Muerte del único hombre en la Tierra
موت الرجل الوحيد على الأرض
Géneros
ثمن الكتابة
إهداء
موت الرجل الوحيد على الأرض
ثمن الكتابة
إهداء
موت الرجل الوحيد على الأرض
موت الرجل الوحيد على الأرض
موت الرجل الوحيد على الأرض
تأليف
نوال السعداوي
Página desconocida
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
Página desconocida
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
Página desconocida
22 مارس 2017
إهداء
إلى «زينب» ابنة عمتي،
وإلى كل أبناء وبنات قريتي كفر طلحة، قليوبية، مصر.
نوال السعداوي
موت الرجل الوحيد على الأرض
•••
قبل أن يظهر ضوء الشفق الأحمر من فوق رءوس الأشجار البعيدة، وقبل أن يرتفع في الظلام صياح ديك أو نباح كلب أو نهيق حمار، أو صوت الشيخ حمزاوي يؤذن لصلاة الفجر، قبل كل هذا يفتح الباب الخشبي الكبير، محدثا ذلك الصرير كصرير الساقية العتيقة، ويظهر شبح طويل، ممشوق، مرفوع الظهر، يمشي على ساقين مشدودتين في خطوات ثابتة قوية، ومن خلفه شبح يمشي على أربع سيقان مرتخية بطيئة كسولة.
يختفي الشبحان في الظلمة بين البيوت الطينية، ثم يظهران فوق جسر النيل. في ضوء الفجر، يبدو وجه زكية نحيلا شاحبا وصارما، شفتاها مطبقتان في إصرار من يرفض النطق، وعيناها واسعتان مرفوعتان في تحد أشبه بالغضب، أو غضب أشبه بالتحدي. من خلفها يظهر وجه الجاموسة طويلا ونحيلا وشاحبا أيضا، لكنه ليس صارما، وعيناها واسعتان مرفوعتان أيضا، ولكن نظرتهما منكسرة شبه مستسلمة للقضاء والقدر.
يسقط ضوء الفجر على وجه النيل، فتبدو أمواجه الهزيلة كتجاعيد وجه عجوز صامت وحزين، مياهه الراقدة في القاع تبدو ساكنة ولا تتحرك، أو هي تتحرك حركة واهنة ضعيفة غير محسوسة، كحركة السحاب أو كحركة الزمن.
Página desconocida
والهواء أيضا حركته بطيئة، يهز رءوس الأشجار بحركة تكاد لا ترى، وذرات التراب الرقيقة تتطاير من فوق الجسر إلى المنخفض، حيث ترقد البيوت الطينية السوداء، بنوافذها الصغيرة المغلقة، وأسطحها المنخفضة المتعرجة، تعلوها أكوام الحطب والقش والجلة، وتهبط إلى الأزقة الملتوية المسدودة بأكوام السباخ ، ثم تستقر في النهاية على وجه الترعة، تعلوها طبقة معتمة شبه طينية.
تظل زكية تمشي ومن خلفها الجاموسة؛ خطوتها لا تتغير، وجهها لا يتغير، والنيل عن يسارها لا يتغير، لكن المنظر عن يمينها يتغير، تتحرك البيوت الطينية إلى الخلف وتصبح وراءها، وتظهر أمام عينيها الحقول الخضراء كشريط طويل ممتد بطول النيل.
تظل سائرة بين النيل والحقول، حركتها لا تتغير، لكن لون السماء يتغير؛ ينقشع السواد شيئا فشيئا، وخط الشفق الأحمر يرتفع في السماء، مكتسبا لونا برتقاليا زاهيا، ثم يبرز قرص الشمس من بطن الأرض ويرتفع في السماء زاحفا ببطء، يكشف عن نفسه جزءا جزءا. قبل أن ينتشر نور النهار وتضيء الدنيا، تكون زكية قد وصلت إلى حقلها وربطت الجاموسة في الساقية على حافة الترعة، وخلعت طرحتها السوداء، وشمرت أكمامها، ورفعت ذيل جلبابها وربطته حول خصرها، ثم حملت الفأس وبدأت تفلح الأرض.
يرن صوت فأسها في الحقول المجاورة قويا ثابتا، وعضلات ذراعيها قوية مشدودة، وجلبابها منحسر عن ساقين طويلتين عضلاتهما قوية نافرة كعضلات رجل. وجهها لا يزال طويلا نحيلا، لكنه لم يعد شاحبا، حرقته الشمس ولوحته بسمرة قاتمة خالية من الدم. ظهرها لم يعد مرفوعا، ولكن عينيها لا تزالان مرفوعتين في تحد أشبه بالغضب أو غضب أشبه بالتحدي. وضربات فأسها، كملامحها، غاضبة متحدية للأرض. ترفع الفأس إلى أعلى، كأنما تضرب به السماء، ثم تهوي به إلى أسفل لتشق بطن الأرض.
تظل ضربات فأسها قوية ثابتة، لا تسرع ولا تبطئ، كدقات الساعة، تقتل الزمن دون أن يقتلها، وتكسر الأرض دون أن تنكسر، ترن في الحقول المجاورة طول النهار بغير توقف، حتى في وقت الظهيرة حين تتوقف فئوس الفلاحين الرجال ساعة الغداء، تظل ضربات زكية تدق الأرض، والجاموسة أيضا قد تتوقف لحظة، وتكف الساقية عن صريرها المنتظم، لكن فأس زكية تظل ترتفع وتنخفض وترتفع وتنخفض.
ترتفع الشمس في وسط السماء، ويصبح قرصها كقطعة من الجمر الملتهب، تخنق الهواء، وتخنق الشجر، ويصبح كل شيء أحمر مختنقا، لكن وجه زكية لا يكتسب أبدا اللون الأحمر ، يتصبب منه العرق ويسيل على الأرض يروي الأرض، ويظل بلونه الأسمر القاتم خاليا من الدم، كوجه الجاموسة، قد تحرقه الشمس فيزداد سوادا لكنه أبدا لا يشف من تحته الدم.
يبدأ قرص الشمس في الانحدار ناحية الغرب، فاقدا توهجه الأحمر الملتهب، ويبدأ الهواء يتحرك قادما من ناحية النيل، وتتحرك رءوس الأشجار بحركتها البطيئة الكسولة، وينتشر اللون البرتقالي في السماء يعقبه اللون الرمادي. يجف العرق فوق وجه زكية كطبقة رمادية معتمة، تختفي تحتها السمرة القاتمة. تترك الفأس وتشد عضلاتها بقوة ليصبح ظهرها مرفوعا. تشد أكمامها فوق ذراعيها وتفك جلبابها من حول خصرها لينسدل طويلا فوق ساقيها حتى يغطي قدميها. تضع الطرحة السوداء فوق رأسها وتسحب الجاموسة عائدة في الطريق نفسه، إلا أن النيل يصبح الآن عن يمينها والحقول عن يسارها، والشفق الأحمر يصبح ناحية الغرب، ورءوس الأشجار البعيدة من وراء النيل.
