما حبا ناشئا، ولكنه حاد عنيف قد صرف كلا منهما عن كل شيء إلا عن صاحبه، وهما يتراضيان ويتغاضبان، بينهما جد ومزاح، وقد اتفقا أو كادا على أن يسافرا معا من فرنسا إلى حيث تلعب هذه المرأة في بلد أجنبي، وهما في جدهما وهزلهما وإذا التليفون يدق، فتنصرف إليه المرأة ثم تنبئ صاحبها بأن زائرا قد أقبل يلتمسه، وهي كارهة لهذا الزائر وهو له أشد كرها.
وقد خلا الرجل حينا، وطرق عليه الباب فأذن فتدخل عليه امرأة هي إيليز كولريه، وهي صديقة قديمة له ولأسرته، أنكر مكانها، ثم تحدثا فنفهم أنها قد أقبلت تشفع عنده في خليلته بول فالير، ونفهم أن المودة اتصلت بين هذا الرجل وبين خليلته هذه منذ سنتين، واتصلت بفضل هذه الزائرة، ولأن هذه المرأة لم تكن سعيدة مع زوجها اللعوب، وإذ كان للحب كغيره مما يتصل بالناس آجال كآجال الناس فقد انقضى أجل هذا الحب سريعا في نفس هذا الرجل، فأخذ يخون خليلته، ويسرف في خيانتها، وأخذت هي تصبر على ذلك وتحتمله، وربما أنكرته على صاحبها في شدة وعنف أحيانا حتى ضاق بها فترك لها باريس، ولقي هذه الأميركية فشغف بها، وهو يريد أن يترك فرنسا كلها، وزائرته تستعطفه وتترضاه، ولكنه لا يريد عطفا ولا رضاء، والحوار بينهما طويل، فيه لين، وفيه عنف، ولكنه غير مجد.
وهما كذلك وإذا الباب يطرق، وإذا خليلته بول تدخل في هيئة المضطرب الموله، الذي أنفق أياما وليالي لم ينم إلا غرارا، وقضى في القطار يوما وبعض يوم، فهو متعب مكدور، وهو أشعث أغبر، سيئ الحال، وهو إلى هذا كله ضائع الرشد، أو كضائع الرشد، فإذا أقبلت خلت إلى صاحبها فيكون بينهما حوار قصير، ولكن فيه استعطافا وإباء، وترضيا وزجرا، ثم فيه بعد ذلك غيظ وحنق، ثم نذير ثم إباء، ثم إطلاق الرصاص، ثم ما يتبعه من إسراع الخدم، ودعوة الشرطة، والقبض على هذه المرأة مولهة ذاهلة، فقد فقدت الصواب أو كادت تفقده.
وأنا أعفيك من وصف هؤلاء الأشخاص الكثيرين الذين نراهم يضطربون طوال هذا الفصل على أن في هذا الوصف شيئا غير قليل من النفع، فهو يصور أخلاق الخدم، وأخلاق أصحاب الفنادق، وأخلاق الشرطة تصويرا لا يخلو من فكاهة وعبرة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في باريس في دار بول، وقد مضى على ما قدمت لك تسعة أشهر، وكانت مرافعات حادة، وعناية من الصحف شديدة بهذه القصة، ثم براءة المتهمة.
ونحن نرى خادمها العجوز وصديقتها التي مر ذكرها تنتظرانها، وقد هيأتا دارها لاستقبالها، وهي واصلة بعد دقائق من نيس، وهما تتحدثان عن حالها قبل الإثم، وعما عسى أن تكون قد احتملت في السجن في أثناء المحاكمة، وعما ينتظرها من الألم بعد ذلك، ويخيل إلينا ونحن نقرأ هذا الحوار أن هاتين المرأتين لا تجدان ما تتحدثان فيه، أو أن الكاتب نفسه لا يجد ما يطلق به لسانهما.
وهذا شخص ثالث قد أقبل هو زوج بول، فلعله يبعث في هذا الحوار شيئا من الحركة والحياة، ولكنه دون ذلك، فلا يكاد يدخل حتى تدهش الصديقة لمكانه، وحتى نعلم أنه كان شهما أمام القضاء حين أدى شهادته، فقد اعترف بأنه المسئول عما اقترفت زوجه من إثم؛ لأنه أهملها وخانها، وأسرف في الانصراف عنها، ولكنا نراه بعد ذك سخيفا فارغ القلب، معقود اللسان، لا يدري كيف يقول، وقد أقبل يريد أن يلقى زوجه بعد هذه المحنة لا لأنه يحبها أو يعطف عليها عطفا صادقا، بل هو نوع من المجاملة، ونوع من الغرور أيضا، وهو يتحدث إلى صديقة امرأته بأنه لم يخلق لزوجه، ولم تخلق زوجه له، وإنما هو رجل صاحب دعابة ولهو ينفق ليله في الحانات، ونهاره في العمل، وهو ضيق الصدر لأن امرأته لا تصل، وقد واعد صاحبة له، فهو يشفق أن يفوته الموعد.
ولكن امرأته قد أقبلت، فليلقاها زوجها، وتلقاها صديقتها في شيء من الاضطراب والتردد، ونحس نحن التناقض بين هؤلاء الناس جميعا، فأما الآثمة ففرحة مبتهجة؛ أليست قد برئت فأمنت الموت، وأفلتت من السجن، واسترددت الحرية! وأما زوجها وصديقتها فينكران فيما بينهما وبين أنفسهما هذا الابتهاج، لا يفهمانه وهما يحسان شيئا من خيبة الأمل، فقد كانا ينتظران أن يرياها مضطربة محزونة؛ ليعزياها، ويثبتا من جأشها، فلما أقبلت عليهما فرحة مسرورة أفلسا، ولم يعرفا كيف يقولان، وتنصرف صديقتها على أن تلقاها من الغد بعد أن تفهمنا أن لن تكون الصلة بينها وبين صاحبتها كما كانت من قبل؛ لأن الأوضاع الاجتماعية لا تسمح بذلك، وتخلو المرأة إلى زوجها حينا، فإذا كل سبب للحديث بينهما منقطع، ولكن الزوج قد استطاع على كل حال أن يفهم امرأته أنه ينكر بعض الشيء ما هي فيه من فرح وابتهاج بالحرية، فتحس هي أن الفرق عظيم بين ما يقتضيه الشعور الطبيعي وما تقتضيه الأوضاع الاجتماعية، فهي فيما بينها وبين نفسها سعيدة مغتبطة بحريتها، ولكن الأوضاع الاجتماعية تريدها على أن تقتصد في إظهار هذا الفرح، وعلى أن تصطنع لنفسها وجها يظهر عليه الحزن والضعف والكآبة.
وقد انصرف زوجها، وخلت إلى نفسها وإلى خادمها، وهنا تبدأ القصة الثانية.
خلت في حقيقة الأمر إلى نفسها وإلى خادمها؟ إنها تنظر من حولها فترى البيت كما تركته منذ أشهر لتلحق بصاحبها في نيس، لم يتغير فيه شيء، وتسمع من حولها فلا يصل إلى أذنها شيء، وإنما هو هذا الصدى الذي يضطرب في الأذن إذا سكن من حولك كل شيء، وتعكف على نفسها فترى أنها مملوءة بهذه الذكرى التي لم تفارقها بعد، وهي خائفة وجلة تدعو خادمها، ثم لا تستطيع أن تتحدث إليها بما تجد، فتتحدث إليها بأي شيء، وكلما همت الخادم أن تنصرف أمسكتها؛ لأنها تفزع من الخلوة إلى نفسها، ثم تتشجع شيئا فشيئا، فتطلب إلى الخادم أن تقضي الليل قريبا منها لأنها خائفة.
وقد أخذت الكلفة تزول بينها وبين خادمها، وأخذت هذه العجوز تغريها وتهدئ من روعها، وتنصح لها بترك باريس، والاضطراب يشتد من حين إلى حين، والهلع يغمر نفسها شيئا فشيئا، وإذا هي تتمثل خليلها، ثم لا تلبث أن تنسى كل شيء، ويخيل إليها أنها تنتظره كما كانت تفعل من قبل، وهي تمد أذنها لتسمع دق الجرس الذي كانت تسمعه في مثل هذا الساعة، وهي تسمع دق الجرس بالفعل، وهي تنكر ذلك! ولكن الجرس يدق ويدق، وقد سمعته الخادم كما سمعته سيدتها، فتمر بالمرأة لحظة ذهول لا تلبث أن تزول؛ لأن الخادم قد فتحت الباب، وأدخلت عليها سرج إيتيه محاميها.
تستقبله مطمئنة إليه، مبتهجة بمقدمه، فقد كان رفيقا بها في أثناء المحنة، ناصحا لها، محسنا إليها، وزيارته هذه تنقذها مما كانت فيه من الهلع، وقد أخذا يتحدثان، فنحس أن بينهما صلة لا تخلو من غرابة، أما هي فواثقة به، مطمئة إليه، تريد أن تتخذه مشيرا ومرشدا، وأما هو فمشفق عليها، رفيق بها، يحسن التعزية والتسلية، ولكن صوته ينم عن شيء آخر غير هذا، وما هي إلا أن يتصل الحديث قليلا، فنتبين أنه يحبها، وهي فزعة من هذا الحب، آسفة له، فقد كان يخيل إليها أنها وجدت في هذا الرجل صديقا مخلصا، فإذا هي تجد فيه عاشقا ملحا، وهي تطلب إليه أن ينصرف وهو يأبى ويستعطف، وهي تتحدث إليه في صراحة بأنها لم تبق صالحة للحب، وبأن قلبها مملوءة بأشياء أخرى، ولكنه واثق بأن الزمن سيحدث آثاره، وسيلقي بينها وبين هذه الذكرى من النسيان ستارا كثيفا، وهي تأبى وتلح في الإباء، وتعلن أن حب الرجال غرور ينتهي آخر الأمر إلى ألفاظ جوفاء لا تدل على شيء، وهو يسرف في هذه الألفاظ التي يملأها الحنان والحب، فتجيبه على كل جملة من هذه الجمل بقولها: هذا كلام، كلام، ولكنه يمضي في هذا الكلام، أو قل يستحيل شخصه إلى كلام قد أخذ على هذه المرأة السبيل من كل وجه، فهي ما تكاد تنطق بكلمة حتى يغمرها هو بموج متراكب من القول تضطرم فيه نار الحب اضطراما، ويسدل دونهما الستار، وقد أحسسنا أن الفوز سيكون له. •••
ويدركنا الفصل الثالث في قرية من قرى الساحل في بريطانيا الفرنسية آخر الصيف في فندق هناك، قد انصرف عنه أكثر المصطافين، ولم يبق فيه إلا القليل من المتخلفين، ومن بينهم صاحبتنا هذه ومحاميها، وقد مضى على ما قدمنا في الفصل الثاني عام وبعض عام، وقد قبلت حبه ومنحته ما كانت تستطيع أن تمنحه من ود وإيثار، ولكننا نحسن منذ أول الفصل بأن الأمر لا يطرد بينهما على وتيرة واحدة، نراها أول الفصل في غرفة الاستقبال تكتب، وقد أقبلت عليها امرأة تقيم معها في الفندق هي مدام ترانسون، فتتحدث إليها في شئون كثيرة، ولكننا نفهم من حديثهما أن في الفندق امرأة شابة جميلة خلابة، قد فارقت زوجها، وهي تعبث مع كل من تلقاه، ومع المحامي هذا بنوع خاص، ولكن بول تلقى هذا كله بشيء من الإغضاء والإذعان والفلسفة، ونفهم أيضا أن هذا المحامي الذي يعرف الناس أنه زوجها قد ذهب مع هذه المرأة اللعوب إلى مدينة قريبة؛ لأن هذه المرأة تريد أن تشتري ما تحتاج إليه، فآثر أن يحملها في سيارته.
وما هي إلا لحظات حتى تأتي هذه المرأة اللعوب أنيت هوسلين، فنفهم من حديثها أنها قد ذهبت إلى المدينة واشترت ما كانت تحتاج إليه، وأنها تشكو سرعة سرج في سوق سيارته. ثم يأتي سرج، وما هي إلا أن يخلو إلى زوجه أو إلى صاحبته فيتحدثا، فنحس أنه ضيق بالحياة، وبالإقامة في هذه القرية، وأنه يود لو استطاع أن يعود إلى باريس، وأن يغير برنامج الرحلة الذي كان يقتضي إطالة الغيبة عن العاصمة، وهو يظهر لامرأته حبا شديدا، وهي تظهر له حبا فيه مودة وبر، ولكنه خال من العواطف الحادة، والأمر بينهما واضح السوء، فهو يطلب إليها حبا حادا عنيفا فيه نسيان لكل شيء، وإنكار لكل شيء، وهي لا تستطيع أن تعطيه إلا مودة وإخلاصا، وهو يحس أنها لم تنس صاحبها الأول، ويجد في ذلك ألما ومضضا، ولكنهما لا يتحدثان في هذا كله إلا على شيء من الرفق والتعمية، وقد استقر رأيهما أو كاد على العودة إلى باريس، ولكنه يعرض عليها أن يصطحبا في السيارة هذه المرأة اللعوب، فتظهر شيئا من التردد الرقيق، وهذه مدام ترانسون قد عادت مع زوجها، وهما يطلبان إلى الزوجين الآخرين أن يجلسا إلى مائدة اللعب، وبينما بول تهيئ الورق للعب ينظر ترانسون في صحيفة من الصحف فيقرأ أن امرأة أحست الخيانة من خليلها فقتلته، فيعلن ذلك ساخطا على هذه المرأة؛ لأنها استباحت لنفسها قتل خليلها، لا لشيء إلا لأنه خانها، وامرأته تترافع عن هذه المرأة، ويشتد الحوار بين الزوجين في هذه المسألة: هل يبيح الحب لأحد العاشقين أن يقتل صاحبه إذا تورط في الخيانة؟ يشتد الحوار وإذا هما يحتكمان إلى الزوجين الآخرين، فأما الزوج فيتنحى، وأما امرأته فتحاول أن تتنحى، ولكنها لا تملك نفسها، وإذا هي تجهش بالبكاء، وتعلن أن ليس لامرأة أن تقتل صاحبها لأنه خانها، ويضطرب زوجها أمام هذا البكاء، ويعلن إلى صاحبيه معتذرا عنه أن قد كان شيء من ذلك في أسرة امرأته؛ فهي متأثرة بالذكرى، وينصرف الزوجان هذان، ويخلو سرج إلى امرأته، وقد صرح بينهما الشر أو كاد، فهي تبكي وتعلن بهذا البكاء أنها ما زالت نادمة على ما اقترفت من إثم، ومعنى ذلك أنها ما زالت تذكر صاحبها، ومعنى ذلك أنها مازالت تحبه، ومعنى ذلك أيضا أنها لا تمنح صاحبها الجديد إلا شيئا لا يرضيه.
وهي تستعطفه وتترضاه، ولكنه يجيبها في شيء من الحب والغضب معا، فهو رفيق بها محنق عليها، ويتصل بينهما هذا الحوار المؤلم في غير فائدة ولا جدوى، فهو محب غير موفق، وهي صديقة غير موفقة، ولكنها تتركه لبعض شأنها، فيطلب إليها أن تحمل إليه منديلا إذا عادت؛ لأنه ذهب مع صاحبته تلك أنيت إلى بعض القهوات، فاستعارت منه منديله تمسح به فمها، فملأته بما على شفتيها من صبغة، فلم يستطع أن يحتفظ به وتركه لها، وتقبل امرأته هذا العذر على علاته وتنصرف.
ولا يكاد يخلو الرجل إلى نفسه حتى تقبل أنيت، وترفع إليه بطاقة فيها عنوانها في باريس، فيتقبلها في إهمال، ويلقيها في جيبه إلقاء، وتنكر المرأة منه هذا الإهمال وتعاتبه: ألم يكن منذ حين مفتونا بها، يقبلها ويسرف في تقبيلها، ويلح عليها في أن تعطيه عنوانها! فما باله الآن يتقبل هذا العنوان في إهمال وازدراء!
وهذه المرأة لا تملك نفسها أن تبكي غيظا وحنقا، وكأنها تحب هذا الرجل، وكأنها محزونة؛ لأنها تحس منه العبث بها، والرغبة في اللهو ليس غير.
ولكن الرجل مضطرب، متردد بين عاطفتين عنيفتين: فهو يحب بول، ويحس أنها لا تجزيه من هذا الحب إلا مودة هادئة فيها ثقة كثيرة أكثر مما ينبغي، وليست فيها حدة ولا غيرة. وهو يشتهي هذه المرأة الشابة، ويحب منها بنوع خاص أنها جديدة لا تملأ قلبها الذكرى؛ لأنها لم تحب أحدا، ولأنها شابة فيها مرح الشباب. ولم لا يضطرب؟ ولم لا يميل إلى هذه المرأة؟ أليس يراها الآن تبكي أمامه حبا ووجدا بعد أن رأى تلك هادئة مطمئنة، لا تتهمه، ولا تسيء الظن به، مع أنه لم يقصر في إتيان ما من شأنه أن يثير الريبة وسوء الظن. وانظر إليه قد نهض متثاقلا إلى هذه المرأة الشابة، فأخذ يهدئ من روعها، وأخذ يدها ورفعها إلى شفتيه فهو يقبلها، ولكن امرأته تقبل فيترك صاحبته، وتنصرف صاحبته أيضا، ولكن في شيء من الاضطراب والحدة لا يخفى على بول.
وإذا هي محزونة تعلن إلى صاحبها أنها تشفق عليه من هذا الاضطراب بين امرأتين، وتؤثر أن تقطع الصلة بينه وبين هذه المرأة، فيجيبها في شيء من الاحتياط أول الأمر، ثم تثور ثائرته، فيسألها: ماذا تفعل لو عرفت أنه يعبث مع هذه المرأة ويلهو بها؟ وأنه لم يذهب معها إلى المدينة منذ حين، وإنما ذهب بها إلى حيث يلهوان؟ وأنه لم يعرها منديله منذ حين، وإنما أسرف في تقبيلها ومسح بهذا المنديل شفتيه هو لا شفتيها هي؟ وأنه طلب إليها عنوانها في باريس ليستأنف لقاءها هناك؟
وأنت تقدر موقع هذه الجمل على نفس هذه المرأة البائسة التعسة. فأما صاحبها، فقد كان يقرر أو يود أنها ستأخذها غيرة حادة كتلك التي دفعتها إلى القتل فيستوثق من حبها. ولكن هذه الجمل تقع من نفس المرأة موقعا مؤلما، لا لأنها تثير فيها الغيرة، ولا لأنها تدفعها إلى القتل، بل لأنها تقيم البرهان الذي لا يقبل الشك على أنها لم تعد صالحة للحب؛ لأن ذكرى صاحبها الأول قد ملأت نفسها، وملكت عليها أمرها، فهي لا تستطيع أن تحب، ولا تتبع الغيرة، ولا أن تطمئن إلى الحياة. لقد برأها القضاء منذ حين، ولكنها لم تبرئ نفسها فهي قاتلة، نعم هي قاتلة، ويجب أن تحتمل عقوبة هذا الإثم. ولئن أفلتت من العقوبة المادية التي تفرضها الجماعة ونظمها، فلم تفلت ولن تستطيع أن تفلت من هذه العقوبة المعنوية التي يفرضها على النفس قانون الندم والذكرى. ألم تحاول أن تلتمس رجلا تطمئن إليه، وتعتمد عليه، وتثق به، وتنسى معه كل هذه الآلام والشدائد، فحال بينها وبين هذا الرجل ما يملأ قلبها من ذكرى ذلك القتيل، ومن الندم الذي يغمر نفسها للاعتداء عليه.
هي إذن قاتلة، وهي إذن مجرمة، ولا بد لها من أن تلقى عقوبة هذا الإثم، ولن تكون حياتها إلا وقفا على هذه العقوبة، فستخلو إلى نفسها وستألم فيما بينها وبين نفسها ألما لاذعا ممضا لا حد له، ولا عزاء عنه. ألم يهجرها أصحابها وأصدقاؤها، ألم يقم البرهان على أنها عاجزة عن الحب؟ وإذن فلتطمئن إلى ما قدر الله لها من هذا الشقاء المتصل، والندم الذي سيلازمها طول الحياة، وإذن فلترد إلى هذا الرجل حريته ليمضي مع هذه المرأة البريئة حقا، لأنها لم تقتل، ولم تسفك دما، ولأنها لم تحب ولم تنغص عاشقا.
وهي شجاعة تستقبل حياتها الأليمة في شيء من الرضا مؤثر، وتعفو لصاحبها عن هذا العبث في شيء من الطمأنينة والصفح غريب من هذه المرأة التي غارت فسفكت الدم منذ حين.
ويسدل الستار وهما في هذا الحديث دون أن نعرف علام يستقر أمرهما، ولكننا نقدر في وضوح أن سيمضي الرجل لاستئناف حياته، وأن ستنصرف هي لاستيعاب ما قدر لها من هذه الكأس المرة، كأس اللوعة والندم.
ما أجملها
قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «جاك ديفال»
أقديمة هذه القصة التي أريد أن أتحدث إليك عنها أم طريفة؟ الحق أنها قديمة وطريفة معا؛ قديمة في الموضوع، وطريفة في الشكل كما يقول المحامون، بل ربما لم تكن طريفة في الشكل من جميع أنحائها، فقد لوحظ تأثر الكاتب في موضوعها بمذهب كورني، ولعلي لا أخطئ أن لاحظت أن أسلوبها وألفاظها قد لا تخلو من التأثر بهذا المذهب أيضا إلى حد ما.
وقد اختلف النقاد في أمرها، فقليل منهم أثنى عليها في غير تحفظ، وأكثرهم لم يرض عنها، أو رضي عنها رضا هو إلى السخط أقرب منه إلى أي شيء آخر. ومع ذلك فقد اخترتها موضوعا لحديثنا هذه المرة؛ ذلك لأني لم آخذ نفسي بألا أتحدث إليك إلا فيما يعجب النقاد، وإنما أتحدث إليك فيما يصلح موضوعا للحديث، سواء أرضي عنه النقاد أم سخطوا عليه، وأتحدث إليك في القصة التي تعجبني، وربما أعجبتني قصة لم تعجب غيري من النقاد، ولست أشك في أن هذه القصة تصلح موضوعا لحديث قيم، كما أني لا أتردد في الاعتراف بأنها أعجبتني.
وكيف لا تصلح موضوعا لحديث قيم وهي صراع بين الحب والصداقة، فيه قوة وفيه عنف لا حد له، وفيه استثارة لطائفة من العواطف الإنسانية يوشك أن يبلغ حد العبث بهذه العواطف؟ ولكن من الخير قبل أن أعرض عليك القصة أن أقدم رأي النقاد فيها.
قلت أن أكثرهم ساخط عليها أو متحفظ في الرضا عنها، ومصدر ذلك أن الكاتب قد حاول شيئا يوشك أن يكون مستحيلا في حياة الناس اليومية، حاول أن يحقق التضحية بالنفس والحب، وما يستتبع من عاطفة ولذة في سبيل الصديق، وربما كان هذا ممكنا في العصور القديمة، وربما كان هذا ممكنا أيضا في خيال الكتاب والشعراء، ولكن يظهر أن حياتنا الحاضرة لم تعد تسمح بمثل هذه التضحية ولا تبيحها، فقد قويت شخصيات الأفراد، وقويت معها حظوظ الناس من الأثرة.
وقوي مع الشخصية والأثرة عقل الفرد، وقدرته على التصرف، والتخلص من المآزق المحرجة في غير حاجة إلى تضحية أو في غير حاجة إلى التضحية بالنفس على أقل تقدير، والناس ينظرون مع شيء من الابتسام والسخرية إلى مثل هذه التضحيات المجاوزة لطاقاتهم، والتي كان يفتتن بها كورني ومحبوه، بل هم لا يكتفون بالابتسام والسخرية، ولكنهم ينصرفون عن القصص التي تمثل هذه التضحيات انصرافا.
ثم لم يقف الكاتب عند هذه التضحية، ولكنه حققها في شكل تعود الناس أن يروه في طائفة من القصص التمثيلية، يراد به التأثير في نفوس الجماهير أكثر مما يقصد به إلى النفع والمتعة، فختم القصة بإطلاق المسدس، وذلك شيء قلما يحفل به أو يلتفت اليه.
ثم أسرف الكاتب في التفصيل والتدقيق في شيء ربما كان من الخير ألا يكثر فيه التفصيل والتدقيق، وربما كان من الخير أن يؤخذ من طريق الإجمال والإبهام. ومن هنا لاحظ النقاد اختلافا بين فصول هذه القصة في قيمتها الفنية، فبعض هذه الفصول ممتع لذيذ، فيه حركة ونشاط وقوة، وبعضها هادئ مطمئن بعض الشيء ولكنه لا يخلو من قوة تعبث بالنفس، وتثير العواطف المختلفة فيها. حتى إذا كان الفصل الأخير فلا حركة ولا قوة، وإنما هو اضطراب وحيرة وطول، وشيء يخيل إليك أن الكاتب يلتمس مخرجا لنفسه ولأشخاصه من مأزق وضعهم ووضع نفسه فيه، ثم لا يكاد ينتهي الفصل الثالث حتى تحس عجز الكاتب عن إخراج نفسه وعن إخراج الأشخاص من هذا المأزق إلا بإطلاق المسدس.
وينكر النقاد على الكاتب أيضا أن قصته مضطربة بين الجد المؤلم المخيف، والهزل المضحك الملهي دون أن تكون صريحة في أحدهما.
ثم هم بعد هذا كله يعرفون للكاتب حقه، ويثنون على إجادته اللفظية، وعلى مهارته في تدبير الحوار، وعلى دقته في تصوير العواطف المختلفة. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يحظر على الكتاب الممثلين ألا يصوروا في قصصهم التمثيلية إلا ما هو ممكن أو واقع بالفعل؟ وأين يكون الفرق بين الحياة الواقعة التي نشهدها في كل يوم وبين الحياة الأخرى التي يتصرف فيها الكتاب والشعراء وأصحاب الفن يلائمون فيها أحيانا بين ما نحس ونجد بالفعل، وبين ما يجب أن نحس وأن نجد؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يكره شاعرا أو كاتبا أو فنانا على ألا يخترع لنا شيئا إن نعجز عنه الآن فقد لا نعجز عنه غدا، ولعل آباءنا لم يكونوا يعجزون عنه أمس؟ وإذا كان من حق الكاتب والشاعر أن يصورا لنا ما كان وما هو كائن، فما الذي يمنعهما أن يصورا ما سيكون وما قد يكون، أو ما يحسن أن يكون؟ وبعبارة واضحة: ما الذي يمنع الكاتب والشاعر أن يقصدا نحو المثل الأعلى، فيصوراه صورا مختلفة، منها القريب، ومنها البعيد، منها اليسير، ومنها العسير؟
ولم يفعل كاتبنا غير هذا، فهو قد تصور الصراع بين الحب والصداقة، وتصور هذا الصراع في عالم المثل الأعلى ، وحاول أن يدني منا هذا المثل الأعلى بعض الشيء، فحقق هذا الصراع في الملعب، فمن الناس من أحب هذا المثل الأعلى، ومنهم من لم يحببه، فأما جمهور النظارة فإنما يعرف رأيه بعد أن تمضي على هذه القصة أشهر، وبعد أن نبحث لنعلم هل مثلت كثيرا، واختلفت إليها النظارة كثيرا أم هل كان عمرها في الملعب قصيرا.
لست أجد إذن ما أنكره على الكاتب فيما يتصل بموضوع القصة، ولكني قد أتفق مع النقاد في بعض ما يتصل بشكلها، ويخيل إلي أني لو كنت الكاتب الذي يعالج الموضوع لاجتزأت من هذه الفصول الثلاثة بفصل واحد هو الفصل الأول، ولأعرضت عن الفصلين الآخرين، لا لأنهما رديئان من حيث هما، فأنا أحبهما حبا شديدا، وأعجب بطائفة من الحوار فيهما، وأرى أنهما من خير ما يقرأ، ولكن لأني أحس أنهما من أعسر الفصول حين يتجاوزان القراءة إلى الملعب؛ ذلك لما فيهما من التفصيل والدقة اللذين يحسن أن نلحظهما حين نقرأ، لا أن نشهدهما في الملعب، واللذين قد يكون من العسير على كثير من الممثلين المجيدين أن يؤدوهما تأدية حسنة.
وخاتمة القصة نفسها مؤلمة شديدة الإيلام؛ ذلك لأن الكاتب استطاع أن يحبب إلينا أشخاص القصة حبا مستويا بحيث لا نستطيع أن نؤثر أحدهما على صاحبه، فمن المؤلم بل من العسير أن نتصور لم ضحى الكاتب بأحدهما دون أن يضحي بالآخر؟ ولو قد ضحى بالآخر لسألنا: لم ضحى به دون أن يضحي بصاحبه؟ ونحن لا نكاد نعلم مصير هذا الذي لم يمت، بل لا نكاد نقدر هذا المصير: فهل قتل نفسه ليدرك صاحبه أم هل تعزى عزاء عسيرا أو يسيرا؟ وماذا كان أمره مع صاحبته؟
ومهما يكن من حظ هذه القصة في الملعب فإنها قيمة لمن يريد أن يقرأ، بل إن الفصل الثالث الذي نكرهه في الملعب لذيذ جدا في القراءة، فيه حوار قيم دقيق وفيه شيء جديد ليس في الفصلين الآخرين، فقد أظهر الفصلان الآخران نفسية الصديقين وعواطفهما حين كانا موضوعا لهذا الصراع بين الصداقة والحب ، ولكنهما لم يظهرا نفسية المرأة واضحة، وهذه النفسية تظهر جلية في الفصل الثالث، وليست أقل لذة ولا إمتاعا من نفسية صاحبيها. •••
نحن في باريس، في إدارة ضخمة من إدارات السينما توغراف، يملكها ويديرها صديقان: فيليب دلماسو، وفرنسوا بريور، صناعتهما الحقيقية الحرب، فهما من ضباط البحرية الفرنسية، قد أبليا في أثناء الحرب الكبرى بلاء حسنا، كانا يعملان معا على سفينة حربية واحدة، مست لغما فنسفت، وذهب كل من كان فيها إلا هذين الرجلين، فقد تعاونا حتى أنقذ كل منهما صاحبه مرات: يهوي أحدهما إلى قعر البحر فما يزال به صاحبه حتى ينقذه، ثم يهوي هو فما يزال به صاحبه حتى يستنقذه، وظلا كذلك يوما كاملا أو أكثر اليوم حتى أدركتهما سفينة فأنقذتهما، وكانت المودة بينهما قوية، فجاء هذا الخطر فأكدها، وزادها قوة وتثبيتا، ثم وضعت الحرب أوزارها وسرح هذان الضابطان فأرادا أن يشتركا في حياة السلم كما اشتركا في حياة الحرب، فأنشآ دارا للسينما توغراف، ما أسرع ما نمت واتسعت، وكثرت فروعها وتشعبت. ونحن نشهدهما أول الفصل منصرفين إلى تدبير شئون هذه الدار في جد وانهماك وإتقان غريب، وهذا الفصل كله إلى قيمته الخاصة التي سنبينها لك له قيمة أخرى من حيث أنه يصور دخائل الذين يعملون في السينما توغراف، حتى إن هذا الفصل قد حمل بعض النقاد على أن يفكر في القصة التي حدثتك عنها منذ حين بعنوان: «ظهر حديثا»، فتلك القصة تصور دخائل الأدباء في جراءة وقوة، وهذه القصة لا تقل عنها جراءة في تصوير دخائل الذين يديرون السينما توغراف، والذين يلعبون فيه. لو أن لي من الإلمام بهذا الفن حظا قليلا للخصت لك بعض الشيء هذه المناظر التي تمثل حياة هؤلاء الناس، ولكني أترك ذلك إلى ما أستطيع أن أتناول، فألخص لك من هذا الفصل المناظر التي تعني قصتنا.
وأول هذه المناظر منظر يدخل فيه على هذين الصديقين صديق ثالث يقال له كرسبي ضابط بحري مثلهما، ولكنه في الجند العامل لم يسرح بعد، يقبل ومعه امرأته، جميلة رائعة ، فيعرض على صديقيه بعد أن يقدم إليهما امرأته أمرين؛ أحدهما: أن يقبلا زوجه لاعبة عندهما، والآخر: أن يقبلا منه قصة وضعها لملعبهما، فيقبلان قصته، وينقدانه ثمنها، ويرفضان امرأته، وينصحان له أن يصحبها؛ لأنهما يكرهان لصديقهما أن تتعرض امرأته لما تتعرض له اللاعبات في السينما توغراف من عبث ولهو ومجون، وليس هو معها حتى يستطيع أن يحميها ويذود عنها، ويقبل الصديق نصيحة صديقيه، ولا يكاد ينصرف مع امرأته حتى يمزق الصديقان قصته دون أن ينظرا فيها.
ثم يدخل الخادم مستأذنا لامرأة قد كتبت على بطاقتها هذه الجملة الغريبة: «قدرت ولكنك لم تر»، وفيها من الإغراء ما تحس وتقدر، فيضحك الصديقان ويأبيان استقبال هذه المرأة، ولكن الخادم يعود ومعه بطاقة لمونسينيور بودريار الأسقف المعروف بمكانته الدينية والأدبية، وكأنه قد أرسل هذه البطاقة يقدم بها هذه المرأة إلى الصديقين، فيأذنان لها كارهين، وقد اتفقا على أن يستقبلاها واقفين قد وضعا قلنسوتيهما على رأسيهما استعدادا للخروج حتى لا تثقل ولا تطيل، وهما في حاجة إلى الخروج لشئونهما الفنية، ولكن هذه المرأة قد أذن لها فتدخل متقدمة قصيرة الخطى شديدة الحياء، لا هي بالباسمة ولا هي بالعابسة، محتشمة الزي ولكن لها جمالا رائعا، لا يكاد يقع في عين هذين الرجلين حتى يعبث بهما عبثا لا حد له، وكانا يزدريانها قبل دخولها أشد الازدراء. وكان كل منهما يعرضها على صاحبه حتى اتفقا أن أيهما وضع قلنسوته عن رأسه بقي معها، وانصرف عنه صاحبه ليترك له حريته التامة، ولكنهما لم يكادا ينظران إليها حتى وضعا قلنسوتيهما، وحتى أخذ كل منهما مكانه فجلس ونسي الخروج، وما كان له من موعد، وهذه المرأة في الخامسة والعشرين من عمرها تسمى ماري إيف أرسجيس، تبدأ فتعتذر من التوسل ببطاقة الأسقف؛ لأن الأسقف لم يعطها هذه البطاقة، وإنما ظفرت بها، بينما كانت ترتب بعض أوراق الأسرة فاتخذتها وسيلة إلى هذين الصديقين، وهي تعتذر أيضا من بطاقتها، والجملة التي كتبت عليها قائلة إنها جملة بشعة، وإنها إذا خلت إلى نفسها اجترأت على كل شيء، فإذا اتصلت بالناس فقدت كل حظ من الجرأة، وهي تعرض نفسها عليهما لاعبة بين اللاعبات، وهي مشفقة أن ترد، ولكنهما يسرعان إلى وعدها بأنها ستقبل وهما يستبقان إلى إرضائها وتملقها، وقد اتفقا على أن تبدأ التجربة فورا، فيميل أحدهما إلى التلفون ليأمر بالبدء في هذه التجربة، فإذا الآخر ليس أقل منه إسراعا إلى هذا الأمر، وإذا ذكر أحدهما مصورا سيبدأ التجربة رفض الآخر هذا المصور واقترح غيره؛ لأنه صاحب عبث ولهو، وما أسرع ما تذهب هذه المرأة إلى حيث التجربة ويخلو الصديقان، فلا يكاد أحدهما يتحدث إلى صاحبه في أمرها بشيء، كأن كلا منهما يخفي ما وقع في نفسه منها على صاحبه، وقد أحس كل منهما في الوقت نفسه ما يملأ قلب صاحبه من الحب لهذه المرأة، وأخذت الأثرة تعمل عملها، وأخذت الغيرة تعمل عملها أيضا، وقد أخذ الصديقان يترددان في الذهاب لما كانا يريدان أن يذهبا إليه من شأن، كل يغري صاحبه بالخروج، ويعتذر عن البقاء، ثم يتفقان فيبقيان، وتنتهي التجربة وتعود المرأة، فما أحسن ما يستقبلانها، وما أشد ما ينهران الخادم؛ لأنه لم يحسن معاملتها في بعض لفظه، ولأنه احتفظ بقلنسوته على رأسه، وقد أجلست المرأة وقبلت، والصديقان يستبقان ويتنافسان أيهما يكون أشد إرضاء وأكثر تملقا، وهي سعيدة مغتبطة لا تحس ما بينهما من غيرة ولا تفكر إلا في أنها ستقبل وستعمل، وستكسب حياتها، بل هي تفكر وتتحدث بشيء آخر: هي سعيدة لأن هذين الرجلين يتحدثان إليها في شيء من الاحترام والحشمة، لا يبسط أحدهما إليها يدا، ولا يلقي أحدهم عليها نظرة مريبة، وهي تريد أن تعيش وفية دائما لصديق لها فقدته، وكلا الصديقين يعدها المعونة والتأييد، ويقربها إلى نفسه، حتى يقول لها أحدهما: إن ساءك شيء من العمال فستجديني عونا لك، فينكر الآخر عليه ذلك، ويظهر بينهما شيء من الخلاف تلحظه المرأة، ويشتد هذا الخلاف حتى يضطر أحدهما إلى أن يطلب إليها أن تعتزل حينا حتى يتم عقدها الذي يهيأ.
فإذا خلا الصديقان بدآ بالعتاب، ثم لم يلبث هذا العتاب أن يستحيل إلى خصومة منكرة يظهر فيها الحقد في أقوى مظاهره وأقبحها بين رجلين كل منهما يحب هذه المرأة حبا لا حد له، ويريد أن يؤثر بها نفسه، وأن يضحي في سبيل ذلك بكل شيء وبكل إنسان، ويصل الأمر بالصديقين إلى أن يعلن كل منهما إلى صاحبه الحرب التي لا سلم فيها، وإلى أن يتمنى كل منهما لصاحبه لو قد ظل في قعر البحر فلم ينج منه يوم نسفت السفينة.
وهذا أحد المصورين قد أقبل فيتحدث إليهما في شئونه، ثم يعرض عليهما رسما يقول إنه اختلسه اختلاسا حين رأى امرأة جديدة تبدأ تجربتها، ويترك لهما هذا الرسم، فإذا هو رسم هذه المرأة، والصديقان يختصمان حوله: كل يريد أن يجذبه إلى نفسه، ويصل الأمر بهما إلى أن يشتبكا، وقد أنذر كل منهما صاحبه أقبح النذير، حتى إذا انتهى بهما البغض إلى أقصاه، ولم يبق بينهما إلا الموت ذكرا صداقتهما، وذكرا السفينة، والخطر، وما بذل كل منهما من الجهد لإنقاذ صاحبه، وإذا أحدهما يعتذر إلى صاحبه، وإذا الآخر يعتذر له أيضا، وإذا هما قد تابا من هذا الشوط البعيد الذي جرياه إلى البغض والموت، وإذا الصديقان قد ظهر كل منهما لصاحبه، ولكن المرأة ما زالت قائمة بينهما ... وكلاهما يريدها لنفسه، وكلاهما يأباها على صديقه، وكلاهما يعلن إلى صاحبه أنه لو استطاع أن ينزل عنها لصاحبه لفعل، ولكنه لا يستطيع، وهما في مأزق الحيرة بين الصداقة والحب، وبين الإيثار والأثرة، وإذا فرنسوا قد وفق إلى حل يصلح ما بينهما بعض الشيء، ولكن يفسد حياتهما جميعا، فهو يعرض على صاحبه أن يتقاسما بشرفهما العسكري ليمتنعن كل منهما حيا وميتا وفي جميع أطوار الحياة، ومهما تكن الظروف عن أن يتحدث بحبه إلى هذه المرأة، وإذن فقد اتفقا، هما يحبانها، وهي عليهما حرام، هما يحبانهما، والتحدث بالحب عليهما حرام، وهذان الصديقان يتصافحان مذعنين مستسلمين، مستقبلين حياة كلها شر ومشقة وألم، وهذه إحدى العاملات تدخل وقد أعدت العقد فينظران فيه، ويتمه أحدهما، وهما يزيدان في أجر صاحبتهما، ويتنافسان في الحرص على منفعتها، حتى إذا تم لهما من ذلك ما أرادا دعوا هذه المرأة فأقبلت مضطربة يائسة أو كاليائسة، وقد طال عليها الانتظار، ورأتهما فأحست تغيرهما، فاستيقنت أنها غير مقبولة، ثم أنبئت أنها مقبولة، ثم يعرض عليها العقد فتنظر فيه فلا تملك نفسها حين ترى ما يعرض عليها من أجر لم تكن تنتظر بعضه، وهي سعيدة مغتبطة، وهي تطلب إليهما أن تقبلهما، فما أسرع ما يقبلان، وهي تقبلهما، وتنصرف على أن تعود من الغد، وقد خلا الصديقان فهما في حيرة ماذا يصنعان، وكيف يحوطانها من العبث واللهو، ويحميانها من أطماع الطامعين، وتتبع المتتبعين.
