Muerte del único hombre en la Tierra
موت الرجل الوحيد على الأرض
Géneros
أول ما استطاع الكلام بدأ يناديها، يقول لها: «عزيزة!» فتحرك رأسها ناحيته وتقول له بعينيها الواسعتين: «كفراوي.» كل يوم يقول لها كلمة، وترد عليه بكلمة حتى عرف كلامها وعرفت كلامه. ذات يوم شكت إليه من أبيه الذي ضربها بالعصا وهي تدور في الساقية، وكره أباه في ذلك اليوم ولم يأكل معه، وضربه أبوه ليأكل، لكنه لم يأكل وبات جائعا بغير عشاء.
كانت ابنته نفيسة تدهش وهي طفلة صغيرة حين تسمعه يكلم الجاموسة، لكنه كان يجلسها على ركبتيه ويقول لها: «يا ابنتي، الجاموسة تفهم وتتكلم مثلنا.» لم تكن ابنته نفيسة تعرف الكلام بعد، لكنها كانت تفهم ما يقوله أبوها لها، وتنظر إليه بعينيها الواسعتين الصامتتين. وأحيانا تهز رأسها وتضحك، وقد تمد يدها الصغيرة وتلعب بإصبعها في شاربه الغزير فوق فمه ، ويفتح كفراوي فمه ويقبض بشفتيه على أصبعها الناعم الصغير فتضحك نفيسة وتشد أصبعها. وذات مرة ضغط بأسنانه على أصبعها كأنما سيأكله فصرخت من الألم وابتعدت عنه مذعورة. كانت تخاف منه في هذه اللحظات التي ترى وجهه يتغير فجأة ويصبح لونه أسود وملامحه مخيفة. لم تكن تعرف متى ينقلب وجهه ليصبح أسود بلون الجاموسة. وهي تخاف من الجاموسة أحيانا كما تخاف من كفراوي. تلعب معها وتضحك وتشد ذيلها الناعم الطويل، ولكن فجأة يتغير وجهها الهادئ الوادع كما يتغير وجه أبيها فجأة ويصبح أسود، وتمتلئ عيناها الواسعتان بنظرة مخيفة، وقد ترفسها أو تنطحها برأسها، ومرة عضتها عضة خفيفة.
مسح كفراوي رأسه في الضرع الناعم الممتلئ، ثم مد شفتيه الجافتين الظامئتين وأمسك الحلمة السوداء، أحس باللبن الدافئ يهبط إلى بطنه فارتخت عضلات جفنيه وانغلقت عيناه. لكن اللبن زحف هابطا أسفل بطنه، أحس به يتجمع في عضلة تحت سرته، امتلأت وانتفخت ونفرت عن بقية جسده كعضو غريب، ضغط عليه بيده ليعيده إلى جسده كما كان، لكنه لم يستطع، ورآه يتحرك ببطء خارج جسده وخارج إرادته، ويزحف فوق الضرع الناعم يتشمم رائحة الأنثى، ويلعق البلولة المألوفة، يعثر على الثقب الدافئ فينزلق داخله في الظلمة والسكون الأبدي كالموت، ويحاول أن يخرج مرة أخرى ليلتقط أنفاسه في الهواء، لكن الثقب ينقبض عليه منغلقا يكاد يخنقه، فينتفض انتفاضات شديدة مجنونة، طلبا للحياة، ثم يفقد قواه ويرتخي تماما بعد أن يسكب كل ما احتواه، ويسقط جفناه المرتخيان فوق عينيه ويغط في نوم عميق.