يقع ظلها وظل الجاموسة فوق الجسر الترابي. ظلها طويل ممشوق مرفوع الظهر، مرفوع الرأس، وخطواتها قوية متحدية. ظل الجاموسة محني الظهر، منخفض الرأس، خطواتها مرهقة مرتخية مستسلمة. يسيران كالشبحين الصامتين بحذاء النيل الصامت، والحقول أيضا من الناحية الأخرى صامتة، شريط طويل من الخضرة الساكنة بحذاء مياه النيل الساكنة، والهواء صامت، وهما يسيران، زكية ومن خلفها الجاموسة، حتى تصبح الحقول وراءها وتظهر أمامها البيوت الطينية متلاصقة تميل ناحية الجسر كأنما تستند إلى بطن الجسر خشية من المنخفض الترابي.
عند المنحدر، تهبط زكية ومن خلفها الجاموسة، يهبطان الجسر ويسيران في الأزقة بين البيوت حتى الباب الخشبي الكبير، تدفعه زكية بيدها السمراء المعروقة فينفتح محدثا صريره الغليظ. تترك الجاموسة إلى الزريبة، تدخل وحدها، تعرف طريقها إلى الزريبة. أما زكية فتجلس على الأرض في مدخل البيت، مسندة ظهرها إلى الجدار، ووجهها ناحية الطريق، ترمقه بعينيها الواسعتين من خلال فتحة الباب الكبيرة.
تظل جالسة لا تتحرك، شاخصة بعينيها الثابتتين نحو شيء محدد؛ قد يكون كوم سباخ أمام عتبة الباب، قد تكون عتبة الباب نفسها، أو براز طفل بجوار الحائط، أو جيشا من النمل حول خنفسة ميتة ، أو أحد الأعمدة الحديدية السوداء في الباب الكبير المواجه لبابها. وقد تظل محملقة في الفراغ، حتى تشعر بألم حاد في عظام رأسها؛ فتلف الطرحة وتشدها بقوة حول رأسها. وحين يصبح الألم في معدتها تشد مشنة الخبز من جوارها، فتنفرج شفتاها المطبقتان عن فتحة ضيقة تدس فيها قطعة خبز مقددة تعقبها بقطعة من الجبن القريش أو المخلل.
Página desconocida
يثقل جفناها بإرهاق يشبه النوم، وقد تغفو بضع لحظات وهي جالسة. تسند رأسها إلى ركبتها وتغمض عينيها أو لا تغمضهما؛ فهي لم تعد ترى ما حولها. يدخل كفراوي ويجلس إلى جوارها، يظن من عينيها المفتوحتين أنها صاحية لكنها لا تراه، أو لا تراه بحجمه الحقيقي الذي يبدو به الآن، وإنما تراه صبيا صغيرا يمشي وراء الحمارة، وهي لا تزال طفلة عاجزة عن المشيء، تزحف فوق بطنها في مدخل البيت الترابي، تلعق التراب، ويدخل التراب أنفهما وفمها وعينيها فتدعكهما بكفها الصغيرة وترفع رأسها فوق الأرض فترى الأقدام الأربع الضخمة تتحرك نحوها مقتربة من رأسها، وترتفع إحدى الأقدام في الهواء وترى بطنها الأسود كالمطرقة الحديدية الضخمة تكاد تسقط فوق رأسها؛ ترتعد في فزع وتصرخ، فتحس الذراعين الكبيرتين حولها ترفعانها من فوق الأرض، وتحس صدر أمها وتشم رائحتها فتكف عن البكاء.
لم تعد تذكر وجه أمها، وملامحها كلها اختفت، إلا تلك الرائحة التي بقيت منها، رائحة تشبه رائحة العجين أو الخميرة، وكلما شمت زكية العجين شعرت بنوع غامض من السعادة، وقد تنفرج شفتاها المطبقتان دائما عن نفس عميق، أو تطفو فوق عينيها الغاضبتين لمحة ابتسامة خافتة، سرعان ما تختفي ويعود وجهها إلا ملامحه الأولى، فتنطبق شفتاها في قوة وإصرار من رفض الكلام، وتعلو عينيها نظرة الغضب المتحدية أو التحدي الغاضب.
حين بدأت تقف على قدميها وتمشي، أصبحت تذهب مع أخيها كفراوي إلى الحقل، هو يسحب الجاموسة وهي تمشي وراء الحمارة المحملة بالسباخ. لم تكن تسمع صوت أخيها إلا حينما يخاطب الجاموسة قائلا: شي ... شي ... أو يحث الحمارة على السير قائلا: حا ... حا ...
في الحقل كانت ترى أباها . لم تعد تذكر وجهه أو ملامحه، ما بقي من ذاكرتها صورة ساقيه الطويلتين النحيلتين وركبتيه البارزتين وجلبابه المرفوع المربوط حول خصره، والفأس الكبيرة في يده ترتفع وتنخفض في ضربات منتظمة، والساقية بجوار الترعة تئن بالصرير الغليظ المنتظم. يظل صوت الساقية يدق بانتظام في رأسها، ثم يتوقف فجأة؛ فتحرك رأسها ناحية الجاموسة وتقول بصوت عال: شي ... شي ... لكن الجاموسة لا تتحرك، يظل رأسها الأسود ثابتا، وعيناها السوداوان مفتوحتين شاخصتين إليها في صمت؛ تهم زكية بأن تفتح شفتيها مرة أخرى وتقول: شي ... لكنها تدرك فجأة أن ما أمامها ليس وجه الجاموسة، وإنما وجه كفراوي الأسمر القاتم. ملامحه تشبه ملامحها، وعيناه تشبهان عينيها مرفوعتين وغاضبتين، ولكنهما خاليتان من التحدي وشبه يائستين.
يظل كفراوي جالسا إلى جوارها مطبقا شفتيه، مسندا ظهره إلى الجدار الطيني، وعيناه شاخصتان نحو الطريق، أو ثابتتان فوق ذلك الباب الحديدي الكبير المواجه لبابهم. لكنه في ذلك اليوم حرك عينيه ناحيتها وانفرجت شفتاه عن صوته الخشن المنخفض الشبيه بالهمس: البنت اختفت يا زكية. البنت راحت.
انفرجت شفتاها المطبقتان عن صوت فزع: راحت؟
قال بصوت يائس: نعم راحت! ليس لها أثر في كل البلد.
رمقته بعينيها السوداوين الواسعتين، فظل شاخصا إليها في صمت طويل بعينيه اليائستين، ثم قال: نفيسة ليست في كفر الطين كلها يا زكية. نفيسة اختفت ... ذهبت ولن تعود.
وأمسك رأسه بيديه وردد بصوت كالنشيج: نفيسة ضاعت منا يا زكية! آه يا رب!
حركت زكية عينيها ناحية الطريق، وقالت بصوت حزين هامس: آه يا رب! ضاعت منا كما ضاع جلال!
Página desconocida
رفع كفراوي يديه عن رأسه وقال: جلال لن يضيع يا زكية، سيعود جلال إليك بعد أيام.
قالت وهي تتنهد: كل يوم تقول لي هذا يا كفراوي، وأنت تعرف أن جلال مات وتخفي عني يا كفراوي.
قال: لم يقل أحد إنه مات.
قالت: غيره كثير ماتوا يا كفراوي.
قال: وغيره رجع سليما يا زكية. اصبري وصلي لربنا يرجعه بالسلامة.