وهذا أحد المصورين قد دخل يستأذنهما في السفر لإجازته، ولكنه ينبئهما بأن قريبة له قد أرسلت إليه قصة سخيفة على أن تلعب في السينما توغراف، وهو يعلم أن هذه القصة لا يمكن أن تقبل بل يجب أن تمزق، ولكنه يريد منهما كلمة إلى صاحبة هذه القصة فيها شيء من الأمل ضئيل؛ لأنه سينفق عندها إجازته، فإذا سئل عن هذه القصة أنبأ بأنها قصة إحدى القديسات التي أنقذت طائفة من الناس في القرون الوسطى بألوان من الجهاد والتضحية سخيفة، فما أسرع ما يقبلان القصة، وينفقان في شرائها ثمنا ضخما، ويلغيان إجازة المصور ليبدأ في التجربة، والمصور دهش لا يفهم هذا، ولكن فهمه يسير، فستلعب ماري إيف في هذه القصة، وستكون فيها قديسة لا تتعرض لقبل المقبلين، ولا للعبث ولا للمزاح، ولا لشيء مما يكره العاشق أن يرى صاحبته تتعرض له، ويأتي المصور يحمل نتيجة التجربة، ولكن ما قيمة هذه النتيجة؟ وما قيمة التجربة؟ أليس قد تم الاتفاق بينهما وبين المرأة؟ أليست ستبدأ عملها من الغد؟
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى شهر على ما حدثتك به، ونحن حيث كنا في الفصل الأول، في مكتب المديرين، والمكتب كما كان لم يتغير إلا أن فيه أزهارا كثيرة لم تكن فيه من قبل، وإلا أن فيه لوحة بشعة تمثل جسم امرأة قد عبث به الجراحون ، فأظهروا كل ما فيه، أو بعبارة أدق أقبح ما فيه، أظهروا تكوينه الداخلي، أظهروا الأمعاء والمعدة والقلب والكبد، وما إلى ذلك، ونحن نرى الخادم يهيئ الأزهار ويصلحها، وينظر تحت المقاعد والمكاتب كأنه يلتمس شيئا، ثم تأتي السكرتيرة، فنفهم من حديثها مع الخادم أن أحد المديرين وهو فيليب قد فقد محفظته منذ أمس، فالخادم يبحث عن هذه المحفظة، ونفهم أن ماري إيف هي التي تحمل هذه الآثار في كل أسبوع، ونفهم أن شيئا من شئون المديرين قد تغير ...
وهذه امرأة مقبلة يظهر عليها في وضوح أنها إحدى المومسات، وإحدى المومسات المنحطات، قد دخلت، لم تستأذن، وهي تسأل عن فيليب، ويحاول الخادم أن يخرجها فلا يوفق، وبينما هو يلح عليها في الخروج وهي تأبى، يقبل فرنسوا ومعه رجل بلجيكي من رجال السينما توغراف يقال له ورتز، فإذا رأى هذه المرأة أنكرها، وإذا عرف أنها تطلب صاحبه صرف من حوله وخلا إليها لحظة، فنفهم من حديثهما أن صاحبه قضى عندها الليل، ونسي عندها محفظته، فهي ترد هذه المحفظة وهي تترك عنوانها كاملا، وقد فهمنا من حديثها أن فيليب يلتمس اللهو بل يلتمس أقبح ألوان اللهو يتعزى به عن حبه المضيع، وتنصرف المرأة ويأتي البلجيكي فيتحدث في بعض الشئون إلى فرنسوا، ونفهم نحن من هذا الحديث أن فرنسوا مدله قد ذهب لبه أو كاد؛ فهو يعاني من حبه آلاما ثقالا قد غيرت جسمه، وأخذت تغير عقله أيضا.
وبينما يتعزى صاحبه باللهو القبيح يتعزى هو بشيء آخر، بهذه اللوحة التي تظهر له أقبح ما في جسم المرأة، وبينما ينفق صاحبه ليله في المواخير ينفق هو أوقات فراغه في المستشفيات، وفي قاعات التشريح؛ يريد أن يبغض المرأة إلى نفسه.
وهو لا يكاد يفقه ما يتحدث البلجيكي به إليه، أليس قد أمضى ليالي لم يذق فيها النوم؟ أليس قد أمضى أياما لم يذق فيها الطعام؟ وصاحبه البلجيكي يسأله عن امرأة رآها تلعب، فإذا هي ماري إيف، يراها البلجيكي جميلة ويطمع فيها فيثبطه فرنسوا؛ لأن لها عاشقين خطرين .
وينصرف البلجيكي، ويأتي فيليب متعبا مكدودا، فيتحدث الصديقان في عملهما، ولكنا نحس أنهما يكتمان كتمانا شيئا ما يأكل قلبيهما من لوعة وعناء، وهذه ماري إيف قد أقبلت، وإذا هما يستقبلانها استقبالا حسنا ولكنه مؤلم، وهي تتحدث إليهما في صراحة أن قد كانت تريد الوفاء لصديقها الذي فقدته، ولكن الحياة لذيذة، وللشباب حكمه، وقد وفت لصاحبها ما استطاعت، وما الوفاء إلا ظل، فيجيب أحدهما في سخرية: ظل الوفاء ... ونفهم من حديثها أن أحد اللاعبين قد عرض لها بالحب ودعاها إلى العشاء، وأنها تريد أن تذهب وتتعشى معه، وإذا هما مغضبان يصرفانها عن ذلك ما استطاعا، ويدعوانها إلى العشاء معهما ضنا بها على هذا اللاعب، فتقبل وهي سعيدة وهما سعيدان، وهم ينظمون عشاءهم، وإذا أمر يدعوهما فينصرفان عنها حينا، وما هي إلا أن يقبل البلجيكي فيراها فيفتتن عاشقا، وتحب أن تتبين الأمر، وقد خلت إلى نفسها حينا، ثم أقبل فيليب فتتلطف له، وتدنو منه، وتأخذ في مداعبته كأنها تعرض نفسها عليه، ولكنه يردها ردا عنيفا بشعا مهينا، ويعلن إليها في قوة أنه يزدري المرأة، وما يزال بها حتى يحنقها، يريد أن يخيل أنه لا يحبها ولا يمكن أن يحبها، وهو في ذلك إذ يحس صاحبه مقبلا فينصرف، ويلح عليها في أن تبقى، وليست هي في حاجة إلى الإلحاح، فهي تريد أن تعلم علم صاحبها الآخر.
وقد دخل صاحبها فتصنع معه مثل ما صنعت مع الآخر، فلا تلقى منه إلا ردا عنيفا، ولكنه ليس كرد صاحبها الأول، فهو لا يهين ولا يزدري، ولا يكاد يخفي عواطف نفسه، ولكنه يأبى ويمتنع، ويتخذ العلل والمعاذير، ويلح في ذلك حتى يؤيسها، وقد انصرفت وكأنها تحس منه الحب، ولكننا لا نفهم في حقيقة الأمر نفسيتها الخاصة، ويقبل صاحبه فيتحدثان، ونفهم أنه قد خلا إلى ماري إيف لحظة، فانصرف ليخلو إليها صديقه لحظة مثله، وهما سيئا الحال، قد فشلا في الوفاء بما كانا قد أقسما على الوفاء به، وكل منهما يعلن فشله، ولكن الذي يؤذيهما حقيقة الأمر هو ما يراه كل منهما من ألم صاحبه وعنائه، وفساد أمره، وقد انتصرت الصداقة أو كادت، فكلا الرجلين يلح على صاحبه في أن يحل نفسه من قسمه، ويعلن أنه نازل عن حبه وعن حبيبته، وكلاهما يرفض من صاحبه هذا الوفاء. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في آخر الليل أمام البيت الذي تأوي إليه ماري إيف، وقد فتحت نوافذه، وارتابت الشرطة بذلك، فوقف بعض الحراس ينظر، ويريد أن ينبه البواب ليغلق النوافذ، ولكن هذه سيارة تقف وتخرج منها ماري إيف وفرانسوا، فيكون بينها وبين الشرطي حديث تفزع منه بعض الشيء، وقد انصرف الشرطي ودخلت هي إلى دارها ولكنها خائفة، فهي تأبى على صاحبها أن ينصرف حتى تستوثق من البيت، فإذا استيقنت من خلوه أذنت له في الانصراف، لكنها لا تلبث أن تدعوه؛ لأنها أحست حركة، فيتسور النافذة، ويستوثق من أنه ليس في البيت أحد، ويهم أن ينصرف، ولكنها تأبى عليه؛ لأنها أرقة ولا بأس من أن يتحدث إليها بعض الشيء.
وقد فهمنا من حديثهما أن فيليب تركهما معتذرا، وفهمنا أيضا أنه تعمد ذلك تضحية بنفسه لصديقه؛ لعله إذا خلا إلى هذه المرأة آخر الليل لم يستطع أن يبر بقسمه، ولكن صديقه أشد وفاء من أن يتورط في الحنث، فهو يريد أن ينصرف وقد أخذ التأثر منه أشد مأخذ، والمرأة تريد أن تعلم علمه وعلم صاحبه، وما تزال به سائلة وملحة في السؤال حتى يخبرها بأن فيليب يحبها حبا مضنيا، وإذا هو قد مضى في التضحية إلى أبعد حد، فهو يغريها بفيليب، ويستعطفها عليه، ويلح في الإغراء والاستعطاف، وقد تركته لحظة وأقبلت خائفة، ولكنها على ذلك متكتمة ... فيفهم! فيفهم أن صاحبه قد سبقه إلى البيت، وأنه مختف في بعض أرجائه، وأنها قد رأته، فما أسرع ما ينهض لينصرف، وهي لا تمسكه هذه المرة، وهو يحس ذلك، ويحس أنها تكتم في نفسها شيئا، وأنها تتمنى لو انصرف، وما يزال بهما حوار دقيق ولكنه بديع مؤثر، حتى تكاد تعترف بأنه هنا.
وهذا فرانسوا يودعها، ولكنه وداع مؤلم؛ لأننا نحس كما تحس هي أن فيه شيئا من الغرابة؛ أليس يدعوها باسمها الخاص! وقد تسور النافذة، وأخذ يتحدث إليها حديثا كله يأس، وكله أماني، وهي مشفقة عليه مما قد يلقاه في طريقه، والليل مظلم، والطريق خالية، فتسأله: أمعه سلاح، فإذا عرفت أنه غير مسلح دفعت إليه مسدسها، وهو مسدس جميل رشيق، فيأخذه ضاحكا ويقول: لقد فكرت في كل شيء ... وقد ودعها وانصرف، واستوثقت هي من ذلك، وأغلقت النافذة، ودعت صاحبها الآخر فيقبل، ونفهم من حديثهما أنه كان صادق العزم على التضحية، وأنه إنما سبقها إلى البيت لتودعه لآخر مرة، وبينما يريد أن ينصرف أقبل الشرطي فاستخفى، ثم أقبلت هي ومعها صاحبها فلم يستطع أن يظهر أمامهما، فهو إذن لم يأت ولم يتعمد الاستخفاء، وهي تعرض نفسها عليه في لطف، وهو يردها في عنف، فلا يزيدها الرد إلا إلحاحا، وهي تلقي بنفسها بين ذراعيه، وهي تدني وجهها من وجهه، وفمها في فمه، وهي تتحدث إليه بأعذب اللفظ وأشهاه، وهو يضطرب بين الوفاء والحب، والوفاء أشد في نفسه تأثيرا، فهو يدافع نفسه، ويدافع صاحبته، ولكنه على ذلك يداعب شعر هذه المرأة، ويداعب جيدها، وهي تسترسل في الاستسلام له، وما تزال به، وما يزال هو بنفسه حتى يوشك أن يتغلب، وإذا هو يدني فمه من فمها، ولكنها لا تلبث أن ترتد فجأة، وقد صاحت صيحة قوية نبهت صاحبنا من حبه، فإذا سألها ذكرت أن فرنسوا لم يكن يتحدث إلا عنه، وقد كان مضحيا بنفسه في سبيل صاحبه، وأنها تعلم الآن أنه كان يحبها أيضا، وأنها مشفقة عليه لا تدري إلى أي حال صار ... ثم ذكرت قصة المسدس، وفهمنا أنها لم تعطه المسدس ليتقي به، ولعلها إنما أعطته المسدس لشيء آخر بعد أن فهمت كل شيء. وهذا فيليب ذاهلا واجما، قد أسرع إلى النافذة ففتحها، وإلى النور فأطفأه، ثم ينظر فيصيح باسم صاحبه! أليس قد رآه صريعا، وهي تسرع فيردها قائلا: إن كان في قلبي إلا حب واحد، ولم يكن هذا الحب لك.
حبان
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول تيفوا»
أما أحدهما فالحب بالحاء الكبيرة لو أن في كتابتنا العربية حاء كبيرة. الحب الذي يكون من نفسين نفسا واحدة، ومن قلبين قلبا واحدا، وينتهي في كثير من الأحيان إلى الزواج، وأما الآخر فهذا الحب الفطري الذي يملأ قلب الأم لابنها، ويشغل من قلب الابن في بعض الأحيان حيزا ليس بالضيق ولا بالضئيل.
والقصة صراع بين هذين الحبيبين، أو قل إن شئت بين مصدر هذين الحبين: هي صراع بين الأم والزوج، أو بين الأمومة والزوجية، والرجل موضوع هذا الصراع، فأنت ترى أن ليس في القصة شيء جديد، فموضوعها مألوف منذ استقر في الحياة الاجتماعية على اختلاف البيئات والأجناس نظام الأسرة، وأي الناس لم يحس أنه موضوع النزاع بين أمه وامرأته، نزاع يقوى ويضعف باختلاف الظروف التي تحيط بالأسرة، والصلات التي تصل بين أعضائها، فليس من الغريب في شيء أن تستقبل هذه القصة استقبالا فاترا؛ لأنها لم تأت بشيء جديد، ولأن الآداب على اختلاف أنواعها وألوانها وعصورها قد قالت في هذا الموضوع كل ما يمكن أن يقال، ثم هو قد اتصل بحياة الناس حتى أصبح شيئا مبتذلا تجري به الألسنة، وتسير به الأمثال، ويألم الناس له في حياتهم الخاصة، ويضحكون منه إذا اجتمع بعضهم إلى بعض.
ليس غريبا أن تستقبل القصة في فتور، ولكن الغريب أن يقدم الكاتب على مثل هذا الموضوع برغم شيوعه وابتذاله، فيجد من نفسه الشجاعة على اختياره، والتقدم به إلى ملعب من ملاعب التمثيل، وأشد من هذا غرابة أن يوفق إلى الإتقان، وإرضاء النظارة، وحمل النقاد على أن يعترفوا له بالإجادة في شيء من التحفظ قليل.
والواقع أن هذه القصة حين مثلت لأول مرة أمام هذه الطائفة الضيقة المختارة التي تحضر التجارب في الملعب لم تثر إعجابا، ولعلها أثارت شيئا آخر يناقض الإعجاب، ولكنها لم تكد تعرض على جمهور النظارة الذين يختلفون إلى الملاعب للهو لا للنقد، حتى أعجبتهم، واستأثرت بقلوبهم، والغريب أنها أعجبت النقاد أنفسهم في هذه المرة ، كأنهم تأثروا بجماعة النظارة حين رأوها راضية تضطرب بين ضروب الانفعالات المختلفة، فاضطربوا هم أيضا، وخرجوا يثنون بعد أن كانوا ساخطين.
ذلك لأن الجدة والابتكار على خطرهما، وأثرهما العظيم في الآيات الفنية ليسا شرطين أساسيين للإجادة دائما، وربما كان في بعض الأوقات عقبة تحول دون الإعجاب والرضا.
ونحن نعرف كتابا وشعراء، وممثلين وفنانين مختلفين لم يوفقوا إلى إرضاء الناس؛ لأن آياتهم الفنية كانت من الطرافة والجدة بمنزلة لم تكن قد سمت إليها بعد عقول معاصريهم، ولم يكن بد من أن تمضي عشرات السنين، ويتغير الجيل لتظهر القيمة الفنية لهذه الآثار، والناس مستعدون للإعجاب بما ألفوا، والرضا عنه أكثر من استعدادهم للافتتان بما لم يألفوا، ولا سيما إذا رأوا أنفسهم فيما يعرض عليهم من مظاهر الفن، ومن ذا الذي لا يرثي لنفسه حين يرى آلامه تمثل بين يديه، وكذلك كانت الحال في هذه القصة.
رأى كثير من الرجال والنساء فيها أنفسهم، فسخطت الأمهات على الزوجات، وحنقت الزوجات على الأمهات، ورثى الرجال لأنفسهم، واتعظوا جميعا، ووعدوا جميعا أنفسهم أن يلائموا بين حياتهم وبين ما خيل إليهم الكاتب أنه الحق أو العدل أو الخير.
والحق أن الكاتب قد استطاع أن يعرض لهذا الموضوع في شيء غير قليل من اللباقة والدقة وحسن الذوق، فيزيل منه طائفة من الظروف كان من شأنها أن تصرف الناس عنه، وتزهدهم فيه، ويكفي أن تلاحظ مثلا أنه تخير أشخاص قصته جميعا من الأغنياء المترفين، فألغى العقبة الاقتصادية، ولم يدع لضرورات الحياة المادية أثرا في هذه الحرب العنيفة التي أثارها بين الأم والزوج، ثم ألغى طائفة أخرى من الظروف تشبه هذا الظرف الاقتصادي، فلم يجعل الأم متقدمة في السن حتى لا يكون اختلاف السن مصدرا من مصادر الشقاق بين المرأتين، ولم يجعل بين هاتين المرأتين اختلافا ظاهرا في الطبقة حتى لا يكون تفاوت المنزلة الاجتماعية مؤثرا فيما سيكون بينهما من صراع، وإنما اجتهد في أن يكون الصراع معنويا صرفا يتصل بالقلوب والنفوس والعواطف أكثر مما يتصل بأي شيء آخر، ثم وفق من ناحية أخرى، فكان مصورا دقيقا بارعا، مسيطرا على خياله، لم يتكلف الاختراع وإنما تخير حوادثه بين هذه الأشياء اليسيرة السهلة التي تجري بها حياة المترفين في كل يوم، فلم يستطع أحد من النظارة أن ينكر حادثة أو يرى وقوعها بعيدا وغير مألوف.
وخصلة أخرى أظهرت حظ الكاتب من الكفاية الفنية، وهي أنه حصر أشخاصه في أقل عدد ممكن، فهم أربعة لا يزيدون إلا إذا نظرنا إلى الخادم الذي تكلف الكاتب إيجاده ليكون صلة بين هؤلاء الأشخاص ليس غير.
وكان يخشى على الكاتب أن تضطره قلة الأشخاص إلى أن يكون كثير القول قليل الحركة، فيفسد بذلك حواره، ويثقل وتتأثر القصة كلها من هذا الفساد، ولكنه استطاع على قلة الأشخاص أن يجعل حواره قصيرا خفيفا سريعا ما بقي عنده الأشخاص الأربعة.
فلما كان الفصل الثالث وذهب أحد هؤلاء الأشخاص ظهر أثر ذلك فطال الحوار، وثقل بعض الشيء، وأصبح أقرب إلى المناقشة الفلسفية منه إلى التمثيل الحي، ومهما يكن من شيء فإن في قراءة هذه القصة لذة عقلية وفنية لا بأس بها. •••
نحن في باريس في قصر تظهر عليه آثار النعمة والترف، فخم تحيط به حديقة واسعة كثيرة الأشجار، أقرب إلى الغابة منها إلى الحديقة نادرة في مدينة عظيمة كباريس، ونحن إذا رفع الستار نرى خادما يحاول أن ينظم طائفة من الآنية الدقيقة الغالية في حجرة الاستقبال، فتدركه سيدته هيلان، وهي امرأة جميلة رائعة كنساء التمثيل جميعا، في مقتبل عمرها، على وجهها نضرة الشباب والغبطة والسعادة؛ لأنها حديثة عهد بالزواج قد عادت منذ أيام من سياحة طويلة مع زوجها في إيطاليا ومصر، وهي تريد أن تنظم دارها الجديدة بحيث تلائم ميولها وذوقها الفني الرقيق، وهي تأمر الخادم بأن يصطنع الرفق في مس هذه الآنية، وتطلب إليه أن ينقلها في رفق إلى الطابق العلوي، وتعلن إليه أن هذه الحجرة سيغير نظامها، فيهدم الحائط الذي يفصل بينها وبين حجرة أخرى لتصبح الحجرتان حجرة واحدة حديثة التنسيق والنظام، على أن ينقل هذا الأثاث القديم إلى غرفة أخرى في الطابق العلوي، فيسمع الخادم هذا كله في شيء من الدهش والإنكار؛ لأنه يخدم في هذا البيت منذ ثلاثين سنة وقد عهده كذلك، وهو يعلم حق العلم أن أم سيده حريصة كل الحرص على أن تحتفظ به كما هو.
وتفهم من هذا الحوار بين الخادم وسيدته أن أم الزوج غائبة عن باريس منذ تزوج ابنها، وأن أبا الزوج قد مات منذ ثماني سنين، وكان رحيما رفيقا بابنه وامرأته، فلما مات فرغت المرأة لابنها، ووقفت عليه حياتها كلها، وعرف لها ابنها ذلك فأحبها حبا لا يعدله حب، واتصلت بينهما صلة قوية زادها قوة وغرابة شباب الأم ونضرتها، فكانا يخرجان للتروض والنزهة، فلا يشك من يراهما في أنهما زوجان أو خليلان، ونفهم من الحوار أيضا أن هذه الأم متسلطة قوية السلطة والإرادة، ونحس ضيق المرأة الشابة بكل ما تسمع، ولكنها على كل حال تأمر الخادم أن يمضي في تنفيذ ما أمرت به فيظهر الطاعة، ولكن في تثاقل وإبطاء، ويأتي الزوج وهو جورج شاتل، فتتلقاه امرأته لقاء حسنا، لقاء العاشقة المفتونة التي لا يقل عشقها لزوجها عن هيام زوجها بها، فيكون بينهما حوار نفهم منه أنه موافق لامرأته كل الموافقة على تغيير النظام في هذا البيت، ثم نفهم أنه مشوق إلى أمه، ثم نفهم أن الزوجين سيخرجان إذا كان المساء لتناول العشاء في مطعم من المطاعم الباريسية المشهورة.
والزوج يعلن إلى امرأته أن سيكون معهما ثالث فتضيق بهذا، حتى إذا ذكر لها اسمه رضيت واطمأنت، وهذا الثالث هو هنري فالان صديقها منذ الطفولة، وصديق زوجها منذ حين لم تره منذ تزوجت وهي شديدة الشوق إلى أن تراه؛ لأن له ولأبيه عندها يدا، ولأنها تضمر لهذا الشاب مودة طاهرة بريئة.
والزوجان في هذا الحديث وإذا رسالة برقية ينظر فيها الزوج فيبتهج؛ فهي تعلن إليه قدوم أمه اليوم، وقد كانا ينتظرانها آخر الشهر، وإذن فقد تغير برنامجهما فلن يخرجا ولن يرتاضا، وسيتناولان العشاء في البيت حتى لا يشقا على أمهما.
وهيلان تقبل هذا في شيء من الإذعان والتبرم، والرجل يغريها أو يكاد وهو يثني على أمه، ويذكر ظرفها، ورقتها، وحنوها.
وينصرف الزوجان كل لشأنه، وقد أقبل الخادم فهو ينفذ كارها متباطئا أمر سيدته، وهو كذلك وإذا الأم قد أقبلت؛ فيبتهج الخادم بلقائها، وتنكر هي ما ترى من تغيير نظام البيت، ويشتد إنكارها حين ينبئها الخادم بتفصيل هذا التغيير، ولكن ابنها يقبل فتلقاه راضية مبتهجة بلقائه، وتكاد تنسى تغيير النظام، ولكنها لا تلبث أن تذكره فتتحدث فيه إلى ابنها في شيء من الإنكار تخفيه ولكنه يظهر، وابنها مضطرب بينها وبين امرأته كأنه يوافق امرأته على التغيير، وهو الآن يكاد يستعطف أمه، ويعرض عليها ألا يتغير شيء.
ولكن أمه تظهر الرضا على أنه رضا يشبه السخط، والرجل يحدث أمه عن امرأته فيثني عليها، ويذكر ظرفها ورقتها وحبها كما كان يثني على أمه أمام امرأته.
ثم يذهب ليدعو امرأته فتقبل، وتلتقي المرأتان في فتور ظاهر يضيق به الرجل، ويبذل جهدا غير قليل في إزالته، فيوفق وما يكاد.
ثم يتركهما معلنا أنه سيتحدث مع صاحب سيارات في سيارة يريد أن يشتريها لامرأته، فنفهم بعد ذلك من الحديث بين المرأتين أن هيلان تحسن سوق السيارات، وتريد أن تكون لها سيارتها الخاصة لتخرج بها في باريس، والأم تنكر هذا، وتدهش له، ويشتد دهشها وإنكارها حين تقص عليها هيلان أنها قضت ليلة أمس مع زوجها بعيدين عن باريس؛ لأنهما خرجا للنزهة فضلا، واضطرا إلى أن يقضيا الليل في فندق حقير قذر، وكانا سعيدين كل السعادة حتى إنهما ليريدان أن يستأنفا هذا الضلال، فتلاحظ الأم أن ابنها قد تغير في سرعة شديدة، فهو يطمئن الآن إلى مثل هذا الفندق القذر، وقد كان من قبل مترفا، مسرفا في الترف.
ونلاحظ نحن أن هذا التغيير لا يعجبها، وأن الحرب قد بدأت في حقيقة الأمر بين هاتين المرأتين: كلتاهما تحب هذا الرجل، وتريد أن تستأثر به، وكلتاهما تريد له السعادة، ولكن كما تتصورها هي، ثم كلتاهما قوية الإرادة، ظاهرة الشخصية، حريصة على أن تستأثر بالسلطان.
وقد أقبل الخادم يستأذن للصديق هنري فالان، فإذا دخل وخلا إلى صديقته كان بينهما حوار بديع مضطرب مختلف، تظهر فيه سعادة هيلان، وحبها لزوجها، وابتسامها للحياة، ويظهر فيه شقاء هنري، واضطراب نفسه، وانصرافه عن اللذة والأمل.
ونحس نحن أن هذا الشاب قد استكشف بعد زواج هيلان أنه يحبها، ورأى أن ليس إليها سبيل، فهو يشقى بهذا الاستكشاف، وهو على ذلك يحاول أن يخفي حبه، وأن يحتفظ للزوجين بصداقة طاهرة ترعى فيها كل الحرمات، ولكنه عاجز عن أن يضبط نفسه، ويملك عاطفته، وآية ذلك أنه يعتذر عن العشاء، ويعجز عن أن يضرب موعدا آخر للقاء الزوجين. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى نحو العام على ما حدثتك به آنفا، وأخذت هذه الحوادث الضئيلة اليسيرة المحرجة على يسرها وضآلتها تكثر، ويجتمع بعضها إلى بعض؛ فتفسد جو البيت، وتباعد بين المرأتين، وتزيد حياة الرجل عسرا وحرجا.
ونحن نرى أول الفصل هيلان في مكتب زوجها تنسق الزهر في آنية بديعة صغيرة تضعها على المكتبة، وتنظر إليها من قريب ومن بعيد كأنها تريد أن ترى ما تحدثه من جمال في الغرفة كلها، وهي مغتبطة لا تملك أن تتحدث بغبطتها إلى الخادم، فتثني على هذه الآنية، وعلى ذوقها الذي مكنها من اختيارها، ولكن حماتها تقبل مسرعة متعبة، فتأمر الخادم بأن يحمل إليها بعض المتاع، وما هي إلا أن يأتي الخادم بما أمرت به فتزيل الورق عن إنائين ضخمين من النحاس، فإذا سألتها هيلان أنبأتها بأنها سمعت ابنها أمس يود لو وضع على مكتبتيه شيء يزينهما، فأسرعت فاشترت هاتين الآنيتين، فتغتاظ هيلان لذلك، وتقول: إنها هي أيضا سمعت زوجها فاشترت هذه الآنية الصينية البديعة.
وما هي إلا أن ينشأ التنافس الثقيل المؤلم بين هاتين المرأتين، كلتاهما تريد أن تكون هديتها أجمل من الأخرى، ويقبل الزوج فيحكم على غرة، فيحكم لأمه وهو لا يدري، وإذا امرأته تسرع إلى آنيتها فتحطمها في ثورة وغضب، ثم تندفع في بكاء لا حد له، وتنصرف الأم سعيدة دهشة، ويخلو الرجل إلى امرأته فيريد أن يترضاها، ويحاول أن يتعرف الخبر، فإذا عرفه ضحك من طفولة امرأته، وأخذ يلاطفها ويداعبها، ولكنها تلقاه لقاء عنيفا، وما تزال به وبأمه ثائرة ملحة في أن تترك هذا البيت حتى يغضب الزوج، ويفسد الأمر بينهما، وإذا هما يتراشقان بألوان من العتب المر، وإذا هي تنذره، وإذا هي توعده، ثم ينصرف عنها بعد حوار طويل يحسن أن يقرأ لما فيه من دقة في تصوير هذه العواطف التي تصل بين الرجل وامرأته، والتي ما تزال بها صغائر الأشياء حتى تغيرها وتكدرها، ويعود إليها هادئا، ولكن أمه تقبل فتحمل إليه كتابا ينظر فيه ثم يدفعه إلى امرأته، فتبتهج له، وهو كتاب من أسرة صديقة لهذه الأسرة تدعوها إلى حفلة ستقيمها في إحدى الضواحي، فما أسرع ما تقبل هيلان الدعوة وتكتب بهذا القبول، ولكن الأم تعتذر وتلح في مكر على ابنها أن يذهب مع امرأته؛ لأنها متعبة، والطبيب يأمر بالراحة، ويحظر عليها تكلف المشقة، فإذا سألها ابنها عما تشكو ذكرت علة القلب في ألفاظ لا تلبث أن تخيف الرجل على أمه، وإذا هو يلح عليها في أن تستريح، ويريد أن يدعو الطبيب، فتأبى عليه، وتنصرف لتستريح في غرفتها، ويقبل الرجل على امرأته يطلب إليها في رفق أن تعدل عن قبول هذه الدعوة؛ لأن أمه لا تستطيع أن ترافقهما، وهو لا يريد أن يتركها وحدها، فيثور غضب هيلان، وتمزق كتابها، ويستأنف الحوار العنيف بين الزوجين، وقد فسد أو كاد يفسد بينهما كل شيء.
ويترك الزوج امرأته مغيظة محنقة محزونة، وتأتي الأم فإذا علمت أن الزوجين لن يقبلا الدعوة ابتهجت بذلك واغتبطت له، أليست قد انتصرت؟
وهذا هنري يقبل فتلقاه الأم في ظرف وتلطف لم يتعودهما، فإذا انصرفت وخلا إلى صاحبته أخذ يظهر دهشه لهذا الظرف غير المألوف، وما يزال بهيلان حتى تظهر له ما تجد من حزن، وتشكو له سوء حالها، وإذا هذه الشكوى تشجعه على أن يظهر ما كان قد أضمر، وإذا هو يعلن إلى هذه المرأة حبه ويلح في إعلانه، وهي تدفعه وتتهمه بالأثرة والجبن؛ لأنه ينتهز فرصة هذا الحزن ليخون صديقه، ويستغل موقفا ما كان يحسن أن يستغله.
وما تزال به حتى يفيق، وإذا هو يشكو ويعتذر ويستعطف، وهي تدفعه راثية له عاطفة عليه، طالبة إليه أن ينصرف، فيفعل مودعا بألفاظ فيها حب، وإنه ليقول هذه الألفاظ منصرفا، وإذا الأم تدخل من باب آخر فتسمع ما يقول، وتراها هيلان، وتعرف أنها قد سمعت فتضطرب وتستحي، وتحاول أن تحملها على الكلام فلا تظفر بشيء، وهي الآن تتملقها وتترضاها، حتى إذا استيأست منها انصرفت محزونة مروعة.
ويقبل الزوج فيتحدث إلى أمه عاتبا؛ لأنه يراها سالمة بارئة لا علة بها، فينكر تمارضها منذ حين، ويرثي لامرأته، ويعلن إلى أمه أنه قد يقبل رأي امرأته، ويتخذ معها بيتا خاصا، فتثور الأم ولكنها ثورة لا تخلو من دهاء ومكر، فهي تعلن إلى ابنها أن امرأته إن كانت ترغب في هذا الاستقلال فهي إنما تريد أن تخلص من رقيب خطر، ولا يكاد الرجل يسمع هذه الكلمة حتى يأخذه الشك، فيستوضح، فتأبى عليه، فيلح، فتأبى عليه، ولكن إباء المعرض المغري، وإذا الغيرة قد أخذت تعمل عملها في نفسه، وما يزال يستدرج أمه حتى تذكر اسم هنري وزياراته المتصلة، فتشتد الغيرة، وتتضح التهمة في نفسه، وترى أمه هذا كله فتجزع له بعض الشيء؛ لأنها قد وصلت إلى أكثر مما كانت تريد، والرجل ثائر يطلب امرأته، فإذا أقبلت لم يلبث أن يسألها عن هنري، وأن يتهمها بالريبة.
فقدر أنت ثورة هذه المرأة البريئة، ولكن قدر في الوقت نفسه ثورة زوجها حين تأبى أن تدفع عن نفسها، وما يزال الأمر يشتد بينهما حتى يبلغ أقصاه، وإذا هو يهجم على امرأته يريد أن يضربها، وإذا هي تعلن إليه في عنف أن هنري خليلها، وأنها لاحقة به، وتنصرف مسرعة فيتبعها، ثم لا يدركها فيعود، وتقبل أمه كأنها تريد أن تعزيه، فيوليها ظهره صامتا، وتفهم أن قد كان بينها وبين ابنها من الشر ما لا سبيل إلى استدراكه. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى أسبوعان على ما حدثتك به، ونحن نرى الأم في حجرة الاستقبال تلك مستلقية كالمتعبة، والخادم يتحدث إليها، فنفهم أنها مريضة، وأنها تخفي مرضها على ابنها، ونفهم أن ابنها محزون حزنا لا حد له ملازم لمكتبه، لا يكاد يريمه، مؤثر للوحدة والصمت، بعيد كل البعد عن أمه، يعيش معها وكأنه لا يراها، وقد أخذ الخادم يشفق عليه، وآية ذلك أنه جمع أجزاء الآنية التي حطمتها امرأته فضم بعضها إلى بعض، وأعاد الآنية كما كانت، ووضع فيها زهرا يحسب أنه يحسن بذلك إلى سيده.
وهذا الابن قد أقبل فيتحدث إلى أمه حديثا سقيما متقطعا، ملؤه الحزن والغيظ والحقد أيضا، وما تزال به أمه حتى تصل به إلى موضوع حزنه، وإذا هو يشكو أنه شديد الندم على ما فرط منه لا يستطيع أن يتعزى، لا ينام ولا يخرج، ولا يستطيع أن يفكر، ولا أن يحتمل البيت منذ خلا من امرأته، ولقد تبعها يوم انصرفت فلم يدركها، وأسرع إلى بيت صديقه فقيل له إنه خرج ومعه امرأة، فانتظرهما الليل كله فلم يعودا، ورجع إلى البيت مرات حتى عرف أن صديقه سافر إلى الهند، فهو محنق محزون يأسف لأن امرأته قد تركته، ولأنه لم يستطع أن يقتلها ويقتل معها صاحبها، ثم نفهم أيضا حقده على أمه؛ لأنها أفسدت بينه وبين امرأته، وكانت أثرة مسرفة في الأثرة، لا تفكر إلا في نفسها، ولا تحسب لسعادة ابنها حسابا، والأم تدفع عن نفسها وتألم لشقاء ابنها، وقد انصرف عنها؛ لأنه رأى سيارة مقبلة، فيخاف أن يلقى الزائرين، ولكن هؤلاء الزائرين ليسوا في حقيقة الأمر إلا امرأة تدخل فتنكر الأم مكانها، وهذه المرأة هي هيلان.
تلقاها الأم لقاء فيه بغض وحقد، وفيه اتهام بالريبة والإثم، ولكن هيلان لا تلبث أن تثبت براءتها، وأنها إنما اتهمت نفسها حنقا وغيظا، ثم تهم أن تنصرف فتمسكها الأم، ويكون بينهما حوار لا أحبه؛ لأن فيه فلسفة ربما ثقلت على الملعب، فيه تحليل للحب الزوجي، وتحليل لحب الأمهات، ومحاولة لتحديد الموقف الذي يجب أن يكون بين الحبين، ومهما يكن أمر هذا الحوار فقد اقتنعت الأم بأن سعادة ابنها عند امرأته لا عندها، وكأنها قد أخذت تحب هذه المرأة.
وهذا ابنها يقبل فإذا رأى امرأته أنكر مكانها، وهمت أمه أن تنصرف فيمسكها، ولكنها تنتهز فرصة وتتركهما وجها لوجه، فيكون بينهما جدال يتهمها وتدفع عن نفسها، ويأبى أن يصدقها، فتلح في الدفاع، وتقص ما كان بينها وبين صاحبها، فإذا هو قد عرض عليها الحب فأبته عليه، فافتقدته بعد ذلك فلم تعرف أين هو، وهي تجهل سفره بل تجهل مكانه، ولكن زوجها لا يصدقها، ولا يريد أن يسمع لها، فتنهض مستيئسة تريد أن تنصرف، حتى إذا بلغت باب الحجرة سمعت زوجها يدعوها فتعود إليه مبتهجة، ولكن الأم تقبل في هيئة السفر تودع ابنها، فإذا سألها أنبأته بأن أمور ثروتها مضطربة، وأنها تريد أن تشرف عليها من قريب، وأن الطبيب يشير عليها بترك باريس، وما تزال بابنها حتى يطمئن إلى هذا السفر كارها، وتأبى عليه أن يشيعها وتقبله، وتوصي امرأته به خيرا، وتنصرف مسرعة، ويقف ابنها أمام النافذة وكأنه يريد أن يودعها، وتسمع حركة السيارة، فتقول هيلان لزوجها: «تركتها تسافر؟» فيجيبها: «وماذا يعنيك ما دمت أنت ستبقين؟»
التيه
قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
قد لا يكون هذا العنوان ظريفا، وقد لا يجري به اللسان في سهولة، وقد لا يسيغه السمع، ولكنه مع ذلك صحيح، وهو مع ذلك ترجمة دقيقة لعنوان هذه القصة بالفرنسية، وهو يختصر القصة كلها، فهي تيه بالمعنى الصحيح، مهما تفكر ومهما تمعن في التفكير، فلن تجد منه مخرجا، ولن تجد فيه هدى.
