فأنت ترى أن هذه الفلسفة التي تظهر في أول الأمر سوداء مسرفة في التشاؤم والاستسلام ليست أقل من غيرها دعوة إلى الخير، وترغيبا فيه، واتصالا بما ألف الناس من قواعد الأخلاق، فهي تأمر كما تأمر غيرها بالإحسان والصفح، والاعتدال في اللوم والذم، والاعتدال في الحمد والثناء، ثم هي تأمر كما تأمر غيرها بالرضا، واستقبال الحياة في طمأنينة، وابتسام عن علم بها، وحسن رأي فيها.
ألهذه الفلسفة المتصلة بمزاجنا الشرقي أحب هذا الكاتب، وأمعن في حبه؟ أم أنا أحبه لأنه متصل بهذه الطائفة من الكتاب والشعراء القدماء الذين أثروا في الأدب الإنساني كله آثارا خالدة لا سبيل إلى أن تزول؟ فقصص بول هرفيو ليس جميلا لما فيه من فلسفة فحسب، بل هو جميل لأنه يتصل بالقصص اليوناني التمثيلي في تصوره للحياة، وفي تصويره لهذه الحياة، كما يتصل بهذا القصص التمثيلي القديم في إيثاره للجمال الفني، يلائم فيه بين الألفاظ والمعاني ملاءمة تبهرك بما فيها من جلال، يظهر في الألفاظ كما يظهر في المعاني كما يظهر في الأغراض التي يرمي إليها، وكما يظهر في الصور المختلفة التي يتخذها وسيلة إلى هذه الأغراض. وأنت حين تقرؤه مضطر إلى أن تفكر في إيسكولوس، يضطرك إلى ذلك هذا الجلال الذي يسبغه بول هرفيو على قصته كما كان يسبغه إيسكولوس، كما يضطرك إلى ذلك رأي بول هرفيو في القضاء، فهو بعينه رأي إيسكولوس في القضاء لا يفرق بينهما إلا أن إيسكولوس كان وثنيا يؤمن بآلهته الوثنيين، وبخضوعهم لهذا القضاء كما يخضع له الناس، وكان يتصور هذا القضاء تصورا وثنيا يونانيا لم يتأثر بفلسفة الفلاسفة ولا بعلم العلماء ولا بالحضارة الراقية المسرفة في الرقي، أما بول هرفيو فابن القرن التاسع عشر، لم يكن وثنيا، وإنما هو خلاصة كل هذه الحضارة الفرنسية، وما انتهى إليها من آثار الأمم القديمة، وما عمل فيها من فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء، ثم ما شهد من ازدحام الناس وتنافسهم في جميع ألوان الحياة، فقضاؤه ليس أقل عنفا ولا سلطانا من قضاء إيسكولوس، ولكنه قضاء متحضر مهذب، يلائم القرن التاسع عشر.
فلسفة بول هرفيو وفنه، واتصاله من هاتين الناحيتين بسلسلة الممثلين اليونانيين، والممثلين الفرنسيين في القرن السابع عشر، ثم تعرضه للمسائل العويصة الدقيقة، ومحاولته أن يجد لها حلا في القضاء والقدر، كل هذا حبب إلي هذا الكاتب، ورغبني في ترديد قراءته، وترديد الحديث عنه.
وهذه القصة التي أريد أن أحدثك عنها الآن هي آخر ما قدم إلى الملاعب قبيل الحرب، وقد أجمع النقاد على اختلاف أهوائهم وميولهم الفنية على الإعجاب بها والثناء عليها، وذهب بعضهم في ذلك إلى أبعد حد ممكن فوصفها بأنها آية من آيات الفن، ولست أذهب هذا المذهب ولا أغلو هذا الغلو؛ فقد قرأت من قصص بول هرفيو التمثيلي ما أعجبني وراقني، وأثر في نفسي تأثيرا أبلغ من تأثير هذه القصة، ولكني على ذلك أرى أن هذه القصة تلخص مذهبه الفلسفي تلخيصا وافيا أكثر مما تلخصه قصة أخرى من قصصه التمثيلية، وكأنه كان يحسن أن هذه القصة ستكون آخر قصصه، وكأنه كان يريد لهذا أن يعرض فيها مذهبه كاملا صريحا، وقد دفعه إلى ذلك ولا سيما في المنظر الأخير من هذه القصة.