قالت: ياما صليت وصليت يا كفراوي ...
قال: صلي تاني يا زكية وادعي ربنا يرجعه ويرجع نفيسة. يا ترى أين ذهبت يا نفيسة!
وانقطع صوتها المنخفض الشبيه بالأنفاس المتلاحقة المتقطعة، ودب من حولها صمت ثقيل من الظلمة، وظلت عيناهما مفتوحة شاخصة في الفراغ الأسود الممتد بطول الليل. •••
انفتح الباب الحديدي الكبير، وظهر منه عمدة كفر الطين، طويل القامة، عريض الكتفين، عريض الوجه، ورث نصف وجهه الأعلى عن أمه الإنجليزية: شعر ناعم وعينان زرقاوان من تحت جبهة عريضة مرتفعة، أما نصف وجهه الأسفل فقد ورثه عن أبيه المنحدر من الصعيد البعيد: شارب أسود كثيف، من فوقه أنف غليظ ومن تحته شفتان غليظتان توحيان بشراهة ونهم للملذات والشهوات. في عينيه، حين ينظر، قسوة مهذبة أشبه بالاستعلاء الإنكليزي، وفي صوته، حين يتكلم، غلظة رجال الصعيد، لكنها غلظة بغير عنف، يشوبها نوع من التواضع أشبه بالانكسار الذي يميز بعض الرجال في مصر أو الهند أو غيرها من البلاد التي استعمرت طويلا.
سار العمدة بخطواته البطيئة، تنسدل فوق كتفيه عباءة، ومن خلفه سار شيخ الخفر وشيخ الجامع. اجتازوا فناء الدار الكبير، ثم خرجوا إلى الشارع الضيق، رأوا في فتحة الباب المظلمة شبحين جالسين في الظلام. لم يروا ملامحهما، لكنهم عرفوا أنهما كفراوي وزكية. دائما يرونهما جالسين صامتين في الظلمة، وحينما يرون شبحا واحدا يعرفون أن كفراوي قد بات في الحقل.
Página desconocida
في مثل هذا الوقت، كل ليلة، يذهب ثلاثتهم إلى الجامع لصلاة العشاء، ثم يعودون للجلوس في شرفة بيت العمدة المطلة على النيل، أو يعرجون إلى دكان الحاج إسماعيل، حلاق الصحة، فيجلسون معه أمام الدكان يدردشون ويدخنون الشيشة.
لم يدخن العمدة الشيشة في تلك الليلة. أخرج من جيبه سيجارا طويلا وأشعله وهو مقطب الجبهة. أدرك الحاج إسماعيل أن العمدة متوعك المزاج؛ فاختفى داخل الدكان لحظة ثم عاد وجلس إلى جوار العمدة، وهو يضع في يده قطعة حشيش، لكن العمدة هز رأسه ويده معرضا وقال: لا، لا أريد أن أدخن الليلة. - لماذا يا عمدة؟ - ألم تسمع الأخبار؟ - أي أخبار؟ - أخبار الحكومة. - أي حكومة؟ - عندنا كم حكومة يا حاج إسماعيل؟ - عندنا كثير يا عمدة. - هي حكومة واحدة! - في مصر أم في كفر الطين؟ - في مصر طبعا. - ونحن يا عمدة ماذا نكون؟
وضحك شيخ الخفر وهو يقول: نحن الحكومة وأبو الحكومة أيضا.
شاركه في الضحك الشيخ حمزاوي، وظهرت أسنانه الصفراء المصبوغة بالدخان، واهتزت السبحة الصفراء بين أصابعه.
لكن العمدة لم يضحك. ظلت شفتاه الغليظتان قابضتين على السيجار السميك، وعيناه الزرقاوان تنظران بعيدا بامتداد النيل، وامتداد شريط الحقول الموازي للنيل؛ شريط طويل ممتد بامتداد بصره، يكاد يحتل المساحة كلها بين كفر الطين والرملة، لكنه لم يتصور، حين كان يزور هذه الأرض مع أمه لبضعة أيام في الصيف، أن حياته سوف تنتهي في كفر الطين. كان يعشق حياة القاهرة، أنوار الكهرباء في الليل تسطع فوق الشوارع المرصوفة، كازينوهات النيل تتراقص أنوارها فوق سطح المياه الجارية، الكاباريهات ودور اللهو والرقص والشرب والنساء الفواحات بالعطر والميوعة. كان لا يزال طالبا في الجامعة، لكنه كان، بخلاف أخيه الأكبر، يكره الجامعة، ويكره أحاديث الطلبة عن الدروس، وأشد ما كان يكره هو أحاديث أخيه في السياسة.
تذكر الحاج إسماعيل أن جريدة الصباح لا تزال داخل الدكان على المنضدة الخشبية بجوار الميزان، فسحبها بهدوء وبسطها تحت فانوس النور، وحاول أن يقرأ العناوين الكبيرة، لكنه لمح صورة شقيق العمدة في الصفحة الأولى، ولم يستطع أن يقرأ الحروف الكثيرة الصغيرة تحتها، فهمس في أذن العمدة: هل الأمر يتعلق بأخيك؟
ورد العمدة: نعم.
وسأل في لهفة: هل أصابه مكروه لا قدر الله؟
رد العمدة في زهو: لا، بالعكس.
فرد الحاج إسماعيل: ماذا تقصد يا عمدة؟ هل حصل على منصب أعلى؟
Página desconocida
وقال العمدة وهو ينفخ الدخان الكثيف من أنفه وفمه: نعم.
وصفق الحاج إسماعيل بيديه مهللا في سرور: إذن نشرب الشربات يا جماعة.
ودبت الحركة أمام الدكان، وبدأت الجريدة تنتقل من يد الشيخ حمزاوي إلى يد شيخ الخفر، ودخل الحاج إسماعيل إلى الدكان، ثم عاد وفي يده الزجاجة والأكواب.
لم يفهم العمدة سر اكتئابه منذ رأى صورة أخيه في الجريدة. هذا الاكتئاب يعرف مذاقه في فمه، مرارة أو ما أشبه بالمرارة، وجفافا في الحلق يعقبه حرقان في الصدر يتجمع على شكل ألم غامض، ولكنه حاد ينتشر في البطن بادئا من المعدة.
كان وهو صغير يسير إلى الحمام ويفرغ الطعام من معدته، ثم ينظر في المرآة أعلى الحوض فيرى وجهه شاحبا وشفتيه صفراوين وعينيه منكسرتين وفوقهما غشاوة. يغسل فمه بالماء ليتخلص من المرارة، وحينما يرفع رأسه مرة أخرى وينظر في المرآة، يرى وجه أخيه متورد البشرة، عيناه تلمعان بزهو بالانتصار، ويرن صوته في أذنه قائلا: «أنا ناجح وأنت فاشل»! يبصق الماء من فمه على وجه أخيه في المرآة، ويشد عضلات عنقه وظهره ويقول: «أنا أحسن منك»!