هذه القصة جهاد لا نتيجة له بين العواطف والشعور من جهة، وبين العقل من جهة أخرى، بين العواطف والشعور الفردية من ناحية، وبين القانون والأوضاع الاجتماعية من ناحية أخرى، بين العواطف وبين الواجب، وبين العقل وبين الدين، ثم بين القانون وبين الدين أيضا، هي جهاد عنيف لا نتيجة له، ولا مخلص منه، بين ما يكون الفرد وما يكون الجماعة من ضروب العواطف والشعور، ومن ألوان الأوضاع والقوانين.
وهي ليست جهادا متكلفا ولا منتحلا، ليست شيئا اخترعه الكاتب اختراعا، وعقده عمدا وافتنانا في التعقيد، وإنما هي شيء طبعي يقع كثيرا، ومن الممكن أن يقع في كل يوم، وقد يلتفت الناس إليه وقد لا يلتفتون، ولكنه في نفسه حق إن لم يقع بالفعل في كل زمان وفي كل مكان، فمن الممكن جدا أن يقع في كل زمان وفي كل مكان.
في كل زمان وفي كل مكان! قد لا يكون هذا حقا، وقد لا يخلو من المبالغة؛ لأن هناك أمكنة أو قل إن هناك جماعات فيها من قواعد الدين ونظم التشريع ما يحول بين الناس وبين التورط في هذا الجهاد الأليم العقيم، فالمسلمون مثلا لا يتورطون فيه؛ لأن الله أباح لهم الطلاق، وأباح للمرأة المطلقة أن تعود إلى زوجها الأول بعد استيفاء شروط وقيود معروفة، وأظنك الآن تحس أن هذه القصة تدور حول الزواج وحول الطلاق، فلست أريد أن أطيل عليك، ولا أن أسرف في تشويقك إلى حوادث هذه القصة، وإنما أنا مبتدئ فيها راج أن تكون هذه القصة موضع بحثك وتفكيرك، فأنا أعترف بأني لا أتخير هذه القصص عفوا، وإنما أتخير منها بنوع خاص ما من شأنه أن يهز العاطفة، ويلذ العقل، أو يدعو إلى العناية والتفكير، وفي هذه القصة كل هذه الخلال. «فيلاردوفال» رجل أقرب إلى الشيخوخة منه إلى الشباب، حسن الحال، موسر مرتفع المنزلة، كان قاضيا وقاضيا ممتازا، خدم القانون وحماه من عبث العابثين، فأصبح شديد الإيمان بالقانون، يكاد يتخذه دينا، أو قل إنه يتخذه دينا، ويتخذ إكباره وتقديسه مقياسا لكرامة الرجل، بل لرجولته، وله زوج شديدة الإيمان بدينها المسيحي الكاثوليكي، شديدة الإيمان أو مسرفة في شدة الإيمان، لا تفكر إلا في الدين ولا تصدر إلا عن الدين، ولا تقيس شيئا من الأشياء في الحياة إلا بمقياس الدين، تحب زوجها حبا شديدا، ويحبها زوجها حبا شديدا، ولهما ابنة هي «مريان»، بارعة الجمال، فتانة، شديدة الذكاء، ساحرة اللفظ، معتدلة المزاج، قد ورثت عن أبيها حب القانون وإكباره، وورثت عن أمها حب الدين واحترامه، ولكنها لا تسرف في شيء من ذلك، فهي معتدلة في كل شيء، تزوجت فتى غنيا جميلا هو «مكس دي بوجيس»، وتزوجته بعد أن أحبته، وكلفت به، وبعد أن أحبها، وكلف بها، فعاشا في الحب والصفاء حينا، وكان لهما غلام، ولكن الزوج الشاب خان امرأته في ساعة طيش ونزق، فكانت الصدمة على هذه المرأة شديدة، وساء الظن بين الزوجين، أسرفت في الغضب، وأسرف هو في عدم الاكتراث، حتى ساءت الصلة ثم انقطعت، ثم كان الطلاق رغم الأم المؤمنة التي تكره الطلاق بحكم إيمانها، ثم تزوج الشاب من صاحبته التي كانت مصدر شقائه، وظلت «مريان» بين أبويها مقسمة الوقت والحياة، بين حب ابنها واللوعة بما أصابها في حب زوجها، ولكن لهذه الأسرة صديقا كان بعيدا عن فرنسا، يعيش في الأقطار النائية لأمر من الأمور نتوهمه، ولا نتبينه في وضوح. عاد هذا الصديق إلى فرنسا، واسمه «جيليوم لابروم»، ورأى مريان فأحبها، وفتن بها، وقدسها تقديسا، وطلب إليها أن تكون زوجه، فقبلت، لا لأنها تحبه ولكن لأنها تحترمه، وتثق بصدقه وإخلاصه، وبأنها ستكون سعيدة في بيته، فقبلت أن تكون زوجه، وقبل أبوها هذا الزواج مغتبطا به مطمئنا على مستقبل ابنته، ولكن الأم رفضت هذا الزواج رفضا قاطعا، رفضته لأنها تجحد الطلاق، ولا تعترف به، فهي إذن مقتنعة فيما بينها وبين نفسها بأن الزواج الأول لم تنفصم عروته، وأن ابنتها ما زالت مدينة بحياتها لزوجها الأول، وأن الزوج الأول ما زال مدينا بحياته لزوجه الأولى، وإذا كان هذا قد خالف الدين وتزوج مرة ثانية فتورط في الخطيئة، فليس ينبغي لابنتها أن تخرج على قانون الكنيسة، وأن تقطع صلة أنشأتها كلمة الدين، وإذن فالجهاد قائم منذ الآن بين الدين والقانون، ثم بين الدين وشعور الإنسان بحقه في أن يكون سعيدا، القانون يبيح لهذه المرأة أن تتزوج، وسعادتها تقتضي أن تتزوج، بل حاجاتها الطبيعية تقتضي أن تتزوج، وهناك رجل يحبها حقا، ويريدها على أن تكون زوجه، وهناك أبوها الذي أنفق حياته في خدمة القانون يرغب في هذا الزواج، ويحرص عليه، ولكن هذه المرأة تحب أمها وتجلها، ولا تريد أن تخرج عليها، ولا أن تخالف أمرها، فهي تستعطفها وتتوسل إليها بكل وسيلة، تذكر شبابها وحاجاتها إلى الحياة، وإلى السعادة في الحياة، وأن الله لا يمكن أن يقضي على هذه الزهرة النضرة بهذا الذبول، ولا أن يقضي على هذه المرأة بالشقاء في العزلة، حينما هو يبيح لغيرها من الرجال والنساء الحياة الاجتماعية السعيدة المعقولة. تتوسل بكل هذا، ولكن أمها لا تسمع لها، ولا تأذن بهذا الزواج.
وبينما هذا الجهاد في أشد أطواره من العنف يقع شيء يزيده عنفا، ويحمل هذه المرأة الشابة على أن تثور فتخرج على أمها، وتخرج على الدين وتتزوج؛ ذلك أن امرأة أخرى تقبل لزيارة «ماريان» وبينهما صلة قرابة، فتطلب إلى «ماريان» أن تعينها على أمر منكر، فهي قد غابت أمس عن زوجها، ولا تستطيع أن تنبئه أين كانت فكذبت عليه، وزعمت أنها كانت عند «ماريان» والزوج مقبل الآن، وقد يسأل «ماريان» عن أمس، فإن لم تكذب عليه كما كذبت زوجه فيسوء الأمر بين الزوجين، وقد يكون ذلك مصدر الطلاق. تتمنع «ماريان» وتأبى الكذب، ويدور بينها وبين صاحبتها «بوليت» حوار لا بأس به: أي المرأتين أشد إثما؛ التي تخون زوجها، وتخفي عليه الخيانة، أم التي لا تخون أحدا، ولكنها قد طلقت، وتريد أن تتزوج زوجا آخر؟ فأما «بوليت» فترى أن الخيانة أيسر من الزواج بعد الطلاق؛ ذلك لأن الخيانة مجهولة أو يجب أن تكون مجهولة، وقد تعمد الناس أن يجهلوها، ويتكلفوا جهلها، ومضوا على ذلك في آدابهم وأوضاعهم، حتى أصبحت المرأة في بعض الطبقات تستطيع أن تعيش بين زوجها وخليلها دون حرج ولا جناح، بينما المرأة التي تطلق ثم تتزوج من جديد تثبت بصفة رسمية أمام القانون وفي دفاتر الحكومة أنها قد قسمت نفسها بين رجلين، فلا يكاد يراها أحد إلا ويشعر بهذه الشركة، أو بهذه القسمة، أو بهذا التبادل، وفي هذا ما فيه من الخزي، وفي هذا ما فيه من انتهاك حرمة الحياء ...
فأنت ترى إلى هذا النفاق الاجتماعي الذي يبيح الخيانة ويقرها، وإن أنكرها القانون والدين وحظراها، والذي يحظر الزواج بعد الطلاق وإن أباحه القانون، وأقرته المنفعة، واستلزمته العواطف والسعادة في كثير من الأحيان.
تثور «ماريان» على هذا النفاق الاجتماعي، ولكن شيئا آخر يزيد ثورتها عنفا، وهو أن أمها المؤمنة التقية قد اشتركت في هذا الكذب، فأخفت الأمر عن الزوج مخافة أن تنهدم حياته الزوجية، وإذن فقد أقرت شيئا يحظره الدين، فما لها لا تقر ابنتها على الزواج إذ كانت المصلحة تبيح مخالفة الدين؟ فتجيبها الأم بأن خطيئة صاحبتها قد وقعت بالفعل، فهي لا تستطيع لها استدراكا، وقد أصبح أمرها إلى الله وحده، فالرحمة بالإنسان تقتضي أن تظل هذه الخطيئة مكتومة، أما أنت فلم تخطئي بعد وأنت تريدين أن تخطئي، وحرام علي أن أعينك على الخطيئة. ثم تنصرف الأم بعد أن تعلن إلى ابنتها أنها لا تسمح بهذا الزواج، ولكنها لن تستطيع أن تجحد ابنتها مهما تفعل، هنا يستقر رأي «ماريان» على أن تخالف أمها فتتزوج. •••
فإذا كان الفصل الثاني رأيت «ماريان» وزوجها الجديد، وقد مضى على زواجهما عامان، وهما في زيارة يتغديان عند «بوليت» التي مر بك ذكرها، فيتحدثون في كثير من الشئون ثم ينفصلون قليلا، فأما ماريان فتتحدث إلى زوج صاحبتها واسمه «هوبير»، أما «بوليت» فتتحدث إلى «جيليوم» زوج ماريان.
ولست تسمع إلا حديث ماريان وصاحبها، فإذا صاحبها يشكو إليها ويستعينها، ذلك أن زوجه أحست منه بعض النزق فهجرته فهو يستعطف ويتوب، ويتوسل بماريان، ثم تخلو المرأتان وتتحدثان، فتلح ماريان على صاحبتها أن تعفو عن زوجها، وأن تذكر خطيئتها، فتأبى بوليت، ويتبين من حديثها أنها ما زالت في خطيئتها، وأنها مغتبطة بهذه الخطيئة، وأنها تؤثر الحب على الزواج، تكره من الزواج هذه الإباحة التي ترفع الكلفة بين الزوجين، وتجعل الصلة بينهما شيئا مألوفا، وتجعل للرجل على المرأة حقا يشبه حق المالك المتسلط، وهي تحب في الحب أنه غير مباح، وأن فيه هذه المشاق والأخطار التي تجدها في كل محظور، والتي تضطرك إلى أن تتكلف الأهوال، وتتجشم الخطوب، فتختلس الوقت وتسترق اللذة، تخفي ذلك كله وتكذب فيه، ولا تصل إلى شيء منه إلا بعد حيلة وجهاد، فهو إذن شيء لا يكفي أن تمد إليه يدك لتناله، وهما في هذا الحديث وفي هذا الحوار تبيح إحداهما محظورا، وتدافع إحداهما عن مباح، وبوليت تتعجل صاحبتها لأنها تريد أن تذهب إلى ميعاد، وبينما هما في هذا كله إذ يدخل الخادم ومعه بطاقة، وهذه البطاقة هي التي تعقد القصة، وتجعلها أدنى إلى الشر والنتائج السيئة حقا مما كانت أول الأمر.
هذه البطاقة من مدام «بوجيس» أم الزوج الأول «لماريان» فيها أنها أقبلت تتوسل إلى «بوليت» أن تتوسط عند ماريان في أن تبيح لزوجها القديم الإشراف على تربية ابنه أكثر مما كان ذلك له مباحا من قبل، تطلب ذلك لمنفعة ماريان نفسها ولمنفعة ابنها ولمنفعة حفيدها، فقد أصبح ابنها أرمل؛ لأنه فقد زوجه الثانية حينما أصبحت ماريان متزوجة، وإذن فالأب أحق بابنه من الأم؛ لأن الأب وحيد والأم تعيش مع رجل غريب يمكن أن يكون له تأثير سيئ في نفس الغلام. تقرأ بوليت هذه البطاقة، وتتحدث بها إلى ماريان، ولكنها متعجلة تريد أن تذهب لموعدها، وإذن فلا بد لماريان من أن تلقى هي مدام بوجيس، وتتحدث إليها في هذا الأمر الجديد.
فإذا جاءت مدام بوجيس وتحدثت إلى ماريان فهمت من حديثها أنها تحب ماريان وتحب ابنها، وتحب حفيدها، وتحب الخير لهؤلاء جميعا، وأنها كأم ماريان تجحد الطلاق، ولا تعترف بالزواج الجديد، لكنها لا تقنع ماريان رغم ما تذكره لها من آراء المحامين، ورغم ما تخوفها من وصول الأمر إلى القضاء، وانتصار زوجها الأول، وتحدث الناس بذلك في الصحف والأندية، لا تقنعها فترغب إليها في أن تسمع لابنها وهو قريب يمكن أن تشير إليه من النافذة فيجيب، وهو قادر على إقناعها لأنه يعلم من الأمر ما لا تعلم، وهو لم يكره زوجه الأولى قط، ولم يخنها إلا في ساعة خفة وطيش، والأمر بعد هذا كله فوق الأم وفوق الأب؛ لأنه يتعلق بحياة الابن، وهما جميعا يقدسان هذه الحياة، تتمنع ماريان أول الأمر ولكنها تسمح أخيرا، وتشعر أنت من هذا التمنع وهذا القبول أن هناك جهادا بين قلب هذه المرأة وواجبها، فهي ما زالت تحب زوجها القديم، ولكنها تريد أن تؤدي واجبها لزوجها الجديد، هذا الجهاد موجود عنيف، ولكنها تخفيه على نفسها؛ لأنها تجل نفسها عن أن تحب من خانها من جهة، وعن أن تخون ولو بالضمير من أحبها من جهة أخرى. يقدم الزوج الأول ... ويتحدثان فإذا الزوج الأول محق، وإذا هو يخشى على ابنه الخطر كل الخطر من عشرة الزوج الثاني؛ لأن هذا الزوج الثاني يلقي في روع ابنه من الخواطر والآراء ما لا يلائم مزاج الغلام ولا صحته، ولا مستقبله، ولا آمال أمه وأبيه فيه. تقتنع ماريان ويتفقان على أن يذهب الغلام مع أبيه إلى الريف يقضي فيه أسابيع، ولكن أحست ماريان عجزها عن مقاومة هذا الحب القديم، وأحست من جهة أخرى أن زوجها الأول ما زال يحبها رغم خيانته، ورغم زواجه الثاني. •••
فإذا كان الفصل الثالث علمت أن الغلام لم يكد يذهب إلى الريف حتى أصابته علة الديفتريا، فأشرف على الموت، ودعيت أمه فأقبلت وأقامت في قصر زوجها الأول خمسة عشر يوما، تشارك هذا الزوج في العناية بهذا الغلام، وفي دفاع الموت عنه.
وقد أحسا غير مرة ألما واحدا وخوفا واحدا، وأحسا غير مرة لذة واحدة وأملا واحدا، أحسا الألم والخوف حين كانت حياة الغلام في خطر، وأحسا اللذة والأمل حين كان الطبيب ينبئهما بحسن حال المريض، أحسا أن بينهما صلة مادية ومعنوية، صلة حية ليس لأحدهما أن يقطعها، أحسا أنهما قد يفترقان وقد يقع بينهما الطلاق، وقد يتزوج كل منهما، ولكنهما رغم هذا كله متحدان معنى ومادة، متحدان في هذا الغلام الذي يوحد بين جسميهما، وبين خلقيهما، بل وبين ما ورثا في حياتهما المادية والمعنوية، ثم أحسا أنه يوحد آمالهما وآلامهما، أحسا هذا كله وكلاهما يحب صاحبه حبا لا يكاد يخفيه، فما عسى أن تكون نتيجة هذا الإحساس؟
أما في نفس الزوج فشيء واحد هو استئناف حياته الزوجية مع زوجه الأولى، وأما في نفس ماريان فشيئان متناقضان: إجابة الحب إلى دعوته، وإجابة الواجب إلى دعوته، والحب صادق؛ لأنها تحب زوجها حقا، ولم تنس حبه في يوم من الأيام، ولأنها تحب ابنها فتحب زوجها في ابنها، والواجب صادق أيضا، فهي تحترم القانون، وتحترم زوجها الثاني، وتحترم نفسها، وترى أن الواجب هو أن تظل محترمة للقانون ولنفسها، وفية لزوجها الجديد، وإذن فيجب أن تشعر بحب زوجها الأول، ويجب أن تقاوم هذا الحب وفاء لزوجها الثاني، وللقانون، ولكرامتها، وهي عن ذلك كله في شغل ما دام ابنها في خطر، ولكن الطبيب قد أعلن أن الغلام أخذ يبل من مرضه، وأن أمه تستطيع أن تفارقه دون أن تخشى شيئا، فلا بد إذن من الفصل في هذا الجهاد، وماريان قوية معتزمة أن تفي للواجب وإن ضعفت صحتها، واختل مزاجها العصبي أو كاد، فهي تعلن إذن أنها معتزمة على السفر غدا، فإذا طلب إليها البقاء لتستريح أعلنت أن الواجب يكلفها ألا تظل في هذا البيت حين لا تدعوها الضرورة إلى الإقامة فيه، وهي في هذا الجهاد العنيف إذ تعلم شيئا يزيد هذا الجهاد عنفا، تعلم أن صديقتها بوليت التي كانت تخون زوجها، وتؤثر الحب المحظور على الزواج المباح قد فقدت ابنها، ولا تكاد تتحدث إلى هذه الصديقة البائسة حتى ترى أن مرض هذا الغلام الذي مات قد أصلح نفس أمه، فاستيقنت أن الزواج حق، وأن الذي يجعله حقا ونفعا وخيرا، بل الذي يجعله الحق الذي ليس دونه حق، والنفع الذي ليس دونه نفع، والخير الذي ليس دونه خير، إنما هو وجود الأبناء، ذلك لما قدمنا من أن الابن يجمع الأبوين حقا، ويوحد بينهما توحيدا لا سبيل إلى تفريقه، فقد أحست بوليت هذا حين كان ابنها مريضا، وازداد إحساسها إياه حين مات ابنها، فكرهت الحب المحظور، وأخذت لا تتمنى على الله ولا على الحياة إلا شيئا واحدا وهو أن يولد لها من هذا الزوج الذي كانت تخونه أمس ابن يزيد الصلة بينهما توثيقا وقوة، وتتحدث بهذا إلى ماريان فإذا لهذا الحديث صداه الصادق في نفس ماريان، وإذا هي تشعر أنها غريبة من زوجها الثاني؛ لأن الابن لا يصل بينهما، وأنها متصلة بزوجها الأول لوجود هذا الابن، وإذن فكلتا المرأتين تعسة: إحداهما فقدت ابنها، والأخرى فقدت زوجها حقا، ولكن ماريان مصرة على الوفاء للواجب، وقد تفي لهذا الواجب لولا أن زوجها الأول أقوى منها، فهو يدخل عليها في هذه الغرفة التي هي فيها الآن والتي رآها فيها لأول مرة يوم تزوجا، والتي تركها فيها يوم الخيانة، يدخل عليها وهي تستعد للراحة، قد نزعت ثيابها أو كادت وأرسلت شعرها، فيراها الآن كما رآها يوم تزوجا، يدخل عليها وقد علم أنها تريد أن تسافر وهو يأبى أن تسافر حتى تسمع له وتعفو عنه، فيأخذ في التحدث إليها واستعطافها، وتذكيرها أيام الحب، ثم يذكر خيانته، وأنها لم تصدر إلا عن ضعف وطيش، وأنه كان إلى ضعفه وطيشه أحمق مغرورا، ساءه أن امرأته علمت بخيانته فاغتاظ لذلك، ولج في الخيانة طيشا وحمقا، ثم تتحدث إليه ماريان فإذا هي حين أغضبتها الخيانة وملأتها حقدا وغيظا لم تكن تتمنى إلا شيئا واحدا وهو أن يعود زوجها تائبا مستغفرا فيترضاها، ويستأنف معها الحياة، إذن فقد كان غضبها كاذبا، وإذن فقد كانت خيانته كاذبة أيضا، وإذن فقد كان كلاهما يحب صاحبه حقا.
وقد أظهر مرض الغلام أن هذا الحب لم يزدد إلا قوة وعنفا، ألما معا وجزعا معا، وقد برئ ابنهما، فيجب أن يسعدا معا، وهما الآن في الغرفة التي شهدتهما زوجين لأول مرة، هنا تضعف الإرادة ويضعف أثر الواجب، وينتصر سلطان الحب والأمومة على سلطان الزواج والقانون. •••
فإذا كان الفصل الرابع رأيت أبا ماريان وأمها بمنزلهما في باريس يتحدثان بأن الغلام قد برئ، وبأن ماريان عائدة إلى باريس بعد قليل من اللحظات، وبأن زوجها قد ذهب يستقبلها ، ثم يطلب الشيخ إلى امرأته أن تذهب معه إلى بيت ابنتها، فتأبى لأنها لا تريد أن تدخل هذا البيت الذي يقوم على الخطيئة، ويتركها زوجها حينها، ثم تقبل ماريان والهة ذاهلة في شكل مخيف، فلا تكاد تستقر بها الدار حتى تكون قد قصت على أمها كل شيء، فأنبأتها بأنها خانت زوجها الثاني مع زوجها الأول، وأنها تستبشع هذا استبشاعا فظيعا، وترى أنه جرم لا يعدله جرم، أما أمها فلا ترى في هذا إثما ولا خطيئة، وإنما ترى أن ماريان قد ردت الأمانة إلى صاحبها، وأنه إن تكن هناك خطيئة حقا فهي حياتها مع زوجها الجديد، ويقبل الشيخ وقد سمع هذا الحديث فتناله هزة نفسية عنيفة يرثي لابنته لأنها لم تفعل ذلك وهي قادرة على ألا تفعله، ويرثي لزوجها الثاني لأنه مظلوم، ويريد أن يلتمس حلا لهذه العقدة، فأما الأم فتقترح الحل وهو أن هذا الزواج الثاني قد قام على الطلاق فيجب أن يهدمه الطلاق، وأن تعود ماريان إلى زوجها الأول، ولكن الشيخ رجل قانوني وهو يعلم أن القانون الفرنسي لا يبيح للمطلقة أن تعود إلى زوجها الأول إلا إذا مات زوجها الثاني، فليس للمسألة إلا حل واحد وهو الكذب، هو أن تخفي الحقيقة على الزوج الثاني، ولكن ماريان عاجزة عن إخفاء هذه الحقيقة، لا تريد أن تكذب، ولا تريد أن تخدع زوجها الثاني، والحق أنها لا تحب زوجها الثاني، ولا تستطيع أن تعيش معه وإن كانت تكبره وتجله، فهي إذن قد عزمت على أن تصارح زوجها بكل شيء، يلح عليها أبوها وأمها ألا تفعل فتأبى، ثم يصلان إلى إقناعها بأن تستخفي حتى يقبل «جيليوم» مضطربا؛ لأنه ذهب لاستقبال زوجه فلم يجدها، فإذا علم أنها قد عادت إلى باريس، وأنها ذهبت إلى بيت أبيها لا إلى بيت زوجها ازداد اضطرابا، وإذا طلب أن يرى زوجه فأجيب بأن الخير في أن ينتظر الآن خرج عن طوره وألح وأنذر حتى تخرج له ماريان، ويخلو الزوجان فيسألها فلا تجيبه إلا بضروب من الإيماء، والرجل واثق بزوجه فهو يعتقد أنها ضعيفة متأثرة الأعصاب، فيريد أن يأخذها باللطف والحنان فيدنو منها، ويريد أن يضمها إليه، ولكنه لا يكاد يطلب شفتيها حتى تصيح في وجهه بأنها خائنة!
هنا يثور ثائر الرجل، ولكنه لا يريد إلا أن ينتقم من هذا الزوج الأول الذي أهانه، وانتهز إقامة امرأته عنده وضعفها ففعل ما فعل، يخرج وهو عازم على قتله، فتستغيث ماريان بأبيها وأمها، وتتوسل إليهما في أن يدفعا هذا الشر الذي يريد أن ينزل بهذين الرجلين. فقد رأيت أن المؤلف قد أحكم العقدة، فبلغ الجهاد أقصى أطوار العنف بين هذه العواطف المختلفة، وبين هذه الأهواء المتباينة، وبين الدين والقانون، بلغ بالجهاد أقصى أطوار العنف حتى أصبح جهادا خارجيا بين رجلين مسلحين، كلاهما يريد الشر بصاحبه، وأحدهما يمثل القانون والحب، والآخر يمثل الدين والأبوة والحب. •••
فإذا كان الفصل الخامس رأيت أسرة ماريان قد انتقلت من باريس إلى قصر لها في الأقاليم، وظهر لك المسرح في موضع من حديقة هذا القصر تشرف على مكان خطر من النهر، ورأيت ماريان وأمها تتحدثان، فتفهم من الحديث أن أم ماريان قد أسرعت إلى الزوج الأول فأنبأته بمكان الخطر على حياته، وما زالت به حتى حملته على أن يستخفي، ثم تفهم شيئا آخر وهو أن الزوج الأول لم يستخف حقا، وإنما انتقل من قصره إلى حيث تقيم ماريان، فليس بينها وبينه إلا النهر، فهو يبعث إليها في كل يوم بكتاب يريد أن يستأنف الصلة بينها وبينه، وماريان تقرأ كتبه ولا تجيب، وهما في هذا الحديث إذ يقبل أبوها فينبئهما بأنه لقي في طريقه جيليوم وهو الزوج الثاني، وعلم منه أنه أقبل يريد أن يتحدث إلى ماريان، فتقبل ماريان أن تتحدث إليه، ويذهب الرجل ليأتي به، وتذهب ماريان مع أمها لتتخذ لها معطفا تتقي البرد؛ لأن المساء قد أمسى. يقبل جيليوم ويخلو حينا في المسرح، وهو ينتظر إذ يدخل غلام من القرية معه كتاب من «مكس» الزوج الأول، فيأخذ «جيليوم» الكتاب، وقد علم من الغلام مكان «مكس »، وعلم منه أيضا أن هذا الموضع من النهر شديد الخطر. ينصرف الغلام، ويقرأ جيليوم الكتاب فيفهم كل شيء: يفهم أن مكس يريد استئناف الصلة مع ماريان، وأن ماريان لا ترد على كتبه، وهو كذلك إذ تقبل ماريان فيعرض عليها جيليوم العودة إلى الحياة القديمة، وأنه يريد أن ينسى ما كان، ولا يذكر من أمر الخيانة شيئا، وأنه لن يستطيع أن يعيش بدون ماريان، ولن يستطيع أن ينسى شرفها وأمانتها حين أنبأته بالحق ولم تخف عليه شيئا، وكانت تستطيع أن تداهن، وكانت تستطيع أن تصطنع الرياء.
ولكن ماريان تشكر له ذلك، وتعلن إليه أنه قد يستطيع أن ينسى كل شيء ولكنها هي لا تستطيع أن تنسى، وقد تزوجته على أن تكون له وفية في السر والجهر، وفي الدقيق والجليل من أمرها، فأما وقد خانت هذه الأمانة فهي لا تستطيع أن تعود إليه، وهي لا تطلب إلا شيئا واحدا، لا تطلب إلا أن تفرغ لابنها تقف حياتها على تربيته والعناية به. لا يصدقها جيليوم، وتملكه الغيرة، فيظن أنها تريد أن تخلص منه لتستأنف الحياة مع الزوج القديم، ثم تهدأ غيرته حين يراها باكية ملتاعة، ويعلن إليها أنها ستظفر بما تريد فسيستخفي هو أو سيموت، وتستطيع أن تعود إلى زوجها الأول. يعلن إليها ذلك في صدق وإخلاص، فتجيبه هي في صدق وإخلاص أيضا أنه أخطأ قصد السبيل وأنها تريد أن تعيش عيشة الراهبات؛ لأنها فقدت بحكم الخيانة حقها في السعادة الزوجية، حقها في أن تكون امرأة، وهي تريد أن تكفر عن سيئاتها، فتستأنف حياة العذارى، وهي تقسم أنها لن تعود إلى الزوج القديم، وهي أنها تحبه، وأنها قد تعجز عن مقاومته، ولكنها تعلم أنها ستقتل نفسها قبل أن يظفر منها هذا الزوج القديم بشيء، تقسم على ذلك فيصدقها «جيليوم» ويعدها بأنها ستحيا، وستحيا لابنها دون أن تجد في ذلك ما يعرضها للانتحار الذي هو عمل غليظ جاف لا يليق بالنساء الحسان، ثم يودع بعضهما بعضا. تنصرف ويبقى وهو يسأل نفسه: لم لا يلقي بنفسه في النهر؟ وإنه لفي هذا التفكير إذ يقبل «مكس» فيلتقي العدوان، يهم مكس أن يتراجع فيقفه جيليوم معلنا إليه أنه قد فر أمامه مرتين، هنالك يدور حوار قصير، ولكنه عنيف بين هذين الرجلين، يطلب مكس إلى صاحبه أن يدعو شهوده، وأن يقتتلا كما جرت بذلك العادة، فيأبى جيليوم قائلا: إن بينك وبيني حسابا يجب أن لا يطلع أحد عليه، ثم يعرض عليه ما يأتي: وهو أنه قد رد إلى ماريان حريتها فلن تراه ولن يراها، ولكن ماريان تريد أن تعيش حرة، تريد ألا ترى زوجها القديم كما أنها لن ترى زوجها الجديد، وإذن فمكس بين اثنتين: إما أن يعطي على نفسه العهد أنه لن يرى هذه المرأة، ولن يتتبعها بإلحاحه وأثقاله، وإما أن يموت. أما مكس فيرفض ما يعرض عليه، ويعلن أنه يحب ماريان وأن ماريان تحبه، وأنه لا يستطيع أن يعرض عنها، ولن يعرض عنها، وأنه لن يقضي بينه وبين صاحبه في هذه الخصومة إلا الموت، فهو يدعو شهوده ولابد أن يقتتلا، ثم يريد أن يخرج فيمنعه جيليوم، ويكون بينهما صراع عنيف ينتهي بهما إلى النهر، فما أسرع ما تضمهما أمواجه، وما أسرع ما تلتئم هذه الأمواج كأنها لم تضم شيئا.
ولا تكاد تمضي لحظات على هذا الموت حتى نسمع صوت ماريان تدعو ابنها، وحتى تراها تدخل المسرح من ناحية، ويدخل ابنها المسرح من ناحية، وفي يده طاقات من الزهر، فتضمه إليها، وتمر به حيث مات زوجاها، وتقوده إلى القصر حيث تعده ليحتمل نصيبه مما تضمر الحياة من خير أو شر للأحياء.
شوط القبس
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
قد يكون هذا العنوان غريبا، وقد لا يخلو من بعض النفرة، بل قد يكون غامضا بعض الشيء، ولكن توضيحه يسير، وترجمته صحيحة، ومتى فهمت معناه، وقرأت القصة، أو ألممت بها فقد أحسب أنك تقره ولا تنكره.
كان للأثينيين عيد ديني يحتفلون فيه حفلة، اختلف في تأويلها الفلاسفة والشعراء، كان أعضاء المدينة يصطفون على مسافة بعيدة، ويبدأ أحدهم فيقتبس من النار المقدسة جذوة ينقلها مسرعا إلى من يليه، ثم ينقلها هذا إلى من بعده، وما تزال الجذوة تنتقل في سرعة من يد إلى يد حتى تبلغ آخر الصف. وقد فسر أفلاطون و«لوكريس» هذه الحفلة الدينية بأنها كانت رمزا لحياة الأجيال المختلفة من أبناء الإنسان، وعلى هذا التفسير اتخذ صاحب القصة عنوان قصته، فسماها شأو القبس أو نستطيع أن نقول ننقل هذا القبس في سرعة من يد إلى يد، وهو لا يريد بعنوانه ولا بقصته إلا أن يشرح هذه الفكرة التي خطرت لأفلاطون ولوكريس، ويثبتها في وضوح وجلاء، فقصته في الحقيقة فصل من فصول الفلسفة أو درس من الدروس يريد بها أن يخلبك أو يستهويك، أو يؤثر فيك هذا الثأثير المختلف الذي يخرجك من لذة إلى ألم، ومن ألم إلى لذة، ليس يريد أن يذيقك لذة الانفعال حسنا كان أم سيئا، وإنما يريد شيئا آخر، يريد أن يقنعك بقضية من القضايا، ورأي من الآراء، هو إذن لا يتحدث إلى قلبك ولا إلى عاطفتك، وإنما يتحدث إلى عقلك، ولكنه في هذا الحديث إلى عقلك لا يصطنع منطق أرسطاطاليس، ولا يتكلف ضروب القياس والاستقراء، وإنما يسلك سبيل العاطفة ليصل إلى إقناع العقل، أو هو يعدل عن المنطق النظري إلى منطق الحياة الواقعة، أو هو يكشف أمامك هذه الحياة الواقعة حتى تلتمس منطقها بيدك، وحتى تقتنع حين تلمس هذا المنطق بأن قضيته صادقة، وأن رأيه صحيح، وهذه القضية في نفسها قيمة نافعة، لو اقتنع الناس بها وأحسنوا التفكير فيها لأعفوا أنفسهم من ضروب من الآلام، وفنون من الغرور، ولكانوا بمأمن من اليأس، وخيبة الأمل في كثير من الأحيان، نعم لو آمن الناس بهذه القضية لقبلوا الحياة كما هي، لا يكبرونها أكثر مما ينبغي، ومن استطاع أن يفهم الحياة كما هي، ويقبلها كما هي فهو الفيلسوف الذي يستطيع أن يريح ويستريح حقا، ولكن الناس لن يفهموا الحياة كما هي ولن يقبلوها كما هي، وسيظلون أبدا يفهمون الحياة كما يحبون أن تكون، وسيظلون لهذا في شقاء ينتقلون من رجاء إلى يأس، ومن فشل إلى خيبة أمل. •••
بدأ الكاتب قصته كما يبدأ الخطيب خطبته، أو كما يبدأ العالم فصلا من فصول العلم، فيضع نظريته موضع البحث، ثم ينفق خطبته أو فصله العلمي في إثبات هذه النظرية، فلنسلك سبيله، ولنشرح نظريته، وهي سهلة سائغة ليس فهمها بالعسير. نظريته هي أن حياة الأجيال الإنسانية ليست إلا سلسلة من التضحية المتصلة غير المنقطعة، يضحي كل جيل من أجيال الناس بنفسه وحياته وقوته وآماله في سبيل الجيل الذي يليه، دون أن يجد من هذا الجيل شكرا، أو ينال منه جزاء، كما أنه لم يقدم إلى الجيل الذي سبقه شكرا، ولم يعوض عليه جزاء حياة الأجيال الإنسانية، إذن هي كأمر هؤلاء اللأثينيين يوم كانوا يحتفلون بعيدهم المقدس، فلا يزيد أحدهم على أن ينقل الجذوة من يده إلى يد من يليه مكتفيا بعد ذلك بأن ينظر إلى هذه الجذوة تسرع في انتقالها من يد إلى يد دون أن يستطيع شيئا أكثر من أن يصل بها عينه، مشفقا عليها أن تخمد أو تسقط بين الذين يتناقلونها. نحن إذن حملة هذه الجذوة التي هي الحياة ورثناها عن الجيل الذي سبقنا، ونورثها الجيل الذي يلينا، لا عمل لنا في الحياة إلا هذا، ولا أمل لنا في الحياة إلا هذا، نحن ننظر أمامنا أبدا دون أن ننظر وراءنا في يوم من الأيام، نحن آباء بررة، ولكننا في الوقت نفسه أبناء عاقون، نقف برنا على أبنائنا، ولا يظفر آباؤنا منا إلا بالعقوق والتقصير.
تجد هذه النظرية منك معارضة قوية؛ لأنها تخالف ما ألفت من جهة، وتخالف ما تريد من جهة أخرى، ولأنها فوق كل شيء تصدمك بإظهار ما فيك من نقص، فأنت تكره أن تكون عاقا، وتريد أن تكون وفيا برا، وأنت أثر تحب نفسك، وتريد أن يشعر ابنك بأنه مدين لك بالحياة، تخدع نفسك، فتعتقد أنك بر بأبيك وأمك، وتضلل نفسك فتريد أن يكون ابنك برا بك ووفيا لك. تجد هذه النظرية منك معارضة قوية ، ولكنها في الحق صحيحة صادقة، فمهما تعارض، ومهما تنكر فلن تستطيع أن تجحد شيئا واقعا، وهو أنك تحب ابنك أكثر مما تحب أباك، وأنك تستطيع بل تلزم نفسك - حين تشعر بالحاجة - الفناء لا في سبيل حياة ابنك، بل في سبيل لذته وراحته ليس غير.
والكاتب يأخذك بحجة أخرى لا تخلو من دعابة، ولكنها صحيحة قوية: ما بال الديانات لم تأمرك بأن تحب ابنك، وأن تعطف عليه؟ لأنها ليست في حاجة إلى هذا الأمر، فأنت تحب ابنك وتعطف عليه بحكم الطبيعة، وما بال الديانات تأمرك أن تكون برا بأبويك، وتلح عليك في هذا الأمر، وتبسط أمامك من الرجاء ما يرغبك في البر بأبويك، وتضع أمامك من النذر ما يخيفك من العقوق؟ لأنك لست برا بأبويك بحكم الطبيعة، وإنما البر بالأبوين خلق ينبغي أن تتكلفه، وتجد في تحصيله، ومهما تفعل فلن توفق منه إلى ما تريد.
الإنسانية إذن - بطبعها كما يقول الكاتب - أم برة وبنت عاقة، وهي تتكلف الخطوب، وتتجشم الأهوال لتصف نفسها بما ليس فيها من فضيلة البر.
ولكني لا أريد أن أغلو في بسط هذه النظرية، فلأنتقل بك إلى مذهب الكاتب في إثباتها، وسترى أن هذا الإثبات على صدقه وصحته لا يخلو من لذة وألم يهزان العواطف هزا عنيفا، ويؤثران في النفس تأثيرا شديدا. •••
مدام «فونتيه» عجوز أرملة، فقدت زوجها منذ عهد طويل، وكانت تحبه حبا شديدا، فهي وفية له، مقيمة على عهده، حتى إنها لتقرأ الصحف التي كان يقرؤها لها، لا لأنها تحب هذه الصحف أو تعنى بما فيها، بل لأنها تريد أن تتلمس بعينيها في هذه الأحرف المكتوبة أمامها صوت زوجها العزيز عليها. هي تحب زوجها، وهي غنية قد ترك لها هذا الزوج ثروة لا بأس بها، وترك لها ابنة هي «سابين ريفيل»، وهي امرأة نصف، فيها جمال وسحر، وهي أرملة كأمها، تزوجت من شاب غني، ولكن حظ هذا الشاب كان سيئا، فنزلت به المحنة بعد المحنة، ثم مات وترك امرأته فقيرة معدمة لولا ثروة أبويها، ولم يتركها وحدها، بل ترك لها ابنة هي «ماري جان»، وهي فتاة جميلة خلابة، حسنة الخلق، قوية النفس، في السابعة عشرة من عمرها، ولكن فيها خلالا تفوق سنها رغبة في الجد، وقدرة على الاحتمال.