وقد وضعت هذه القصة لملعب أجنبي، فقد يقال إن الكاتب لقي بعض الممثلين في إسبانيا، ورغب إليه هؤلاء الممثلون في أن يأذن لهم بترجمة شيء من قصصه التمثيلي فرضي، ثم وعدهم بأن يضع لهم قصة خاصة ثم عاد إلى باريس فوضع هذه القصة القصيرة، وأرسلها إلى إسبانيا، فما أسرع ما نقلت إلى الإسبانية، ومثلت في مدريد، بينما كان الأصل الفرنسي يمثل في باريس، ولهذه الخاصة أثر ظاهر في القصة، فقد يلاحظ القارئ في بعض الأشخاص حرارة وحدة وشعورا غاليا بالشرف تلائم المزاج الفرنسي، ومن غريب الأمر أن بعض النقاد الفرنسيين شهد تمثيلها في إسبانيا، وشهد تمثيلها في فرنسا، وأراد أن يقارن بين التمثيلين فاستخلص من هذه المقارنة أن القصة الفرنسية شيء والقصة الإسبانية شيء آخر، لا من حيث المعاني والأغراض؛ فقد كانت الترجمة دقيقة صحيحة، ولكن من حيث الأثر الذي يتركه تمثيلها في النفوس، فالتمثيل الإسباني عاطفة كله فتظهر فيه الحدة والحرارة، ويظهر فيه الشعور قويا عنيفا، بينما التمثيل الفرنسي مزاج معتدل من العقل والشعور، فالحدة فيه لا تكاد تظهر، وإنما يظهر هذا التأثير الشديد الذي يلطفه التفكير كما يظهر فيه هذا الحزن العميق الذي لا حظ فيه لإسراف الدموع، ولا لإسراف الصوت أيضا.
وأنت حين تقرأ هذه القصة تعجب بالألفاظ إعجابا شديدا، وذلك شأنك حين تقرأ آثار بول هرفيو كلها، وتعجب أيضا بالمعاني التفصيلية، ولكنك تحس في أول الأمر شيئا من البطء ومن الهدوء الذي لا يخلو من إسراف، ويخيل إليك أن الكاتب يطيل في غير جدوى، وتساءل نفسك إلى أين يريد أن ينتهي، ولكنك لا تكاد تفرغ من الفصل الأول حتى يكون الكاتب قد انتهى بك إلى عقدة شديدة، وشوقك إلى أن تعرف كيف تحل هذه العقدة، فأنت في حاجة إلى أن تمضي في القراءة، ولكن هذه العقدة ليست من الغرابة والطرافة بحيث تحول شوقك إلى شيء من الكلف غريب تشعر به أمام الحوادث الحادة، إنما أنت مشوق إلى أن تعرف كيف تنتهي هذه القصة، والكاتب في الفصل الثاني هادئ مطمئن، يسير معك في رفق ولين حتى يسئمك في بعض الأحيان، ولكن هذا الفصل لا يكاد ينتصف حتى ينقطع كل هدوء، وينتهي كل رفق، ويستحيل الأمر استحالة تامة، فإذا الحوادث يتبع بعضها في سرعة شديدة وعنف غريب، وإذا أنت قد فقدت هدوءك، وثرت كما يثور الكاتب، وإذا شوقك إلى الفراغ من القصة قد استحال إلى شهوة عنيفة فأنت تعيش مع الأشخاص عيشة حادة مضطربة، وأنت تحس في الوقت نفسه الغشاوات تسقط عن نفسك شيئا فشيئا، وأنت ترى نفسك بعد هذا كله فجأة قد وقعت أمام إثم عظيم فيه القتل، وفيه السرقة، وفيه الكذب، وفيه شهادة الزور، ولا أثر للإرادة الإنسانية الحرة في شيء من هذا بوجه من الوجوه، إنما هي ظروف