من يراه خارجا من الحمام يظن أنه هو الذي نجح، لا أخوه، وتضيع المرارة من فمه، ويعود إلى شفتيه لونهما الوردي وإلى عينيه بريقهما، ويضحك ويمرح ويقهقه، وقد يبلغ به المرح أن يداعب أمه وهي جالسة تشتغل التريكو، ويشد منها الخيط أو البكرة؛ فإذا بأمه تسلط عليه عينيها الزرقاوين الغاضبتين، وتقول بلهجتها الإنجليزية الصارمة: «أخوك أحسن منك.» وقد تسحب الجريدة من جوارها وتشير إلى اسم أخيه المنشور في إحدى الصفحات وتقول: «أخوك نجح ... أما أنت.»
تتجمد الضحكة في حلقه كالغصة، يبتلع ريقه بصعوبة، مدركا أن مرحه السابق لم يكن مرحا حقيقيا، وأن إحساسه بأنه أحسن من أخيه إحساس زائف. وتسيطر عليه حقيقة أن أخاه أحسن منه كالعرق البارد اللزج ينتشر فوق وجهه ويسيل بطيئا في أنفه وفمه، يعرف مذاقه المر، ويعرف أن المرارة ستزحف إلى صدره وبطنه، وقد يسير إلى الحمام مرة أخرى ليتقيأ أو يكتفي بالبصق عدة مرات في الحوض.
كان الحاج إسماعيل يشرب الشربات من الكوب النحاسي، حين رأى العمدة يبصق على الأرض، ثم يشد عضلات ظهره وعنقه، وتكسو عينيه الزرقاوين نظرة استعلاء وزهو، وكأنه يقول: «أنا أحسن منكم، أنحدر من أسرة راقية، أمي إنجليزية، وأخي أحد الذين يحكمون البلد!»
انكمش الحاج إسماعيل فوق الدكة الخشبية متفاديا عيني العمدة. كان ينوي أن يمزح معه، أو يروي له آخر نكتة كما كان يفعل أحيانا، لكنه نظر إلى صورة أخيه في الجريدة وهو جالس متغطرس داخل بدلة أنيقة بين كبار القوم، ثم رمق رفوف دكانه الخشبية المشققة يعلوها التراب وبضع علب من الصفيح صدئة، وانتقلت عيناه إلى عباءة العمدة الثمينة، ثم تحسس بظهر يده جلبابه الخشن.
رأى العمدة الحاج إسماعيل يرفع الكوب ويفرغ الشربات من جوفه دفعة واحدة، كأنما هو جرعة من الزيت الخروع، فضحك وضربه مداعبا على ركبته وهو يقول: أنتم يا فلاحين تشربون الشربات بالطريقة التي نشرب بها نحن الدواء.
Página desconocida
ضحك الحاج إسماعيل متخففا بعض الشيء من الشعور بالمهانة والضعة، وقد أعاد إليه مزاح العمدة بعض ثقته بنفسه، وقلل من المسافة الكبيرة القائمة بينهما، وقال مشجعا العمدة على مواصلة المزاح: نحن الفلاحين يا عمدة لا نعرف حلاوة الشربات من مرارة الدواء.
صمت العمدة لحظة مفكرا، وأدرك الحاج إسماعيل بعد أن رنت الجملة في أذنه أنها قد توحي للعمدة بمعنى بعيد لم يقصده، أو على الأقل لم يقصده بوعي، فقال وهو يضحك: أقصد يا عمدة أن كل شيء في فم الفلاحين له طعم مر.
ظل العمدة صامتا، وخيل للحاج إسماعيل أن التوفيق خانه في مزاحه مع العمدة، وأن ما قاله قد يعني من بعيد أو قريب أن حياة الفلاحين مرة كالعلقم، وأن هذا قد يعني بالتلميح أو بالتصريح أن الحكومة كاذبة في ادعائها أنها ترعى الفلاحين وتوفر لهم حقوقهم، وأن العمدة بصفته مندوب الحكومة في كفر الطين يستغل الفلاحين مثل غيره من الحكام، وأن أمواله التي ينفقها بغير حساب على أكله وشربه ودخانه ونسائه هي أموال مسلوبة من عرق ودم الفلاحين.
كان من الممكن أن ينزوي الحاج إسماعيل مرة أخرى في الركن يلعن غباءه ويقول لنفسه: «جيت تكحلها عمتها»، لولا أن رأى عيني العمدة تلمعان فجأة وهو يتطلع ناحية النيل، وبسرعة حرك الحاج إسماعيل رأسه فرأى فتاة مرفوعة الظهر مرفوعة الرأس، وعيناها السوداوان الواسعتان مرفوعتان وفيهما شمخة نساء أسرة كفراوي.
وقرب العمدة رأسه من رأس الحاج إسماعيل وقال : هذه تشبه نفيسة.
ورد الحاج إسماعيل بسرعة: إنها زينب، أختها الأصغر يا عمدة.
وسأل العمدة: لم أكن أعرف أن نفيسة لها أخت.
أدرك الحاج إسماعيل على الفور ما يدور في رأس العمدة، فقال محاولا كسب وده: الاثنان أحلى من بعض يا عمدة.
وغمز العمدة بعينه للحاج إسماعيل، وهو يضحك: الأصغر دائما أحلى.
ضحك الحاج إسماعيل ضحكة كبيرة، شافطا بأنفه وفمه كما من الهواء، شاعرا بانتعاش، مزيحا الكآبة من فوق صدره، موقنا بعد طول شك أن العمدة لم يتغير بعد صعود أخيه إلى الحكم، وأنه لا يزال يمازحه كما يمازح الند، ويفتح له قلبه كالصديق.
Página desconocida
وهمس في أذن العمدة وهو يغمز له بعينيه: صدقت يا عمدة، الأصغر دائما أحلى.
سكت العمدة طويلا وعيناه تتبعان جسد زينب الفارع الممشوق وهي تسير فوق الجسر، ردفاها المستديران يضربان الجلباب الطويل من الخلف، ونهداها المدببان يصعدان ويهبطان مع حركة ساقيها الطويلتين الممشوقتين المنتهيتين إلى كعبين ناعمين متوردين.
قال العمدة موجها كلامه إلى شيخ الخفر: إني أعجب يا شيخ الخفر من أين يطعم هذا الكفراوي بناته. انظر! إن الدم يكاد يندفع من كعبيها.
وضحك شيخ الخفر مبتلعا الهواء بعد طول اختناق وصمت، متصورا أن إعراض العمدة عنه وإقباله على الحاج إسماعيل معناه أنه غير راض عنه، وقال وهو يسترد مرحه القديم: لا بد أنه يسرق يا عمدة. أتحب أن نضعه في السجن؟ أوامرك يا حضرة العمدة!
ونهض شيخ الخفر بحركة تمثيلية، وقال بصوت مسرحي كأنما ينادي على أحد مساعديه من الخفراء: «هات يا ولد الكلابشات والسلاسل!»
ضحك العمدة مقهقها، وضحك معه الرجال الثلاثة ومن بينهم الشيخ حمزاوي الذي توقف عن شفط الهواء من الشيشة. ضحك بشدة مظهرا أسنانه الصفراء المتآكلة، واهتزت السبحة الصفراء بين أصابعه.
وقال العمدة بعد أن هدأت القهقهات مخاطبا أيضا شيخ الخفر: لا يا شيخ زهران! كفراوي ليس من النوع الذي يمكن أن يسرق.