أمامك الآن ثلاثة نساء يمثلن ثلاثة أجيال! أمامك العجوز تحب ابنتها، ولا تحيا إلا لها، وأمامك المرأة الشابة، يخيل إليها أنها لا تفرق بين أمها وبنتها في الحب، ثم أمامك هذه الفتاة لا تفكر في شيء من هذا، وإنما هي أمل ورجاء، هي زهرة تبسم للحياة، وقد بدأت شمس الحياة تشرق عليها، فهي تستجمع كل ما فيها من قوة وشباب لتستمتع بضوء هذه الشمس المشرقة، وهي تحب شابا اسمه «ديديه مارافون»، حسن الصورة، قوي الإرادة، مؤمن بقدرته على العمل، وحسن حظه في الحياة، أحبته الفتاة وأحبها، وتعاهدا على الزواج، واختارت الفتاة عيد ميلادها لتظهر أمها على هذا الحب، وعلى ما تعقد به من أمل.
فإذا كان الفصل الأول فنحن في بيت هؤلاء النسوة، وهن يحتفلن بعيد هذه الفتاة، وقد دعون إلى هذا الحفل طائفة من أصدقائهن، فيهم رجال وفيهم نساء، فيهم بنوع خاص امرأة مفتونة بجمالها، حريصة على أن تستمتع بحياتها، لا تبخل من لذات الحياة على نفسها بشيء، ولها ابنه شابة تهملها إهمالا، أو قل إنها تضحي بشبابها في سبيل لذاتها الخاصة. أو قل إنها تنساها نسيانا تاما، حتى إنها لتداعب فتى تحبه ابنتها، ويحب هو هذه الفتاة، وحتى إنها لتكلف ابنتها الشابة أن تصلح من شأنها، وترتب زينتها! وفيهم امرأة أخرى جميلة، ولكنها تضحي بجمالها وحياتها ولذتها وبزوجها وقوته ولذته في سبيل ابنتها الفتاة الجميلة التي استشعرت حب أبويها، فأسرفت في الذل والتحكم حتى إنها لتكلفهما ما يطيقان، وما لا يطيقان، كأنهما لا يعيشان إلا لها. فإذا دخلت «سابين» رأت هذا المنظر العجيب، رأت فتاة قد جثت على الأرض تصلح ثوب أمها، ورأت أما قد جثت على الأرض تصلح زينة ابنتها، فإذا خرج هؤلاء الناس وخلت «سابين» إلى صديق لها هو «مارافون»، تحدثت إليه في أمر هؤلاء وإسرافهن، هذه تضحي بابنتها، وهذه تضحي بأبويها، فيشرح لها صاحبها هذه النظرية التي بسطتها لك في أول هذا الفصل، يزعم أن الأم التي تضحي بابنتها إنما هي استثناء يثبت القاعدة، وأن الفتاة التي تضحي بأبويها إنما هي المثال الصادق للإنسانية العامة، تنكر سابين هذه النظرية إنكارا شديدا، ولكن حياتها كلها ستقنعها بأنها كانت مخطئة في هذا الإنكار، ذلك أن «سابين» تحب رجلا أمريكيا غنيا عرفها منذ الصبا، تحبه حبا جما، ولا تطمع إلا في أن تكون له زوجا، وهذا الرجل يحبها، وقد ألح عليها في الزواج، ولكنها رفضت دون أن تبين لهذا الرفض سببا، فإذا كانت هذه الليلة أقبل هذا الرجل الأمريكي واسمه «ستاتجي»، وأعلن إليها أنه مسافر إلى حيث لا يعود، مسافر إلى أمريكا، معتزم أن يجد فيها من العمل ما يجعل العودة عليه أمرا مستحيلا. تنكر ذلك وتحاول أن تحمله على العدول عنه، وتنبئه بأنها تحبه، وتطمع في أن تكون زوجه، ولكن شيئا واحدا يمنعها من ذلك وهو ابنتها، تريد ألا تتزوج ولا تغير من حياتها شيئا قبل أن تجد لابنتها زوجا، فإن ثروتها محدودة، والناس يعلمون من أمرها ما يعلمون، فإذا تزوجت فقد تصبح أما، وقد توجد لابنتها شريكا في هذه الثروة، فينصرف الناس عن هذه الفتاة لقلة ثروتها، وهي تريد أن تكون ابنتها سعيدة، وأن تجد زوجا كفؤا، وهي تأبى أن تكون سعادتها الخاصة عقبة في سبيل هذه الفتاة. يفهم الرجل هذا كله، ويبذل ما يستطيع من قوة ليملأها أمنا وطمأنينة على مستقبل الفتاة وثروتها، فهو غني ومهما يرزق من ولد فلن تخشى هذه الفتاة على ثروتها الحاضرة، ولكن «سابين» تأبى وتلح في الإباء حتى ينصرف عنها الرجل، ويمضي إلى حيث لا يعود. فقد بدأت إذن بتضحية سعادتها في سبيل ابنتها، ولا يكاد هذا الرجل ينصرف حتى تقبل الفتاة فتنبئ أمها بحبها، وتطلب منها أن تقر هذا الزواج، تتمنع الأم لأنها لم تستمتع بعد بابنتها، ولأنها تخشى المستقبل، ولكن حب الفتاة أقوى من تمنع الأم ، فما أسرع ما تنتصر عليه. •••
فإذا كان الفصل الثاني رأيت الفتاة قد تزوجت من صاحبها، وهما يعيشان وحدهما، والفتاة سعيدة كل السعادة، وتفهم من حديثها مع صاحبة لها أن أمها ليست سعيدة، وأنها قد شقيت كل الشقاء حين اعتزم الزوجان أن يسكنا وحدهما، ثم يقبل زوجها كئيبا كاسف البال، فما تزال به تسليه وتعزيه وهي تجهل ما به، ولا تظن إلا أنه متعب لكثرة العمل، ثم تتركه ويأتي أبوه فيظهر لك أن الفتى سيئ الحظ في عمله، وأنه مشرف على الإفلاس، وأنه قد أخفى هذا كله على زوجه ضنا براحتها وأملها في الحياة، ولكنه قد بعث أباه يتوسل إلى أم زوجه وجدتها في أن تقرضاه مقدارا ضخما من المال يصلح به من أمره، فذهب الرجل وقص الأمر على هاتين المرأتين وهما مقبلتان، فينصرف الشيخ ليظهر زوج ابنه على جلية الأمر، وتقبل «سابين» فإذا قص عليها صهرها جلية أمره، وأنبأها بأنه لا يستطيع أن يحتمل الإفلاس، ولا أن يعرض زوجه لآلام هذا الإفلاس وما يتبعه من الأعمال القضائية، ولا أن يعرضها للفقر والفاقة، وأنه يؤثر الموت على بعض هذا، جزعت الأم وأعلنت إلى صهرها أنها ستعينه، ولكنها عاجزة عن معونته، فهي لا تملك شيئا، وإنما الثروة كلها ملك العجوز، فستتوسل إلى العجوز إذن في أن تقرضه هذا المال. ينصرف الفتى وتقبل العجوز، وهنا موقف من أشد المواقف تأثيرا في النفس! تعرض «سابين» الأمر على أمها، وتطلب إليها المعونة، ولكن العجوز تأبى كل الإباء، تأبى لأنها قد عرفت عبث الأصهار بأموال الأحماء، وتذكر ابنتها بما كان من أمر زوجها، وأنه أضاع على الأسرة أكثر من نصف مليون فرنك، ولكن «سابين» تلح على أمها، وتبالغ في الإلحاح، ثم تغلظ القول حتى تخرج عن طور الإجلال لأمها، فتشعر بأن هذه المرأة قد أخذت تضحي بأمها في سبيل ابنتها، تلح فلا تزداد العجوز إلا إصرارا على الرفض، ثم تعلن العجوز إلى ابنتها أنها لن تستطيع أن تنفق شيئا؛ لأنها عاهدت زوجها وهو يموت على ألا تعرض ما بقي من الثروة لخطر قليل أو كثير، ثم تنصرف وتترك ابنتها في شيء من الذهول يشبه اليأس، وتأتي بعد ذلك ماري جان، فإذا عرفت رفض جدتها أخذها شيء من الجزع عظيم، وظلت تتوسل إلى أمها في أن تخلص زوجها من هذه الضائقة، وتشعر بأن هذه الفتاة لا تفكر إلا في زوجها، ولا تنظر إلى أمها إلا من حيث هي وسيلة ممكنة لتفريج الكربة عن هذا الزوج، ولكنها لا تشعر بذلك ولا تحسه، فتبالغ فيه حتى تعرض على أمها أن تكتب إلى صاحبها الأمريكي القديم تسأله هذا المال، تثور الأم لهذا العرض وتأباه؛ لأن فيه امتهانا لكرامتها، ولأنها لا تستطيع أن تكتب إلى هذا الرجل سائلة مستجدية بعد أن أساءت إليه، ورفضت الاقتران به، ولكن ابنتها جزعة والهة، وهي لا تحتمل جزع ابنتها، فما أسرع ما تجيب إلى الكتابة، وفي نفسها مع ذلك شيء من الأمل ضئيل، فهي ترجو أن يعيد كتابها في نفس صاحبها ذكرى الحب القديم، فينجد صهرها من جهة، ويفكر في الزواج من جهة أخرى.
فأنت ترى هذه المرأة تسيء لأول مرة إلى أمها في سبيل ابنتها، ثم تضحي بكرامتها الخاصة في سبيل ابنتها أيضا، وهي مع ذلك لا تشعر بما تفعل؛ لأنها تفعل شيئا طبيعيا. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد بلغت الأزمة أقصاها، وانتهى الخطب إلى غايته. لم يجب الأمريكي، ولم تغير العجوز رأيها، فأعلن إفلاس الفتى، وحجز على ما بقي له من ثروة، ولامرأته من متاع، وهو يعيش مع امرأته في بيت العجوز ترزقهم وتعولهم في غير ضجر ولا من؛ لأنها لا تحب الثروة للثروة، وإنما تريد أن تكون هذه الثروة موئلا لابنتها وذويها لا ينالها العبث، هي إذن تضحي بصهرها في سبيل ابنتها.
ولكن لهذا الصهر بقية من أمل، فقد يستطيع أن يتفق مع الدائنين، فيسترد شيئا من شرفه التجاري، وهو في ذلك محتاج إلى مائة ألف فرنك يرضي بها هؤلاء الدائنين، والعجوز وحدها تستطيع أن تقرضه هذا المقدار، ولكن العجوز تأبى بعد خصام عنيف، وكانت الفتاة قد احتملت هذه الخطوب كلها في شجاعة وجلد، واشتركت في جهاد عنيف لتمنع زوجها من الانتحار، فلما رأت جدتها تغلو في الإباء حتى كادت تقضي على كل أمل لزوجها الذي تحبه خانتها القوة، وأعوزها الجلد فأصابها إغماء، ودعي الطبيب فأنبأ بأنها في خطر، وأن مصدر هذا الخطر اضطراب الأعصاب.
هنا تخرج «سابين» عن طورها، فلا تفكر إلا في شيء واحد هو إنقاذ ابنتها من الموت، وقد ضرب الدائنون للفتى موعدا ظهر اليوم الذي نحن فيه، ونحن في الساعة العاشرة صباحا، والفتى يتحدث إلى أبيه ينبئه بهذا كله، ولكنه ينبئه أيضا بأن الله قد أراد إنقاذ الفتاة من الموت، فقد أقبلت أمها فرحة مبتهجة، وأنبأتهما بأنها قد وجدت المال، وأنها ذاهبة إلى المصرف لقبضه، ثم يأتي الطبيب وينصرف مع الفتى لعيادة المريضة، وتقبل سابين في ذهول يشبه الجنون، فلا يكاد الشيخ يستنبئها حتى تنبئه أنها رأت ابنتها مشرفة على الموت فاقترفت الإثم وارتكبت الجريمة، سرقت أمها وأمها نائمة، سرقت طائفة من الأوراق المالية، وأمضت بقية الليل تقلد إمضاء أمها حتى أجادت التقليد، فلما كان الصباح أنبأت ابنتها بأنها وجدت المال، وذهبت إلى المصرف، فلم يشك أحد في صدقها، ودفع إليها المال فقبضته، ولكنها أرادت أن تمضي الوصل فكتبت اسم أمها مكان اسمها الخاص، وفطن لذلك صاحب المصرف فاسترد المال، ولولا صلة سابقة بينه وبين الأسرة لألقى بها في أعماق السجون، وهي مع ذلك مضطرة إلى أن تكذب على ابنتها، فلو قد أنبأتها بالحق لصعقها النبأ وقضى عليها، ثم يعود الطبيب فينبئ بأن الفتاة ما زالت في خطر، وبأن العناية القوية قد تنقذها، ولا بد من نقلها من باريس إلى جبال الألب لتقضي فيها الصيف، ولا بد من العناية بأعصابها، ولكن الشدة لم تبلغ أقصاها بعد، فالطبيب يعلن إلى سابين أنها إذا وافقت ابنتها فلا بد من أن تترك أمها في باريس؛ لأن أمها تشكو مرض القلب، وهي إذن لا تستطيع أن تعيش في الأماكن المرتفعة.
ينصرف الطبيب وتقبل العجوز، فلا تكاد تعلم بأن ابنتها تريد السفر حتى تعلن أنها سترافقها فيه، تأبى سابين وتلح العجوز، وحجتها ناهضة، فسابين لا تريد أن تفارق ابنتها، وهي أيضا لا تستطيع أن تفارق ابنتها، فإما أن ترافقها في السفر، وإما أن تبقى معها في باريس، وأن تترك الفتاة تسافر مع زوجها، وهي تفترض ذلك وتنذر بقطع النفقة عنهم جميعا إذا لم تجب إليه، ثم تنصرف مغضبة، وتقبل الفتاة ومعها زوجها وفيهما شيء من الأمل يحيي نفس هذه المريضة، ولا يكادون يتحدثون، ولا تكاد الفتاة تشعر بشيء من التردد في صوت أمها حتى يعاودها الإغماء، فإذا أفاقت أعلنت إليها أمها أن الأزمة قد انحلت، وأنها تحتمل تبعة ذلك، وأن زوجها يستطيع أن يطلب إلى الدائنين أجلا فلا ينقضي هذا الأجل حتى تكون قد حصلت على المال، ثم تنبئ ابنتها بأنها ستبقى في باريس مع أمها العجوز، فتأبى الفتاة وتتوسل إلى أمها، وتلح في التوسل، ويكاد يعاودها الإغماء، فلا تستطيع سابين إلا أن تجيبها إلى ما تريد، هي إذن قد ضحت بأمها تضحية أخيرة، فستحملها إلى حيث تلقى الموت، وهذا كله في سبيل ابنتها. •••
فإذا كان الفصل الرابع فالقوم جميعا في ناحية من جبال «الألب»، وقد جعلت آثار هذا الجو تظهر في العجوز، فيلاحظ ضعفها واضطرابها، ولكن هذا الفصل هو موضع العظة، وموضع اقتناع «سابين» بالنظرية التي بسطها الكاتب في أول القصة؛ ذلك أن صاحبها الأمريكي يلقاها في هذه الناحية، يلقاها لأن كتابها إليه كان لم يصل إليه أمريكا وقد وصل إليه هنا صباح هذا اليوم، ثم بحث عنها فعلم أنها تقيم في هذا الفندق، فأسرع إليها معتذرا، مقدما ما طلبت من معونة، تشكره سابين ثم لا تلبث أن ينالها شيء من اليأس عظيم؛ لأن صاحبها ينبئها بأنه تزوج ورزق غلاما، وفقد هذا الغلام، فهو لا يستطيع أن يعيش في البيت الذي فقد فيه هذا الغلام، وامرأته كذلك لا تحتمل هذا البيت، ولهذا ترك أمريكا إلى فرنسا، يكاد يصعقها نبأ الزواج، ولكن قصة هذا الطفل تنسيها يأسها فتفكر في ابنتها، وما تعرضت له من خطر، وتعزي صاحبها، ويشترك هذان العاشقان في عاطفة واحدة هي تلك التي تفني الآباء في الأبناء، ويقدم الصهر فيقدم إليه الأمريكي معونته، ثم تنصرف سابين، ويقترح الأمريكي على هذا الفتى أن يذهب إلى أمريكا ليعمل في أرضه حيث يصلح من أمره، ويصل من الثروة والغنى إلى ما يريد في زمن قصير، ولا تكاد امرأته تسمع هذا كله حتى تغتبط به، وتبتهج له، وتشجع زوجها، وتنبئ بذلك أمها فتغتبط به أيضا، ولكنها تنبئها بأنها سترافق زوجها في السفر إلى أمريكا، هنا تجزع الأم جزعا شديدا، وتتوسل إلى ابنتها في أن تبقى، ولكن الفتاة ترفض في غلظة أن تترك زوجها لتبقى مع أمها، تضرع الأم وتقسو الفتاة، ثم يثور ثائر الأم فتذكر صهرها بالمكروه، وتنذرها ابنتها فلا تحفل بالنذير، هنا تعلن الفتاة سخطها، وتنتهر أمها في عنف، ثم تتركها إلى حيث لا تعود، وتدعو الأم ابنتها فلا تجيبها، فتلتفت وراءها مستغيثة بأمها العجوز فتقبل العجوز، وما تكاد تسمع النبأ وترى ابنتها تبكي وتعول حتى تعلن إلى ابنتها أنها تنزل عن ثروتها كلها لتحول بينها وبين هذا العذاب، فليبق الزوجان إذن، ولكن الزوجين لن يبقيا، فلقد فتح الأمريكي أمامهما بابا من الأمل تحقر دونه هذه الثروة. تبكي سابين، وتشعر الآن بأنها قد ضحت بأمها ونفسها وكرامتها، في سبيل ابنتها، وأن ابنتها لم تحفل بشيء من ذلك، بل ضحت به كله لتسافر مع زوجها، تشعر بهذا فتستغفر أمها، وتشعر بأن أمها وحدها هي التي أحبتها، ولكن أمها قد سقطت! فهي لا تجيب، وتلتفت سابين فإذا نوبة من مرض القلب قد أصابت العجوز فقضت عليها. تنظر إلى ذلك فتجزع وتصيح: «قتلت أمي في سبيل ابنتي!»
القيد
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
لعلك تذكر قصة التيه، وتذكر موقف تلك المرأة بين زوجها القديم والجديد وبين ابنها، وما نشأ عن هذا الموقف من مصاعب وعقاب لم يكن إلى تذليلها من سبيل، في تلك القصة طلب الطلاق فظفرت به المرأة التي طلبته، ولكنها لم تسعد بالطلاق، بل كان كل مصدر شقائها، ولم يسعد بالطلاق زوجها القديم، ولم يسعد به زوجها الجديد، وإنما لقيا منه ضروبا من المحن والآلام انتهت بهما إلى الموت، ولم يسعد الطفل بهذا الطلاق، وإنما شقي الشقاء كله، تنازعه رجلان ثم أصبح يتيما. أبيح الطلاق إذن ولكنه لم يستطع أن يضمن الخير للزوجين اللذين ساءت بينهما العشرة فاضطرا أن يفترقا.
وفي هذه القصة التي نعرض لها اليوم نظرية أخرى تناقض هذه النظرية مناقضة تامة، ولكنها مع ذلك صحيحة صادقة. نظرية تثبت أن حظر الطلاق أو عسره لا يضمنان الخير، ولا يوصلان إلى السعادة أيضا، وإنما قد يستلزمان من الشقاء والآلام مثل ما تستلزمه إباحة الطلاق أو يسره، وإذن فالطلاق لا يضمن الخير، وحظر الطلاق لا يضمن الخير، والإنسانية مضطرة إلى أن تحمل الحياة على ما فيها من خير وشر دون أن تجد السبيل الواضحة إلى اتقاء الشر أو الاستزادة من الخير، هي مضطرة إلى أن تحتمل الحياة كما هي، وإلى أن تؤمن بأن في هذه الحياة قوة قاهرة ليست هناك سبيل إلى أن تحملها على ما تريد، فتجعلها خيرة أبدا أو تمنعها أن تكون شريرة أبدا، ومهما نشرع من قانون، ومهما نبتدع من حيلة فلن نصل إلى اتقاء الشر، ولن نجعل الحياة خيرا خالصا، وهذه القوة القاهرة ليست شيئا مستقلا بنفسه، منفصلا عن أنفسنا، مباينا لطبيعتنا، وإنما هي طبيعتنا نفسها، هي هذه الطبيعة التي تجهل نفسها أو تنكر نفسها فيضطرها هذا الجهل إلى أن تقدم على ما لا تعلم، ويضطرها الإنكار إلى أن تتورط فيما لا ينبغي أن تتورط فيه، ستظل هذه الطبيعة على ما هي عليه من تورط في جهل نفسها حينا، وفي إنكار نفسها حينا، وفي تضليل نفسها حينا آخر، ستظل كذلك فتسعد مرة وتشقى مرة أخرى، ستظل كذلك لأنها ضعيفة بفطرتها ليست معصومة من الجهل، ولا من الخطأ، ولا من الضلال.
ليحظر الطلاق أو ليبح، فليس الطلاق مصدر سعادة ولا مصدر شقاء، وإنما النفس الإنسانية وحدها هي مصدر السعادة ومصدر الشقاء. إلى هذه النظرية يرمي الكاتب في قصته هذه، وإلى تلك النظرية رمى الكاتب في قصته تلك، وكلتا النظريتين صحيحة، وإذن فالكاتب من المتشائمين أو قل إنه من الشاكين، والشك والتشاؤم قد يحدثان في النفس الإنسانية أثرا واحدا، وهو سوء الظن بالحياة، وقلة الأمل في السعادة، غير أن الشك أهون احتمالا من التشاؤم، فهو لا يخلو من ابتسامة قد تكون مرة، ولكنها ابتسامة على كل حال، ولا يخلو من سخرية قد تكون مؤلمة، ولكنها تؤلمك وتضحكك في وقت واحد، وقد يكون من الخير أن تألم ضاحكا لا أن تألم باكيا، وفي الحق أن هذا الكاتب النابغة يؤثر الشك على اليقين، وهو يسخر من الحياة الاجتماعية وما استحدث فيها من نظم وشرائع، هو شاك وهو مستهزئ، ولكن شكه واستهزاءه لا يتناولان كل شيء، وإنما يتناولان غرور الإنسان وثقته بنفسه، وإيمانه بالرقي، وبأن هذا الرقي قادر على أن يصلح من حاله، ويخفف من آلامه. يشك الكاتب في هذا كله، ويسخر الكاتب من هذا كله، ويضع هذه القصص التمثيلية المختلفة يبين بها هذا الشك، ويؤيد بها هذه السخرية، ويثبت للإنسان في طائفة من أطواره المختلفة أنه يجهل نفسه جهلا تاما، وهو يجهلها أشد الجهل، حين يعتقد أنه يعلمها أحسن العلم، ولكن! ما غاية الكاتب من هذه القصص؟ وما الذي يريد أن يصل إليه حين يضع يد الإنسان على شقاء الإنسان، ويبين للإنسان أنه عاجز مهما يفعل، ومهما يبالغ في الحيلة عن أن يحقق السعادة ويظفر بها كما يحب ويرضى؟ ليس للكاتب حظ من هذه القسوة الشيطانية التي تبتهج وتلتذ حين ترى الناس يشقون ويشعرون بأنهم أشقياء، ويؤمنون بأن ليس لهم من هذا الشقاء مخرج، ليس للكاتب حظ من هذه القسوة الشيطانية التي تبتهج وتلتذ حين ترى الناس بائسين، وأكبر ظني أن الكاتب إنما يرمي بهذه القصص كلها إلى شيئين اثنين كلاهما خير؛ الأول: أن يشعر الإنسان بأنه مغرور، وبأنه مسرف في الإيمان بقوته وعقله وشرائعه، وقدرته على إصلاح أمره، وإذا شعر الإنسان بأنه مغرور مسرف فقد يكون من الخير أن يخفف من هذا الغرور، ويقصد بعد إسراف. الثاني: أن هذا الغرور وهذا الإسراف يغرسان في نفس الإنسان آراء شديدة قاسية خطرة يتخذها مقياسا للحياة؛ فتنغص عليه الحياة، ويؤمن بأن الطلاق مباح، وبأن في إباحته الخير فيسرف في الطلاق، ويبالغ في الاستمتاع بحقه منه، فلا يجر ذلك عليه إلا شقاء وألما، ولو أنه فكر وروى واقتصد لاستطاع أن ينفي هذا الألم وهذا الشقاء، ويؤمن بأن الطلاق محظور، وأن الخير في حظر الطلاق؛ فيتشدد في ذلك، ويأبى الطلاق على نفسه وعلى الناس، فلا يجر عليه هذا الإباء إلا شقاء وبؤسا، ولو أنه اقتصد ولم يسرف لاستطاع أن يتقي الشقاء والبؤس، وأن يعصم منهما نفسه وغيره أيضا. إلى هذين الشيئين يرمي الكاتب فيما أظن. وإذن فهو ليس متشائما كل التشاؤم، ليس يائسا من الخير ما دام يرى هناك سبيلا إلى الخير، هي التواضع والاقتصاد، وهو ليس شاكا أو ليس مسرفا في الشك ما دام يرى أن هناك خيرا ممكنا، وأن هناك شرا واقعا، وأن هناك سبيلا إلى اتقاء هذا الشر الواقع، وتحقيق هذا الخير الممكن. هو إذن لا يتخذ الشك المطلق، ولا التشاؤم المطلق مذهبا ولا عقيدة، وإنما يتخذهما منهجا من مناهج البحث، ووسيلة من وسائل التحليل النفسي والاجتماعي، وقد رأينا وسنرى أن هذا المنهج قد يؤدي إلى النتائج الصحيحة المعقولة، على أن الكاتب حين ينهج في بحثه وتحليله منهج الشك وسوء الظن لا يجاوز العصر الذي كان يعيش فيه، بل هو لا يعدو الروح العلمي الذي انتصر في هذا العصر الحديث، والذي يعتمد قبل كل شيء على أن الحق ليس مطلقا، وإنما هو إضافي، وعلى أن الشك هو الوسيلة المعقولة إلى اليقين الإضافي، وعلى أن التواضع العقلي وحده هو الخلة التي تليق بالعلماء. ••• «إيرين فرجان» امرأة في الثامنة والعشرين من عمرها، بارعة الجمال، متوقدة الذكاء، حادة المزاج، عصبية تشعر بكل شيء شعورا قويا، لا تعرف الهدوء في شيء، حياتها اضطراب متصل، هي جذوة ملتهبة ولكنها تأكل نفسها، غنية تزوجت من رجل كغيره من الناس، وربما كان مسرفا في الهدوء، وجمود الطبع، وفتور الشعور، وربما كان بليدا، وهو على كل حال رجل كغيره من الناس، مؤمن إيمانا قويا بنظام الجماعة التي يعيش فيها، يرى أن كل خروج على هذا النظام أو مجاوزة للمألوف منه إثم لا ينبغي أن يغتفر، ولا ينبغي أن يتورط فيه الرجل الذي يريد أن يعيش عيشة سهلة محترمة، وهو ضيق العقل، محدود الذكاء، قد اتخذ من الحياة الاجتماعية التي حوله قيودا تقيد عقله وتفكيره، هو نقيض امرأته إلا أنه غني مثلها. وقد تزوج امرأته هذه وهي في الثامنة عشرة من عمرها، لم يكن لها اختيار في هذا الزوج، وإنما تأثرت فيه بأختها «بولين» التي كانت لها عليها سلطة أمها، والتي كانت قد تزوجت من رجل يشبه هذا الرجل شبها قويا، فقبلت الحياة معه واطمأنت وقدرت أن أختها ستكون مثلها راضية مطمئنة، ولكن الحياة أظهرت أن الأختين لا تتفقان في المزاج، ولا في التصور، ولا في الحكم على الأشياء، وأن ما ترضاه «بولين» وتطمئن إليه قد تكرهه «إيرين»، وتنفر منه أشد النفور.
تزوجت «إيرين» من زوجها غير مختارة، ولو أن لها الخيار أو لو أن لها قدرة على أن تفكر وتقارن وتحكم لتزوجت من شاب آخر «مشيل دافرتييه» الذي كان جارها، وكان صديق طفولتها وصباها، ولكنها لم تكن تقدر الحب يومئذ، ولا تعرفه، فتزوجت من زوجها، وأتم الفتى دراسته ثم شعر بأنه لا يستطيع الحياة في باريس، فسافر إلى بلاد اليونان، والتحق بالمدرسة الفرنسية في أثينا، واشتغل هناك بالبحث عن الآثار زمنا، ثم عاد إلى باريس وقد صلح أمره، وأصبح ذا مكانة في الجامعة وعادت الصلة بينه وبين «إيرين». •••
فإذا كان الفصل الأول فقد مضى على هذا الزواج عشر سنين، وقد انتهى الأمر بين الزوجين إلى فساد ليس بعده فساد «فإيرين» تغاضب زوجها مغاضبة متصلة، لا تستطيع أن تحتمله، ولا أن تطمئن إلى جواره، بل يكفي أن تراه لتعبس، وأن تشعر بأنه منصرف لتفرح، وقد جلست إليها أختها في هذه الليلة بعد عشاء حضره صديق صباها، وأخذت أختها تتحدث إليها تريد أن تنصرف عما هي فيه من مغاضبة لزوجها، وتقنعها بأن ترضى ما قسم لها من الحظ، ولكنها لا تجد منها إلا إباء ونفورا؛ لأنها لا تستطيع أن تجد شيئا ولو قليلا يوجد بينها وبين زوجها صلة ما، هما مختلفان في الطبع، مختلفان في المزاج، مختلفان في العاطفة، بل قل إن «إيرين» ليست إلا عاطفة متوقدة، وإن زوجها يخلو من العاطفة خلوا تاما، هي تبغض زوجها، فإذا سئلت عن مصدر هذا البغض أجابت: أبغضه لأنه لا يستطيع أن يجعلني أحبه، وأبغضه لأنه لا يستطيع أن يبعث في نفسي عاطفة ما حتى عاطفة الإشفاق عليه، وأبغضه لأن الصلة بيني وبينه ليست إلا هذه الصلة الممقوتة صلة السيد بالعبد، فهو يعتقد أنه مولاي، وهو مقتنع بأنه محق في كل شيء، يصبح وقد اعتقد بأنه سيكون محقا حتى يمسي، محق حين يخالف الخدم، محق حين يخالف الناس، محق حين يخالف امرأته، محق في كل شيء، ومع كل إنسان، ثم تنصرف لتصلح من أمرها، ويأتي الزوج فتتحدث إليه «بولين» فيما بينه وبين زوجه من خلاف فإذا هو يرى الخلاف ويشعر به، ولكنه لا يفهمه؛ لأنه مطمئن أمام ضميره، يعتقد أنه قد وفى بعقد الزواج، وضمن لامرأته حياة صالحة منظمة، فيجب عليها أن تضمن له حياة كحياة غيره من الناس، وهو لا يطلب شيئا غير هذا؛ لأنه لا يفهم شيئا غير هذا، وهو لم يتغير، وإنما امرأته هي التي تغيرت، فيجب عليها أن تعود كما كانت، وأن تشعر بواجب الزوجية، وتؤدي هذا الواجب كما ينبغي.
يظهر لك أن التناقض بين هاتين الطبيعتين شديد، وأن ليس لما بينهما من الخلاف حل إلا أن يفترقا، أو أن يكون أحدهما من القوة بحيث يستطيع أن يرغم الآخر على الخضوع لسلطانه، وعلى أن يكون له أسيرا. ينصرف الزوج ويأتي «ميشيل» الصديق القديم ومعه زوج «بولين»، واسمه «فرنان فالانتون»، وهما يتحدثان في أمر الزواج، فيأبى ميشيل أن يتزوج؛ لأنه يعتقد أن الزواج شيء لا ينبغي أن يختاره الإنسان، وإنما ينبغي أن يخضع له، فالإنسان لا يولد لأنه أراد أن يولد، ولا يموت لأنه أراد أن يموت، وإنما يولد ويموت لأن الطبيعة أرادت ذلك، فيجب أن يتزوج لا لأنه أراد أن يتزوج، بل لأن الطبيعة أكرهته على أن يتزوج؛ لأنها ملأت قلبه حبا، وملأت قلبا آخر حبا، فيضطر هذان القلبان إلى أن يقترنا. هذا وحده هو الزواج المعقول الذي تقره الطبيعة وترضاه، والناس قد يكرهون الطبيعة على ما لا تريد أحيانا، فيتزوجون في غير حب، ولكن الطبيعة منتصرة أبدا، فهي ترغم الناس على أن يحبوا، فإذا اقترن اثنان دون أن يحب أحدهما الآخر فإما أن تنتهي العشرة بهما إلى الحب فتنتصر الطبيعة، وإما أن تنتهي العشرة بهما إلى البغض فينصرف كل منهما إلى الشخص الذي كان ينبغي أن يحبه، وكان ينبغي أن يتزوج منه، وتنتصر الطبيعة أيضا.
يبسط الفتى هذه النظرية فتطمئن إليها «إيرين»؛ لأنها راضية بحظها في الحياة، ولهذا تسأله في شيء من السخرية: أتعلمت هذا في المدرسة الفرنسية في أثينا؟ كلا يا سيدتي، وإنما تعلمته في الحياة.
ينصرف الزوجان وقد أعلن إليهما ميشيل أنه مستأنف سفره إلى آسيا الصغرى؛ لأنه كلف البحث عن الآثار فيها، فإذا خلا إلى صاحبته سألته عن هذا السفر، فلا تلبث أن تتبين أن مصدره الحب، فهو يحبها ويعلم أن ليس له عليها سبيل، وأنه لا يستطيع الحياة في باريس مع هذا الحرمان، ولكنها أيضا تحبه ولا تفهم أن يفترق المحبان مهما يحتملا من الخطوب، فكل شيء أهون من الفراق ... وهي تلح عليه في أن يبقى ليكون لها أملا وعونا على احتمال الحياة، هو يريد ذلك، ولكنه لا يستطيعه؛ لأنه شديد الغيرة يؤذيه أن يرى زوجها، وأن يفكر فيما بينه وبينها من صلة الزواج، هنا تعده بما يهدئ غيرته، تعده بأنها لن تكون لزوجها أبدا، وأنها ستستأنف حياة العذارى، تعد وتقسم، فيطمئن وينصرف وقد وعد بالبقاء.
تلبث وحدها حينا، ثم يعود زوجها فيدخل دون أن تشعر بعودته، ولكنه قد عاد لطيفا ظريفا فهو يتملقها، ويتحبب إليها، ويريد أن يخاصرها، وأن يرافقها إلى غرفتها، فتدفعه دفعا شديدا، ثم تفلت منه إلى حيث تستخفي، وتوصد من ورائها الباب، فينطلق لسانه مغضبا بهذه الجملة: «ستدفعين ثمن هذا.» •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أشهر على هذا الموقف، وازداد الأمر فسادا بين الزوجين، انقطعت بينهما كل صلة حتى استيأس الرجل، وظن بامرأته المرض أو الجنون، فأزمع أن ينقلها من باريس إلى الريف، وأقبل يعلن إليها ذلك على أنه أمر لا يقبل المناقشة ولا الجدال، ثم يتركها لتفكر، ولكنها لا تريد أن تفكر، ولا تريد أن تأتمر، وإنما تريد أن تفارق زوجها، تفارقه بالطلاق إن رضي بالطلاق، وبالموت إن رفض الطلاق.
وتأتي أختها فلا تبلغ من تهدئتها شيئا، وإنما تقتنع بوجوب الطلاق، وتأخذ نفسها بالسعي فيه، تذهب لتلقى الزوج، وتتحدث إليه في الطلاق، ويأتي ميشيل فإذا هو لا يطيق صبرا على هذه الحال، وإذا هو قد اعتزم السفر من جديد، فتضرع إليه أن يبقى، وتنبئه بأنها جادة في الطلاق، وأنها ستظفر به وستكون له زوجا، وإن ذلك قد يتقرر الآن، فلينتظر ولينتظر في مكان قريب لتستطيع أن تنبئه النبأ بعد حين.
ينصرف الفتى وقد تمت بينهما الخطبة، وتأتي أختها فتنبئها بأن زوجها يرفض الطلاق، ويأتي الزوج نفسه فيعلن إليها في عنف وشدة أنه لن يطلقها مهما تفعل، وأن القانون يؤيده في ذلك، فهو لم يقترف إثما، ولم يسئ إلى زوجه، وإنما أدى واجبه كما ينبغي، وإذ كان قد أدى واجبه فهو يحتفظ بحقه، وبحقه كاملا، لا يريد أن يطلق، ولن يطلق مهما تتكلف زوجه من حيلة أو نذير.
وفي الحق أن زوجه تتكلف الحيلة فتضرع وتستعطف، ثم تنذر باقتراف الآثام، ثم تضرع وتستعطف فلا تجد منه إلا إباء ورفضا، يتركها وقد أعلن إليها إصراره على أن ينقلها من باريس، يتركها وقد ملكها الغيظ ، ثم الهلع، ثم شيء يشبه الذهول، فتسرع إلى الباب وتدعو صاحبها، فإذا أقبل تلقته بهذه الجملة: «أما أنت فافعل بي ما تريد.» •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى على هذا الموقف عشر سنين، ونحن في قصر من قصور الريف يعيش فيه الزوجان، وقد عاد إلى حياتهما شيء من الهدوء والدعة، ويعيش بينهما غلام في العاشرة، فأما الزوج فسعيد مغتبط، يعلم أن زوجه لا تحبه، ولكنه يعلم أنها قد عادت إلى الطاعة، وهذا يكفيه، وأما امرأته فكئيبة، كاسفة البال، لا تبسم لشيء، ولا تحفل بشيء، ولا تحيا إلا لابنها.
وقد نزل على الزوجين ضيفان، هما بولين وزوجها، فترى الرجلين يتحدثان فيذكران ما كان منذ عشر سنين، ولكنك تشعر بأن هناك خلافا جديدا قد نشأ بين الزوجين وهو شديد الخطر. أشرف الغلام على العاشرة فلا بد من أن يذهب إلى المدرسة، وأمه تأبى ذلك كل الإباء، وستفتح المدرسة غدا، فلا بد من إرغام الأم على فراق ابنها، والأب مصر على أن يسلك في هذه المسألة مسلكه في غيرها من المسائل، على أن يحتفظ بسلطته الأبوية كما احتفظ قديما بسلطته الزوجية، ثم ينصرف صاحبه ويبقى هو، وتقبل الأختان فيتركهما حينا لأمر ما، فتذكران الماضي، وتفهم من حديثهما أن ميشيل قد مات؛ لأنه كان مسلولا قد ورث السل عن أبيه، فإذا ذكر لفظ السل رأيت على وجه الأم وفي لفظها ألما ظاهرا، ثم يقبل الصبي فإذا هو نحيف ضعيف، وإذا هو يذكر سفرا قريبا قد وعده به أبوه، فلا تحفل أمه بشيء من ذلك، وإنما تأخذ في مداعبته وتأنيبه؛ لأنه عاد إليها قذر الثياب، وقد كان نظيفا، وهي في هذا إذ يقبل الزوج فينصرف الغلام مع خالته لتصلح من أمره، ويتحدث الزوجان في أمر الغلام والمدرسة، فتأبى الأم، وتلح في الإباء، ويريد الأب، ويلح في الإرادة، ثم يستحيل الأمر بينهما إلى العنف، فإذا أعلنت أن ابنها ضعيف رد الأب بأنها مصدر ضعفه؛ لأنها تسرف في العناية به، وإذا أعلنت الأم أن الأطباء يلحون في حاجة الطفل إلى أمه رد الأب بأنها قد أفسدت الأطباء، ثم يعلن إليها آمرا عنيفا، أن الغلام يجب أن يسلك سبيل أبيه، وأن ينشأ كما نشأ، وأن يذهب إلى المدرسة، وأنه ذاهب إليها الليلة، وأن عليها أن تعد متاع الطفل أثناء يأمر هو بإعداد العربة.
