أما جمهور النظارة، فقد دهش لهذه القصة؛ لأنه لم يتعود أن يرى أمثالها في الملاعب، وإنما تعود أن يشهد طائفة من القصص تعرض عليه ألوانا من الناس يراهم في كل يوم، ويتصل بهم في كل حين من أحيان الحياة العملية. فأما الأدباء والكتاب فهو لا يكاد يراهم أو يتصل بهم إلا من طريق الكتب التي تذيعها المطبعة في كل يوم، وفي كل أسبوع بالعشرات والمئات، وقلما يتصل جمهور النظارة بكاتب أو أديب كما يتصل عادة بالصانع أو التاجر أو المهندس أو صاحب المال، فليس غريبا أن يدهش هذا الجمهور حين يرى الأدباء قد عرضوا أمامه في الملعب عرضا صريحا لا يخلو من قسوة، كما أنه ظريف لا يخلو من خفة وحيلة ودهاء، ثم ليس غريبا أن يدهش الجمهور؛ لأن الذي يعرض عليه هؤلاء الأدباء هذا العرض القاسي الظريف هو أحد هؤلاء الأدباء، فعمله هذا لا يخلو من شجاعة تسر وترضي، وتبعث على الدهش، ثم على الإعجاب.
وقد انقسم النقاد والأدباء في أمر هذه القصة، فمنهم من رأى أن الكاتب إنما أراد تمثيل طائفة بعينها من الكتاب والأدباء، هي هذه الطائفة التي تتنافس وتختصم، لا تحفل في تنافسها وخصومتها بشيء، والتي تتخذ الأدب والفن وسيلة إلى الثروة والشهرة، لا إلى الجمال الفني من حيث هو، ويجب أن نعترف بأن هؤلاء النقاد هم كثرة الذين تناولوا هذه القصة بالنقد، وذلك يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء النقاد جميعا قد سخطوا فيما بينهم وبين أنفسهم على هذه القصة، وأبوا أن يروا فيها صورا صحيحة للأدباء، فكانوا كالنعامة التي تخفي رأسها حتى لا ترى الصائد.
ونقاد آخرون - ولكنهم قليلون - رأوا أن هذه القصة تمثل ما في الأدباء من ضعف، ولكنهم مروا بذلك مرا سريعا، وأظهروا إعجابهم بلفظ القصة وأسلوبها، وما فيها من حركة خفيفة لبقة، وفي هؤلاء النقاد شجاعة، ولكنها شجاعة إضافية، فقد أبوا أن يخفوا رءوسهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يمدوا أبصارهم مدا طويلا.
وأولئك وهؤلاء - فيما أظن - لم يقدروا القصة قدرها، ولم يضعوها حيث أراد الكاتب أن يضعها، ولو قد فعلوا لرأوا أن ما في القصة من عبث بالأدباء، وتمثيل لما فيهم من عيب ونقص يمس ما يقع بينهم من التنافس والخصومة ليس شيئا بالقياس إلى الفكرة الأساسية التي أراد الكاتب أن يمثلها، والتي هي شيء آخر غير هذه الحياة المادية التي يقع فيها التنافس والاختصام بين الأدباء.
شيء آخر يمس طبيعة الأديب من حيث هو أديب ويعرفه تعريفا منطقيا صادقا ما نظن أنه يقبل نقضا أو اعتراضا، فالأدباء جميعا يختصمون ويتنافسون، ويكيد بعضهم لبعض، ويغري بعضهم ببعض. وليس هذا العيب مقصورا على الأدباء، ولكنه يتناول أصحاب المهنة الواحدة في كل فن وفي كل صناعة تناولا يختلف قوة وضعفا باختلاف المتنافسين، وتفاوتهم في حدة الأمزجة واعتدالها.