ورد الشيخ حمزاوي بلهجته القاطعة الحاسمة وكأنه يرتل آية قرآنية أو ينطق بحديث نبوي شريف: كل الفلاحين يسرقون، السرقة تجري في دمهم مثل دودة البلهارسيا؛ الواحد منهم يتظاهر أنه طيب وأهبل ويعرف ربنا، وهو في الحقيقة معلون مكار وكافر ابن كافر. الواحد منهم يا عمدة يصلي ورائي في الجامع، ثم يذهب إلى الحقل ليسرق أخاه أو يسمم بهائمه أو حتى ...
وسكت قليلا ليبتلع ريقه ويختلس نظره إلى وجه العمدة، فلما رآه مشجعا، قال بحماس وحدة: أو حتى يزني أو يقتل!
وكأنما تعدى الشيخ حمزاوي على اختصاص شيخ الخفر، فرفع الشيخ زهران ساقه اليمنى ووضعها فوق الساق الأخرى مزيحا جلبابه عن حذائه الجديد وقال: أما عن الزنا والقتل، فاسألوني أنا شيخ الخفر.
Página desconocida
ثم ابتسم للعمدة في تودد وقال متسائلا: ألا يا عمدة وأنت سيد العارفين، هل الناس في مصر مثل الناس في كفر الطين؟
ورد الشيخ حمزاوي بسرعة: الناس كلها فسدت يا شيخ زهران، والبلد لم يعد بها إسلام ولا مسلمون.
لكنه رأى نوعا من الاستياء يظهر على وجه العمدة فقال متداركا: فيما عدا بالطبع الناس الأكابر ذوي الأصل العريق والحسب والنسب من أمثال سيدنا العمدة.
وأسرع ودعم كلامه بأحد الأحاديث أو الآيات التي أسعفته بها ذاكرته المرتخية بفعل دخان الشيشة، ورتل بصوت وقور مهيب: قل اسألوا عن الأصل؛ إن العرق دساس ...
مط العمدة شفتيه الغليظتين في وجه شيخ الجامع الذي حول الحديث من كعبي زينب المتوردتين إلى الإسلام والمسلمين، واتجه نحو الحاج إسماعيل: بصفتك الطبيب المداوي هنا، كيف يمكن للكفراوي ذي البشرة السمراء القاتمة والسيقان المعوجة أن ينجب بنات مثل القشدة؟
ورد الشيخ حمزاوي ضاحكا؛ ليمسح من ذاكرته صورة شفتي العمدة وهما ممطوطتان في وجهه: يخلق من ظهر العالم فاسد.
وتجاهل العمدة تعليقه وقال موجها كلامه للحاج إسماعيل: ما رأيك يا حاج إسماعيل؟
كان حلاق الصحة لا يزال يعيد في أذنه كلمة «الطبيب المداوي» بصوت العمدة، ويشعر كأنما منحه العمدة بهذه الكلمة شهادة بكالوريوس الطب، وأصبح رأسه برأس أي طبيب في البلد، فمط عنقه طويلا وشرد بعينيه الضيقتين في الأفق شرود العارفين والعلماء والذين انكشفت أمامهم الأسرار والحجب ثم قال: والله يا عمدة، والعلم لله سبحانه وتعالى، هذه المسألة لها تفسير بكل تأكيد، وهو أن أم نفيسة توحمت وهي حامل بها على صحن من القشدة، أو أنها قبل أن تحمل بزينب ركبها عفريت أبيض.
ضحك العمدة وقهقه طويلا ملقيا رأسه إلى الخلف، وقال مازحا مستنجدا بشيخ الخفر: الأرواح والعفاريت تزاحمنا يا شيخ في ركوب النساء!
وهب شيخ الخفر واقفا بحركته المسرحية السابقة قائلا: هات يا ولد الكلابشات والسلاسل، امسك العفاريت يا ولد ...
Página desconocida
ثم همس وهو يبصق في عبه: اللهم اجعل كلامنا خفيفا عليهم.
ضحك الجميع، وكان أشدهم ضحكا هو الشيخ حمزاوي الذي حاول مرة أخرى أن يذيب الثلج بينه وبين العمدة فهمس في أذنه: نساء أسرة كفراوي يا عمدة معروف عنهم منذ زمن أن عيونهم مفتوحة عن آخرها.
ورد العمدة ضاحكا: عيونهم فقط يا شيخ حمزاوي؟
وانفجر الجميع في الضحك مرة أخرى، وارتفعت القهقهات في الظلمة الساكنة فوق سطح النيل، قهقهات صادرة عن صدور تخففت إلى حد كبير من كآبتها ومرارتها.
حتى العمدة نفسه شعر أنه قد تخلص نهائيا من المرارة التي بدأت منذ اللحظة التي رأى فيها صورة أخيه في الجريدة، وأصبح في غير حاجة إلى السهر أو السمر، فتثاءب بصوت عال، فاتحا فمه مظهرا صفين من الأسنان البيضاء الحادة الطويلة المدببة كأسنان ثعلب أو ذئب، وقال بصوت آمر وهو ينهض ناظرا في ساعته: هيا بنا ...
فأصبح الرجال الثلاثة وقوفا على أقدامهم في أقل من غمضة عين. •••
ساوت بكفها التراب، ملقية بضع قطع من الحجر والزلط في بطن الجسر، ثم اتكأت بذراعها فوق الأرض، وجلست مسندة ظهرها إلى جذع شجرة جميز. سرت في جسدها الساخن رطوبة الأرض، وتسرب إلى عظام ظهرها المرهقة شيء ندي من جذع الشجرة، فأسندت رأسها إليه، ومسحت وجهها فيه، لاعقة بلسانها الجاف لبنه الأبيض كالندى.
ذكرها الجذع بالضرع السخي الدافئ الذي ما إن كانت تلمسه بشفتيها حتى ينسكب اللبن الدافئ في فمها. مسحت بطرف كمها حبة عرق سقطت من منتصف جبهتها فوق أنفها، وامتدت يدها تمسح عينيها، لكنها وجدتهما جافتين فهمست بغير صوت: «الله يرحمك يا أمي.»
رفعت وجهها إلى السماء فسقط ضوء الفجر على عينيها الواسعتين المرفوعتين إلى أعلى كعيني عمتها زكية، فيهما غضب لكنهما غير متحديتين، تطفو عليهما سحابة متحركة كالقلق أو الضياع أو الخوف من المجهول. تاهت عيناها في السماء الضخمة الممتدة فوق رأسها، وانتابتها رعشة حين رأت الأرض تلتحم بالسماء في الأفق البعيد، وقرص الشمس يبرز من بينهما شيئا فشيئا، يلون الحقول والنيل بضوء برتقالي. رفعت طرف طرحتها السوداء وأخفت وجهها قبل أن يسقط عليه ضوء النهار، ونظرت أمامها فرأت النيل هو النيل، والجسر ممتد بغير نهاية. نظرت خلفها ورأت النيل هو النيل، والجسر ممتد أيضا، ولكن في نهايته كانت تعلم أن هناك كفر الطين، وهناك بيتهم الطيني الصغير وإلى جواره بيت عمتها زكية، يواجهه البيت الكبير ذو الباب الضخم والعمدان الحديدية.