هنا تثور الأم، وتعلن إليه في ثورتها أن الطفل ليس ابنه! لا يكاد الرجل يصدق، ولكن الحقائق البينة لا تزال تفجؤه واحدة بعد أخرى، حتى يتبين أن امرأته قد خانته، وأن الطفل ليس ابنه، وهو لا يعلم من أبو الطفل، ولكنك أنت قد علمت من أبوه.
فانظر إلى هذا الرجل العنيف القاسي الذي لم تكن تعرف الرحمة ولا الضعف إلى نفسه سبيلا، هو الآن يبكي لأنه قد جرح في كبريائه، هو يبكي وزوجه جامدة العين مرفوعة الرأس؛ لأنها الآن ليست زوجا وليست امرأة خائنة، وإنما هي أم بائسة تدافع عن ابنها، ويقبل الصبي فرحا مبتهجا فيسأل: متى السفر؟ فإذا رأى الرجل يبكي والمرأة تنتصر سأل: ما بال أبيه يبكي الآن ولم يكن يبكي قط؟ وما بال أمه لا تبكي وقد كانت حياتها بكاء؟ تجيبه أمه: لأني فقدت الدموع يا بني، ثم تصرفه، ويخلو الزوجان أو العدوان، فإذا الرجل يطلب الطلاق وإذا المرأة تأباه، يطلبه لأنه أهين، وتأباه لأنها تريد أن تحتفظ بمستقبل ابنها، وإذا الرجل مرغم بحكم القانون على أن يعترف ببنوة هذا الطفل الذي ليس له، وإذا هو مرغم بحكم الأوضاع الاجتماعية التي يقدسها على ألا يعلن إلى الناس أن امرأته خانته، وأنه عاش في الخيانة عشر سنين.
فيرجان :
وإذن فكيف تريدين أن أعيش معك وجها لوجه دائما دائما؟! أي حياة تريدين أن أحيا؟!
إيرين :
الحياة التي كلفتني أن أحياها إلى اليوم، لقد أخذنا في قيد واحد فلتشعر الآن بثقله، ولتجره أيضا، فقد جررته وحدي زمنا طويلا!
فيرجان :
ليس في الحياة عدل!
إيرين :
في الحياة عدل الشقاء المشترك.
فيرجان :
أنت مجرمة، وأنا بريء!
إيرين :
نحن شقيان، وإذا نزل الشقاء فالناس جميعا سواء!
قانون الرجل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
لعلك تسأل نفسك: ما باله لا يجد سبيلا إلى مفارقة هذا الكاتب، والانتقال منه إلى غيره؟ فقد حللت له قصصا ثلاثا، وكنت أستطيع أن أكتفي بهذه القصص الثلاث، والحق أني لا أجد سبيلا، أو لا أكاد أجد سبيلا إلى مفارقة هذا الكاتب؛ لأن صحبته لذيذة، ولأن إعجابي به، واطمئناني إليه لا يكادان يحدان، صحبته لذيذة، وإعجابي به شديد؛ لأني لا أعرف تمثيلا أخضب من تمثيله، ولأني لا أعرف قصصا أغنى من قصصه، ولأني أجد في صحبته لذة العقل ولذة الشعور معا، ولأني أجد في صحبته هذه اللذة التي يجدها من يسمع لفيلسوف وفني في وقت واحد، فهذا الكاتب الذي أوثره قد جمع بين الفلسفة والفن فأرضى العقل، وأرضى الشعور.
هو فيلسوف فلا تكاد تقرأ له قصة إلا رأيتها تدور حول فكرة فلسفية أو نظرية من نظريات الاجتماع، يدرسها درسا متقنا، ويحللها تحليلا دقيقا، فيردها إلى أصولها، ويصل بها إلى نتائجها المعقولة، وهو في الوقت نفسه فني؛ لأنه على إيثارة للمنطق وقواعد النظر العلمي في البحث والتحليل يتخذ الفن وسيلة إلى هذا البحث، والتحليل فيثير عواطفك، ويؤثر في شعورك بحيث لا تستطيع أن تقول إنك قرأت كتابا علميا، وبحيث لا تستطيع أن تقول إنك قرأت آية من آيات الفن ليس غير، هو يضطرك أن تقول إنك قرأت علما وفنا، واستمتعت بالعلم والفن مجتمعين، ومن يدري؟ لعل هذا الفن هو الفن حقا، بل هو الفن من غير شك، فليس من الحق أن هناك تناقضا بين الجمال وبين الحقيقة، وإنما الحق الذي لا شك فيه، والذي قاله الناس، وآمنوا به منذ سقراط أن الحق والجمال شيء واحد، فالكاتب الفني حقا هو الذي يستطيع أن يظهر للناس في غير تكلف ولا عنف أن الحق جميل، وعلى أن الجمال حق، وبهذا يمتاز هذا الكاتب الذي لا أجد إلى مفارقته سبيلا، يمتاز بهذا وبشيء آخر لعله هو الذي يحببه إلي، ويجعل اتصالي به شديدا، وهو أنه يمثل تلك الفكرة القديمة التي أوجدت فن التمثيل عند اليونان القدماء، والتي مهما يختلف فيها الشعراء من اليونان فهم جميعا خاضعون لها، متأثرون بها، مترجمون عنها، وهذه الفكرة التي تجدها عند «إيسكيلوس» كما تجدها عند «سوفوكليس» وعند «أوروبيدس»، بل تجدها في الشعر القصصي نفسه في «الإلياذة»، وفي «الأودسا»، بل تجدها في الحياة القديمة كلها، هي أن هناك شيئا فوق إرادة الفرد، وفوق إرادة الجماعات، فوق التشريع وفوق الشرائع، هناك شيء فوق الأشياء يدبر هذه الأشياء ويسخرها، ولا أريد أن أغلو مع القدماء، فأزعم كما كانوا يزعمون أن هذا الشيء الذي لا مرد له ولا فرار منه مسيطر بطبعه على كل إرادة فردية واجتماعية، بل مسيطر على إرادة الآلهة أنفسهم، هذا الشيء هو القضاء الذي تمثله لنا اليونان في صور مختلفة، ولكنه في جميع هذه الصور عابث بالأفراد والجماعات، عابث بعقول الناس وقواهم، عابث بسلطان الآلهة وإرادتهم، نعم! هذا الشيء هو القضاء الذي ننساه وننصرف عنه مغرورين مرة بذكائنا ومرة بشعورنا، وحينا بثروتنا، وحينا بقوتنا المادية، ننساه فنمضي كما تدفعنا الأهواء، ونسير حيث يوجهنا الغرور، حتى إذا خيل إلينا أنا قد بلغنا من حياتنا ما نريد، قال القضاء كلمته فأفسدت كل ما دبرنا، ونقضت كل ما أبرمنا، وألزمتنا أن نعترف أمام أنفسنا وأمام الناس وأمام القضاء نفسه بأن هذه الأشياء التي غرتنا وفتنتنا ليست إلا ضربا من الباطل، ولونا من الخيال، ولعبة في يد القضاء.
تجد هذه الفكرة في شعر القدماء من الممثلين اليونانيين، وتجدها في قصص هذا الكاتب، ألم تجدها في قصة «التيه»؟ ألم تجدها في غيرها من القصص التي حللتها فيما مضى؟ ألم تشعر حين قرأت هذا التحليل أن الكاتب يسخر من قوة الإنسان وعقله ورقيه وحضارته، وتشريعه وشرائعه، ويزعم أن هذه الأشياء كلها عاجزة كل العجز عن أن تضمن له السعادة، وتحميه من الشقاء؟
تجد هذه الفكرة نفسها في هذه القصة التي أريد أن أحللها اليوم، ومع ذلك فيظهر من عنوان هذه القصة أن الكاتب يريد أن يلقي على شيء معين من الأشياء تبعة ما يلقاه قسم من أقسام الإنسانية من ضروب التعس والشقاء، يظهر من العنوان ومن القصة نفسها أن الكاتب يريد أن يرد ما تلقاه المرأة من ظلم وجور، ومن شقاء وسوء حال إلى التشريع الذي يقوم به الرجال وحدهم دون النساء، فيستأثرون لأنفسهم بالخير، ويتخذون لمنافعهم وشهواتهم من هذا التشريع معاقل وحصونا، ولو قد اشترك النساء في التشريع، ووضع القوانين لاستطعن أن يحمين منافعهن وحقوقهن، وأن يكبحن من جماح الرجال ولو قليلا، وأن يضعن أنفسهن بمأمن من ضروب الظلم المختلفة التي يخضعن لها دون أن يجدن لهن نصيرا، يدل عنوان القصة، وتدل القصة نفسها على أن مصدر الظلم الذي تلقاه المرأة هو أن المرأة محرومة من حقوقها السياسية، فلو أن لها هذه الحقوق، لو أنها تنتخب وتنتخب وتأخذ بنصيبها من حقوقها الاجتماعية كما تقوم بنصيبها من الواجبات الاجتماعية لاستطاعت أن تتقي هذا الظلم، وأن تقف من الرجل موقف الخصم الكفء، فالكاتب إذن من أنصار المرأة، بل من الغلاة في نصر المرأة، من الذين يطالبون بالمساواة السياسية المطلقة بين الرجل والمرأة.
وأعترف بأن هذه القصة لو لم يكن فيها إلا هذه الفكرة لما حفلت بها كثيرا، لا لأني أخاصم النساء، ولا لأني أكره أن يكون لهن مثل ما لي من الحقوق السياسية والاجتماعية، فلو كان الأمر بيدي لما اكتفيت بإقرار المساواة بين الرجال والنساء في هذه الحقوق، بل لنزلت للنساء عن كثير من هذه الحقوق التي أجد في الاستمتاع بها من الشر والعناء أكثر مما أجد فيه من الخير والراحة، ولكني مع ذلك لم أكن لأحفل بهذه القصة لو لم تعن إلا بهذه القضية الخاصة؛ ذلك لأن هذه القضية في نفسها قابلة لضروب من الجدال والمناقشة لا حد لها، ومن الذي يستطيع أن يقول إن مصدر ظلم المرأة هو حرمانها حقوقها السياسية؟ ولم لا يكون مصدر ظلمها أنها أضعف من الرجل، وأقل حظا منه في هذه القوة المادية التي تقوم عليها الحقوق والواجبات في كل حياة إنسانية اجتماعية؟ ولم لا يكون مصدر ظلم المرأة أنها كانت إلى الآن أقل ذكاء من الرجل، وأضيق حيلة، وأضعف عقلا؟ ولم لا يكون مصدر ظلم المرأة أنها كانت إلى الآن أرقى من الرجل شعورا، وأرق منه عاطفة، وأصدق منه ذوقا، وأميل منه إلى الجمال، فكلفت بالخيال، وكلف هو بالحقيقة الواقعة؛ فربح الرجل وخسرت المرأة؟ ولم لا يكون مصدر ظلم المرأة هذه الأشياء كلها مجتمعة، وأشياء أخرى لم أذكرها، أو لم أصل إليها؟
القضية إذن في نفسها قابلة للبحث والمناقشة، ولكن في القصة شيئا آخر غير هذه القضية، غير منافع الرجل والمرأة، غير حقوق الرجل والمرأة، غير الجور والعدل، غير الظلم والمساواة، فيها أن سلطان القضاء فوق كل سلطان، ولهذا عنيت بهذه القصة، وأرجو أن يعنى بها القراء. ••• «الكونت دي رجيه» رجل من الأشراف عظيم الثروة، قوي الجاه، محافظ كل المحافظة على ما ورث من العادات والآداب سواء منها الحسن والقبيح، قوي الإرادة إلى حد العناد، محتفظ بحقوقه من حيث هو رجل، وقد اكتسب هذه الحقوق بما له من قوة الرجولة ومن السلطان على الحياة الاجتماعية، وهو يحرص كل الحرص على ألا يفرط في شيء من حقوقه، ولا من عاداته، ولا من آدابه، وعلى ألا ينزل عن جزء ولو قليل من حريته، وقد تزوج من فتاة جميلة غنية، ولكنها يتيمة، فلم تجد حين تزوجت من يحسن الدفاع عنها، ولا الاحتياط لمستقبلها، وهي تحب زوجها حبا شديدا، وتثق به ثقة لا حد لها، وتعتمد عليه في كل شيء الاعتماد كله، تصدقه إذا قال، وتؤيده إذا فعل، حتى إنها لتصدقه وهي تعلم أنه كاذب، وحتى إنها لتذعن له وهي تعلم أنه ظالم؛ ذلك لأنها تحبه إلى حيث تنمحي إرادتها أمام إرادته، اسمها «لور» وقد عاشت مع زوجها عصرا، ورزقت منه فتاة في الثانية عشرة من عمرها، واسمها «إيزابيل»، ولكن أخذت «لور» في هذا العصر الأخير ترتاب، وتشك في أمانة زوجها، وفي أن بينه وبين امرأة أخرى صلة، فكانت كلما قوي في نفسها هذا الشك أفضت به إلى زوجها، فيمحوه في الحال بلطفه وظرفه ورقته، وحسن حيلته، فتعود المرأة إلى الثقة والاطمئنان.
ثم لا تلبث الحوادث أن تعيد إلى نفسها الشك، فتشكو إلى زوجها، وتبكي وتظهر بائسة تعسة، ويعطف عليها هذا الزوج ويترضاها، حتى أصبح من أخلاقها هي أن تشك وتشكو، ومن أخلاقه هو أن يعطف ويترضى، ولكن الحق الواقع أن هذا الرجل يخون امرأته، ويخونها مع امرأة متزوجة هي صديقتها، وهي مدام «دورسيو»، يقوى الشك في نفس «لور» فلا تشكو إلى زوجها في هذه المرة، وإنما تريد أن تتبين حقيقة الأمر، فتخفي ما بها من ريب، وتكلف إدارة من هذه الإدارات السرية المنبئة في باريس مراقبة زوجها، فما أسرع ما ينبئها الرقيب بجلية الأمر، ويعين لها المكان والزمان اللذين يلتقي فيهما الآثمان، فتكلف نفسها مراقبتهما، ولا تشك بعد أن رأت بعينها أن زوجها يخونها ويخونها مع هذه المرأة، ولكنها لا تتحادث إلى زوجها بشيء فقد كرهته، أو خيل إليها أنها كرهته، فهي لا تريد أن يترضاها، أو يعطف عليها، وإنما تريد أن تخلص منه ومن عشرته، تريد الطلاق، ولكن ليس إلى هذا الطلاق من سبيل إذا لم تقم أمام القضاة برهانا قاطعا على أن زوجها قد حنث في يمين الزواج، فهي تبحث الآن عن هذا البرهان القاطع، تبحث عنه فتفتح مكتب زوجها خلسة، وتفتش فيه لعلها تجد رسائل حب قد تبودلت بينه وبين هذه المرأة، ولكنها لا تظفر بشيء، ولا تصل إلا إلى نتيجة واحدة وهي أن زوجها قد شعر بأن مكتبه قد فتح في غيبته فاتهم الخدم، وذهب يشكو إلى الشرطة ... •••
فإذا كان الفصل الأول رأيت «لور» تتحدث إلى صديقة لها اسمها «هنريت» بكل ما قصصت عليك، وتنبئها بعزمها على أن تطلب الطلاق، وهما في هذا الحديث إذ يقبل زوج هذه الصديقة واسمه «كربل»، فيشيران عليها بالروية، وإيثار الصلح، ولكنها تأبى ... ويأتي صاحب الشرطة ليتحقق آثار الجريمة في مكتب «الكونت»، فإذا أنبأته «لور» بأنها هي التي فتحت المكتب، أعلن أنه لم يبق له عمل، فإن لكل من الزوجين أن يفعل مثل هذا مع صاحبه دون أن يجد القانون وسيلة للتدخل بينهما، ويرد الرجل أن ينصرف فتستبقيه المرأة، وتسأله هل من سبيل أن يعينها على أخذ زوجها متلبسا بجريمة الخيانة؟ فيجيبها: نعم، ولكنها لا تكاد تظهره على جلية الأمر، حتى يعتذر بأن القانون لا يبيح أن يتدخل إلا إذا كان الإثم مقترفا في بيت الزوجة أو في بيت هو ملك الزوج، فأما إذا كان يقترف في بيت لا يملكه أحد الزوجين فليس للقانون أن يتداخل! هذا إذا كان الرجل هو المتهم بالخيانة، فأما إذا كانت المرأة هي المتهمة فللشرطة أن تتعقبها إذا طلب الزوج في أي مكان، فهذا أول ظلم ينزله القانون بالمرأة، مع أن هذا القانون قد عدل، ويقال إنه قد عدل لمنفعة المرأة، إذن فليس لصاحب الشرطة أن يعين هذه المرأة على أخذ زوجها مقترفا للإثم حتى تستطيع أن تطلب الطلاق، وليس بيد هذه المرأة برهان قاطع آخر، ولكن صاحب الشرطة يشير عليها بأن تجد شهودا متطوعين يرافقونها إلى حيث يقترف الإثم، فإذا رأوا وشهدوا بما رأوا حكمت المحكمة بالطلاق، وينصرف الرجل فتلجأ «لور» إلى صديقتها، فأما صديقتها فتقبل هذه المهمة؛ لأنها امرأة مثل صاحبتها، ولأنها تعطف على هذه الصديقة التعسة، وأما الرجل فيأبى لأنه رجل، ولأنه صديق الزوج الخائن، ولأن بينهما من الصلات والمودة ما يحرم عليه مثل هذا العمل، فإذا طلبت «لور» إلى صديقتها أن تتطوع بهذه الشهادة وحدها؛ أبى الزوج، وأعلن إليها أن امرأتة لا تستطيع أن تشهد في مثل هذا الأمر إلا إذا إذن لها بالشهادة، فهذا ظلم آخر ينزله القانون بالمرأة، فيمنعها حتى من الشهادة دون أن يأذن لها الزوج.
تفكر «لور» في شيء آخر وهو أن تذهب فتقص الأمر على زوج المرأة الخائنة، وهي واثقة بالفوز؛ لأن هذا الزوج سيتعقب امرأته، فإذا أخذها وهي تقترف الإثم فقد ظفرت هي من زوجها بما تريد، ولكن زوج هذه المرأة الخائنة رجل عنيف، معروف بالحدة وسفك الدم، فهو لا يلجأ إلى القوانين ، ولا إلى القضاء، وإنما يلجأ إلى الانتقام، والقانون نفسه يبيح له مبارزة خصمه، بل يبيح له أن يقتل خصمه، وأن يقتل امرأته، فهل تستطيع أن تعرض للموت شخصين تحب أحدهما مهما تقل، ومهما تفعل؟ كلا! فهي إذن لا تستطيع أن تلجأ إلى هذه الحيلة الأخيرة، ولكنها مع ذلك معتزمة أن تطلب الفرقة.
يتركها صاحباها ويقدم زوجها، فلا تلبث أن تنبئه بكل شيء ويسرع هو في أن يتلطف لها، ويأخذها باللين والرفق منكرا ما تتهمه به، متهما إياها بالغيرة والإسراف في الغيرة، فيكاد يخدعها ويكاد يرضيها، ويأخذها بين ذراعيه، فتوشك إرادتها أن تنمحي، ولكنها واثقة بما رأت، فهي لا تصدق زوجها، وهي تريد أن تعفو عنه، ولا تطلب منه ثمنا لهذا العفو إلا شيئا واحدا وهو أن ينبئها بأنه لا يحب هذه المرأة، وأنه إذا كانت بينه وبينها صلة فقد تورط في هذه الصلة، ورطه فيها الضعف، أو ورطه فيها الغرور، تريد منه أن يعترف بذلك، فيأبى هو لأنه لا يريد أن يعترف فيسيء إلى شريكته في الإثم، فإذا عرف أن امرأته قد رأت أن ليس إلى الشك في ذلك من سبيل تغير في نفسه كل شيء، فعدل عن الخداع والمكر إلى الصراحة والاعتراف، ولكنه لا يلوم نفسه، ولا يرى نفسه آثما، وإنما يرى أنه إن كان قد فعل شيئا تنكره القوانين فهو نفسه لا ينكر هذا الشيء؛ لأنه بطبيعته عاجز عن الوفاء لزوجه محب للذة، والتنقل بهواه، ولن ينزل من هذا عن شيء، ولن يسمح بالطلاق؛ لأن الطلاق لا يليق بجماعة الأشراف المحافظة التي تنكر كل هذا التشريع الجديد، وإنما يسمح بشيء واحد مألوف في طبقته، وهي أن تنقطع الصلة بينه وبين زوجه بالفعل، على ألا يعلم الناس عن ذلك شيئا، أو على أن يعلم الناس ذلك دون أن يجهر به بعضهم لبعض؛ أي إنه يريد أن يحتفظا بمظاهر الزوجية أمام الناس ليس غير، تأبى «لور»، وتعلن إلى زوجها أنها مضطرة إلى أن تذيع إثمه وخيانته بين الناس، وعلى مرأى ومسمع منه ومن صاحبته إذا لم يسمح بالفرقة بينهما، هو إذن مضطر إلى هذه الفرقة، فيسمح بها، ولكن فيما بينه وبين زوجته وبين المحامي دون أن يصدر حكم بالطلاق، ودون أن يرفع الأمر إلى القضاء، على أن يخصص لزوجه وابنته ما يحتاجان إليه من نفقة، ذلك مع أن زوجه غنية، ولكنها لا تستطيع أن تتصرف في ثروتها بحكم الزواج نفسه، وهذا ظلم آخر ينزله القانون بالمرأة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى على هذا خمس سنين، وأقبلت «لور» تزور صديقيها في مصطاف على البحر، فيتحدثون في أمر هذا الزوج، فإذا هو ماض في إثمه، ويتحدثون في أمر الفتاة فإذا هي في السابعة عشرة، وإذا هي قد بلغت سن الزواج، وإذا أنت تشعر بأن شيئا من الخلاف لا بد أن يظهر بين الأبوين حين يأتي لهذه الفتاة أن تتزوج، وإذا أنت تشعر بأن الفتاة الآن عند أبيها، وبأنها ستعود إلى أمها بعد ثلاثة أيام، وبأن رسائلها تدل على أن مزاجها غير معتدل، وبأن أباها ليس بعيدا من هذا المصطاف، وهم في هذا الحديث إذ تسمع جلبة قوم قادمين، فلا يكادون يتبينون هؤلاء الناس حتى تعلم أن القادمين هم الزوج وابنته، وشريكته في الخيانة، وزوجها، وابنهما، تستخفي «لور» بعد أن تكلف صاحبيها أن يجدا لها وسيلة للقاء ابنتها، ولا يكاد القوم يقبلون حتى تعلم بأن شيئا جديدا قد طرأ، وهنا تشعر بأن القصة قد انتقلت من طورها الأول إلى طور جديد، فليست دفاعا عن حق المرأة، وليست اتهاما للرجل، وليست سخطا على القانون، وليست إنكارا للتشريع، وإنما هي شيء آخر فوق هذا كله، فوق إرادة الزوجين، فوق إرادة الأبوين، فوق إرادة النظم الاجتماعية كلها، تشعر بهذا وتحس أن الكاتب قد تأثر بما كان يتأثر به شعراء اليونان، فأدخل القضاء في قصته، أو قل إن القضاء قد دخل في القصة رغم الكاتب ورغم أبطال القصة، ذلك أن «إيزابيل» هذه الفتاة الناشئة قد أحبت «أندريه» ابن تلك المرأة التي خانت أمها «لور»، وفرقت بين أبويها، أحبت الفتى وهي تجهل كل شيء، وأحبها الفتى وهو يجهل من أمر أمه كل شيء، وتحدث الفتيان بحبهما، وتعاهدا على الزواج، وأفضى الفتيان بهذا الحب وهذا العهد إلى أهلهما، فأما أبو الفتى فهو يجهل كل شيء كابنه، وهو يرى هذا الحب خيرا فيشجعه ويؤيده، ويعد المحبين بالمعونة على الزواج، وأما أبو الفتاة وأم الفتى فهما يعلمان كل شيء، ويمانعان في هذا الحب، ولكن أين السبيل إلى ممانعة الحب وهما لا يملكان من أمره شيئا! وهل يعرف الفتيان كيف أحب كل منهما صاحبه؟ وأين السبيل إلى منع هذا الزواج؟ وهل يستطيع الرجل أن يقول لابنته إنه خان أمها مع حماتها؟ وهل تستطيع المرأة أن تقول لابنها إنها خانت أباه مع أب الفتاة؟ ليس إلى ذلك من سبيل. فحجة المحبين قائمة، ويؤيدها أبو الفتى، وليس ما يمنع هذا الزواج إلا أن ترفض أم الفتاة؟ أتستطيع أن تجهر بالأمر؟ ذلك شيء ستعلمه. أرأيت كيف دخل القضاء المحتوم في هذه القصة فغيرها التغيير كله، وجعلها فوق طور الإنسان؟ لم يصبح الأمر الآن مقصورا على زوجين يختصمان، وإنما هناك شخصان بريئان يجهلان كل شيء، ويريد كل منهما أن يقترن بصاحبه، وليس لأحد أن يحملهما إثم آبائهما.
تعاهد الفتيان على الزواج، وأخذت الفتاة نفسها بأن تقنع أمها بقبوله، فإذا خلت إلى أمها، وقصت عليها القصص جزعت هذه جزعا شديدا، وأسرفت في اتهام زوجها لا بأنه يخونها فحسب، بل بأنه يخون ابنته أيضا، وهل تستطيع هذه المرأة أن تقدر أن هذا الحب قد جاء عفوا؟ أليس هذان الخائنان قد تواطآ عليه حتى إذا ما تم بينهما لم يكن هناك سبيل إلى قطع ما بينهما من صلة؟ وهل تستطيع أن تفكر على نحو غير هذا النحو؟ أليست سيئة الظن بزوجها؟ أليست سيئة الظن بعدوتها؟ أليست تعتقد أن ابنتها دون أن تحب أو تقدر الحب كما ينبغي؟ هي جزعة ولكنها لا تجهر بهذا الجزع، ولا تنبئ ابنتها بشيء، وإنما تريد أن تستنبئها، وبم تنبئها الفتاة؟ أنها تحب هذا الفتى؛ لأنهما تجاورا في المصيف، تجاورا فتعارفا فتحابا، فتعاهدا على الزواج، وهي لم تكتب إلى أمها بشيء من ذلك؛ لأن الخصومة بين أبويها عودتها أن تحتاط حين تكتب إلى أحدهما وهي عند الآخر، والفتاة لا تفهم جزع أمها، ولا تفهم بغضها للفتى وأبويه، وهما في ذلك إذ يقبل الخادم فيعلن أن الأب يريد ابنته: فتقول الأم: ليأت إن كان يريدها! •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد أخفت الأم ابنتها في غرفة مجاورة، وتلقت زوجها، فتسأله عن هذا الأمر، فإذا أنبأها بحقيقته لم تصدق من نبئه شيئا وتلقته بهذه التهم التي قدمتها لك في هذا الفصل الماضي، ثم أعلنت لزوجها أنها لا تسمح بهذا الزواج، يلح عليها زوجها، فإذا رأى منها الإباء أعلن إليها أن هذا الزواج قد يتم رغم إرادتها؛ لأن القانون يبيح ذلك، فهو يشترط لصحة الزواج أن يرضى الأبوان، لكنه ينص على أنهما إن اختلفا فرأي الأب مقدم، وهو الذي يعتد به، وهذا ظلم آخر ينزله القانون بالمرأة، ولكن أين نحن من القانون؟ هناك شيء فوق القانون، بل هناك شيئان فوق القانون، هناك عاشقان يريدان أن يتزوجا، وهناك أم تأبى على عدوتها أن تأخذ منها ابنتها بعد أن أخذت منها زوجها، وهذه الأم تريد أن تدفع عن حقها بكل وسيلة، وقد سلبها القانون وسائل الدفاع، فهي ستجد وسائل الدفاع في ناحية غير ناحية القانون، ستنبئ ابنتها بحقيقة الأمر، وهي إن تفعل فستحول بين ابنتها وبين هذا الزواج، تعلن ذلك إلى زوجها فيحذرها عاقبته، ولكنها لا تحفل، فيتركها الزوج منذرا بأن للحرب حدودا، ولكن المرأة لا تكاد تخلو إلى ابنتها حتى تحاول أن تصرفها عن هذا الزواج، فلا تنصرف الفتاة؛ لأنها تريد أن تعلم لماذا يطلب منها أن تضحي آمالها وحياتها دون أن تفهم لهذه التضيحة سببا، ودون أن يطلب إليها أبوها هذه التضحية، تريد الفتاة أن تفهم، وتأبى الإذعان دون أن تفهم، فإذا أنبأتها أمها بجلية الأمر جزعت هي أيضا، وناء بها الجزع، فتنبئ أمها بالعدول عن هذا الزواج ، ولكن في الأمر شيئا فوق إرادة الفتاة، وفوق إرادة الأم، في الأمر هذا الحب الذي لا بد من أن تتم كلمته.
وقد أقبل الفتى فرحا مبتهجا يريد أن يسأل صاحبته عما أجابت به أمها، وهو يعتقد مقدما أنها قبلت، فتنبئه الفتاة بأن أمها قد رفضت، فيحاول أن يتبين مصدر هذا الرفض، فلا يجد من الفتاة جوابا، يسأل: أتنكر أمها من شخصه شيئا؟ أتنكر من سيرته شيئا؟ أتنكر من أبويه شيئا؟ فتجيبه الفتاة بالنفي، ولكنها تنبئه بأنهما لن يتزوجا، يتهمها بأنها لم تحبه، فتعلن إليه أنها تحبه وتحبه حبا شديدا، ولكنهما لن يتزوجا ... يبلغ الجزع من الفتى إلى حيث ينبئ صاحبته بأنه قد يئس من الحياة، وبأنه وهو ضابط بالجيش سيطلب أن يرسل إلى إحدى المستعمرات حيث يلقى حتفه في ثورة من تلك الثورات المتصلة، ينصرف فتدعوه، ويجدد لها نذيره، فتلح، فيلح في النذير، فتعده أنها ستتزوجه رغم إرادة أمها، ينصرف الفتى مغتبطا، وقد انتصر الحب على البنوة، وانتصر أمل البنوة على أمل الأمومة ...
وعدنا إلى تلك القصة التي عللتها فيما مضى، والتي تثبت أن الإنسانية إنما هي ابنة عاقة وأم برة أبدا، تقبل الأم فإذا علمت أن ابنتها لم ترفض الزواج أحست ثقل الكارثة، وعرفت أن ابنتها قد ضحت بالأم في سبيل الزوج، وهي بعد لم تعرفه إلا منذ شهر، أفيمكن أن يكون الشباب من الأثرة وحب النفس بحيث يضحي بالأم وجهودها وعشرتها الطويلة، وعواطفها الحادة الرقيقة في سبيل فتى أو فتاة، لم يطل بهما العهد؟! يقبل الأب وقد فقدت الأم سلاحها، فخرجت عليها ابنتها، فهي تزعم أن ابنتها لا تحبها، وفي الحق أن الفتاة تلقي بنفسها بين ذراعي أبيها، فإذا سمعت من أمها هذا عادت إليها، فالفتاة مترددة بين الأبوين يتنازعانها، وقد كره كل منها صاحبه، ثم تنصرف الفتاة وتعلن الأم إلى زوجها أنها قد فقدت هذا السلاح، ولكنها لم تفقد كل سلاح، فبيدها سلاح آخر قوي عنيف، ستعلن الأمر إلى الناس جميعا، وهما في ذلك إذ تقبل أم الفتى في ذهول يشبه الجنون، فتنبئ بأن زوجها قادم ليخطب الفتاة إلى أمها، وتضرع إلى هذه الأم أن تكون رحيمة رفيقة، ويضرع إليها الأب أيضا، ولكنها لا تريد أن تكون رحيمة ولا رفيقة، هي تدفع عن حقها، وتدفع عن ابنتها، لا تقبل في ذلك شيئا، ولا ترضى في ذلك هوادة.
ويقبل الرجل فيخطب الفتاة، فترفض الأم، فيحاول أن يتبين مصدر الرفض، فيسأل عن أشياء ليس بينها وبين الحقيقة صلة، فإذا أجابته الأم بالنفي ألح في أن يتبين موضع الحق فتنبئه النبأ، ويزعم زوجها أنها قد جنت، ولكن الرجل لا يكاد يتبين القوم جميعا حتى يثق بأنها عاقلة، وبأنها صادقة، وبأن امرأته قد خانته، وبأن هذا الصديق قد خانه في امرأته، يأخذه الغيظ، ويظهر عليه الميل إلى سفك الدم، ولكنه سمع من امرأته في ضراعتها واستعطافها ذكرى ابنه ... فإذا كل شيء قد تغير، وإذا غيظه قد هدأ، وإذا هو ليس بالزوج الذي يريد أن ينتقم لشرفه، وإنما هو الأب الذي يريد أن يحمي ابنه من سوء السمعة، بل يريد أن يحمي ابنه من الموت، هو أب لا زوج، فلا يريد أن ينتقم، ولكنه يريد أن يزوج ابنه من هذه الفتاة، وقد ظل هذا الأمر مجهولا فيجب أن يظل مجهولا، وإذن فيجب على صديقه أن يرد زوجته إلى بيته رضي أم كره، رضيت هذه الزوج أم كرهت، يجب أن يشعر الناس بأن هذين الزوجين قد أصلحا ما كان بينهما من خلاف، وأن هذا الزواج الجديد يتحقق بين أسرتين شريفتين، لا تشوب شرفهما شائبة، فإذا قال الزوج: إن زوجي لن ترضى أن تعيش معي، أجاب هذا الرجل: يجب أن ترضى، وإذا قالت الزوجة: لا أستطيع أن أعيش مع هذا الخائن، أجاب: سأعيش أنا مع هذه الخائنة، وهما في ذلك إذ يظهر الفتيان من بعد، يظهران والرجل يحاول أن يقنع هذه الأم بإيثار الصلح حبا لابنتها، وبأن هذا الصلح قد لا يخلو من خير في الحياة، فتجيبه: إنها لا تأمل إلى فيما بقي لها من حظ في الآخرة، تجيب بذلك، ويظهر الفتيان، فيشير الرجل إليها قائلا: حياتنا الآخرة! هذه هي!
أرأيت كيف ابتدأت القصة؟ أرأيت كيف انتهت؟ فكرة اجتماعية أراد الكاتب درسها وتحليلها، فأحسن الدرس والتحليل، وأثبت ما أراد أن يثبت من أن تشريع الرجال ظالم للنساء، ولكن عقل الإنسان مهما ينقد، ومهما يحلل فهو عاجز عن تدبير الحياة.
وإنما لهذه الحياة مدبر آخر فوق العقل، وفوق الإرادة، وفوق العاطفة والشعور، وإن كان قد يصدر عن العاطفة والشعور، للحياة مدبر آخر هو القضاء!
اعرف نفسك
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
ومن ذا الذي يعرف نفسه حقا؟ ومن ذا الذي يثق بما تطويه نفسه من دخيلة، وبما يستره ضميره من خصلة؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوجه أهواءه وميوله وعواطفه وشهواته كما ينبغي؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يوفق بين نفسه وبين واجبه حقا؟ أليس الإقدام الصحيح على شيء من الأشياء ينبغي أن يكون نتيجة للعلم الصحيح بهذا الشيء؟ ألست إذا أقدمت على الشيء وأنت تعلمه حقا استطعت أن تتجنب الخطأ وتتنكب الضلال؟ بلى! ولكن العلم الصحيح بالأشياء ليس ميسورا وليس متاحا لك في كل وقت. ألا ترى إلى آراء الناس كيف تتغير بالقياس إلى الأشياء العادية، فهم يرونها خيرا ثم يرونها شرا، ثم يعودون فيترددون، ثم ينالهم شيء من الإهمال وعدم الاكتراث، هو الاعتراف بالعجز عن فهم الأشياء وتعرف حقائقها؟
ليس العلم الصحيح بالأشياء ميسورا، ومن هذا تورط الناس في الأغلاط وتخبطوا في الظلمات. والأمر ليس واقفا عند جهل الناس بحقائق الأشياء، وإنما هو يتعداه إلى ما هو شر منه، فأنت لا تعرف صاحبك كما ينبغي أن تعرفه، وأنت لا تتبين دخيلة خليطك وعشيرك كما ينبغي أن تتبينها، ومن هنا تقع بينك وبينه الخصومات ويسوء بينك وبينه الظن، ومن هنا تناله بالمكروه حين تريد به الخير، وينالك بالسوء حين يريد إليك الإحسان؛ لأن كلا منكما يجهل صاحبه، ولو قد عرف أحدكما الآخر لما كانت بينكما خصومة ولما ساء بينكما الظن، ولما وقع بينكما خلاف. بل لا يقف الأمر عند هذا الحد، فأنت تجهل الأشياء والناس، تجهل نفسك، تجهلها جهلا قويا مظلما، يدفعك إلى أمور لو عرفت نفسك لما اندفعت إليها، تقدم ولو عرفت نفسك لأحجمت، ترضى ولو عرفت نفسك لأبيت، وهل تستطيع أن تفسر الندم إلا بأنه شعورك بأنك أقدمت على الشيء وأنت تجهل هذا الشيء وتجهل ما يمكن أن يكون بينه وبين نفسك من صلة؟ أفتظن أن ذلك الحكيم الذي كتب على معبد «دلف» هذا المثل اليوناني القديم: «اعرف نفسك بنفسك.» قد أخطأ أو قال غير الصواب؟ أفتظن أن سقراط حين اتخذ هذا المثل أساسا لفلسفته، وجعله أساسا لكل فلسفة خلقية بعده قد أخطأ أو أقدم على غير الحق؟ كلا! نحن نجهل الأشياء؛ ولذلك نتعلم. ولذلك أنشأنا العلم.
ونحن نجهل الناس ونجهل أنفسنا؛ ولذلك نبحث عن الناس ونبحث عن أنفسنا، ونحاول أن نضع الشرائع والقوانين، وأن نؤسس الفلسفة الإنسانية وأن نؤسس علم الأخلاق، وأن نبحث عن الطريق التي تنظم الصلات بيننا وبين أمثالنا.
ليس هذا كله إلا اعترافا بأننا نجهل، أو محاولة للتخلص من هذا الجهل، ولكننا مغرورون! ننكر هذا الجهل ولا نشعر به، فيخيل إلينا أنا نعلم كل شيء، ويخيل إلينا أن علمنا بأنفسنا هو أشد أنواع العلوم صحة وأقربها إلى الصواب، فيقول أحدنا: إني أعرف هذا الشيء كما أعرف نفسي، ولو أنه فكر قليلا لاستيقن أن هذه المعرفة لا تغني شيئا، ولا تدل إلا على الجهل، فهو يجهل نفسه ويجهلها الجهل كله، فإذا كان حظه من العلم بالأشياء كحظه من العلم بنفسه فويل له من هذا العلم.
إلى هذه النظرية قصد الكاتب في هذه القصة، فأثبتها في وضوح وجلاء، ولكنه أثبت إلى جانبها نظرية أخرى ليست أقل منها شأنا ولا أدنى منها خطرا. أنت تجهل نفسك ولكن ما السبيل إلى أن تعلم هذه النفس؟ أتظن أنك تستطيع أن تصل إلى هذا العلم بالنقد والبحث وبالتحليل والإمعان في التحليل؟
لقد نقد من قبلك سقراط وأتباع سقراط، وأمعن الفلاسفة وعلماء الأخلاق في النقد وفي التحليل، وتأسس علم النفس وانتهى بأصحابه إلى النتائج الباهرة. ولكن النفس الإنسانية ما زالت غامضة، وما زال كل واحد منا يجهل نفسه حقا، ومهما تقرأ من فلسفة سقراط وأتباعه ومن فلسفة القدماء والمحدثين على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم فلن تعلم من أمر نفسك شيئا.