قاهرة: منها ما يتصل بشهوات النفس، ومنها ما يتصل بالوراثة، ومنها ما يتصل بالنظام الاجتماعي، وكل هذه الظروف قد تظاهرت على أن تضطر جماعة من الناس إلى أن يتورطوا جميعا في هذه الآثام، وهؤلاء الناس جميعا بطبيعتهم وبتربيتهم، وباعتقادهم الديني بعيدون كل البعد عن هذه الآثام لو استطاعوا أن يتقوها ويجتنبوا التورط فيها، هم جميعا مسيحيون مؤمنون شديدو الإيمان بحكم أمزجتهم، وبحكم تربيتهم، وبحكم البيئة التي يعيشون فيها، وهم يتمثلون وصايا التوراة: لا تسرق، لا تقتل، لا تشهد الزور ... وهم مع ذلك مضطرون إلى أن يسرقوا، وإلى أن يقتلوا، وإلى أن يشهدوا الزور، ثم إلى أن يلاحظوا هذا كله، ويلاحظوا آخر الأمر أن السلطان كله للقدر. وليس هذا كله كل ما في القصة، بل أنت تجد فيها نوعا من المقارنة غريبا دقيقا، عمد إليه الكاتب في رفق ولين، بين خادم متواضع ضئيل اضطرته ظروف الحياة أن يسرق شيئا قليلا من سادته، فإذا هم ساخطون عليه، ناقمون منه، يعنفونه ويطردونه في ازدراء واحتقار، وهو مذعن مستسلم مستخز أمام ما اقترف من إثم، حتى إذا جل الخطب وكانت الكارثة، ظهر من هذا الخادم ما يجعله خليقا بإعجاب سادته، بل ما يجعل سادته مدينين له بالشكر، ويكرههم على أن يعترفوا له بالجميل، وهو على هذا كله حين سرق ما سرق لم يكن أشد منهم تورطا في الإثم، ولا أبعد منهم عما تعودوا أن يسموه شرفا وفضيلة. •••
نحن في قصر فخم في الريف الفرنسي تقيم فيه أسرة غنية، تتألف من زوجين وابنين، فأما أحد الزوجين فرجل غني نشأ في الطبقة الوسطى، وعمل أبوه في الشئون المالية؛ فأثرى وطمع له في زوجة من الأسر النبيلة فوفق إلى أن يزوجه من فتاة بعيدة الشرف، عظيمة الثروة، فأما الزوج فاسمه جايتان بيري، وأما الزوجة فاسمها جوليان دي شازيه.
وقد ورث الزوج عن أبيه مع ثروته ما يمثل الطبقة التي نشأ فيها، فهو رجل عمل لا يعرف التردد ولا الاضطراب، جريء حتى على الأخلاق، حتى على النظم الاجتماعية، ماهر في النفاق، يستطيع أن يخدع الناس عن نفسه، كما يستطيع أن يخدعهم عن أنفسهم، قد أظهر لامرأته أنه يحبها فاقتنعت بذلك وأحبته، فصدقت في حبه، على أنه لم يكن فيما أظهره من الحب إلا منافقا.
وأما امرأته فقد ورثت كذلك عن أسرتها شرفا في النفس، وكرامة، وأخلاقا رضية، وهدوءا، وصراحة، وسذاجة لا حد لها، مخلصة لا حد لإخلاصها، صادقة في حب زوجها، صادقة في حب ابنيها، معتدلة في هذا كله، محسنة كثيرة الإحسان.
ولهذين الزوجين ابنان؛ أحدهما: غلام يتهيأ لدخول المدرسة الحربية، والأخرى: فتاة جميلة ظريفة، قد بلغت سن الزواج وهي تدير في نفسها فكرة لها صدى في قلبها، فهي تحب وتريد أن تقترن ممن تحب.
Página desconocida