كانت تزحف على بطنها أمام البيت في الحارة المتربة، وحين ترفع رأسها ترى الأعمدة الحديدية كالسيقان الطويلة الضخمة تتحرك نحوها وتكاد تسحقها وتصرخ من الخوف تحملها الذراعان الكبيرتان وتشم رائحة أمها كرائحة الجميز، وتناولها أمها حبة جميز تأكلها بنهم والدموع لا تزال في عينيها.
Página desconocida
منذ طفولتها وهي تشعر بخوف من منظر ذلك الباب ذي الأعمدة الحديدية الضخمة. تسمع الناس من حولها يشيرون إليه دون أن يقتربوا منه، وأصواتهم العالية تتحول إلى همس حين يمرون من جواره، وعيونهم المرفوعة الغاضبة والقاسية أحيانا تتحول إلى عيون منكسرة بغير غضب وبغير قسوة، وتمتلئ أحيانا بالرضا أو الاستسلام بل بالخضوع والخوف.
بعد أن تعلمت المشي وأصبحت تمشي وراء الحمارة أو تسحب الجاموسة إلى الحقل أو تحمل الزلعة لتملأها من النيل، كانت تتفادى دائما المرور من أمام ذلك الباب، وتلف من وراء البيوت الطينية لتصل إلى الجسر من الناحية الأخرى. كانت قد أدركت أن هذا الباب الحديدي لا يقود إلا إلى البيت الكبير الضخم، لكن إحساسها الأول ظل يوحي إليها من حيث لا تدري أن وراء هذه الأعمدة الحديدية ماردا ضخما أو عفريتا من العفاريت يسير على عشرين ساقا حديدية طويلة تتحرك نحوها لتسحقها.
بعد أن كبرت أكثر، لم تعد تلف من وراء البيوت الطينية، وأصبحت تمر من أمام الباب الحديدي، مدركة أن البيت لا يسكنه عفاريت، وإنما العمدة وزوجته وأولاده. لكن جسدها كان، كلما مرت من أمام الباب أو سمعت أحدا يقول «العمدة»، ينتفض انتفاضة تحس بها قوية، ثم أصبحت من بعد أن كبرت غير محسوسة وإن ظلت موجودة.
لم تنم تلك الليلة حين جاءها أبوها وأمرها أن تذهب إلى بيت العمدة في الصباح. لم تكن بلغت الثانية عشرة بعد، وظلت طول الليل تتخيل شكل حجرات بيت العمدة، والحمام الأبيض البلور الذي يستحم فيه العمدة باللبن، كما سمعت من بعض أطفال الجيران، وزوجة العمدة ذات الوجه الأبيض كالبلور والساقين العاريتين حتى منتصف الفخذين كما سمعت من أمها، وابن العمدة الذي له حجرة خاصة مليئة بالمسدسات والبنادق والطيارات التي تطير بحق وحقيق، والعمدة نفسه الذي كانت تجري وتختبئ في البيت كلما رأته سائرا بين الرجال ومن فوق جسده عباءة كبيرة.
في الصباح الباكر قبل أن يظهر أول خطوط الشفق الأحمر، كانت قد نهضت وغسلت شعرها ودعكت كعبيها بالحجر وارتدت الجلباب المغسول والطرحة السوداء في انتظار الشيخ زهران الذي سيأتي ليأخذها إلى بيت العمدة؛ لكن ما إن وصل الشيخ زهران حتى اختفت فوق الفرن، وراحت تبكي وتصرخ وترفض الذهاب. سمعت صوت شيخ الخفر يقول: عمدتنا رجل كريم وزوجته ابنة أصل، وسوف تأخذين في اليوم الواحد عشرين قرشا. أترفضين يا عبيطة كل هذا الخير، أم أنكم تفضلون الفقر والجوع مع الكسل؟
قالت وهي لا تزال مختبئة فوق الفرن تبكي: أنا أعمل هنا في دار أبي يا عم زهران، وأشتغل في الحقل طول النهار. لست كسلانة، ولكنني لا أريد الذهاب إلى هذا البيت.
تركها شيخ الخفر قائلا لأبيها: أنتم أحرار، ليس لكم نصيب في الخير. ألف واحدة في الكفر تتمنى أن تخدم في بيت العمدة، ولكنه اختار ابنتك يا كفراوي؛ لأنه يقول إنك رجل طيب وأمين وأهل ثقة. ماذا يقول العمدة الآن إذا قلت له إنكم رفضتم؟
وقال كفراوي: أنا موافق يا شيخ زهران، ولكن البنت رافضة كما ترى.
ورد شيخ الخفر بحدة: وهل كلام البنت هو الذي يمشي هنا في بيتك يا كفراوي؟
وقال كفراوي: كلامي أنا الذي يمشي يا شيخ زهران، ولكن ماذا أفعل؟
Página desconocida
ورد الشيخ زهران بحدة أشد: ماذا تفعل؟ وهل هذا سؤال يسأله رجل. اضربها يا أخي. ألا تعرف أن البنات والنسوان لا يسمعن الكلام إلا بالضرب.
ونادى كفراوي عليها أول الأمر بصوت حازم قائلا: يا بنت يا نفيسة، انزلي بسرعة وتعالي هنا.
وحينما لم تظهر نفيسة، صعد إليها أبوها فوق الفرن، وضربها وشدها من يدها وسلمها لشيخ الخفر.
سمعت صوت العجلات الخشبية تصطك بالأرض، فرفعت رأسها لترى العربة الكارو يجرها حمار منهك. رفع الحمار رأسه متثائبا في ضجر، وارتفع نهيقه في الجو كالأنفاس الممزقة أو النشيج المتقطع. مرت العربة بها وهي جالسة، والتقت عيناها بعيني الحمار فوجدتهما مبللتين بالدموع. رفعت بيدها طرحتها السوداء لتخفي وجهها حين رمقها الرجل الجالس فوق العربة، لكنها عرفت من ملامحه أنه ليس من كفر الطين، فنادت عليه وهي تنهض: يا عم، والنبي يا عم تأخذني معك إلى الرملة.
رآها الرجل وهي واقفة فوق الجسر، ولمح ارتفاع بطنها فكاد أن يظن بها الظنون، لولا أنه رأى عينيها الواسعتين المرفوعتين إلى أعلى في غضب أشبه بالكبرياء، وظهرها مرفوع بالرغم من أن حركة جسدها البطيئة تنم عن إرهاق شديد.
وقال بصوت غليظ: اركبي.
اتكأت بذراعيها على العربة ثم شدت جسمها بقوة وصعدت. جلست إلى جواره صامتة تنظر إلى الطريق بعينيها المرفوعتين، رمق بطنها المرتفع ثم سألها: ذاهبة إلى زوجك في الرملة؟
لم يتحرك جفناها المرفوعين وقالت: لا.
سكت قليلا ثم قال: تركت زوجك في كفر الطين؟
ظلت شاخصة في الطريق وقالت: لا.