فشل إذن سقراط حين زعم أن أحسن وسيلة إلى العلم بالنفس إنما هي أن تعرف أنت نفسك بنفسك. فشل سقراط وفشل من قبله ومن بعده. فقد بحثت الإنسانية عن نفسها، وبحثت عنها كثيرا، فلم تهتد من أمرها إلى شيء. لن تعرف نفسك بنفسك، وإنما الوسيلة الصحيحة إلى أن تعرف نفسك إنما هي هذه الحوداث الجسام التي تلم بك من حيث لم تحتسب، والتي تصيبك على غير استعداد، فإذا هي قد هزت نفسك هزا عنيفا، فألقت عليها في غير اختيار ولا إرادة هذه الألوان المختلفة، وهذه الضروب المتباينة من زينة الحضارة وبهرجها، ومما كلفتك الحضارة، وما كلفك العلم، وما كلفتك نظم الحياة المختلفة من مظاهر لم تخترها، ولم تسع إليها، وإنما اضطررت إليها اضطرارا، واصطنعتها وأنت لا تعلم كيف اصطنعتها.
ما الشرف؟ وما الفضيلة؟ وما حسن المعاملة بين الناس؟ وما ضروب الأدب والتلطف؟ وما هذه العقائد الكثيرة التي قامت عليها أوضاعنا الاجتماعية؟ لم تلبس على هذا النحو دون غيره؟ ولم تأكل على هذا النحو دون غيره؟ ولم تلقى صاحبك على هذا النحو دون غيره؟ أتستطيع أن تقول إنك اخترت شيئا من ذلك أو ابتكرت؟ كلا! ولكنك رأيت الناس يسلكون في الحياة هذه الأنحاء فسلكتها معهم، ومهما تجاهد ومهما تبحث فلن تستطيع أن تتخلص منها جملة، يجب إذن أن تكلف الحوادث الجسام تخليصك منها ولو لحظة لترى نفسك كما هي ولو مرة في العمر كما يقولون.
إن الذين لم تصبهم الحوادث الجسام، ولم تنزل بهم هذه النوائب التي تخرجهم عن أطوارهم يقضون حياتهم، ولما يعرفوا من أنفسهم شيئا، اعرف نفسك ولكن لا بنفسك، بل بالتأمل حين تنزل بك الحوادث، وهذه الحوادث لن تنزل بك متى أردت، ولن تصيبك متى أحببت، وقد لا يوفقك الله إلى أن تعرف نفسك، فيكفي أن تشعر بأنك تجهل نفسك، وأن تعرف عجزك عن العلم بنفسك، وأن تتروى كثيرا قبل أن تقدم، وقبل أن تحكم، وقبل أن تعمل. ••• «سيبران» قائد من قواد الجيش الفرنسي، وهو رجل من الأشراف، محافظ، مستمسك كل الاستمساك بما ورث في طبقته من نظم الحياة وطرق التفكير، تغيرت الحياة من حوله ولم يتغير، أو لم يشعر بأنه تغير، فهو ضيق العقل، أو محدود الفكر يقرب في هذا الضيق إلى شيء من الوحشة، فقد امرأته وأراد أن يتزوج من جديد، فتخير أن يتزوج فتاة متقدمة في السن قد جاوزت الخامسة والعشرين، على أن تكون فقيرة من أسرة شريفة قد حسنت تربيتها، وفيها من الذكاء وحسن الخلق ما يضمن له شيخوخة هادئة مطمئنة، بعيدة عما يسيء إلى الشرف والكرامة، أو يدخل التنغيص والألم بين الزوجين، بحث عن هذه الفتاة فوجدها، واقترن بها، واسمها «كلاريس».
وقد عاش معها خمس سنين فأحبها حبا جما، وكلف بها كلفا لا حد له، ولكنه أحبها كما يستطيع هو أن يحب، فأخذها بما ألف من ضروب الشدة، وألوان المحافظة، وكلفها حياة قاسية خالية من كل ابتسامة، بريئة من كل لين، وهو يعتقد أنه يؤدي واجبه وأكثر من واجبه؛ لأنه قد حال بينها وبين البؤس وضمن لها حياة مطمئنة، وكان لها وفيا في صلاته الزوجية، هو مقتنع بحظه، مطمئن إلى سيرته، ولكن امرأته ليست كذلك، فهي تشعر بأن زوجها قد أحسن إليها، وبأنه قد وفى لها، وبأنه يحبها، ولكنها تشعر بأنها لا تحبه، وأن عواطفها وأهواءها لا تجد في نفس زوجها هذا الصدى الذي كانت تنتظر أن تجده، هي تعيش عيشة راضية من الجهة المادية، ولكن قلبها قد حرم كل عزاء، هي شقية ولكنها رضيت هذا الشقاء، فهي وفية لزوجها، مكبرة له، ولكنها تشعر بأنها بائسة، ويتردد على هذا البيت ضابط مختص، هو «بافايل»، كان يتيما فقد أمه، ثم مات أبوه في ثورة، وكان «سبيران» يعمل في قمع هذه الثورة، فرأت زوجه الأولى هذا اليتيم فتبنته، وقامت على تربيته مع ابنها الوحيد «جان»، وجهل هذا الفتى من أمره كل شيء حتى ماتت أمه الثانية، فعرف الصلة التي تجمع بينه وبين القائد، وكان وفيا لهذه المرأة التي كفلته، فأنكر زواج القائد من غيرها. يعرف «كلاريس» ويتحدث إليها حتى أحبها، وكلف بها، ثم شعر بأنها شقية تعسة فلم يزده ذلك إلا حبا لها، وعطفا عليها، وقد نزل على هذا البيت ضيف من أسرة القائد هو «دنسيير» ومعه زوجه «أنا»، وهذان الزوجان مؤتلفان يحب كل منهما صاحبه حبا شديدا. •••
فإذا كان الفصل الأول من القصة رأيت كلاريس جالسة إلى مكتبها وقد دخل عليها الضابط «بافايل»، وتكلف علة لهذه الزيارة حين كان يجب أن يذهب إلى مكتبه، وأخذا يتحدثان فتفهم من حديثهما كل ما قدمت لك، ولكنك لا تكاد تشعر بأن بينهما حبا، وهما يتحدثان إذ يدخل الخادم فينبئ بأن «دنسيير» قد أقبل، وهو يبحث عن زوجه «أنا»، فلا يكاد «بافايل» يسمع هذا حتى ينصرف في عجل واضطراب، فتلاحظ «كلاريس» هذا ولكنها لا تفهمه، ويدخل زوجها القائد فينبئها بأن حادثا قد حدث؛ ذلك أنه كان يمشي في الصباح مع «دنسيير»، فلما قاربا منزل «بافايل» أبصرا امرأة تخرج منه، وتبيناها فإذا هي «أنا»، وقد رأتهما فأعرضت عن الطريق، وانطلقت تعدو في الغابة، وتبعها زوجها فلم يظفر بها؛ لأنها كانت أسرع منه عدوا، ولكنه عاد ومعه أحد قفازيها، فلم يكن عنده شك في أن زوجه كانت في هذا المنزل، واستنتجا من ذلك أنها ذهبت إليه لموعد كان بينها وبين صاحبه، فإذا سمعت «كلاريس» هذا فهمت اضطراب الضابط وانصرافه في عجل، وأحسست منها شيئا من الغيرة قويا، ولكنه خفي، ثم تقبل «أنا» وينصرف القائد، فإذا سألتها «كلاريس» لم تحاول أن تخفي من أمرها شيئا، ومن الواضح أن «كلاريس» قد لقيتها في شيء من العنف، وأنكرت عليها ما تورطت فيه، فتنصرف ويعود القائد فتنبئه زوجه بأن الأمر كما كان قد افترض، وتظهر سخطها على هذا الضابط الذي كان يظهر لها مظهر الرجل التقي، والذي كانت تعطف عليه، وترثي له حينما هو منافق يستمتع بلذاته، متكتما مستترا، ثم يقبل «دنسيير»، فإذا خلا إلى صاحبه القائد، وتحدث إليه أحسست أنه يشعر بشيء من الرفق والعطف على زوجه، ويود لو عفا عنها، واستأنف معها الحياة، ولكنه لا يجد من القائد إلا سخطا واشمئزازا، بل لا يجد منه إلا ازدراء وسخرية، ينبئه القائد في لفظ عنيف بأنه إن يعف عن زوجه فقد جاوز السنة والخلق، والعادة الموروثة، وهو مضطر إلى أن يقطع الصلة بينه وبينه ضنا بكرامة امرأته أن ينالها الأذى، فيقتنع «دنسيير» لأن الكرامة والشرف والحق والواجب، كل ذلك يقضي عليه بأن يطرد الخائنة ويطلقها، وينصرف على أن يذهب إلى باريس ليكلف محاميه أمر الطلاق، وأما القائد فبعث في طلب الضابط. •••
فإذا كان الفصل الثاني رأيت هذا الضابط ينتظر قدوم القائد، فيقدم هذا ويكون بينه وبين الضابط حديث عنيف، يقسم الضابط فيه أنه لم يأت إثما، ولم يقترف منكرا، ويكذبه القائد ويلح في إهانته حتى يكاد يخرجه عن طوره، ثم يصدر إليه الأمر أن يكتب إلى الوزير كتابا يطلب فيه أن يرسل إلى إحدى المستعمرات القاصية، فيأتمر الضابط؛ لأنه يريد أن يخلص من حياته بجوار هذا القائد، يجلس ليكتب، وينصرف القائد وتدخل «كلاريس»، فتسأله في سخرية عما فعل، وعما قال، ولكن الحديث لا يكاد يتصل بينهما حتى يظهر أنه بريء، وأنه لم يقترف إثما، ولم يأت نكرا، وأن كل ما فعل هو أنه نزل عن بيته حينا من الأحيان لصديقه ابن القائد، وكان هذا الصديق قد طلب إليه ذلك ليخلو بصاحبته الخائنة، هو إذن بريء، ولكنه لم يتهم صاحبه، ولم يتهم أحدا؛ لأنه لا يرى لنفسه الحق في أن يتهم أحدا، وهو سعيد بهذه النتيجة، فسيفارق القائد، وسيخلص من حياة قاسية لا يجد فيها إلا شقاء وبلاء، فإذا سمعت «كلاريس» هذا الحديث وآمنت به ذهبت غيرتها، وعادت إليها الثقة، وأخذها شيء من الغبطة بأن هذا الضابط لم يخنها، وحاولت أن تقنع الضابط بالبقاء، وأن يبرئ نفسه أمام القائد، ولكن هذا الضابط أبى كل الإباء، ثم يريد أن يعلل إباءه فيعلن إلى صاحبته أنه يحبها، ويحبها من زمن طويل، وأنه أصبح لا يستطيع صبرا على هذا الجوار، وعلى هذا الحرمان، فلا تكاد تسمع إعلان هذا الحب حتى يملكها تأثر شديد، فترى في نفسها أنها هي أيضا تحب هذا الضابط، وأنها كانت تجهل هذا الحب أو تخفيه على نفسها، وأنها قد علمت به وأخذت تراه رأي العين في الوقت الذي لم يبق فيه بد من أن تفارق حبيبها هذا، تحس ذلك وتتحدث بشيء منه إلى الضابط، ولكنها حين تتحدث إليه بما تحس تغير في نفسه كل شيء، فقد كان يريد السفر ويرضاه؛ لأنه كان يائسا من حبها إياه، أما الآن وقد أحس هذا الحب ورآه فقد ذهب اليأس، وخلفه الأمل والرجاء، وإذن فلم يسافر؟ ولم يمحو سعادته بيده؟ لن يسافر وسيبرئ نفسه، وسيبقى وسيذوق لذة هذا الحب.
أما «كلاريس» فتجزع لذلك وتندم على أنها قد أظهرت من أمرها ما كان يجب أن يظل خفيا، وتلح عليه أن يسافر؛ لأنها لا تريد ولا تستطيع أن تؤمن لهذا الحب، ولا أن تخون زوجها، ولا أن تتورط فيما كانت تنكر على صاحبتها، وهنا موقف عنيف مؤثر بين هذين العاشقين، قد تصارحا بالحب، ولكن بينهما أمرا يحتم عليهما الفراق، بينهما عهد الزواج والحرص على الوفاء، تلح في أن يسافر فلا يستطيع لها مقاومة، فينصرف على أن يظل متهما لنفسه، وعلى ألا يراها بعد اليوم. أما هي فتستلقي وقد ناءت بها خيبة الأمل؛ ذلك أنها كانت قد اطمأنت إلى شقائها، ورضيت حظها من الحياة، أما الآن وقد أحست أن أحدا من الناس يحبها وأنها تحبه أيضا، وأنها ربما لم تخلق إلا له، وربما لم يخلق إلا لها، فقد مر الأمل بنفسها، ورأت من سلطان القضاء ما يحول بينها وبين الاستمتاع بهذا الأمل، وهي في هذا اليأس إذ تقبل «أنا» فإذا المرأتان تتحدثان على نحو جديد من الحديث، وإذا أنت لا ترى من «كلاريس» عنفا ولا قسوة، وإنما ترى منها لينا وعطفا؛ ذلك لأنها قد شاركت صاحبتها في الحب، وإن لم تشاركها في الإثم، هي مثلها فمن الحق أن تعطف عليها، ويقبل «جان» الذي اقترف الإثم، وقد علم بكل شيء، فيعلن إليهما أنه يحتمل تبعة عمله، وأنه سيبرئ صاحبه من هذه التهمة، فتجزع لذلك كلاريس؛ لأن معنى هذه البراءة أن يبقى «بافايل»، وإذا بقي فسينتصر الحب، وستتورط هي فيما تورطت فيه صاحبتها، وهي لا تريد ذلك ولا ترضاه، تحاول أن تقنع «جان» بالعدول عن هذا الأمر، فيأبى ويلح في أنه سيعلن الأمر إلى أبيه، ويقبل أبوه وتنصرف «أنا»، يأخذ القائد في قراءة الكتاب الذي سطره الضابط للوزير، ولكن ابنه ينبئه بأن يريد أن يتحدث إليه، فإذا استمع له عرف الحق، فغضب غضبا شديدا، وأنزل بابنه ضروبا من اللوم والتأنيب، ولكن ابنه ينبئه بأنه سيصلح ما أفسده، سيتزوج «أنا» بعد أن يحكم بالطلاق.
هنا تنشأ في نفس الأب عاطفة جديدة، ابنه يريد أن يتزوج من هذه المرأة التي خانت زوجها! أليس في هذا نزول عن الشرف؟ أليس فيه عدول عن السنة والكرامة؟! كلا! لن يكون هذا الزواج، ولكن ابنه يعلن إليه أنه سيكون مهما يستتبع من نتيجة، فسيخاصم أباه، وسيحتمل ما ينشأ عن هذه الخصومة؛ لأنه لن يترك صاحبته وحيدة بعد الطلاق، يطرده أبوه مغضبا، فينصرف الفتى ويبقى القائد وزوجه فيتحدثان، وترى من هذا الحديث أن القائد كان يجهل نفسه حقا، هو ساخط ممتعض، ولكن مصدر سخطه وامتعاضه إنما هو أن ابنه سيتزوج من امرأة خائنة، فيهين الشرف ويسيء إلى الكرامة، فإن هذه المرأة التي خانت زوجها الأول تستطيع أن تخون زوجها الثاني، ولعلها لم تخن زوجها الأول لأول مرة فهو يفكر في نفسه، ويفكر أن يعاقب ابنه بما كان يريد أن يعاقب به الضابط، فقد عبثت إذن عاطفة البنوة بعواطف الشرف، والمحافظة على القديم. تتحدث إليه زوجه بهذا كله، وتتبين أنه قد عدل عن رأيه، وغير منهجه ، وأنه مضطر إلى أن ينصح لقرينه بالعفو عن زوجه؛ لأنه بين اثنتين: إما أن يصلح بين الزوجين، ويرضى عن الخائنة، وإما أن يرى ابنه زوجا لهذه الخائنة، ويشعر القائد بصحة هذا، وبأنه مضطرب منقطع الحجة، فيعلن عجزه وينصرف ليعتذر إلى الضابط، فتسأله زوجه: أتطلب إليه أن يبقى؟ «سآمره بالبقاء، وبهذا أعتذر إليه حقا.» ينصرف وتبقى «كلاريس» شاعرة بأن عاشقها سيبقى، متألمة لهذا بل جزعة له؛ ذلك لأنها كانت في أول الأمر قد رأت الأمل، وطمعت فيه، ثم حال بينها وبينه الواجب، فاطمأنت إلى الحرمان والشقاء، وهي الآن ترى أن صاحبها سيبقى، وإلى أن الحرب ستكون عنيفة في نفسها بين الأمل والسعادة من جهة، وبين الواجب والوفاء من جهة أخرى. •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد اجتمع الخائنان وهما يتحدثان، وتشعر من هذا الحديث أن كلاريس قد عملت عملها، وأنها جادة في أن توفق بين الزوجين حتى لا يقع الطلاق، وحتى لا يكون هذا الزواج الجديد، وحتى يضطر الضابط إلى السفر، تشعر بهذا كله لأنك ترى «أنا» تنبئ صاحبها بأنها لا تريد أن تكون مصدر خلاف بينه وبين أبيه، وبأنها تؤثر أن يتم لها العفو من زوجها، فإذا سمع صاحبها هذا اطمأن إليه، وظهرت رغبته فيه، فتغضب «أنا»، تغضب لأنها كانت تود لو وجدت من صاحبها الذي أغواها بالإثم شيئا من الحب لها، والكلف بها، والرغبة في أن يكون زوجها حقا، فإذا هي لا تجد منه إلا اطمئنانا إلى هذا الحل الجديد، هو إذن لم يحبها وإنما أغواها، وهي إذن لم تحبه وإنما خضعت له، أو فتنت به، تغضب وتلقي إليه بهذا الغضب، فيحاول أن يدفع عن نفسه أنهما كانا متحابين، فلا يفلح إلا في إظهار أنهما كانا مخدوعين، خدعتهما الشهوة والهوى، ينصرف الفتى وتقبل «كلاريس»، فإذا علمت بما تم بينهما اطمأنت إليه، ونصحت لصاحبتها بأن تصلح من شأنها، وتستعد لأن تلقى زوجها فتستعطفه وتترضاه، وتنصرف «أنا»، ثم يقبل الضابط فرحا مبتهجا؛ لأن القائد قد طلب إليه البقاء، فسيبقى إذن، ولم يكن يستطيع إلا ذلك؛ فهو بريء، وهو يحبها وهي تحبه، وهما يستطيعان أن يسعدا، فمن الحمق أن يتكلفا الشقاء، ويسعيا إليه. أما هي فتلح عليه في السفر، ولكن في غير طائل، سيبقى إذن، فلا بد من احتماله، وهي أضعف من أن تقاوم هذا الحب، ولكنها لا تريد أن تكون خائنة، وهي إذا قبلت هذا الحب وأذعنت له فستنبئ زوجها، وستفارقه فقيرة كما دخلت بيته فقيرة، ولن تفعل شيئا من شأنه أن يزري بشرف هذا الرجل، ولكنها لا تستطيع أن تقطع في شيء من ذلك، فهي تريد أن تفكر وأن تتروى، تريد ألا تقضي إلا بعد أناة وحزم، وهي عاجزة عن ذلك إذا لم يفارقها صاحبها حينا لتستطيع أن تفكر في هدوء واطمئنان، يجب إذن أن ينقطع عنها أسابيع أو أشهرا، يأبى! ولكنها تأمره بذلك وتلح فيه، فيذعن، ولكن على أن تمنحه شيئا يمكنه من الصبر، على أن تمنحه قبلة! يلح في ذلك فترضى، وإنه ليقبلها إذ يدخل القائد، فإذا هو يصيح: ويل للشقيين! افترق العاشقان، وأقبل القائد على خصمه يريد أن يقتله، ثم بدا له فألقى سلاحه؛ لأنه أحس أن القتل ليس من اليسر والسهولة بحيث كان يظن، يطرد خصمه فينصرف.
فإذا خلا إلى زوجه أخذ يؤنبها في غيظ وحنق، ولكنها تجيبه بأنها لم تخنه، ولم تأت من الإثم إلا ما رأى، وبأنها كانت ولا زالت معتزمة ألا تستمتع بلذات الحياة إلا بعد أن تقطع الصلة بينها وبينه، وهي تنتهز هذا الفرصة لتعلن إليه أنها مفارقة إياه، وأنها ستخرج من هذا البيت كما دخلته، ولكن زوجها لا يكاد يسمع هذا حتى يأخذه الضعف، فإذا هو يتلمس من زوجه أن تعتذر، يريد أن يعفو، ويلتمس سبيلا للعفو، أما هي فلا تريد عفوا، وإنما تريد خلاصا، وهنا يقع بينهما حديث مؤلم، تذكر شقاءها وحرمانها، وأنها لا تحبه، ولا تطمئن إليه، وإنما كانت تخضع له خضوع الأسير، وهو ينكر ذلك ويسألها: فما بالك لم تنبئيني؟ ثم يبدو له فيشعر بأنه هو الملوم، فقد كان من الحق عليه ألا يكون أثرا ولا ظالما، وأن يتلمس بنفسه حاجات زوجه ولذاتها، وما ينقصها، فإذا عرفه وفاها حظها منه. يشعر بأنه قد شغل بنفسه عن زوجه، وبأن ظلمه هذا وأثرته هما مصدر الشقاء، وإذا هو مستعطف ضارع، يطلب إليها أن تبقى، وإذا الضعف قد أخذ من هذا الرجل العنيف مأخذه، فتهدج صوته، ثم انهملت عبرته، ثم هو يجثو يطلب إليها ألا تتركه وحيدا، ثم ينبئها في صدق وإخلاص أنه مغير خطته، وأنه يؤثر الموت على الوحدة، وما سيتبعها من أحاديث الناس، وإذا هو ينتظر منها كلمة ليعيش أو ليموت!
أما هي فقد رقت له، وعطفت عليه، فأشارت إليه أنها باقية، ويدخل هذا الوقت «دنسيير»، وقد عاد من باريس، ونظم أمر الطلاق فينبئها بذلك، فإذا صاحبه القائد قد تغير كل التغير! الطلاق! وماذا تصنع هذه البائسة إذا أصبحت وحيدة؟ وهل فكرت في هذا؟ فإذا ذكر له قرينه ما كان قد لقيه به من عنف وغيظ، وما كان قد نصح له به في شدة وحزم، وأنه قد تغير الآن، اعترف بأنه تغير، وبأنه في حديثهما الأول كان مندفعا وراء العاطفة، أما الآن فقد فكر وتروى، وهو أقرب إلى العفو والمغفرة منه إلى السخط والغيظ، وتنضم إليه زوجه في هذا، فما تزال بالرجل حتى تقنعه بالعفو عن زوجه، ولم يكن هذا الإقناع عسيرا؛ فقد كان الرجل يريد هذا العفو لولا ما بين له القائد، وما نصح له به. يقنعانه بالعفو، ويعمد القائد إلى هذا الكتاب الذي كتبه الضابط إلى الوزير يطلب فيه أن ينقل إلى إحدى المستعمرات، يعمد إلى هذا الكتاب فيأمر بحمله إلى البريد، ثم ينصرف «دنسيير»، ويبقى الزوجان، فيقول القائد: لو أنه عفا أمس عن زوجه بعد ما اقترفت هذا الإثم لرأيت عفوه دناءة وانحطاطا.
فتسأله زوجه: أكنت أمس خيرا منك اليوم؟ فيجيب: لم أكن أعرف نفسي حقا!
كلاريس: ومن ذا الذي يعرف نفسه؟!
أرض الجحيم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «فرانسوا دي كوريل»
لا يترجم هذا العنوان ترجمة صحيحة ، عنوان القصة التمثيلية التي أريد أن أحدثك عنها اليوم، وإنما يؤدي شيئا من معنى هذا العنوان دون أن يؤديه كله، بل دون أن يؤدي منه الشيء الكثير، والترجمة الحرفية لهذا العنوان هي: «أرض لا إنسانية»؛ أي أرض لا يعيش فيها الناس، وإنما يعيش فيها أشخاص لهم طباع وميول، وعواطف وأهواء لم يعرفها الناس، ومع ذلك فهذه الأرض التي تقع فيها القصة أرض إنسانية حقا، ويعيش فيها ناس مثلك ومثلي، يحسون ما تحس، ويشعرون بما تشعر به، ويميلون إلى ما نميل إليه، هي جزء من فرنسا، أو جزء من «اللورين» التي كانت موضع النزاع بين فرنسا وألمانيا، حتى كانت هذه الحرب الكبرى فردتها إلى وطنها الأول.
واضع هذه القصة التمثيلية هو المسيو «فرنسوا دي كوريل»، كاتب فرنسي ممتاز، ذهب الفرنسيون في إكباره وإجلاله إلى مدى بعيد حتى وصفه نفر من كبار كتابهم بالنبوغ، وقد امتاز في فن التمثيل امتيازا خاصا، فقصصه التمثيلية رسائل في الأدب، وفي الفلسفة معا، في الأدب لأنها تكتب في أروع لفظ وأجزله، وفي أبدع أسلوب وأرشقه، وفي الفلسفة لأنها تدور دائما حول عاطفة من عواطف النفس، أو بعبارة أصح: حول غريزة من غرائز الإنسانية العامة، أو بعبارة أدنى إلى الدقة وأقرب إلى الصواب حول الغريزة الإنسانية العامة التي تسيطر على حياة الناس فتسيرها، وتضع لها النظم والقوانين الطبيعية التي نسميها الفطرة، وهذا الكاتب الفيلسوف متشائم بطبعه، سيئ الظن بالناس، لا يأمل فيهم خيرا كثيرا، لا لأنه يحتقرهم أو يزدريهم، بل لأنه يفهم حقا، ويعلم أنهم عبيد الغريزة، وأن هذه الغريزة قد كانت وستظل كما هي ضعيفة واهية مهما تختلف عليها الأطوار، وتتبدل من حولها ظروف الحياة.
هو فيلسوف متشائم، يرى الأشياء كما هي، لا كما يجب أن تكون، فليس تشاؤمه ثقيل الوقع على النفس، ولا باعثا لليأس في القلوب، ولكنه ليس جذابا، ولا منشطا للأمل، لا يبعث في نفسك يأسا، ولا يحيي في قلبك رجاء، وإنما هو قانع بما كان، ويود لو حملك على أن تشاركه في هذه القناعة، ولعل أحسن جملة تختصر فلسفته هي هذه الجملة التي قالها أحد المتكلمين المسلمين: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.» ذلك على أن تكون هذه الجملة مقصورة على الحياة الإنسانية، لم يجاوزها الكاتب الفيلسوف في أدبه، ولا في فلسفته.
وقد أجمع النقاد الفرنسيون على شيئين؛ الأول: أن هذه القصة التي نحن بإزائها آية من آيات التمثيل في هذا العصر الحديث، الثاني: أن مجد هذه القصة وفوزها بإعجاب الجمهور لن يقتصرا على الملاعب الفرنسية، بل لا بد من أن يجاوزاها إلى ملاعب الأرض كلها؛ لأن هذه القصة الفرنسية في موضوعها ومكانها وزمانها ومغزاها إنسانية قبل كل شيء، صالحة لأن تقع في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل شعب.
أجمع النقاد الفرنسيون على ذلك، وذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك، فكتب مسيو «أندري ريفوار» في جريدة «الطان» يقول: «إن تاريخ التمثيل لم يعرف آية كهذه منذ «إيسكيليوس» اليوناني، أي منذ خمسة وعشرين قرنا.» فأنت ترى إلى أي حد بلغ فوز مسيو «فرانسوا دي كوريل» في هذه القصة الجديدة؟
والحق أن في هذا كله شيئا من الغلو كثيرا فالقصة جيدة، بل فوق الجيدة كما سترى، ولكن مسيو «فرانسوا دي كوريل» رجل موفق، حسن الحظ مع الناقدين، فكل ما يكتبه جيد، وكل قصصه آيات، ولقد شهدنا بعض قصصه تمثل في ملاعب باريس، فلم تحدث في أنفسنا هذا الأثر الذي يصفه النقاد، ولم تهز قلوبنا هذه الهزات العنيفة التي يتحدث النقاد عنها، ولكننا انصرفنا نتهم حسنا وشعورنا، وحكمنا على الجيد والرديء، ونقول في أنفسنا ما كان هؤلاء النقاد ليجمعوا على خطأ أو تدليس، ولكننا رأينا كثيرا من أوساط الناس في فرنسا لم يتأثروا بهذه القصص. وإنما شهدوها دهشين، وخرجوا من الملعب حائرين؛ ذلك لأن مسيو «فرانسوا دي كوريل» في قصصه التمثيلية يدرس العاطفة والشعور والغريزة، ويحللها تحليلا دقيقا، ولكنه لا يتحدث بهذا التحليل إلى العاطفة أو الشعور، وإنما يتحدث إلى العقل وإلى العقل وحده، فقصصه رسائل فلسفية، تحسن فهمها، والاستفادة منها إذا قرأتها في دعة وهدوء، ولكنك لا تتأثر بها إذا شاهدتها في الملعب؛ لأن هذا الملعب وما فيه من جمهور، وما فيه من حركة الممثلين ولعبهم يشغلك عن دقائقه الفلسفية، فتخرج ولم تفهم أو لم تكد تفهم شيئا.
الأمر على غير ذلك في هذه القصة التي نحن بإزائها، فنحن لم نشهد هذه القصة وإنما قرأناها، ونلاحظ أننا لم نتأثر بقراءتها تأثرا يلائم ما قيل عنها، ولكننا لا نشك في أن الذين شهدوا هذه القصة قد دهشوا؛ لأنهم رأوا كاتبا جديدا يتحدث إليهم حديثا جديدا، فيملك قلوبهم، وأهواءهم، ويجعلهم وقفا على حركات الممثلين، وما يجري بينهم من حوار.
ولسنا نشك في أن المزية الأولى لهذه القصة إنما هو الموقف الذي استطاع الكاتب أن يخلقه، فيقف عاطفتين من أشد العواطف الإنسانية سيطرة على الحياة، واستئثارا بالنفوس، يقف إحداهما بإزاء الأخرى، وهاتان العاطفتان هما: الحب، والخوف، ولكنك لن تستطيع أن تفهم ذلك حق الفهم إلا إذا لخصنا لك القصة في ألفاظ قليلة.
يجب أن تلاحظ أن الكاتب من بلاد «اللورين»، وأنه قد ألهم هذه القصة لحادثة معينة، وهي أن أحد الطيارين الفرنسيين، ولعله «فدرين»، قد نزل أثناء الحرب في أرض له في «اللورين» وراء الخطوط الألمانية، فاتخذ الكاتب من هذه الحادثة موضوع قصته، وهو سهل.
في إحدى قرى «اللورين»، وعلى مسافة من القرية يقوم منزل تسكنه امرأتان، إحداهما «بولين باريزو»، والأخرى أختها «أنا»، فأما «بولين» فهي أرملة، ولكن لها ابنا ترك «اللورين»، وذهب إلى فرنسا، فاسترد جنسيته الفرنسية، ونبغ في المحاماة والأدب، فلما أعلنت الحرب أدى خدمته العسكرية على أحسن ما يؤديها الوطني المخلص، وكان قبل الحرب ضعيفا يخاف ويكره منظر الدم، وبينما أمه وخالته ذات يوم تتحدثان إذ أقبل ممثل السلطة الألمانية ومعه إحدى الأميرات الألمانيات من أسرة الإمبراطور، يريد أن ينزلها ضيفا على هذه الأرملة، وكانت هذه الأميرة «فكتوريا» زوج أحد القواد المرابطين في «اللورين»، فأقبلت تزور زوجها على غير إذن منه، وضربت له موعدا في هذا البيت.
تلقت الأرملة ضيفتها كارهة، وبينما كانت هذه الضيفة تنظر في صور فوتوغرافية على المائدة في غرفة الاستقبال رأت صورة أعجبتها، فأخذت تمعن فيها النظر، وحدثتها «بولين» بأن هذه الصورة هي صورة ابنها الفرنسي، وقصت عليها أمره مفصلا، ثم تنصرف الأميرة إلى غرفتها وتتبعها «بولين»، ويأتي ابنها «بول»، وكان قد وصل إلى «اللورين» في صباح ذلك اليوم على سيارة فرنسية أنزلته، وانصرفت تنتظره في مكان غير الذي أنزلته فيه، وكان قد جاء للتجسس ليشتري من أحد الجنود الألمان أوراقا تهم قيادة الجيش الفرنسي، فلما أنزلته الطيارة رأى أن أحد الفلاحين قد رآه أو قد رأى الطيارة فقتله، واتخذ ثيابه، وظل يحرث مكانه بقية النهار، ثم أطلق خيل المحراث، وأقبل يقضي الليل عند أمه، حتى إذا كان الصباح لقي صاحبه الألماني، فأخذ الأوراق وذهب إلى حيث تنتظره الطيارة، فعاد إلى فرنسا.
قص هذا كله على أمه، وأنبأته أمه بمكان الأميرة الألمانية، فذعر وأشفق أن تدل عليه هذه الأميرة، وحاول أن يخلص فلم يوفق، ففكر في أن يمضي الليل عند أمه، وأن يخدع الأميرة حتى ينجو منها أو يقتلها، وهنا تبدأ قيمة القصة، فإن هذه الأميرة إن رأته ودلت عليه قتل وقتلت أمه، فإن لم تستطع أن تدل عليه، ولن يكون ذلك إلا إذا قتلها، ونجا بنفسه فأمه مقتولة من غير شك، وإنهما ليتحدثان في ذلك إذ أقبلت الأميرة فدخلت، وأصبح القضاء محتوما، فإما أن يقتل هو وتضيع مهمته العسكرية، وإما أن يقتل الأميرة فينجو وينفذ ما جاء له، ويقدم أمه ضحية للوطن، وكان قد انتزع الصورة الفوتوغرافية التي رأتها الأميرة وأخفاها، فلما جاءت الأميرة تقدم إليها كأنه أحد أقارب هذه الأرملة، ثم تسمى لها باسم ألماني منتحل، وأنبأها بأنه قد جرح في الحرب مرتين فأعفي من الخدمة، لم تصدق الأميرة شيئا من هذا، وأخذت تنظر في الصور تلتمس الصورة التي رأتها أولا فلم تجدها، فلم تشك في أنها أمام «بول» الفرنسي ابن الأرملة، وفي أن واجبها الوطني يلزمها أن تدل عليه، فذهبت إلى غرفتها تفكر في ذلك ، ولقيت في طريقها خالة «بول» فسألتها: أمسرورة هي بمقدم هذا الشاب، وذكرت الاسم المنتحل؟ فلم تحر المرأة جوابا؛ لأنها لم تكن تعرف هذا الاسم، ولم تشك الأميرة منذ ذلك الوقت فيما يجب عليها أن تعمل، فأخذت تسأل متى يمر ساعي البريد؟ فأنبئت بأن ساعي البريد لا يمر منذ ابتدأت الحرب، فسألت: أليس يمكن أن تستأجر من يحمل رسالة إلى القرية، فأنبئت بأن هذا عسير في الليل، ولم يشك «بول» في أن الأميرة تريد أن تدل عليه، فأمسى لا يتردد في قتلها، واعتزم أن يذهب إليها بعد العشاء، فيعرض عليها الخروج معه إلى الغابة للنزهة، فإذا خرجا قتلها هناك حتى لا يقع دمها على أمه. •••
يذهب «بول» في الفصل الثاني إلى الأميرة في غرفتها فيتحدثان حديثا لذيذا مخيفا؛ لأن كلا منهما يخاف صاحبه، ويحاول أن يكتم هذا الخوف، ولأن كلا منهما يضمر الغدر بصاحبه، ولكنه يحاول ألا يظهر من نيته شيئا، فيدور الحديث في هذه الصورة الغريبة التي ظاهرها الأمن، وباطنها الخوف والغدر، ويدعو «بول» صاحبته إلى أن تخرج معه إلى الغابة فتأبى، ثم تطلب هي أن تخرج وحدها فيأبى عليها صاحبها، يريد أن يقودها إلى حيث يقتلها فتأبى عليه، وتريد أن تخرج لتدل عليه، فيمنعها من الخروج، وإنهما لفي ذلك إذ يسمعان أصواتا تقبل إلى البيت، فتسأل «بولين» عن خبل الفلاح الذي قتل وتنبئها بمقتله، وتسمع الأميرة هذا فتستقين أن «بول» هو قاتل الفلاح، ومرتدي ثيابه، وكانت قد رأت الثياب في غرفة الاستقبال، فيبلغ الخوف منها أقصاه، وتأبى أن تخرج، ثم تشم رائحة ثياب تحترق، فتسأل فينبئها «بول» بأن أمه تحرق ثياب الفلاح الذي قتله صباح اليوم، وإذن فقد صرح الشر بينهما، وعرف كل منهما دخيلة صاحبه، ولم يبق إلا أن يعمل كل منهما ما يستطيع لينقذ حياته ووطنه معا.
ولكن الحب قد تدخل في الأمر فعقده، وجعل له خطرا فوق كل خطر، وجعل هذا الموقف فوق ما ألف الناس، ذلك أن الأميرة بينما كانت في هذا الحوار مع «بول » دخلت عليها الأرملة تحمل إليها كتابا، فلما قرأت الكتاب ملأها السخط والغيظ وخيبة الأمل؛ لأن زوجها قد كتب إليها يأمرها أن تعود أدراجها، وينبئها بأنها لن تراه، وبأن سيارة ستأتي صباح الغد فتنقلها إلى حيث تأخذ القطار، فتعود إلى قصر آبائها.
كانت هذه الأميرة جميلة رشيقة، قوية المزاج، حادة الحس، متأثرة في حياتها بالعواطف، وسلطان الخيال كغيرها من نساء ألمانيا، وكانت تعلل نفسها حين أقبلت إلى «اللورين» بليلة لذيذة حلوة مع زوجها القائد، فلما حيل بينها وبين ذلك كان وقع هذا اليأس في نفسها عظيما سيئا، وكان أمامها هذا الجندي الفرنسي، وكان جميلا قويا يحيي الرغبة في نفوس النساء، وكانت تخافه وتشتهيه، وكان يخافها ويشتهيها، وكان الحديث بينهما منذ التقيا حديث خوف وغدر، وحب واستدراج، فلما صرح الشر بينهما، وظهر كل منهما لصاحبه مظهره الحقيقي ظهر سلطان الغريزة، فأجلت وقوع الخطب، وكانت هذه الغريزة معقدة، ولكنها قوية مسيطرة، كانت غريزة الشهوة، وغريزة الاحتفاظ بالنفس، فانظر إلى هذا الحوار الذي ينتهي به الفصل الثاني:
فكتوريا :
لقد حاولت مرات ثلاثا أن تخرجني من البيت! فمرة كنت تريد أن تسمعني ثغاء الغزال، وأخرى أن تزور معي كنيسة قديمة في ضوء القمر، ثم الرجل الكريم الذي يريد أن يرافقني إلى القرية، وكل ذلك حتى لا يقع دمي على رأس تحبه وتكرمه!
بول :
أي قدرة على الخيال!
فكتوريا :
ولو أني تبعتك لما حييت بعدها!
بول :
إذا كنت تخشين صحبتي إلى هذا الحد فاذهبي وحدك.
فكتوريا (مذعورة) :
ستتبعني! ومن ذا الذي يشفق علي؟ ليست أمك التي أشعر بعدائها! وقد سافرت خالتك، ولعلها إنما سافرت لأنكما خفتما ميلها إلي! فلم يبق لي إلا أنت، ثم تلقي بنفسها بين ذراعيه! آه إني خائفة!
بول (مبتسما دون أن تراه لأنها بين ذراعيه) :
وأنا أيضا خائف!
فكتوريا (مطمئنة شيئا ما) :
مني؟!
بول :
منك!
فكتوريا :
أتوسل إليك ألا تخاف! فلست أريد إلا الخير، لست شريرة! لقد أعجبتني حين رأيتك لأول مرة! ألم تلاحظ ذلك؟
بول :
بلى! ولهذا أجرؤ على أن أقبلك ! إن من الإثم أن أستغل أزمة هذا الخوف! فلست أريد غصبا! وفي الحق أن الحب هو الذي ...
فكتوريا :
وأنا أيضا! وأنا أيضا! ليتك تستطيع أن ترى ما في قلبي!
بول :
لا ينبغي أن ينظر المرء في أعماق فؤاد من يحب! فحسبه الحب! (ثم يطوقها بذراعه في حنان بينما يسدل الستار.)
