وا أسفا! لم يكن يحسب هؤلاء الأصحاب أن سيصير اجتماعهم بعد تلك السنين إلى شتات، وأن سيكون رفيق أسبقهم إلى الفراق ... أتراه يكون لهم بعد الزواج كما كان لهم قبله؟ من يدري؟ بل إنهم ليكادون يدرون؛ فما يتأتى له أن يلقاهم بعد ويلقونه وإنه لزوج ورب دار ...
وتناولوه بألسنتهم وركبوه بالمزاح والدعابة، وهو يستمع إليهم مبتسما في صمت، ثم مضى ومضوا ...
لقد ذاق رفيق من ألوان اللذات ما ذاق، وباع في الحب واشترى، وربح وخسر، وتقلبت على عينيه مناظر لعل مثلها لم يجتمع لشاب آخر في مثل سنه؛ على أنه قد مل ذلك جميعا وضاقت به نفسه، وحن إلى حياة هادئة يحياها بين زوج تحنو عليه، وولد يجدد أمله؛ فاعتزم أن يتزوج!
وأتاح لرفيق ما لقي من تجارب الحياة أن يعرف من شئون المرأة أكثر مما يعرف الشباب، فلم يكن تعجبه فتاة ممن رأى وعرف فيرضاها زوجة يملكها داره ويأتمنها على سعادته؛ إذ كان يعرف أكثر من غيره ما وراء هذه القشور التي يتزين بها النساء في مجالس الرجال تجملا من غير جمال! فراح إلى أمه العجوز يسألها أن تختار له ويصف لها ما يحب في المرأة وما يكره.
وكان عجيبا من فتى مثل رفيق - رأى من رأى وعرف من عرف - أن يتوسل بأمه إلى اختيار زوجته، ولكن ما رأى وما عرف هو الذي دعاه إلى ذلك، فقد كان مما جرب لا يثق بواحدة ممن عرف، فراح يتوسل بأمه أن تكون سببه إلى من لم يعرف.
تلك مسألة أخفاها رفيق على صحابته حين حدثهم بما اعتزم، ولو أنهم عرفوا لزادوا في العبث به والسخرية منه، ونسبوه إلى الحمق والغفلة، وإلى فساد الرأي وأفن التفكير؛ فما ينبغي لفتى مثله من أبناء الجيل الجديد أن يخطب فتاة إلى نفسها من وراء حجاب، وأن ينظر إلى زوجته بعيني أمه؛ ولكن رفيقا كان موقنا يقينا لا شبهة فيه أن تلك الوسيلة التي ينسبها أصحابه إلى الرجعية والحمق وفساد الرأي هي أسد وأحكم من اختيار فتاة كبعض من يعرف، تقلبت على أعين الشبان وتنقلت بينهم من ذراع إلى ذراع كجارية النخاس!
لو أن أحدا رأى له هذا الرأي منذ سنين لسخر منه واستهزأ به ورماه بما يرميه به صحابته اليوم، ولكن تجارب الحياة لا تدع لذي رأي أن يثبت على رأيه إلا أن يكون أحمق ليس له رأي ولا إرادة!
وراحت أمه العجوز في حاشية من صواحبها تطرق الأبواب وتهتك الأستار لترى وتعرف وتتخير، ثم تعود إلى ولدها كل مساء فتقص عليه ما رأت وما عرفت؛ وكانت تعلم من شئون ولدها ما لا يجهل أحد، فمن ذلك كان حرصها على أن تتخير له فتحسن الاختيار، وعادت إليه ذات مساء تخبره: «لو رأيتها يا رفيق ...! لها غرة الصبح الطالع، وابتسامة الأمل المشرق، وحياء الزنبقة البيضاء تحت عيون الزهر ... لله هي يا بني! خار الله لك!»
وقال رفيق: «وددت لو رأيتها يا أمي!»
ومطت أمه شفتيها تنكر عليه، وقالت: «وددت يا بني! ولو أنك رأيتها ما زادت في عينيك على ما أصف، ولكن، من أين لك؟ ما أرى أباها يسمح يا رفيق، ولو سمح أبوها ما أطاقت هي أن تتراءى لك ... إنها ...»
Página desconocida