Página desconocida
أصبحت عيناه أكثر جرأة في فحصها، ورأى يديها كبيرتين خشنتين ومعصميها خاليين من الأساور، فأدرك أنها ابنة فلاح فقير تفحت الأرض وتعزقها، لكنها نظرت إليه فرأى في عينيها المرفوعتين شيئا لم يره في عيون بنات الفلاحين الفقراء. ليس هو الغضب، وليس هو الكبرياء، وإنما شيء أشد منهما لم يره من قبل. تذكر فجأة أنه وهو طفل تسلق سور بيت العمدة لينظر في عيني ابنته الواقفة في الشرفة، لكن شيخ الخفر ضربه بعصا فهرب جريا. طوال سنوات طفولته وهو يحلم بأن ينظر مرة واحدة في عيني ابنة العمدة. لم يكن يعرف لماذا، وظل طوال حياته لا يعرف لماذا، ولم يهمس لأحد أبدا برغبته الغريبة شبه المجنونة.
حول رأسه ناحيتها لينظر في عينيها، فنظرت إليه والتقت عيونهما، ولاحظ أنها لم تحول عينيها بعيدا أو تخفضهما، كما تفعل بنات الرملة أو كفر الطين، وظلت عيناها مرفوعتين شبه متحديتين كعيني رجل غاضب. حرك عينيه بعيدا عنها وهو يقول لنفسه: «لا يبدو عليها أنها هاربة أو خائفة.»
رمق قدميها الحافيتين المشققتين يعلوها التراب والطين ثم قال: مشيت طويلا؟
قالت وهي شاخصة إلى الطريق: نعم.
قال: الليل كله؟
قالت: نعم.
سكت فترة. تصور فتاة صغيرة مثلها سائرة وحدها في الليل بين الحقول والطرق الزراعية حيث يرقد الذئاب والثعالب وقطاع الطرق. ظل صامتا ناظرا أمامه ثم قال: الليل خطر.
قالها بلهجة غريبة كأنما يريد أن يخيفها، كأنما يريد أن يرى هذين الجفنين المرفوعين يرتعشان ولو لحظة، لكن جفنيها لم يتحركا، وظلت عيناها مرفوعتين إلى أعلى، وقالت وهي لا تزال شاخصة إلى الطريق: الليل أكثر أمانا من النهار يا عم.
ظل صامتا ناظرا إلى الأمام، ملامحه جامدة كملامح طفل ضرب بالعصا منذ لحظة ورفض أن يبكي. شعر بشيء يضغط على صدره كدموع مكبوتة منذ زمن، منذ ضربه شيخ الخفر. لو أنها حركت رأسها ناحيته الآن وابتسمت له، لألقى رأسه على صدرها وبكى. لو رأى هذين الجفنين المرفوعين ينخفضان أمام عينيه لو لحظة؛ ربما خف هذا الضغط على صدره، لكنها لا تبتسم له، وهي لا تنظر إليه، بل إنها حين تنظر إليه يدرك أنها تفكر في شيء آخر أكبر منه. أخرج من جيب جلبابه لفافة دخان أو قطعة معسل أو أفيون أو حشيش، ابتلع لعابه المر في جوفه وسعل بشدة ليطرد من صدره الإحساس بالمهانة. أطرق برأسه لحظة وهو يدرك أن هذا هو الإحساس الوحيد الذي لازمه طوال حياته.
زم شفتيه ولسع ظهر الحمار بالعصا الرفيعة، كما يلسع شيخ الخفر طفلا فقير الأب والأم. أصبح راغبا الآن في أن يصل إلى الرملة بأسرع ما يمكن، وأن تختفي هذه المرأة من فوق عربته بأسرع ما يمكن.
Página desconocida
أسرعت العربة الكارو تهتز وتتأرجح فوق الأرض المتربة المتعرجة، وأنفاس الحمار اللاهثة مسموعة في أذنها، بطيئة ورتيبة ومتقطعة كدقات العجلات الخشبية فوق الأرض، وكالدق الرتيب في صدرها وبطنها. بدأت ترى الشمس تعلو في السماء والحقول تختفي، وتظهر البيوت الطينية المتلاصقة المتساندة إلى بطن الجسر، ونساء يحملن الجرار ظهرن فوق الجسر، والأطفال والذباب استيقظوا معا وملئوا الجو بالطنين، وأسراب الجاموس والبقر تسير بخطواتها البطيئة الثقيلة تملأ الجو بالتراب، ومن خلفها نساء أو رجال يحملون الفئوس ويتثاءبون في ضجر.
خيل إليها أنها عادت إلى كفر الطين، فرفعت طرحتها السوداء وأخفت وجهها، لكنها سمعت صوت الرجل الغليظ يقول: انزلي.
سألت: أهذه هي الرملة يا عم؟
رد دون أن يلتفت نحوها: نعم.
اتكأت بذراعيها فوق العربة لتهبط؛ ومالت العربة تحت ثقل جسمها، ثم اعتدلت حينما انتقل الثقل من فوق العربة إلى الأرض. أصبحت العربة معتدلة وخفيفة، وصدره أيضا أصبح معتدلا وخفيفا، وكأنما انتقل الثقل من فوق صدره وأصبح فوق الأرض، تنوء به الأرض كما ناء به من قبل. سمع صوت قدميها الحافيتين الثقيلتين تدبان فوق الأرض، فلسع الحمار بالعصا وتحركت العربة. كاد أن يحرك رأسه إلى الخلف وينظر إليها مرة أخيرة، لكنه ظل شاخصا إلى الأمام، ولسع الحمار مرة أخرى فانتفض الحمار وانتفضت معه العربة تضرب الأرض بعجلاتها الخشبية الكبيرة.
رأت نفيسة العربة من الخلف تهتز وتأرجح، وظهر الرجل نحيلا بارز العظام كظهر أبيها، واختفت العربة بعد قليل، واختفى معها ظهر الرجل، لكن صوت العجلات الخشبية ظل يرن في أذنيها متحشرجا لاهثا كأنفاس الحمار المتقطعة ، يتخلله من حين إلى حين سعال الرجل الخشن الممزق كسعال أبيها حين يشفط الدخان الأسود بأنفه وفمه.
حين وصلت إلى الجامع، انحرفت ناحية اليمين لتجد الخرابة الواسعة كما وصفتها لها أم صابر. وفي نهاية الخرابة بيت طيني صغير، له باب خشبي كبير، من فوقه مطرقة حديدية، وإلى جواره طلمبة ماء. أدارت الطلمبة وشربت بكفها بعض الماء، ثم سارت نحو الباب الخشبي ودقت المطرقة.
سمعت صوتا ممطوطا يشبه صوت نفوسة الغازية في كفر الطين يهتف من خلف الباب: مين؟
وردت بصوت خافت: أنا.
وعاد الصوت الممطوط: أنت مين؟
Página desconocida
وقالت وهي تبتلع ريقها: أنا نفيسة؟
وعاد الصوت الممطوط: نفيسة مين؟
قالت وهي تمسح حبة عرق سقطت من فوق أنفها: خالتي أم صابر أرسلتني إليك يا خالة نفوسة.
دب السكون لحظة، سمعت خلاله نفيسة أنفاسها ودقات قلبها. ثم سمعت الباب الثقيل ينفتح وحده دون أن يظهر أحد، كأنما حركته يد عفريت من العفاريت.