لكنه ما لبث أن فتح عينيه مذعورا على صوت الصرخة. لم تكن صرخة رجل ولا صرخة امرأة ولا صرخة حيوان يضرب، صرخة غريبة لم تطرق أذنيه من قبل إلا مرة واحدة منذ زمن بعيد. كان راقدا فوق بطنه على التراب وأمه إلى جواره تنخل الدقيق بيديها، وعيناها السوداوان لا تفارقان وجهه، يحس بهما فوق وجهه كلمسات بطن اليد الناعمة. وفجأة سمع الصرخة. لم يتعرف في الصرخة على صوت أمه، الدقيق مبعثر من حولها وعلى شعرها وكفيها كالتراب الأحمر، عيناها مفتوحتان تنظران إليه بنظرة ليست هي نظرة أمه. ظن أنها واحدة أخرى، وأن أمه خرجت من الباب. وحرك رأسه ناحية الباب، فالتقت عيناه بعينين ضيقتين لم يرهما من قبل، حدقتا فيه بنظرة مخيفة، فاختفى رأسه في الأرض وأغمض عينيه ونام. لم يكن نائما تماما لأنه أحس الذراعين تحملانه وتسيران به في طريق طويل. أراد أن يفتح عينيه لحظة لينظر، لكنه خشي أن يرى العينين الضيقتين مرة أخرى فظل نائما بين الذراعين الكبيرتين، وجهه يستند إلى صدر مشعر متخشب تنبعث منه رائحة غريبة، وقدماه الصغيرتان الحافيتان تتدليان في الهواء، وتهتزان مع الخطوات الواسعة الرتيبة كخطوات الجمل ...
رنت الصرخة للمرة الثانية في أذنيه فانتفض من رقدته واندفع بغير وعي نحو مصدر الصوت، الذي حدده بنقطة في وسط حقل الذرة، انطلقت منها الصرخة وتبعتها حركة خفيفة في أعواد الذرة، ثم انتهى الصوت وانتهت الحركة وعاد حقل الذرة مستويا ساكنا كما كان، والسكون يخنق الأرض كالشمس الحمراء بغير نسمة.
ظن أنه يحلم، لكن حقل الذرة انشق فجأة في النقطة نفسها عن عينين ضيقتين لم تلبثا أن اختفتا كأنما انشقت الأرض وابتلعتهما مرة أخرى في النقطة ذاتها.
نحو هذه النقطة رأى كفراوي قدميه الحافيتين المشققتين تسيران ببطء. ارتعد جسده بخوف قديم غامض، وحاول أن يوقفهما، وخيل إليه أنه أوقفهما فعلا، لكنه رآهما تستمران في السير بغير سرعة وبغير بطء، وإنما بذلك الدأب والإصرار الغريزي أو بغريزة الإصرار الدائبة على اكتشاف المجهول.
فرق أعواد الذرة بذراعيه، ونظر إلى الأرض، فرأى الجسد الممدود ومن حوله التراب الأحمر والعينين المفتوحتين كعيني أمه. اقترب منها وأمسك وجهها بين كفيه ليرى أكثر وأكثر، لكنه رأى رأسها حليقا كرأس الرجل، وجلبابها كجلباب رجل، وعينيها لا تشبهان عيني أمه ولا عيني أية امرأة أخرى رآها من قبل.
تراجع إلى الوراء في فزع، وقبل أن يرفع يديه ليخفي بهما عينيه، أحس باليد القوية الصلبة التي أمسكته من الخلف، وسمع الأصوات الغليظة والضجيج الذي أخذ يعلو في أذنيه ويشتد، ثم استدار إلى الخلف فرأى عددا غفيرا من الوجوه والعيون شاخصة إليه، واستطاع بعد فترة أن يتعرف في مقدمتها على عيني شيخ الخفر الضيقتين. •••
بالحركة نفسها البطيئة التي ينزلق بها قرص الشمس كل يوم لتبتلعه الأرض ناحية الغرب، تتحرك أقدام الجاموس والبقر والفلاحين فوق الجسر عائدين منهوكين من الحقل إلى بيوتهم الطينية المظلمة أو الزرائب الرطبة، تفوح منها رائحة الروث القديم وبراز الأطفال وخبيز الفرن. قبل أن يهبط الليل تماما ويغطي السماء والأرض بالعباءة السوداء الكثيفة، كان الجسر قد أصبح خاليا من الناس والبهائم، تعلوه آثار الأقدام البشرية ذات الأصابع الخمس، إلى جوارها حوافر الجاموس والبقر والحمير، تتخللها من حين إلى حين قطع الروث المستديرة لا تزال ساخنة بدرجة حرارة الجسم.
Página desconocida