وصمت رفيق وعاوده قلق الشباب، وراح يؤامر نفسه: كيف يطيق أن يقطع برأي في المرأة التي يهم أن يشركها في عمره وما رآها؟
ثم ثابت نفسه إلى الاطمئنان والرضا رويدا رويدا، وغلبه رأيه على هواه، فقال لنفسه: ذلك أحب إلي، وإن يقيني بطهارتها لأطيب لنفسي من اليقين بجمالها. وهل رضيت أن أخطبها من وراء حجاب إلا زهادة في الجمال المبذول لكل ناظر؟
وذهب رفيق يتقصى خبرها ويسأل من يعرف عما لا يعرف، وأتاه جواب ما سأل، ولم يبق إلا أن يراها ليبرم أمره. وأي حرج في ذلك؟
وعادت أمه تسعى مسعاتها بينه وبين عروسه، ثم عادت تحمل إليه الإذن في أن يراها يوم يقدم لها هدية الخطبة! ... لم ينقطع رفيق عن صحابته ولم يشغله أمره عن مجلسه وإياهم كل مساء، فما كانت له طاقة على فراق بائن إلى غير لقاء، وكذلك لم يهجر ما كان من عادته وإياهم حين يتحلقون حول المائدة المستديرة على الطوار، يتجاذبون الحديث أو يتبادلون الفكاهات، أو يتبعون أعينهم كل غادية إلى عمل أو رائحة إلى ميعاد، أو يتداعون إلى سهرة حمراء في عش من عشاش الحب المأجور إلى أن تشيب ذؤابة الليل!
كان يعلم أنه عما قليل مفارق هذه الحياة الصاخبة التي عاش فيها عمرا من عمره، فلا عليه أن يتزود لما يأتي من لياليه، لا يمنعه عن ذلك ما يشغله من أمر يعد له عدته ويهيئ أسبابه ... وتوزعته شئونه، فنهاره تأهب واستعداد، وليله ليل الهوى والشباب!
أرأيت إلى الصائم يتأهب لنهار ظامئ جوعان بالمائدة الحافلة بأطايب الطعام والشراب؟ كذلك كان رفيق في إسرافه على نفسه وفي غلبة هواه!
وراح يوما لموعده فجلس يقص على صحابته من مغامراته: «... وكنت وحدي إلى هذه المائدة أنتظر، وغاظني أنني بكرت فلم أجد أحدا منكم آنس إليه، وتخايلت لعيني فتاة على مبعدة ... ثم تجاوزتني ومضت، ومضيت في أثرها ...»
وتقصف عليه أصحابه يستمعون إليه؛ فإنه لفارس هذا الميدان غير منازع، ومضى في قصته: «... وقلت لها وهي جالسة إلى جانبي على الصخرة الناتئة والأمواج تحت أقدامنا تصطفق على الشاطئ الغضبان: إنك أول من أحببت ...! فنظرت إلي ساخرة وقالت: صحيح ...؟ ثم انفجرت ضاحكة. قلت: وما يمنع؟ قالت وتكاد تغص بضحكتها: تلك كلمة ليست جديدة فيما أعرف ... كم مرة لفظتها شفتاك؟ وحدقت في وجهي بعينين فيهما تصميم وإرادة ، كأنما تتحداني لتبلو إرادتي، وزويت جبيني وتحولت ناحية أنظر إلى رشاش الماء يتواثب تحت أقدامنا، وقلت: ولكنك لن تسمعيها بعد! ولن أقولها! ورحت أجمع طائفة من الحصى فأقذف بها الماء وأصابعي ترتعد؛ إذ لم يكن يعنيني مما قلت إلا أن أثأر لكبريائي ...!»
قال رفيق: «وتخاذلت سريعا حين رأت وجهي مصروفا عنها، فدنت مني وهي تقول: انظر، أترى هذين الطائرين؟ ونظرت ونظرت، والتقت عينان بعينين، وشفتان بشفتين ... ثم ...»
قال الذي عن يمينه: «ثم صحوت من النوم!»
Página desconocida