ولو لم يقصد الكاتب في قصته إلا إلى تمثيل هذا النحو من عيوب الأدباء لما كان لقصته خطر، ولما استحقت قصته هذا الفوز الذي ظفرت به، إنما الفكرة الأساسية التي تدور عليها القصة، والتي قصد إليها الكاتب معروضة عرضا واضحا في الفصل الرابع من فصول هذه القصة حين يظهر في جلاء وبداهة أن الأديب يمتاز بأنه لا يستطيع أن يحس شيئا أو يرى شيئا حتى يستحيل هذا الشيء في نفسه فنا يجب أن يكتبه، وينشر على الناس مهما تكن النتيجة التي تنشأ عن هذه الكتابة وهذا النشر، ومهما يكن في هذه الكتابة والنشر من خروج على المألوف، وتجاف عن العادات والأخلاق، وما يصل بين الناس عادة من صلات المجاملة وحسن العشرة، بل من صلات المودة والصداقة، بل من صلات الحب والإخاء.
فالأديب أداة ناطقة لا تستطيع الصمت، وهي تنطق بكل شيء وفي كل ظرف، لا يحول بينها وبين النطق إلا هذه القوى القاهرة التي تضطرها إلى الصمت أحيانا، فتصمت ولكن على كره منها ورغم، والأديب أداة تصوير تصور أبدا، ولا تستطيع أن تكف عن التصوير إلا حين لا تجد ما تصوره أو حين يعرض لها الفساد في مزاجها وتكوينها، وهي تصور دون أن تحسب حسابا بالنتائج هذا التصوير، وما قد يستتبعه من الأحداث في التصوير، وأكثر ما تصور هذه الأداة، وأحسن ما تصور حين تضطر إلى تصوير نفسها، وما يعرض لها من ألوان التأثر والانفعال، ولو قد خليت وتركت لها الحرية المطلقة لأظهرت للناس من دخائلها أسرارا لا تخلو من بشاعة فظيعة، ولكنها لا تخلو في الوقت نفسه من جمال رائع، فالأديب إذن بطبيعته مرن الضمير، لا يكاد يحفل بما يحفل به الناس في سبيل القول والتصوير إلا لأنه يضطر إلى ذلك اضطرارا.
هذه الفكرة هي التي قصد إليها الكاتب وأراد تصويرها، وهو في طريقه إلى تصوير هذه الفكرة قد ألم بطائفة من عيوب الأدباء ونقائصهم لم يكن له بد من الإلمام بها؛ لأنه يصور تصويرا صحيحا فلم يكن يستطيع أن يخفي شيئا مما يتألف منه شخص الأديب حقا.
ومع أن موضوع هذه القصة طريف، فقد وفق الكاتب إلى أن يتقن تمثيله كما لو كان من هذه الموضوعات التي تطرق في كل يوم، والتي سهل أمرها على الناس، فهم يتناولونها ويتصرفون فيها دون أن يجدوا في ذلك مشقة أو عسرا. •••
وفي الفصل الأول من هذه القصة بنوع خاص حركة خفيفة شديدة الخفة، سريعة قوية السرعة، تدفعك معها؛ فإذا أنت مسرع في القراءة، مسرع في التفكير، مسرع في تحقيق ما تقرأ وما تفكر فيه، وإذا أنت تحيا حياة كلها سرعة، وكلها لذة ورضا، وفكاهة واشمئزاز مضحك، حتى إذا فرغت من هذا الفصل احتجت إلى أن تستريح، وإلى أن تطيل الراحة بعض الشيء؛ لأنك قد جريت فأكثرت الجري، حتى إذا كانت الفصول الأخرى سرت سيرا هادئا مطمئنا، ولكنه ممتع مفيد، لا تكاد تخطو خطوة حتى تضحك أو تعجب، أو تستكشف من أمر الأديب شيئا لم تكن تقدره، وما تزال كذلك حتى تنتهي مع القصة إلى الأديب المنتج فتراه كما أراد الله أن يكون ممليا ما أنتجه من الآثار الأدبية بعد ما شاء الله أن يقتحم في سبيله ما اقتحم من هول يبعث في نفسك الإشفاق والازدراء معا. •••
Página desconocida