فقد رأيت كيف اصطلح الذعر والشهوة، ويأس هذه المرأة التي أخلفها زوجها على تعقيد موقف هذين العدوين تعقيدا بلغ أقصاه، ثم انتهى إلى انتصار الغريزة، لا نقول الإنسانية بل الحيوانية، فوقع هذان العدوان أحدهما بين ذراعي صاحبه، وتأجل الشر حينا حتى تبلغ الغريزة ما تريد، ولكن تشاؤم الكاتب وقسوته لم يبلغا هذا الحد المنكر، ولم يصلا بالإنسان من الدناءة إلى حيث تحكمه الغريزة الحيوانية وحدها، بل جعل للعواطف الراقية سبيلا على هذا الإنسان، فقد ذاق العدوان لذة الحب، تمازجها مرارة العداء، ولكن العواطف الإنسانية عملت عملها، فلم يجرؤ «بول» على أن يقتل صاحبته بعد أن هدأت ثورته؛ لأنه كان يراها يقظة من الخوف، وكان يرى عينها محدقة يملؤها الفزع، فكانت الشفقة تغل يده، ومع ذلك فقد كان أخفى مسدسه تحت الوسادة ينتظر أن تنام، وأن تغمض عينيها، ولكنها لم تنم وظلت عيناها محدقتين، ولم تجرؤ هي على أن تقتل عدوها؛ لأنها كانت تحس لذة الحب، بل لعلها ترددت في الدلالة على هذا العدو، ومهما يكن من شيء فقد قضيا الليل في حب وذعر وعداء.
فلما كان الصباح نزل «بول» فلقي أمه، فانظر إلى ما كان بينهما من الحوار:
بول (مشيرا إلى الطبقة العليا من البيت) :
لقد بقيت هناك!
بولين :
كان يجب أن تقودها إلى حيث أردت! فقد قادتك إلى السرير!
بول :
هل من سبيل إلى أن يقتل الرجل امرأة يشتهيها حين تتعلق بعنقه وهي تئن: «إني خائفة! آه! إني خائفة!»
بولين :
نعم! لا يستطيع أن يقتلها، وإنما يداعبها وينسى واجبه العسكري!
بول :
لم أنس واجبي! لقد أخفيت المسدس تحت الوسادة حين اضطجعت، وكنت أقول في نفسي، «ستنام وستغمض عينيها الضارعتين فأقتلها»، ولكن عينيها لم تغمضا! وكنت أراهما في ضوء القمر محدقتين في.
بولين :
لعلها هي أيضا كانت تنتظر أن تغمض عينيك لتأخذ ما أخفيته تحت الوسادة.
بول :
ربما! إن القلب واليد لا يتفقان دائما.
بولين :
تقول إنها ستذهب هذا الصباح!
بول :
نعم! في سيارة الساعة الحادية عشرة.
بولين :
نحن في الساعة التاسعة، يجب إذن أن تموت في ساعتين.
بول :
سأودعك مضطرا بعد نصف ساعة.
بولين :
إذن فلك نصف ساعة تتخذ فيه قرارا.
بول :
يجب إذن ألا تموت! فأنا واثق بأنها لن تؤذيك إذا مضيت. (فتنبئه أمه بأنها لا تخاف على نفسها، وإنما تخاف عليه هو أو على صاحبه الألماني إذا لم تقتل هذه الأميرة.)
ثم تأتي الأميرة، وتحاول بولين أن تقنعها بألا تدل على ابنها، ثم تهددها بأنها ستنبئ زوجها القائد بما كان بينها وبين ابنها من خيانة له، فتزدري الأميرة هذا التهديد، ويأباه «بول»؛ لأنه غير شريف، وتخرج بولين ويبقى العدوان وجها لوجه، فانظر إلى ما يقع بينهما من حديث:
فكتوريا :
إنها واجدة عليك لأنك لما تقتلني!
بول :
بل لأني فعلت أكثر من هذا فأسرعت إلى معونتك.
فكتوريا :
إني إنا أيضا خاضعة لهذا الشعور المخالف للمنطق، فكيف السبيل إلى الخلاص منه؟ كيف نهرب من هذه الوحشية التي يضطر إليها قلبانا الحبيبان بحكم وطنينا العدوين؟
بول :
نعم! إن قلبينا لصديقان، ولكن لننظر على أي نحو! لم أكد أصل أمس حتى عرفتني، فلو أني هربت لدللت على أمي فقتلت، ولم تكن لنا وسيلة إلى النجاة إلا في أن أستدرجك إلى حيث أقتلك بعيدا من البيت، فكنت مضطرا إذن إلى أن أعجبك.
فكتوريا (في نشاط) :
لقد وفقت.
بول :
ولكني وقعت في الشرك الذي نصبته؛ لأنك أعجبتني أيضا، ومع ذلك فلم يمنعني إعجابي بك أن أنتهز الفرصة للتخلص منك، ولا سيما وأنك قد كنت طلعة حين بدأت الحديث.
فكتوريا :
كان شخصك يبعثني على الاستطلاع، وكنت حريصة على خيانتك، وقد أظهرت ذلك أكثر مما كان يجب حين سألتك عن عملك العسكري.
بول :
لقد عنيت العناية كلها بألا أجيب.
فكتوريا :
لقد كنت أقسمت على أن أحملك على الكلام.
بول :
لقد كنت أقسمت على أن أقودك إلى نزهة، فلو أنك تبعتني لكانت جثتك الآن مخبأة في ناحية من نواحي الغابة.
فكتوريا :
لقد كدت أتبعك، ولكن الفلاحين الذي كانوا يبحثون عن فرس «كلودو» نجوني، ولما عرضت عليك أن أمتحنك بالذهاب إلى القرية وحدي كنت أريد أن أدل عليك.
بول :
لو أنك نمت هذه الليلة لما استيقظت.
فكتوريا :
رأيتك تخبئ شيئا تحت الوسادة، ولو أنك استسلمت للنوم لما كان هناك جاسوس.
بول :
كان الجاسوس حذرا؛ لأن الرهبة والرغبة كانتا تضطرانه إلى الحذر.
فكتوريا :
لقد كنت أنا أيضا شديدة الرغبة فيك، ولكني كنت خائفة!
بول :
لقد كانت تعبث بنا أمواج الحب والبغض، وما لاطف أحدنا صاحبه ملاطفة إلا كان وراءها ميل إلى الشر، ولكن قد أقبلت الساعة التي تصبح فيها الشهوة والرغبة والملاطفة جرائم، وسيقضي عليك الواجب بعد لحظات أن تدلي على الضابط الذي سيأتي ليقودك، ولأجل أن أحول بينك وبين ذلك يقضي علي الواجب أن أقتلك، أنت الآن في قبضة يدي! وإذن! (ثم يخرج المسدس، ويصوبه إليها) .
فكتوريا (جزعة) :
لا! لا! رحمة، لك مني الوعد!
أقسم بالشرف لا أخونك!
بول (وقد خفض سلاحه) :
لعلي أسيء، ولكن وعدك ...
فكتوريا (تضطرب ذعرا) :
ثق بهذا الوعد.
بول (وقد ألقى سلاحه على المائدة) :
أنت مدينة لي بالحياة! فليس لك الحق في محاربتي ...
فكتوريا :
لقد فقدت هذا الحق منذ أول قبلة، وسأحمل في نفسي ذكر الليلة الوحيدة التي أحسست فيها لذة الحب القوي.
ثم يستمر الحديث بينهما على هذا النحو، وقد أمن كل منهما إلى صاحبه، فينبئها بول بأنه قد أفلح غير مرة في التجسس على ألمانيا، ويقص عليها زيارة زارها متجسسا في بلجيكا، فتقول:
فكتوريا :
لم تقص علي ذلك؟ لقد كنت أتمنى لك عودا سعيد، وها أنت ذا تحيي في نفسي الندم! كم ألحقت بوطني من الشر! وكم تلحق به من الشر أيضا!
بول :
وما لدغة البعوضة في جلد الفيل؟
ثم تخرج الأميرة، وتأتي «بولين»، فيشتد العتاب بينها وبين ابنها؛ لأنه آثر عليها هذه المرأة، وأنها لفي ذلك إذ يأتي الجندي الألماني الذي يشارك بول في التجسس، فينبئها بأنه رأى في النافذة امرأة أمرته بالألمانية أن يذهب إلى القرية فيعلن إلى السلطة فيها أن في هذا البيت جاسوسا.
وإذن فقد حنثت الأميرة في القسم، وأخلفت الوعد، فحل دمها، ولكن بول يتردد مع ذلك في قتلها، ولا يطمئن إليه إلا على كره منه، وتخرج أمه لتدعو الأميرة، فيسمع الرجلان طلق المسدس، وتعود المرأة فتعلن إليهما أنها قد قتلت الأميرة، وأنها تعلم ما ينتظرها من موت، ولا تطلب إلا شيئا واحدا، وهو أن تستخرج من حفرتها إذا عاد الفرنسيون إلى «لورين» فتدفن في قبر، ويكتب عليه: «ماتت لأجل فرنسا.»
هذه هي القصة، ولعل ما نقلناه لك من أحاديثها يغني عن الشرح والتفسير.
الدمية الجديدة
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «فرنسوا دي كوريل»
لست أدري أحدثك عن قصة من قصص التمثيل أم عن رسالة من رسائل الفلسفة، ولعلي أحدثك عنهما جميعا، فإن القصة التي بين يدي الآن تمثيلية عرفت أكبر ملاعب باريس، وهي في الوقت نفسه فلسفية، تناولت بالبحث والتحليل مسألة من أكبر المسائل التي تشغل الضمير الإنساني وتعذبه، سواء أكان ضميرا فرديا أم اجتماعيا، وليس في ذلك شيء من العجب؛ فإن صاحب القصة هو ذلك الذي حدثتك عنه في القصة الماضية؛ هو «فرنسوا دي كوريل» الكاتب الفرنسي.
وضع هذه القصة سنة 1895، ولكنه لم يقدمها إلى الملعب؛ لأنه أشفق أن تكون من الدقة والتعمق في البحث الفلسفي بحيث تسبق عقل الجمهور، فاكتفى بنشرها في «مجلة باريس»، ولم تكد تنشر هذه القصة حتى أعجب بها الناس، وحتى نالت لدى القراء والنقاد فوزا لا بأس به، ثم مضت الأعوام فلما كانت سنة 1899 تحدث الكاتب مع زعيم من زعماء التمثيل في عرض هذه القصة على الجمهور فأصلحها الكاتب، وغير منها، وأضاف إليها، ثم مثلت فكان الفوز عظيما، وأجمع النقاد أو كادوا يجمعون على أن هذه القصة آية من آيات التمثيل تؤرخ العصر الذي وضعت فيه، وتدل على أن هذا الفن سينتقل من طور إلى طور، فيختم القرن الماضي في طوره القديم، ويبتدئ هذا القرن في طوره الحديث. ولم ينكر تفوق هذه القصة إلا ناقد واحد هو «سارسي»، ومع ذلك فقد اعترف بأنها قيمة مؤثرة، ولكنه زعم أنها خليقة بالقراءة لا بالتمثيل، ويقول «فرنسوا دي كوريل»: إن هذا الحكم لم يصدر عن إنصاف، وإنما صدر عن الهوى.
وضعت هذه القصة منذ أكثر من ربع قرن، ومع ذلك فلم ينسها الناس، ولم تعرض عنها ملاعب التمثيل، بل ما زالت تمثل وتمثل في أكبر ملاعب باريس في «الكوميدي فرنسيز»، ولعل إعجاب الناس بها، وفهمهم إياها في هذه الأيام أشد وأصدق منهما يوم مثلث لأول مرة، فقد ارتقى الجمهور في هذه السنين الأخيرة ارتقاء عقليا ظاهرا، يمكنه من الوصول إلى دقائق هذه القصة وأمثالها، ومهما يكن من شيء، فإن إعجابي بالجمهور الذي يفهم هذه القصة، ويكلف بها أشد من إعجابي بالكاتب الذي وضعها، ونظم فصولها، وأحسب أن هذه القصة لو مثلت في مصر لما استمع لها من الناس إلى نفر قليل، وقليل جدا، ولهذا ترددت قبل أن أختار هذه القصة موضوعا للحديث؛ ذلك أن الجد فيها أكثر من الهزل، بل ليس فيها من الهزل شيء، وليس أمر الحب فيها ذا خطر، وإذا شئت فقل إنه ذو خطر جليل، ولكنه حب علماء يخلو من هذه الرقة، ومن هذه الدعابة التي تستخفك وتستهويك، فأنا أعرفك وأعرف أنك لا تطلب إلى الصحف السيارة دروسا علمية أو أحاديث فلسفية جافة، وإنما تطلب ذلك إلى الكتب والمجلات والأساتذة، فأما كتاب الصحف فأنت تريدهم على أن يسلوك ويلهوك في أوقات الفراغ، في القهوة، أو في الترام. وفي الحق أن هذه القصة لا تسلي ولا تلهي، بل لا تكاد تحرك عواطف القلب، وإنما هي تهز العقل الإنساني هزا عنيفا، وتحيي الشك حينا ما، وحسبك أنها تقرب بين الذكاء والإيمان، أو بين العلم والدين.
قلت إن الحب في هذه القصة حب علماء، ولست أغير هذا القول، ولا أعدل عنه، فسنرى أن الأشخاص الممتازين في هذه القصة أربعة: رجلان، وامرأتان، فأما الرجلان، فعالمان من أكبر العلماء يتعمق أحدهما في الطب، والآخر في علم النفس، وأما المرأتان، فإحداهما ليست عالمة ولكنها كالعالمة؛ لأنها تستطيع أن تفهم هذين العالمين، وتناقشهما، وتلزمهما الحجة، والأخرى ليست عالمة ولا شبيهة بالعالمة، ولكنها أبعد عن الحب ولذاته ودعابته من العلماء والفلاسفة؛ لأنها تستعد لتكون راهبة، وهي تستعد لذلك بقلب ملؤه الدين والإخلاص.
فأنت ترى أن أحاديث الحب لا يمكن أن تكون عذبة، ولا مثيرة لتلك العواطف الخفية بين ناس كهؤلاء الناس، وإنما هي أحاديث أرقى من هذا كله وأدق، ثم إن هؤلاء الأشخاص الذين لا أشك في أنك ستحبهم، وتكلف بهم، وتعطف على بعضهم، هؤلاء الأشخاص ليسوا عاديين، ماذا أقول: إني لأتساءل: أيمكن أن يوجد في حياتنا الواقعة أشخاص كهؤلاء يتحدثون كما يتحدث هؤلاء الناس، ويعملون كما يعمل هؤلاء الناس، وأكاد أعتقد أن الكاتب لم يحاول تصوير ما هو كائن في الأرض، وإنما استنزل المثل الأعلى من السماء فصوره تصويرا متقنا، ثم عرضه على الناس ليهيج شوقهم إليه، ورغبتهم فيه، ولعله حاول مع هذا أن يحل هذه المشكلة العويصة، مشكلة الجهاد العنيف المتصل بين عقل الرجل الكبير وشعوره.
فهل وفق إلى هذا الحل؟ أعتقد أنا أنه لم يحل المسألة، ولعل هذه المسألة لا تحل، وحسب الكاتب مجدا، وحسبه من الفوز العلمي أنه قد استطاع أن يظهر لك بطريقة لا تحتمل شكا ولا ريبا أن أشد الناس نبوغا في العلم، وتفوقا في حل معضلاته، وأشدهم مضيا في الإلحاد، وإنكار الإله والدين خاضع كما يخضع أشد الناس جهلا، وأكثرهم إغراقا في الغفلة والذهول لهذه العواطف التي تحمل على الخوف والإشفاق، والرحمة والحنان، والأمل في المستقبل، والطمع في حياة أخرى بعد الموت، بل في جزاء للأعمال التي نأتيها في هذه الحياة، خاضع لهذه العواطف التي ينشئها الدين في نفوسنا، فهو مجتمع شيئين متناقضين: عقل ملحد كل الإلحاد، وقلب مؤمن كل الإيمان .
نعم وفق الكاتب إلى عرض هذه المسألة وإيضاحها، وسواء علينا أوفق إلى حلها أم لم يوفق، فذلك شيء في نفسه ليس بذي خطر، وإنما الأمر كل الأمر أن نعرف أن أشد الناس ذكاء وأكثرهم إلحادا مؤمن سواء أراد أم لم يرد؛ مؤمن لأنه إنسان ليس غير، ثم قد يكون إيمانه واضحا، وقد يكون غامضا، وقد يكون موضوع هذا الإيمان جليا، وقد يكون خفيا، ولكنه مؤمن على كل حال، يحتاج حين يغلب قلبه على عقله إلى أن يلجأ إلى قوة قاهرة يستمد منها الغوث والمعونة، فلننظر بعد هذه المقدمة إلى القصة.
قلت إن أشخاص هذه القصة ليسوا عاديين، والحق أنهم جميعا ممتازون، فأولهم: «ألبير دونا» طبيب قد نبغ في فنه، وأصبح موضع إعجاب قومه، بل موضع إعجاب العالم كله، تفاخر به فرنسا كما تفاخر بنابغتها «باستور». والثاني: «لويز» امرأة هذا الطبيب، بارعة الجمال، شديدة الذكاء، رقيقة القلب، حادة العاطفة. والثالث: «موريس كورميه» نابغة في علم النفس، يعمل فيه عملا لا يعرف الملل، يستخدم التجربة، ويصل إلى نتائج عظمية القيمة، ويحاول أن يجعل علم النفس علما حقا، ينتج كما تنتج العلوم الأخرى التي تم تكوينها. والرابع: «أنطوانيت ميلا» فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، فقيرة معدمة، يتيمة، جميلة جدا، شديد التأثير في نفس من يراها، ولكنها مريضة، قد ألح عليها السل، فجزم الأطباء بأنها ميتة، وهي تستعد لحياة الراهبة. •••
فإذا ابتدأت القصة رأينا «لويز» جالسة في لبسة المتفضل، مرسلة الشعر تكتب، فتدخل عليها أختها «جان» التي لم نسمها؛ لأن أثرها في القصة قليل، تنبئ «جان» أختها «لويز» بنبأ عظيم، بخطب جلل يوشك أن يدك حولها كل شيء، وهو أن زوجها الطبيب متهم، يراد أن يقبض عليه، وأن الناس جميعا يتحدثون بذلك، فإذا سألت «لويز» عما يتهم به زوجها، فإن التهمة شنيعة، ولكنها تشرف المتهم، تشرفه أمام العقل وأمام العلم، وتجعله مجرما أمام القانون وأمام الضمير، وإذن فقد خلق الموقف العسير الذي تدور عليه القصة، موقف التناقض بين العقل والعلم من جهة، وبين القانون والضمير من جهة أخرى، ذلك أن «ألبير دونا» الطبيب قد اتخذ المرضى موضوعا لتجربة مهلكة، فهو يبحث عن مصل يداوي به السرطان، وقد اضطره هذا البحث إلى أن يلقح «بميكروب» السرطان بعض المرضى، فنجحت التجربة، وأصيب هؤلاء المرضى بهذه العلة المهلكة، فالتجربة في نفسها خير، بل هي واجب علمي، بل هي واجب خلقي إنساني؛ لأنها وإن ضحت بطائفة من الناس فستضمن البر والعافية للناس جميعا، فهي من هذه الجهة خير، ولكنها قتل، فهي جريمة ينكرها الضمير والخلق والدين، ويعاقب عليها القانون، هذا هو الموقف أو هي العقدة كما يقول الممثلون، وليس لهذه العقدة حل إلا أن تتطور الإنسانية، فينتصر العقل انتصارا مطلقا يخضع لسلطانه القوانين، والأخلاق، والعرف، والأديان، أو ينتصر الضمير انتصارا مطلقا يمحو العقل ويزيل آثاره.
ولكننا الآن في شغل عن هذه المسألة التي ستدرس فيما بعد؛ ذلك أن هذا الحديث بين الأختين قد أظهر أن «لويز» لا تحب زوجها، أو أنها شقية كل الشقاء مع هذا الزوج؛ لأنها كانت تحبه الحب كله، فلم تظفر منه بما يرضي قلبها وعواطفها؛ لأن هذا العالم شغل بعلمه وبحثه، وبره بالمرضى والضعفاء عن امرأته، وعما يحتاج إليه قلبها وعواطفها وحبها، فعاشا معا عيشة أليمة، لا يشعر الناس بما فيها من ألم، بل لا يشعر الزوج نفسه بما فيها من ألم، وإنما تألم هذه الزوجة المسكينة وتتعذب دون أن يشعر بها أحد، أو يعطف عليها إنسان، وهي منذ عشر سنين في هذه الحياة المرة، تجل زوجها وتكرمه؛ لأنه نابغة، ولأنه خير، ولكنها تشقى بجواره؛ لأنها لا تجد عنده ما تريد، وهي تضطرب بين شرين؛ أحدهما: الوفاء لهذا الزوج المعرض اللاهي، وما يستتبعه هذا الوفاء من ألم وضنك. الثاني: الحرية والاستمتاع بلذات الحياة، وإرضاء قلبها وعواطفها، وميلها القوي إلى السعادة، وما يستتبعه هذا كله من الخيانة والغدر، ومخالفة الضمير، والخلق، والدين.
موقف آخر عسير كالموقف الأول، كانت «لويز» تحاول أن تجد منه مخلصا، لا سيما وأن هنالك شخصا ثالثا يحبها، ويكلف بها، ويظهر لها هذا الحب والكلف، وهي تميل إليه، ولا تجد غضاضة في مجالسته، والتحدث إليه، وهذا الشخص هو «موريس كورميه» النابغة في علم النفس، والصديق الوفي لزوجها، كانت إذن تنتهز الفرصة للتخلص من هذا الموقف، فقد سنحت الفرصة، أصبح زوجها مجرما وهي لا تحبه، وإذن فستفارقه، وتسترد حريتها، وتشاطر صاحبها لذات الحياة، وإنها لتتحدث في هذا كله إلى أختها إذ تدخل الخادمة، فتنبئ بأن فتاة أقبلت تريد أن تلقى الطبيب؛ لأنها منه على موعد، فيؤذن لهذه الفتاة في الدخول؛ لأن «لويز» تفترض أن هذه الفتاة ضحية من ضحايا زوجها، فتريد أن تتبين منها الأمر. تدخل هذه الفتاة وهي «أنطوانيت»، فتقص على الأختين ما ذكرنا لك من أمرها، وتنبئهما بأنها قد شفيت أو كادت لحسن علاج الطبيب، وأنها أقبلت تستشيره بعد أن كتبت إليه، فأذن لها في ذلك، ويأتي الطبيب فتنبئه أخت امرأته بما علمت من أمره، وتطلب إليه أن يحتاط، وأن يخفي أوراقه قبل أن تأتي الشرطة للتفتيش، وكانا يتحدثان في ناحية، فتعلم من حديثهما أمرين؛ الأول: أن هذه الفتاة ضحية من ضحايا الطبيب؛ لأنه واثق بأنها ستموت، وإذن فقد اتخذها موضوعا للتجربة. الثاني: أنه سيخفي أوراقه عند صديق أمين هو «موريس كورميه» الذي علمت من أمره مع لويز ما علمت، ثم تخرج «جان»، ويعنى الطبيب بهذه المريضة، فيسألها عن أمرها، وتجيبه بأن صحتها جيدة، وأنها تحس كأنها تخلق خلقا جديدا، ولكن دملا قد ظهر في جسمها لا يريد أن يشفى، ولا أن يفتح، ولهذا أقبلت تعرضه على الطبيب، وقد علمت طبعا أن هذا الدمل هو السرطان، يفحص الطبيب صدر المريضة فكلما تقدم في الفحص اشتد خوفه وذعره واضطرابه؛ ذلك لأنه يلاحظ أن هذه الفتاة قد برئت من مرض السل، وإذن فهو قاتلها؛ لأنها ستموت بالسرطان.
الطبيب واله جزع، ولكنه يتجلد، ويسأل الفتاة في عنف عما اتخذت من دواء، فتجيبه بأنها لم تتخذ إلا دواءه هو، وأنها قد اتخذت شيئا آخر تخشى أن تذكره، فيغضب الطبيب، شربت ماء «لورد» - وهي قرية فيها ينبوع ظهر في القرن الماضي فقدسه الناس، وزعموا أن العذراء هي التي أخرجته، إلى آخر ما هو معروف من أمره.
إذن فلم يبق شك عند الطبيب في أنه قاتل، وفي أنه يستحق عقاب القاتل؛ ذلك لأنه كان يعتقد أن تجاربه ليست شرا، فهو لا يجربها إلا في أشخاص لا يشك في أنهم ميتون، وإذن فهو لم يكن يجني على الإنسانية، بل لم يكن يجني على المرضى أنفسهم، أما الآن وقد برئت هذه الفتاة من السل، فالأمر غير ذلك، قد جنى على الإنسانية فأفقدها بعض أفرادها، وجنى على هذه الفتاة فأفقدها الحياة، وإذن فهو قاتل.
تتفق «لويز» مع هذه الفتاة على أن تقيم عندها لتعالج في البيت، ثم تخرج الفتاة، ويقف الزوجان وجها لوجه، فانظر كيف يبتدئ بينهما الحديث:
لويز :
إنك لقاتل!
ألبير (في بطء) :
نعم إني قاتل!
لويز :
لا أعرف جريمة أدنأ من هذه! فتاة بائسة ليس لها عائل، وليس لها من يدفع عنها!
ألبير :
لقد كانت ميتة! ولقد حاولت كل شيء في إنقاذها، ولقد وصلت من الفناء إلى حد أيأسني من شفائها، وأقسم لو أن طبيبا أقبل فتنبأ لنا بأن صحتها قد تتحسن لوصفناه بالحمق! لقد كنت أجرب في جثة هامدة، فلم أزدها ألما ولا حزنا، ولقد لقحتها ميكروب السرطان، وهي في إغماء، فلم تشعر بشيء ...
أرى أني مجرم، ولكني أرى ذلك لأول مرة، لقد كنت مطمئنا الاطمئنان كله، إن الذين شهدوا مثلي احتضار كثيرين ثم فكروا لا يستطيعون أن يؤمنوا بحياة أخرى، نعم! إذا رأيت الكائن العاقل يفقد قليلا عقله وبهجته وشعوره، وكل ما يكون الشخص الإنساني حتى لا يبقى منه على سرير الألم إلا شيء تعس، ذاهل، يصيح، إذا رأيت هذا شعرت بأنك إنما تشهدين كائنا ينحل انحلالا مؤلما، لا شخصا يبتدئ سفرا مجيدا، وإذن فنحن الذين يعلمون أن ليس بعد الموت حياة أخرى نجل الحياة ونقدسها أكثر مما يجلها ويقدسها مؤمن متعصب، ونعتقد أن أشد الجرائم إنما هو أن نضيع ولو مخطئين على الحي دقيقة من حياته التي ينتظرها الفناء، ولن تستطيعي أن تتصوري ما كنت أتخذ من حيطة حتى لا تقصر تجاربي أجل المريض ولو ثانية واحدة.
ثم يدور الحديث بينهما على هذا النحو شديدا قاسيا مؤلما، حتى تبلغ «لويز» من لومها أن تنكر عليه ثقته بعلمه، وترى أنه كان من الحق عليه ألا يجزم بأن مريضا سيموت؛ فقد تشفيه معجزة، وهنا ينكر الطبيب المعجزات، ويشتد الجدال بينه وبين زوجه في ذلك، حتى تخرج لويز عن طورها، فتقول له: ومهما تضرع إلى العلم هذا المعبود االجديد الذي يظلم العالم إن تقبل ضحيتك الدموية، فإن هذا العلم نفسه يظهر كراهية بشعة لهذه الضحية، حياة واحدة تملك تقديمها إلى العلم؛ هي حياتك!
فيدفع الطبيب عن نفسه بأنه كثيرا ما عرض حياته للخطر في مكافحة الأمراض المهلكة، ويذكرها مرضا أصابه، وأشرف به على الموت، وأنها قد عنيت به في هذا المرض عناية ملؤها الإخلاص؟ وينتقل بهما هذا الحديث إلى ما بينهما من صلة، فيذكر الطبيب أن امرأته لا تحبه، ويحدثها بذلك، فيكون بينهما حوار مؤلم، تذكر «لويز» أنها كانت تحبه، ولكنه كان يزدريها، ويذكر هو أنه كان يثق بها، ويعتمد عليها، ويعتز بعطفها في جهاده العلمي، تذكر له أنها فقدت حبها إياه، ولكنها كانت تجله إلى اليوم، فيسألها عن رأيها فيه منذ اليوم، فتجيبه أنها أصبحت تخافه؛ لأنه كان ينكر على المؤمنين المتعصبين ازدراءهم حياة الناس في سبيل الإيمان والعقيدة، حينما هو يزدري حياة الناس في سبيل علمه دون أن يضمن لهؤلاء الناس ما يضمنه لهم المؤمنون من حياة أخرى فيها الأمل والرجاء، وفيها السعادة والنعيم. ويستمر بينهما الحديث حتى يعرض الطبيب على امرأته أن تسترد حريتها، فتقبل ذلك مترددة، وهنا تظهر عاطفة جديدة في نفس هذه المرأة التي تكره زوجها وتخافه، تظهر عاطفة الخير والرحمة، ولكنها ليست واضحة. تحس هذه المرأة في أعماق نفسها شيئا غامضا يأمرها ألا تترك هذا الزوج الذي ينصرف عنه الناس جميعا، ويتركونه يعاني وحده سخط الجماعة، ووخز الضمير، وإنهما لفي ذلك إذ يدخل «موريس كورميه» فينصرف الطبيب ليحضر الأوراق التي يريد أن يخفيها عند صاحبه، وينتهز الصديق هذه الفرصة القصيرة ليتحدث إلى صاحبته في الحب، ولكن هذه الفرصة لا تطول فيعود الطبيب، ويكلف صاحبه أن يعنى بما يدفع إليه من الأوراق، وهنا ينتهي الفصل الأول وقد عرض فيه موقف الأشخاص جميعا أحسن عرض، وفصل أدق تفصيل. فأما الطبيب فهو يرى نفسه مجرما أمام ضميره بعد أن استيقن شفاء «أنطوانيت» من السل، وهو جزع لهذا؛ جزع لأن امرأته تكرهه وتخافه، وهذه المرأة ترى زوجها مجرما وقد كانت تكرهه وتخافه، ولكنها بدأت تعطف عليه دون أن تتبين ذلك من نفسها، فأما «موريس كورميه» فهو يجل الطبيب ويكبره، وهو مع ذلك يحب زوجه ويدور حولها. •••
فإذا كان الفصل الثاني ازدادت هذه المواقف وضوحا، تذهب «لويز» إلى معمل «موريس كورميه»، فيريد هذا أن يتحدث إليها في الحب، ولكنها تنبئه بأنها تحبه غير أنها جاءت تلجأ إلى العالم لا إلى الصديق، جاءت تلتمس عنده شفاء نفسها المضطربة، أليس نابغة في علم النفس؟ إذن فليشفها، إنها مترددة بين الحرية التي هي حقها وبين العطف على زوجها، هذا العطف الذي هو واجبها، لقد لجأت إلى الصلاة فلم تنفعها، فليشفها العلم إن لم يشفها الدين، ولكن العلم عاجز عن شفائها؛ لأنه لم يتقدم بعد، وما زال ناشئا، وهو لا يعالج إلا المرضى، و«لويز» ليست مريضة الجسم، وإنها لفي ذلك مع صاحبها إذ يقبل الطبيب فتستخفي حيث تسمع، وترى دون أن يراها أحد، لذيذ جدا هذا الحوار القوي العنيف الممتع الذي يدور بين هذين العالمين، لذيذ يستحق أن يترجم كله، ولكني مضطر إلى ألا أترجم لك منه شيئا إشفاقا من الإطالة التي بلغت حد الإملال.
في هذا الحوار يظهر الجهاد بين العقل والقلب، بين العلم والدين، بين الذكاء والعاطفة، وقد انتصرت العاطفة على الذكاء، وقد انتصر القلب على العقل، وقد ظفر الدين بالعلم، فإذا الطبيب مؤمن بقوة لا يتبينها، وإذا ضميره مقتنع بأنه مجرم، ولكن هذا الانتصار ليس باهرا ؛ لأنه نتيجة الضعف والاضطراب. يتحدث الطبيب إلى صاحبه، فما أسرع ما ينتهي بهما الحديث إلى وجود قوة قاهرة تسمو إليها الإنسانية كلها، فيعترف الطبيب بهذه القوة، وينكرها النابغة في علم النفس، ويشتد بينهما الجدال، فبينما يستدل الطبيب بمظاهر الطبيعة المختلفة، وميل الفطرة الإنسانية والعقل الإنساني إلى الخلود والإيمان بالخلود، يجيبه صاحبه بأن هذا كله أثر من آثار الضعف، ونتيجة من نتائج الاضطراب الذي هز قواه منذ أمس؛ ذلك لأن أشد الناس قوة، وأمضاهم بصيرة، وأكثرهم إلحادا إذا دهمته الداهمات، وألمت به الملمات، وأعوزه النصير من أبناء جنسه إلى قوة خفية يخلقها له الضعف، ويستحدثها له الوهم، ويصورها له حرصه على الأمل، وجزعه من اليأس، فما أسرع ما يعترف الطبيب بأن هذا حق، ولكن هذا الاعتراف لا يحوله عن يقينه، فهو يؤمن بأن هناك قوة وإن شئت فقل حقيقة عليا عامة تشمل حقائق الحياة كلها، هي الصور المجملة المفصلة لكل ما هو كائن، يؤمن بذلك، وبأن الميل الطبعي للإنسان إنما هو السمو إلى هذه الحقيقة العليا، يسمو إليها بقلبه تارة، فيؤمن دون بحث ولا تفكير، ويسمو إليها بعقله تارة أخرى، فيؤمن بعد البحث والتفكير، يصل إليها الطبيب بواسطة طبه، ويصل إليها الطبعي بواسطة بحثه الطبعي، ويصل إليها كل عالم بواسطة العلم الذي يشتغل به.
ولكن العلماء يقصرون بحثهم وهمهم على ما بين أيديهم من حقائق الحياة الدنيا، ولا بد لهم من أوقات الشدة والمحنة لينتقلوا من حقائق هذه الحياة إلى الحقيقة العليا التي ينتهي إليها كل شيء. ثم يصل بهما الحديث إلى ذكر امرأة مريضة كانت موضوع التجربة في علم النفس في هذا المكان، فقدت هذه المرأة ابنا لها كانت تحبه، فخيل إليها أنها قاتلة ابنها، وضاقت عليها لذلك سبل الحياة، فأقبلت إلى صاحبنا العالم النفسي تلتمس لديه الشفاء، ووجد هذا العالم وصاحبه الطبيب وسيلة إلى شفائها، وهي أن أنامها العالم ووضع أمامها تمثالا يشبهها، وأعطاها سكينا، وأنبأها بأن شخصيتها مضاعفة تتألف من امرأتين مختلفتين؛ إحداهما: أم تحب ابنها، والأخرى امرأة غادرة قتلت هذا الابن، ثم قال لها العالم: دونك هذه القاتلة، انتهزي نومها فاقتليها انتقاما لابنك، ففعلت، وكان ذلك شفاء لها.
قال «موريس» لصاحبه الطبيب: إن وجهك الآن يذكرني وجه هذه المرأة، فلك صورتها ونظراتها، قال الطبيب: لم تخطئ لأني قتلت اليوم رجلا، وأنبأه بأنه في صباح هذا اليوم لقح بمرض السرطان رجلا قويا صحيح البنية، ليس بالمريض، ولا المتعرض للموت، وذلك لتكون تجاربه العلمية أصح وأصدق إنتاجا، ثم دفع إليه ورقة فيها ذكر هذه التجربة، ونتائجها الأولى، وأنبأه بأنه سيدفع إليه في كل يوم نتائج تجاربه، وهنا اضطرب العالم النفسي، ولم يتردد في اتهام الطبيب بالإجرام، فدفع الطبيب عن نفسه بأن هذا الرجل الذي قدم نفسه ضحية للعلم حر في أن يحيا أو يموت، وأنه قد اختار الموت لا مكرها، ولا مخدوعا، ولا مضللا، وإنما اختار الموت رغبة في العلم من جهة، وفي الخير من جهة أخرى، أراد أن يستفيد العلم، وأن يستفيد الناس بعد ذلك، ثم انصرف الطبيب، وقد قال ذلك بصوت يملؤه البكاء.
فتخرج «لويز» من مخبئها مضطربة واجمة، قد أخذها شيء يشبه شوق الصوفية، فيحب «موريس» أن يتحدث إليها، ولكنها تأبى، وتعلن إليه أن زوجها لم يقتل إلا نفسه، وأن هذا الرجل الذي ضحى بنفسه للعلم والخير إنما هو «ألبير»، وأن قربه من الموت هو الذي حبب إليه ذكر الخلود والحياة الآخرة، وأنه جاء يلتمس معونة صاحبه وعزاءه فلم يجد إلا جفاء العلم وقسوته، دعني ألحق بزوجي! ثم تتركه، ويلقى الستار.
فهذا الفصل الثاني قد أوضح هذين الشخصين إيضاحا كاملا، فتم في نفس الطبيب انتصار ضميره على عقله، وتم الاتفاق بين علمه ودينه، فهو مقتنع بأنه يجب أن يقتص من نفسه لهذه الفتاة البريئة التي قتلها، وهو يقتص من نفسه فيلقح نفسه مرض السرطان، ويحقق بهذا التلقيح شيئين: الانتقام، وتجربته العلمية، فسيصبح منذ هذا اليوم موضوعا لهذه التجربة، وسيموت بعد أشهر، وقد أرضى علمه، فعرف نتيجة بحثه، وأرضى ضميره فانتقم لتلك الفتاة البريئة.
وأما زوجه فكانت مترددة بين الحرية، والعطف على زوجها؛ لأنها كانت تجهل هذا الزوج، فلما سمعت له، وعرفت ما فعل بنفسه استقر رأيها، وتم أمرها على أن تؤثر الواجب على الحق، فنسيت حبها «لموريس»، ونسيت حريتها، ولم تفكر إلا في زوجها الشهيد، فلحقت به تواسيه وتعزيه. •••
فإذا كان الفصل الثالث تم التفهم والاتفاق بين هذين الزوجين، فأنبأت «لويز» زوجها بأنها تحبه؛ لأنها سمعت ما قال عند «موريس»، وأن حبها إياه لا يعرف حدا، فهي مستعدة لأن تتلقى مرض السرطان، مستعدة لأن تتلقى شرا من هذا المرض، لا تريد من ذلك إلا أن تشعر بأن زوجها يحبها.
وقد نسينا الفتاة البريئة التي نجت من السل فوقعت في السرطان، تقدم هذه الفتاة فتنبئ الطبيب في لطف ورفق بأنها تعلم ما أصابها، وأنها سعيدة به، وأنها لا تأسف على شيء؛ لأنها كانت قد وهبت نفسها للخير، كانت تريد أن تعطي حياتها قليلا قليلا للبائسين، فستعطي حياتها للبائسين دفعة واحدة لا أقساطا، فهي لم تخسر شيئا، ولعلها ربحت شيئا كثيرا، وهي سعيدة بالموت؛ لأنه سلمها إلى السماء.
وتنتهي القصة وهؤلاء الأبطال الثلاثة قد وصل كل واحد منهم إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه البطل، فأما الطبيب فقدم نفسه ضحية للعلم، والضمير، والعدل راضيا مختارا، وأما الفتاة فقدمت نفسها ضحية للإنسانية راضية مذعنة لحكم القضاء، وكل ما بينها وبين الطبيب من الفرق هو أنها تثق بعدل الله في الحياة الآخرة، وأن الطبيب يحاول أن يثق بهذا العدل، أو إن شئت فقل: يؤمن قلبه بهذا العدل، ويضطرب عقله في ذلك. وأما «لويز» فقد نسيت حريتها، وميولها، وأهواءها، وعواطفها، وحبها، وقدمت نفسها ضحية للواجب، وللواجب وحده، تتمنى أن يكون نصيبها كنصيب زوجها، وكنصيب هذه الفتاة البائسة، تتمنى لو تموت في سبيل الحب، وفي سبيل الواجب.