ظلت واقفة بغير حركة كتمثال جامد، وحينما مدت قدمها لتدخل أدركت أنها ترتعد. •••
قبل أن يرتفع في الظلمة أذان أول ديك، فتحت فتحية عينيها، أو ربما كانت عيناها مفتوحتين من قبل، ورأت زوجها راقدا على ظهره وقد انفتح فمه وراح يشخر بصوت غليظ أشبه بالحشرجة، أنفاسه ثقيلة برائحة الدخان والشيشة، وأسنانه صفراء متآكلة، وخشخشة سعال وبصاق تجمع طول الليل في صدره.
لكزته بيدها في كتفه لتوقظه، لكنه انقلب على جنبه معطيا ظهره لها وهو يزمجر ببعض حروف غير مفهومة. ارتفع في الجو مرة أخرى أذان الديك فلكزته بيدها بقوة مرة أخرى، وهي تقول: يا شيخ حمزاوي، الديك صحا وأذن لصلاة الفجر وأنت لا تزال تشخر.
فتح الشيخ حمزاوي عينيه وهو يزم شفتيه ليبتلع في صمت هذه الكلمات التي لكزته كاللكمات في جنبه، نهض دون أن ينطق، فزوجته فتحية ليست مثل زوجاته السابقات. لم تكن واحدة منهن تجرؤ على أن تفتح عينيها في عينيه، أو تقول له كلمة، أو تقارنه بأي رجل في كفر الطين، فما بال هذه هي التي تقارنه بالديك بل تقول إن الديك أفضل منه؟ لكنه لم يعد يهمه أن يكون ديكا أو غير ديك؛ فقد استطاع أن يتزوجها رغم أنفها، وأن يعيش معها كل هذه السنوات رغم أن وصفة الحاج إسماعيل لم تنفع وحجابه لم يفعل شيئا. رآها لأول مرة حين كان جالسا كعادته أمام دكان الحاج إسماعيل، لمحها وهي تخطر بجسدها اللدن فوق الجسر حاملة الجرة. همس في أذن الحاج إسماعيل: ابنة من هذه؟
ورد الحاج إسماعيل: فتحية ابنة مسعود.
وقال الشيخ حمزاوي بشيء من الاغتباط: أبوها رجل فقير، وسوف يرحب بي بلا شك.
Página desconocida
قال الحاج إسماعيل: أتقصد أنك تريد أن تتزوجها يا شيخ حمزاوي؟
رد الشيخ: لم لا يا حاج إسماعيل؟ تزوجت ثلاث مرات دون أن يكون لي ولد، أنا نفسي في ولد قبل أن أموت.
قال الحاج إسماعيل: إنها طفلة في عمر أحفادنا وليس أولادنا. ثم أنت تعرف أنها لن تنجب مثل زوجاتك السابقات.
أطرق الشيخ حمزاوي إلى الأرض وظل صامتا والسبحة في يديه لا تتوقف. ضحك الحاج إسماعيل بعد أن تأمله قليلا ثم قال: يبدو أنها أكلت عقلك يا شيخ حمزاوي.
انفرجت شفتا حمزاوي عن ابتسامة ولمعت عيناه وهو يقول: منظرها يرد الروح إلى الجسد يا حاج إسماعيل. ياما كان نفسي في أنثى كهذه.
قال الحاج إسماعيل: من ناحية أنها أنثى فهي أنثى، وعيناها كلهما شبق، ولكن هل تستطيع يا شيخ حمزاوي أن تحكمها ... أقصد هل تقدر عليها وأنت في هذه السن؟
وقال الشيخ حمزاوي: أقدر عليها وعلى أبيها يا حاج إسماعيل! الرجل لا يعيبه إلا جيبه.
قال الحاج إسماعيل: ماذا تفعل لو عشت معها سنوات وسنوات ولم تلد الولد؟
رد الشيخ حمزاوي: ربنا كبير، أزمة وتزول يا حاج. من يدري؟ ربما ينفخ الله في صورتي ويمنحني قوة من عنده.
ضحك الحاج إسماعيل: هذا الكلام تقوله للناس وليس لي يا شيخ حمزاوي. أنت شكوت لي من حالتك مرارا. كيف يمكن أن يمنحك الله قوة من عنده؟ أتعني الله سي...
Página desconocida
قال الشيخ حمزاوي مقاطعا : يحيي العظام وهي رميم يا حاج إسماعيل. ثم إنك قلت إن حالتي غير ميئوس منها، وإنني يمكن أن أشفى ...
قال الحاج إسماعيل: ولكنك لم تسمح نصحي ولم تتبع علاجي يا شيخ حمزاوي ... سمعت كلام الدكاترة واشتريت أدويتهم بدم قلبك ولم تحصل على أية نتيجة. قلت لك إن الدكاترة لا يعرفون شيئا، وإن أدويتهم لا تشفي أحدا، لكنك لم تصدقني وصدقتهم. وماذا كانت النتيجة؟ فقدت مالك وبقيت على حالك ... أليس كذلك؟
وقال الشيخ حمزاوي: نعم نعم يا حاج إسماعيل، ولكن الواحد منا لا يتعلم بالمجان. وقد تعلمت وعرفت أن كل الدكاترة نصابون وجهلة، وأن الحكيم الوحيد في البلد هو أنت يا حاج إسماعيل، وها أنذا آتي إليك وأطلب منك الدواء بشرط أن تزوجني لفتحية ابنة مسعود. أما لو قدرت يا حاج على هذا فسوف يكافئك الله ويجازيك جزاء حسنا؛ لأنك خدمت الرجل الذي يخدم الجامع والدين.
وضحك الحاج إسماعيل قائلا: أنا وأولادي نموت من الجوع يا شيخ حمزاوي لو أننا انتظرنا جزاء الله.
ورد الشيخ حمزاوي بسرعة: طبعا سأعطيك يا حاج إسماعيل وأجزل لك العطاء، وأنت تعرفني.
قال الحاج إسماعيل: أنت رجل كريم من بيت كريم، وفوق ذلك أنت رجل التقوى والصلاح في كفر الطين. توكل على الله ولا تفكر في هذا الموضوع. اتركه لي، وليس عليك إلا أن تعود إلى وصفتي القديمة والماء الدافئ بالملح والليمون والبخور كل ليلة حتى تحترق الشبة عن آخرها، ثم تمسك السبحة وتسبح بحمد الله تسعا وتسعين مرة، ثم تلعن زوجتك الأولى ثلاثا وثلاثين مرة. ألم تكن قويا معها يا شيخ حمزاوي؟
قال الشيخ حمزاوي بتحسر: كنت كالحصان.
قال الحاج إسماعيل: هي التي عملت لك العمل، وأنا أعرف من الذي عمل لها الحجاب. إنه ليس من كفر الطين، ولكني أعرف سره، وأعرف كيف أبطل سحره. المهم أن تتبع نصيحتي هذه المرة وسوف يشملك الله بخير كثير.
وهمس الشيخ حمزاوي: وفتحية، متى سأدخل بها يا حاج إسماعيل؟
قال الحاج إسماعيل: عن قريب إن شاء الله.
Página desconocida