فأنت ترى إلى هؤلاء الأشخاص كيف أحسن الكاتب تصويرهم، وكيف بلغ بكل واحد منهم إلى أقصى مداه، ولكنك تستطيع أن تسأل عن «موريس»، هذا النابغة في علم النفس ما قيمته، وما خطره في القصة ؟ ليس له قيمة ولا خطر، وإنما هو وسيلة اتخذها الكاتب ليظهر أبطاله، فلولا «موريس» لما تكلمت «لويز»، ولما تكلم زوجها الطبيب، فهو إذن اختراع تمثيلي لا أكثر ولا أقل.
ولقد كنت أحب أن أظهرك بعد هذا التحليل الموجز على ما في القصة من جمال اللفظ، وحسن الأسلوب، ودقة الحوار، ولكن أين السبيل إلى ذلك والقصة مكتوبة بالفرنسية، وإظهار هذا الجمال كله يحتاج إلى ترجمة دقيقة طويلة، يضيق عنها وقتك ووقتي، وصحيفة السياسة.
نشوة الحكيم
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «فرانسوا دي كوريل»
حدثتك مرة عن الكاتب الفرنسي «فرنسوا دي كوريل»، وعن قصصه التمثيلية، ولعلك تذكر أنا رأينا لهذا الكاتب ميزتين؛ الأولى: أنه ممثل فيلسوف، فالجهاد الذي تشتمل عليه قصصه التمثيلية لا يقع بين أشخاص، بل لا يقع بين آراء عادية قد ألفها الناس، وإنما يقع عادة بين آراء فلسفية يمثلها أشخاص القصة تمثيلا صحيحا. الثانية: ميزة فنية خالصة، تذكرنا بكبار الشعراء الممثلين من اليونان، و«بايسكيلوس» منهم بنوع خاص، وتذكرنا أيضا بقواعد الفن في عصره اليوناني العظيم، وهي أن الكاتب لا يكاد يبدأ الفصل الأول من قصته حتى يعرض عليك موضوع هذه القصة، ويبين لك العقدة التي يجب أن يمضي جهاد الأشخاص والحوادث في حلها، فلعلك تذكر «أرض الجحيم»، وإنك لا تكاد تفرغ من الفصل الأول حتى ترى الجهاد قائما عنيفا بين هذه الخواطر الكثيرة المختلفة: بين الحب والواجب، بين الخوف والرغبة، إلى آخر ما تحدثت به إليك حين حللت هذه القصة. «فرنسوا دي كوريل» إذن ممثل حقا، وفيلسوف حقا، ولكن فلسفته - كما قلنا غير مرة - ليست فرحة ولا مبتهجة، وليست تقطر بشرا وسرورا، كما أنها ليست عابسة ولا محزونة، وليست تقطر أسى ويأسا، وإنما هي وسط بين الابتهاج وبين اليأس، وهي إلى الحزن أقرب منها إلى السرور، وإن شئت فقل إنها فلسفة تأخذ الناس على أنهم ناس، فلا ترفع قدرهم إلى حيث لا ينبغي، ولا تحطه إلى حيث لا ينبغي، وإنما تعرف للناس مكانتهم، وتقدر لهم حظهم من الخير والشر ، ونصيبهم من الفضيلة والنقيصة، ولا تحمد ولا تلوم، أو لا تسرف في الحمد واللوم، وإنما تسجل الأشياء كما هي، وتريد أن ترضى عنها كما هي. هذه فلسفة «فرنسوا دي كوريل»، تجدها واضحة جلية في أكثر قصصه التمثيلية، ولكني أريد أن أحدثك عن قصة لهذا الكاتب مثلت في بيت «موليير» آخر السنة الماضية وهي «نشوة الحكيم»، أريد أن أحدثك عن هذه القصة، ولكني لا أدري كيف أحدثك عنها، وقد كان يخيل إلي أني قصرت وحدي عن فهمها، وقدرها، والحكم فيها، ولكني لم أكد أقرأ آراء النقاد الفرنسيين حتى رأيت أن الله لم يختصني بهذا القصور، وأن أكثر النقاد إن لم أقل جميع النقاد قد وقفوا من هذه القصة موقف الدهش الحائر الذي لا يدري ماذا أراد الكاتب أن يمثل، وماذا أراد الكاتب أن يعرض على الناس، رأى كل ناقد في القصة رأيا يخالف آراء النقاد الآخرين، ولم توفق القصة من الفوز إلى ما وفقت إليه القصص الأخرى، ولكنها لم تفشل، فما زالت، فما زالت تمثل الآن في «بيت موليير»، ولكن النقاد يختلفون في تأويل هذا الفوز القليل الذي نالته القصة، فيلقى بعضهم تبعته على الممثلين، وربما ألقى بعضهم تبعته على الجمهور، ومصدر هذا أن الكاتب لم يحدد موضوع القصة، ولم يبين الغرض الذي يسعى إليه، بيانا واضحا، ولم يحاول أثناء القصة أن يجلو هذا الغرض، أو يحدد هذا الموضوع، وأكبر ظني أنه لم يرد إلا أن يتحدث إلى الجمهور حديثا لذيذا ممتعا، مفيدا مضحكا من حين إلى حين، دون أن يكون قد قصد إلى خلق جهاد قوي عنيف بين فكرتين فلسفيتين، أو بين مؤثرين من هذه المؤثرات المختلفة التي تدبر الحياة، وإن زعم لنا ناشر القصة أن المؤلف سيضع لها مقدمة تفسيرية تبين أغراضها وموضوعها بيانا مريحا، فلنسجل منذ الآن أن هذه القصة قد اختلف النقاد في فهمها، وذهبوا في تأويلها المذاهب، ورضي عنها الجمهور، ولكنه لم يعجب بها إعجابا لا حد له، وأعلن المؤلف أن من أراد أن يتبين غرضها وموضوعها فلينظر المقدمة التي سيضيفها إليها يوم يقوم بنشرها مضافة إلى قصصه المختلفة، وليس هذا كله مما يحمل على الاعتقاد أن هذه القصة قد كانت آية من آيات الفن، أو أثرا خالدا من آثار هذا الكاتب العظيم.
على أني أتعجل فأثبت أنك لا تكاد تقرأ فصلا من هذه القصة حتى يتنازعك شيئان مختلفان؛ أحدهما: الإعجاب الشديد بجودة اللفظ، وبهذه الثروة الضخمة التي امتاز بها هذا الكاتب من الآراء الخصبة المغنية المغذية التي تجدها في كل حوار، بل في كل جزء من حوار، والآخر: هذه الحيرة التي تحملك على أن تسأل نفسك: ماذا يريد، وإلى أين يريد؟ فليس الجهاد قائما بين رأيين، وإنما هو قائم بين آراء، وليس هذا الجهاد عنيفا، ولا حادا بحيث يحملك على أن تتوقع الشر، وتستعد لهذه الهزات القوية التي تستأثر بك أمام كل جهاد عنيف، وليس هو من الفتور واللين بحيث يحملك على أن تستسلم للممثلين، وتستعد للضحك واللذة، هو بين بين، يحملك على أن تضحك، ويخيفك من أن تبكي، وهذه ميزة يجب أن تقدر، ميزة ترفع القصة عن الفتور، وإن لم تصل بها إلى الحدة والعنف اللذين يميزان كبار القصص التمثيلية. «بول سوترو» رجل غني، ضخم الثروة، له أرض واسعة، ومعامل كثيرة يعمل فيها كثيرون، تكاد تبلغ ثروته المليارات، وهو قد نشأ فقيرا معدما، فتعلم من الفقر الصبر، واحتمال المكروه، وتعلم من الفقر أيضا كيف يقدر الغنى، ويحسن القيام عليه، وتعلم من الفقر والغنى معا كيف ينظر إلى الأشياء كما هي فلا يزدريها، ولا يغلو فيها؛ فهو فيلسوف، قد بلغ الستين من عمره، ولكن حياته المنظمة التي لم يفسدها إفراط ولا تفريط قد حفظت له صحة موفورة، وقوة لا بأس بها، بلغ الستين ولكنه شاب، وله ابنة أخت فقدت أبويها طفلة، واضطر هو إلى أن يكفلها، فأنشأها فقيرة، أو خيل إليها أنها فقيرة، وأخفى عليها ثروته وغناه، وأخذها بما يأخذ به الفقراء أبناءهم من ضروب الشدة والقصد في غير تقتير ولا حرمان، وأخذ يطوف بها في أقطار فرنسا أثناء الإجازات المدرسية فلا ينزلها إلا في الفنادق المتوسطة، ولا يظهر لها قليلا أو كثيرا من الثروة التي لا تكاد تعدلها ثروة في فرنسا، فلما بلغت طور الفتاة، وأتمت تعليمها الثانوي أرسلها إلى باريس لتدرس في الجامعة، وأرسل معها مربية ترشدها، وتقوم منها مقام الأم، هذه الفتاة تسمى «هرتانس».
اختلفت «هرتانس» إلى السربون، واختلفت بنوع خاص إلى دروس أستاذ في الفلسفة قد بعد صيته، وكلف به الناس كلفا شديدا، فازدحمت غرفة درسه بالرجال والنساء وبالفتيان والفتيات على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، ولا سيما في هذه السنة؛ لأن موضوع الدرس كان غريبا، وكان من شأنه أن يشوق الناس جميعا، ولا سيما النساء، كان موضوع الدرس في هذه السنة! «لم نحب؟» واسم هذا الأستاذ الذي بلغ هذه المنزلة من بعد الصيت وهو بعد شاب لم يكتهل «روجيه برميلان».
اختلفت «هرتانس» إلى درس الأستاذ فكلفت بالدرس، وشغفت بالأستاذ، وحملها هذا الشغف وذلك الكلف على أن تلخص دروس الأستاذ، وتبعث بطائفة من هذه الدروس الملخصة إلى الأستاذ ليرى فيها رأيه، فأعجب الأستاذ بالتلخيص، وكتب إلى الفتاة يحدثها بإعجابه، ويحثها على المضي في العمل، ويطلب إليها أن تعرض عليه عملها من حين إلى حين، فكانت زيارات ومطالعات ومحاورات، ثم كان الحب ينمو ويبسط سلطانه أثناء هذا كله على نفس الفتاة حتى تملك نفسها في يوم من الأيام أن تنبئ أستاذها بما يملأ قلبها من حب وكلف به، فلم يتقبل الأستاذ هذا قبولا حسنا، بل أظهر لها شيئا من الجفاء أهانها وآلمها، فانصرفت مكلومة، ولكنها أزمعت أن تملك قلب الأستاذ، وإذ كان الأستاذ فيلسوفا، فليس من سبيل إلى امتلاكه إلا بالفلسفة وإذن فقد أخذت فتاتنا تضع كتابا في الفلسفة موضوعه: «الحب وأثره في الحياة»، ثم كانت الإجازة، ودعاها خالها إلى أن تلحق به في بيته، وكان بيته هذا قصرا فخما في غابة واسعة بعيدة الأرجاء، كان قصرا يلائم ثروته الضخمة، فدهشت الفتاة حين رأت هذا كله، وأنبأها خالها بما كان قد أخفى عليها، وأعلن إليها أنها ستنوب عنه منذ اليوم في تدبير ثروته الزراعية، وأنه سيفرغ لتدبير ثروته الصناعية، وعرف خالها ما كان بينها وبين الأستاذ؛ فدهش لأن هذا الأستاذ صديقه، ولأن هذا الأستاذ سيصل إلى القصر في اليوم نفسه، واعتزم أن ينظر في هذا الأمر، وإنهم لفي ذلك إذ أقبل جار ينازع خالها في حدود أرضيهما، وهذا الجار شاب قوي، جميل المنظر، حسن الخلق، منطلق المحيا، يعجب النساء، ويترك في نفوسهن آثارا حسانا، فكلف الخال ابنة أخته أن تناقش هذا الجار فيما بينهما من خلاف، وتركهما منفردين، وكان بين الفتاة والفتى حوار عادي، ولكنه يدل على أن هناك ميلا ممكنا قد يخلق بين هذين الفتيين صلة ما.
وكان الأستاذ قد وصل وتحدث إلى صديقه، وعرف منه هذا الصديق أنه يحب فتاة كانت تختلف إلى درسه، ولكن أسبابا مالية وفلسفية منعته أن يتقبل هذا الحب حين أعلنته الفتاة إليه، فسأله صديقه عما يصنع لو كانت هذه الفتاة غنية، فأنبأه بأنه يتردد في الاقتران بها؛ لأنه يخشى على فلسفته الفقر، ثم يخشى على فلسفته الغنى، يخشى الفقر الذي يحول بينه وبين التفكير، ويخشى الغنى الذي يشغله بتدبير الثروة عن مشاهدة الفلسفة، ثم يتركه صاحبه في هذا التردد، ويدخل الأستاذ على الفتاة والجار وهما يتحدثان، وهو لا يعلم مكانهما، فيدهشه أن يجد هنا تلميذته وحبيبته، ثم لا يلبث أن يعرف ثروتها، وأنها وارثة خالها، ثم يكون بينهما حوار في الحب والفلسفة، والثروة والغنى، وما يمكن أن يحدث الزواج في الفلسفة من أثر حسن أو سيئ. •••
فإذا كان الفصل الثاني كانت الخطبة قد تمت بين الأستاذ وتلميذته الغنية الفيلسوفة، ولكن الجار قد كلف بالفتاة، ويظهر أن الفتاة لم تنصرف عن الجار، فأخذ هذا الجار واسمه «البارون هوبير دي بيوليه» يتكلف العلل والمعاذير ليتردد على القصر، وأخذت الفتاة تستقبله استقبالا حسنا، وتسمع لما يقول في شغف وإعجاب، وكان هذا الفتى على جمال خلقه، وقوة جسمه، رجل عمل يكره التفكير الخالص والنظر العقيم، ويريد أن يكون كل شيء منتجا إنتاجا عمليا، وألا يتكلم الإنسان ولا يتحرك إلا كانت لكلامه وحركاته آثار عملية ملموسة نافعة.
كان يحب الفتاة، وكان رجل عمل بالمعنى الصحيح، وكان الأستاذ يحب الفتاة، وكان رجل تفكير بالمعنى الصحيح، وكانت الفتاة تحب الرجلين، أو يخيل إليها أنها تحب الفيلسوف لفلسفته وذكائه، وتميل إلى رجل العمل لعمله وحسن خلقه، ولكن الفيلسوف كان بفلسفته وتفكيره في شغل عن الفتاة وجمالها وقلبها وعواطفها، كان يحبها حبا فلسفيا، كان يحب عقلها أو كان يحب نفسه في هذا العقل؛ لأنه كان يرى الفتاة متأثرة بفلسفته، وكان يراها ذكيه، فكان يحب فيها ذكاءها، وكان يحب فيها صورته الفلسفية، كان إذن مشغولا بالفلسفة عن الحب، ولم يكن رجل العمل مشغولا بعمله عن الحب، وإنما كان يحب لأنه رجل عمل، وكان الحب عنده عملا من الأعمال، وكانت الفتاة مضطربة بين هذين الرجلين، فلم يكن بد من أن يجتمعا بمحضر منها، وأن يتحاورا في الحب، يجتمعان ويتحاوران، ويحل الحوار المشكلة أمام الفتاة.
يسأل رجل العمل: لم تحب؟ فيجيب: لنلد، يسخر الفيلسوف من ذلك، فيشتد بينه وبين رجل العمل حوار ينهزم فيه الفيلسوف؛ لأنه يكبر فلسفته أن يناقش فيها من لا علم له بها، ويخلو «هوبير» بالفتاة، فيتحاوران ويتحدث كل منهما بحياته إلى الآخر، فيظهر بينهما شيء هو الحب، ولكن الفتاة لا تريد أن تسميه هذا الاسم، ولا تريد أن تفكر فيه؛ لأنها مخطوبة، ولأنها قد وعدت بالوفاء لأستاذها الفيلسوف، تنكر حبها لهذا الشاب، ولكن هذا الحب يملؤها، ويتسلط عليها، فإذا أخذ الأستاذ يتحدث إليها في الفلسفة بعد حين انصرفت عنه، قائلة في سخرية: دعني فإني أريد أن أجني بعض الأزهار. يظل الأستاذ متصلا بفلسفته وحبه الفلسفي، ويعمل في نفس الفتاة رجل العمل وصورته، وبلاؤه في الصيد، وحياته المنتجة المملوءة، وصحته القوية المعجبة، فلا تكاد تنام الليل، أما رجل العمل فلا يذوق طعم النوم.
فإذا كان الفصل الثالث ظهر ظهورا جليا سأم الفتاة، وانصرافها عن الحب الفلسفي؛ لأنها تشعر بعواطفها وميولها وشهواتها، وترى أن الفلسفة والذكاء الخالص لا يرضيان هذه العواطف، ولا هذه الميول، ولا هذه الشهوات، وهي في الوقت نفسه شريفة وفية، لا تريد أن تغدر، ولا أن تنكث، فتحاول أن تستصبي عاشقها الفيلسوف، وتذكره أن الحب يستطيع أن يعيش على الأرض كما يستطيع أن يعيش في السماء، وبأن العقل وحده ليس مصدر الحياة ولا غايتها، وبأن في الجسم وجماله مدعاة للذة والصبا. تحاول ذلك فتتكلف ما يصبي، وتلقي بنفسها عارية في فسقية في الحديقة أمام الأستاذ يراها وتتجاهل أنه يراها، فلا تكاد تفعل ذلك ولا يكاد الأستاذ يرى منها ذلك حتى ينصرف وجهه إلى كتاب في يده، ويولي مدبرا. فاقدر أنت ما يحدث هذا الانصراف في نفس الفتاة من ألم وأسف ويأس، ولكنها تخرج من الماء، فتشعر بأن عينا مختبئة تلحظها من كثب، فيملكها الحياء، وتعدو إلى القصر حيث تجد مربيتها، فتتحدث إليها بما فعلت، وما حاولت، وما رأت، وتتحدث إليها بأنها تخشى أن يكون رجل العمل هو الذي كان يلحظها من كثب، وهما كذلك إذ يقبل رجل العمل، فلا تشك في أنه كان يلحظها فتوسعه لوما، وتأنيبا، وتظهر الحوادث أن الرجل قد كان بريئا مما اتهم به، وأن الذي كان يلحظها إنما هي امرأة تعمل في أرض خالها، ولكن الحب بينها وبين الشاب يقوى وينمو، ويشتد سلطانه، وإن حاولت الفتاة أن تخلص من هذا السلطان.
يحس خالها ذلك فيحاول أن يلفت الأستاذ الفيلسوف، وأن يستنزله من سماء الفلسفة إلى أرض الحب، فينزل ولكن قليلا ينزل، ولكن ريثما أن الحب والفلسفة شيئان لا يتفقان، فلا يلبث أن يصعد إلى السماء، ولا يلبث أن يضحي بعواطفه وأهواء نفسه وحبه في سبيل الفلسفة، فيخطب الفتاة لهذا الشاب، وتقبل الفتاة، ويقبل الشاب، ويرضى الخال، ويسافر الأستاذ.
هذه القصة لخصتها تلخيصا شديد الإيجاز مخلا بكثير من معانيها، مضيعا لكثير مما فيها من الآراء القيمة، فلم أترجم لك منها شيئا، ولم أتل عليك منها حوارا، وأحسب أنك قد ألممت بها إلماما، وأحسب أنك تشعر معي بأن هذه القصة تبعث الحيرة في نفس من يقرؤها، ومن يشهدها، فماذا أراد الكاتب؟ أأراد أن يقارن بين الفلسفة والعمل، وأن يفضل العمل على الفلسفة؟ فإن أراد هذا فقد ظلم الفلسفة؛ لأنه مثلها تمثيلا سيئا، ووضع الأستاذ الفيلسوف موضعا مضحكا، يشبه موضع الفلاسفة الذين يسخر منهم «موليير»، وغير «موليير» من الممثلين المضحكين. وقد كان الإنصاف يلزمه أن يمثل الفلسفة تمثيلا صحيحا كما مثل العمل تمثيلا صحيحا؛ حتى تكون نتيجة الخصومة بينهما مقنعة للقراء أو للنظارة، أم أراد أن يدرس نفس هذه الفتاة، وأن يبين أن الحب الفلسفي الذي لا يطمع إلا في الذكاء، ولا يرغب إلا في اتحاد الميول العقلية الخالصة ضعيف الأثر في نفوس النساء؛ لأنه يهمل أشياء لم تهملها الطبيعة: يهمل القلب، والعاطفة، والحس؟ فإن كان أراد هذا فليس هذا بجديد، وإنما هو شيء مألوف قاله الناس، وأكثروا من الخوض فيه، أم أراد الأمرين جميعا؟ أم لم يرد شيئا منهما، وإنما حاول أن يعرض على قرائه ونظارته طائفة من الخواطر والآراء ليست متسقة ولا متصلة، فتكلف لها صورة القصة التمثيلية ليوجد بينها الاتساق والاتصال؟ ذلك ما أظن، وأرى أن الكاتب إن كان قصد إلى هذا فقد وفق توفيقا لا بأس به، ولكنه لم يحسن إلى التمثيل، فإن التمثيل لا يقصد به إلى عرض الخواطر والآراء، وإنما يقصد به قبل كل شيء إلى تصوير الحياة الواقعة، أو إلى تصوير المثل الأعلى للحياة تصويرا يملك على الجمهور قلبه وهواه، ويوجهه إلى الطريق التي يريد الكاتب أن يتجه إليها، وليس من شأن هذه القصة أن تترك في نفس الجمهور مثل هذا الأثر، ولكن من شأنها أن تعجب القارئ، وتلذه، وترفه عليه، وقد كان خليقا بها أن تبسط في كتاب لا في قصة تمثيلية.
بينيلوب
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
ولكنه لم يكن طيف هند، ولا عبدة، لم يكن طيف عربية، ولا مصرية، ولا أوروبية، وإنما كان طيف امرأة بقي اسمها في ذاكرة الإنسانية، وذهبت بشخصيتها الغير والأحداث، ولعلها لم توجد قط، ولعل التاريخ لم يعرف من أمرها قليلا ولا كثيرا، ومع ذلك فقد قضيت الليل أفكر فيها، بل أسمع إلى حديثها ومناجاتها، هادئة مرة، ثائرة مرة أخرى، يملؤها الحنان حينا، وتملكها الوحشية حينا آخر، قضيت الليل أفكر فيها، وأسمع لأحاديثها ونجواها حين كانت تتحدث إلى خدمها، وحين كانت تتحدث إلى عشاقها، وحين كانت تتحدث إلى مرضع زوجها، وحين كانت تناجي الآلهة متلطفة آنا، ومحنقة آنا آخر، ثم حين كانت تناجي خيال زوجها الغائب، وتتحدث إلى زوجها وقد آب بعد غياب طويل، قضيت الليل أفكر فيها وأستمع لحديثها، وأعجب بقدرة الفن، لا أقول على إحياء من مات، وتجديد ما اندثر، بل على خلق ما لم يوجد، والتخييل إليك أنه قد وجد وأثر في الحياة آثارا أبقى من أن ينالها الفناء، لم يكن هذا الطيف طيف عربية، ولا مصرية، ولا أوروبية، وإنما كان طيف يونانية، كان طيف «بينيلوب» زوج «أولس» بطل «الأودسا».
سمعتها أمس في دار من دور الموسيقى، «في الأوبرا كوميك» تتغنى عشقها ولوعتها، وحزنها لبعد من أحبت، وجزعها لقرب من كرهت. ففتنت بها، ولم أفارق صوتها ولا عواطفها طول الليل، وجزءا غير قليل من النهار.
لست أدري أقرأت «الأودسا» أم لم تقرأ، وأنا أسمح لنفسي بهذا الشك؛ لأني أعلم علم اليقين وتجربة أن الأدب اليوناني سيئ الحظ في مصر، وأن سوء حظه قد بلغ من الشدة إلى حيث لا نستطيع تقديره، أو تقدير عواقبه السيئة، نجهل الأدب اليوناني، لا أقول جهلا تاما، بل أقول جهلا فاحشا مخزيا، لا يليق بقوم يحبون الحياة، ويطمعون فيها. نجهل هذا الأدب جهلا فاحشا بحيث نستطيع أن نحصي المصريين الذين يعلمون ما «الأودسا»، وما «الإلياذة»، ومن «أوليس»، ومن «بينيلوب»، ومع ذلك فقد كانت «الأودسا» و«الإلياذة»، وما زالتا وستظلان دائما ينبوع الحياة للأدب والفن: للشعر، والنثر، والنحت، والتصوير، والتمثيل، والموسيقى. بليت القرون ولم تبل «الإلياذة» و«الأودسا»، فنيت الأمة اليونانية، وفنيت الأمة الرومانية، واختلفت العصور والظروف على أوروبا في العصر المتوسط وفي العصر الحديث، وستفنى أمم وتختلف عصور وظروف، وتظل آيات «الإلياذة» و«الأودسا» جديدة خالدة، محتفظة بقوتها وبهائها، ورونقها على وجه الدهر وتعاقب الأحداث، ولا نكاد نحن نفترض وجود «الإلياذة» و«الأودسا»، فإذا افترضنا وجودهما فلا نكاد نعلم بشيء مما فيهما.
إلى هذا الحد وصلنا من الجهل بمصدر الحياة للأدب والفن، ويظهر أنا إذا لم نستطع أن نمعن النظر في هذا الجهل أكثر مما أمعنا، فليس وراء هذا الحد مطمع لمن يحب الجهل، ويرغب فيه، أقول إذا لم نستطع أن نمعن في هذا الجهل أكثر مما أمعنا فيظهر أنا لا نريد ولا نحاول أن نخلص منه قليلا أو كثيرا. يظهر أنا سنظل على ما نحن فيه من الأدب اليوناني والفن اليوناني؛ لأنا نرى كل شيء يتغير في مصر، ونرى الرقي يتناول كل شيء إلا التعليم، فهو بحمد الله باق حيث كان؛ لأن المشرفين عليه لا يفكرون في تغييره، ولعلهم غير قادرين على أن يفكروا في تغييره. سيظل تلاميذنا يخلطون بين أثينا وصقلية كما يخلطون بين الإسكندرية وهانيبال.
ولكني بعدت عن هذا الطيف الذي أرقت له آخر الليل بعد أن طربت له أول الليل، قلت: إن «الأودسا» و«الإلياذة» كانتا وستظلان ينبوعا للحياة الأدبية والفنية، فقد ألهمتا شعراء اليونان على اختلاف فنونهم وأساليبهم، وألهمتا الفنيين من اليونان، بل ألهمتنا فلاسفة اليونان، وكذلك صدر عنهما شعراء الرومان، وكذلك صدر عنهما، وما زال يصدر عنهما شعراء الإفرنج منذ القرن السابع عشر إلى ما شاء الله.
ولقد كانت القصة الموسيقية التي شهدتها أمس أثرا من آثار «الأودسا»، اجتمع فيه جمال الشعر، وجمال الموسيقى، وجمال الغناء، وجمال الفن الآلي في التمثيل. فكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع أصوات الآلات الموسيقية وألحانها واختلاف نغمها الذي كان يرق حتى لا يكاد يسمع، وكان يغلظ حتى يكاد يصم السامعين. وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذه الأصوات الإنسانية العذبة الرخيمة تمازج نغم الموسيقى متغنية بهذا الشعر الجميل الرقيق الذي يمثل أرق العواطف الإنسانية وأصدقها، وأدناها من الوفاء والحب والإخلاص. وكنت تجد لذة لا تعدلها لذة حين تسمع هذا كله وتنظر إلى مسرح التمثيل فترى هذه الجزيرة اليونانية القديمة كما وصفتها «الأودسا» في جمالها القديم الرائع الذي يزيده بهجة وسحرا ما اتخذه الممثلون من أزياء، وما اصطنعوا من آنية ومتاع.
كنت تجد لذة حين كنت تسمع ما تسمع وترى ما ترى، ولم يكن ينقص عليك هذه اللذة إلا أنها كغيرها من جميع لذات الحياة قصيرة محدودة المدى لن تتجاوز ساعة أو ساعتين؛ ذلك - فيما أعتقد - أخص ما تمتاز به اللذة الحقيقية التي تملك عليك نفسك وعواطفك وتسحرك السحر كله. تمتاز هذه اللذة بأنك تشعر حين تشعر بها بشيء من الحزن يصاحبها؛ لأنها ستنقضي بعد حين طويل أو قصير، وأنت تحب ألا تنقضي، وأنت تود لو كانت خالدة، أو لو انقضت بانقضائها الحياة.
اشترك في هذه القصة الموسيقي الفرنسي «جبرئيل فوريه» والشاعر الفرنسي «رينيه فوشوا»، ومثلت منذ عشر سنين فأعجب بها الجمهور وابتهج لها الناقدون، ولكنهم لم يجرءوا على أن يحكموا لها أو عليها؛ ذلك لأن فيها شيئا من الغرابة كثيرا، فهي لا تمثل الحياة في عصر نفهمه فهما يسيرا سهلا، وإنما تمثل الحياة في عصر بعيد منا كل البعد، بل لعل هذا العصر لم يعرفه التاريخ، وإذن فليس من اليسير أن نحسها نحن كما نحس الحياة التي نحياها، بحيث تتأثر بها نفوسنا، وتهتاج لها عواطفنا، فتبعث فينا ضروب الإحساس والشعور التي تبعثها فينا الحياة الواقعة.
تردد الناس في الحكم لهذه القصة أو عليها، ولكن كانت الحرب العظمى، فهزت النفوس والعواطف، وسهلت على الناس فهم هذا الشعر القصصي القديم الذي مثل ما أصاب الإنسان من محن فأحسن تمثيله، وصور ما اختلف على حياة الأفراد والجماعات من أحداث فأجاد التصوير. فلما استؤنف تمثيل هذه القصة لم يتردد أحد، ولم يشك إنسان، وإنما ظهر الإعجاب صريحا قويا لا يعدله إعجاب، فأجمع الناقدون على أن هذه القصة آية من آيات الموسيقى الفرنسية، وكان يكفي أن ترى الجمهور أمس، لتعلم أن الناقدين لم يخطئوا ولم يسرفوا.
عزيز علي أن أجهل الموسيقى، وأن يضطرني هذا الجهل إلى ألا أتحدث إليك بجمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية، ولكني إذا جهلت الموسيقى وعجزت عن الحديث فيها، فإني أحسها وأشعر بها، وأستطيع أن أعلم أني سمعت شيئا طربت له، أو سمعت شيئا نفرت منه، وأشهد أني لم أنفر أمس، بل إني لم أطرب أمس، وإنما سحرت سحرا ليس فوقه سحر.
أشهد أني لم أكن أشك حين كنت أسمع هذه الموسيقى أني في جزيرة «إيتاك» وأني بمحضر من أولئك الأبطال القدماء، بل أشهد أني حين كنت أسمع هذه الموسيقى لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يصف لي واصف ما يمثله المنظر من هذه الجزيرة المشرفة على البحر التي يغمرها هواء رقيق ناعم شفاف، والتي تزدان بكثبانها، وتلالها الصغيرة تهبط إلى البحر متدرجة قليلا قليلا.
نعم، لم أكن في حاجة شديدة إلى أن يوصف لي المنظر؛ لأن الموسيقى كانت تغنيني عن هذا الوصف، فكنت أحس في الموسيقى القرب من البحر، وكنت أسمع في الموسيقى أمواج البحر تضطرب وتصطخب رقيقة حينا كأنها حديث العاشقين، غليظة حينا آخر كأنها قصف الرعد، وكنت أجد في الموسيقى رقة الهواء ونعومته، وكنت أسمع هذه الموسيقى فلا أشك في أن الجو كان صافيا رائقا، أو أنه كان كدرا يهيئ للعاصفة.
كنت لا أشك في شيء من هذا، وكنت لا أشك في شيء آخر هو أجل من هذا خطرا وأعظم شأنا، كنت لا أشك في أن هذه القطعة الموسيقية تمثل ما يحدث في نفسي الآن من اضطراب العواطف واصطخابها وما يقع بينها من تنازع ومشادة، وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، تمثل هذا الضعف الذي يسلبك كل قوة على المقاومة، ويجعلك غير قادر إلا على أن تفتح جفنيك لتسقط منهما قطرات الدمع متتابعة منهمرة! نعم وكنت لا أشك في أن هذه القطعة الأخرى تمثل الغيظ والحنق، هذا الغيظ الذي تنقبض له أعصابك، فإذا جبينك مقطب، وإذا الدم يغلي في رأسك، وإذا أنت قد أطبقت يديك، وإذا أنت تقاوم هذا الميل الشديد الذي يدفعك إلى أن تهب وتهجم على فريستك. لم أكن أشك في شيء من هذا؛ لأني كنت أحسه، وأنتقل فيه من طور إلى طور، بل هناك ما هو خير من هذا، هناك هذه القطع الموسيقية التي تبعث في نفسك شيئا من الحنان والرحمة، ومن الطمأنينة والدعة، لا أستطيع أن أصفه، ولا يستطيع إنسان أن يصفه؛ لأن وصفه لم يتح للجمل والألفاظ، وإنما أتيح للأنغام والألحان وحدها.
ولكني عاجز - كما قلت - عن أن أصف جمال هذه القصة من الوجهة الموسيقية، أفتريد أن أصف جمالها من الوجهة الأدبية؟ لقد كنت أحب ذلك، وأرغب فيه، ولكن أليس خيرا من هذا الوصف الذي لا يمكن إلا أن يكون موجزا مختصرا أن ترجع إلى هذا الجمال في أصله، وأن تستقيه من ينبوعه، فتقرأ النشيد الرابع والعشرين من «الأودسا»؟ تجد في هذا النشيد قصر الملك «أوليس» قد غاب عنه صاحبه منذ عشر سنين؛ لأنه ذهب إلى «ترواده»، وانتصر فيها، فلما أراد العودة إلى بلده عبث به، وبأسطوله «بوزيدون» إله البحر، فأضله الطريق، وأخضعه لطائفة من المحن، وبينما كان الملك وأصحابه يخضعون لعبث «بوزيدون»، وغيره من الآلهة كانت الملكة «بينيلوب» تنتظر زوجها في لوعة وحسرة، وفي حب ووفاء، وكانت طائفة من زعماء اليونان قد احتلت قصر الملك، وأخذت تعبث بما فيه ومن فيه، فتأكل شاء الملك وثيرته كما تقول القصة، وتشرب خمره، وتعبث برقيقه، وتلح على الملكة في أن تختار من بينها رجلا يكون لها زوجا، فيخلف «أوليس» على ملك «إيتاك»، كانت هذه الطائفة تلح والملكة تقاوم، فلما أعيتها المقاومة أخذت تراوغ، فأعلنت إلى هؤلاء أنها ستختار من بينهم زوجا إذا فرغت من نسج كفن أخذت نفسها بنسجه لأبي زوجها، وقبل الزعماء منها ذلك، فأخذت تنسج الكفن يومها حتى إذا كان الليل نقضت ما أبرمت، ثم تستأنف النسج إذا أصبحت والنقض إذا أمست والزعماء ينتظرون، ويعبثون بالقصر، وما فيه، ومن فيه. •••
فإذا كان الفصل الأول من القصة ظهر خادمات القصر يغزلن ويتحدثن فيما بينهن، وحديثهن لذيذ، فهن يغنين ما هن فيه من ألم وحرمان، وهن يتغزلن بجمال الزعماء، وترغب كل واحدة منهن في واحد منهم، وهن يرثين للملكة، وينكرن عليها غلوها في الوفاء، وإنهن لفي ذلك إذ يقبل الزعماء يريدون أن يتحدثوا إلى الملكة، وتأبى الخادمات إنباء الملكة بمكانهم؛ لأنهن لا يستطعن أن يدخلن عليها إلا إذا دعين، وبينما الزعماء في حوار مع الخادمات تقبل مرضع الملك فتمانعهم، ويكون بينها وبينهم حوار ومسابة، ثم تقبل الملكة، فيشتد الخلاف بينها وبين الزعماء تهينهم، وتنعي عليهم، وهم يتملقونها، ويتلطفون بها، تمانعهم وتأبى عليهم ما يريدون، وهم يلحون عليها في أن تسرع، فتختار من بينهم زوجا، ثم يقدم شيخ رث فان يطلب الصدقة والمأوى، فينبذه الزعماء، وتؤويه الملكة، وهذا الشيخ هو «أوليس» قد وصل إلى جزيرته، وأمرته الآلهة «أتينا» أن يتنكر ويحتال في طرد الغاصبين، والانتقام منهم ... لا تعرفه الملكة، ولكن المرضع تعرفه، وتعاهده على أن تخفي أمره، ينصرف الزعماء، وينصرف الشيخ إلى طعامه، وتبقى الملكة وحدها، فتنقض ما نسجت، ولكن الزعماء كانوا قد رصدوا لها فاستكشفوا حيلتها، فيغيظهم ذلك، ويعلنون إلى الملكة أن الغد لن ينقضي حتى تكون قد اختارت لها زوجا، ثم ينصرفون، تخرج الملكة ومرضع الملك لتذهبا إلى شاطئ البحر كما اعتادت منذ سنين تترقبان سفينة ما لعلها تقبل، وعلى ظهرها الملك، ويتبعهما الشيخ. •••
فإذا كان الفصل الثاني رأيت رعاة الملك يتحدثون فيما بينهم، ويتمنى بعضهم لبعض ليلا سعيدا، ويتغنون جمال الطبيعة وسحرها، ثم تقبل الملكة ومن معها فيكون بينها وبين الشيخ حديث بديع، يظهر فيه ما يضمر الزوجان من حب ووفاء، ومن لهفة ولوعة، ولكن الملك يخفي نفسه، فإذا سئل عن أمره أخبر بغير الحق، واتخذ هذا الأخبار وسيلة إلى التغزل بزوجه من طرف خفي، ولكن في جمال ورقة، وحسن مدخل، ثم تجزع الملكة إشفاقا من غد، فيقترح عليها الشيخ أن تعلن إلى الزعماء أنها ستختار من بينهم من يستطيع أن يشد قوس «أوليس»، ثم تنصرف الملكة، ويتعرف الملك بعد ذلك إلى رعاته، ويأمرهم أن يكونوا في القصر غدا، وأن يتخذوا السلاح ليعينوه على الانتقام. •••
فإذا كان الفصل الثالث رأيت الملك وحده يتغنى غضبه وسخطه، وحرصه الشديد على الانتقام، ثم يكون بينه وبين مرضعه ورعاته أحاديث قصيرة، ثم يقبل الزعماء وقد تهيئوا للقصف واللهو، فيسخرون من الشيخ، ويريدون طرده، ثم يبدو لهم فيتخذونه سخرية، يسقونه ويضحكون منه، ويظهر الشيخ أنه سكران، وتقبل الملكة فتعلن إليهم أن من شد قوس «أوليس»، ورمى عنها فهو زوجها، فيعجزون، ويتقدم الشيخ الفاني إلى القوس فيشدها، ويرمي عنها، ولكن في صدر أحد الزعماء، هنا يظهر الملك نفسه، وينتقم لشرفه، وثروته، وملكه، يعينه الرعاة على هذا، ثم تنتهي القصة بمظهر الحب والغبطة بينه وبين الملكة من جهة، وبينه وبين الشعب من جهة أخرى.
فأنت ترى أن ليس في القصة شيء غريب، وأنها من السذاجة والسهولة بحيث تلائم القرن التاسع أو العاشر قبل المسيح، أيام أنشئت «الإلياذة» و«الأودسا»، ولكني أضمن لك لذة عظيمة إذا قرأت هذه القصة، ولذة لا حد لها إذا قرأتها في «الأودسا». فأما إذا شهدت القصة الموسيقية في «الأوبرا كوميك» فلست أدري ماذا أضمن لك، وإنما أحدثك صادقا بأني قضيت ليلة سعيدة، كنت أحسبني أثناءها في عالم آخر، ولم أتنبه إلى أني في الأرض إلا حين سمعت ابنتي تتغنى وتصيح، ورأيت ابني يعبث بما حوله، وسمعت أمه تزجره وتنهاه.
Página desconocida