فابتهجت رئيفة أن تصبح - ولو مرة في العمر - على دكة الاستعراض، وأن ترى محمدا بين المتظاهرين يهز العلم، وبكرت في صباح اليوم التالي فارتدت أجمل أثوابها، وبالغت في التجمل، وهرولت إلى دكة الاستعراض، في المكان المعد للنساء، فرأت أن الحاضرات اللواتي سبقنها قليلات، وأن معظم الكراسي شاغرة، فأمت واحدة منها وهمت تقتعدها إذ اقترب منها شرطي سائلا: «يا سيدة، أين بطاقتك؟» فأرته البطاقة، فأشار إليها أن تذهب إلى المقاعد الخلفية القصوى، فهذه الكراسي هي لعقيلات كبار الموظفين، وقرأت بعض الأسماء على تلك الكراسي؛ حرم حسين باشا العساف، عقيلة عبد المجيد بك السوقي، مدام جورج بك الديراني زوجات رجال كانوا بالأمس رفاقا لمحمد.
وتراجعت خجلة ميممة ناحية الدكة الخلفية، فإذا بعجوز تصيح بصوت عال: «بعض نساء هذه البلدة طموحات.» وعلت قهقهة من الحاضرات، وتطايرت العبارات الساخرة، ولم يهدأ الضحك إلا حين وصل رئيس الجمهورية بين الهتاف والتصفيق، فاعتلى مكانه وصدحت الموسيقى بلحن الرئيس، وتكامل عدد الحاضرين من رجال ونساء، وبدأ الاستعراض.
وكأن الطبيعة أرادت أن تشترك في الاحتفال؛ فأرسلت نسيما باردا فإذا الأجسام مفولذة، والوجوه مستبشرة فرحة، والأعلام خفاقة. يا له من يوم مفعم بالروائع، ويا لها من مظاهرة! فقد استمر الاستعراض ساعة وربعا مشى فيه الجيش بترتيبه البديع وأسلحته الصقيلة، ومشت الجماهير والوفود من حضر وبدو. وكان أحد خطباء دمشق يذيع ما يجري فيتكلم في ميكروفون يتصل بمحطة إذاعة الراديو، ويخلط روايته بالحماس أو المجون حسب ما تقتضيه المشاهد فتسر رئيفة لما تسمع؛ إذ إن المذياع كان واقفا خلف كرسيها. وفيما هي مصغية إلى فصاحته، علا التصفيق من الجماهير، واشتد الضحك، وثارت زوبعة من التصفير، وسمعت رئيفة المذياع يحدث: «إني أسمع التصفير والضحك والتصفيق ولا أدري السبب. رويدكم أيها السامعون! أظنني اهتديت إلى سبب الهرج، إني أرى تحت هذه الشمس صلعة تبرق يسميها صاحبها «بيضة الرخ»، وأرى كومة من الشحم تمشي، وبالونا منفوخا يتوسط تلك الهضبة الشحمية. هذا صديقنا محمد الفرار، أظنكم تعرفون لماذا نناديه «الفرار»، وكان يدعى «الكرار». لأنه كر في «الغراب الشائب» مرة ثم ظل يفر. ها هو يهز العلم السوري لفخامة الرئيس. أتسمعون الهتاف؟ هو يهز العلم مرة ثانية نحوي. سلامات يا أستاذ! اسمعوا! اصبروا! إن أستاذنا محمدا لم يعد كرارا ولا فرارا. ها هو قد سلم العلم لأحد تلامذته وربض على الأرض يلهث. اسمعوا الضحك والصياح. ها. ها. ها. هاتوا ليموناضة لأستاذنا المنهوك. تقدم ضابط فمسح بمنديله «بيضة الرخ» المباركة. برافو! نهض الأستاذ من جديد وتناول العلم. إلى الأمام يا فرار! ها هو يستأنف السير. إن كتلة الشحم تتدحرج من جديد ...
واختل النظام هنيهة وساد الهرج، وراح الكل يضحكون، وغفلوا عن رؤية امرأة ناحلة قفزت من دكة الاستعراض ورمحت بين صفوف الجماهير، وأسرعت ماشية راكضة نحو بيتها تلهث باكية ثائرة تود لو أن الأرض تنفتح فتدفنها وتدفن معها خجلها وخزيها والمهانة التي لحقت بها في ذلك الصباح. وحين وصلت رئيفة إلى البيت صعدت توا إلى غرفتها ففتحت النوافذ المقفلة وراحت تبترد في ذلك النسيم، وارتمت على كرسيها الحريري الباهت اللون تسبح عيناها بالدموع ويغتسل جسدها بعرق الإعياء. ومرت عليها ساعات ثلاث يدور حولها نسيم دمشق البارد فلا تشعر به، ورفق بها عقلها فخدر عن التفكير فلم تفقه أحية هي أم ميتة.
وفجأة ظهر محمد فأهوى عليها يقبلها ضاحكا، ثم حملها إلى السرير وأتاها بثياب، وأصر عليها أن تبدل أثوابها، وأغلق النوافذ وانصرف.
لم تنهض رئيفة في صباح اليوم التالي لتهيئ القهوة لمحمد على عادتها، بل إنها كانت تئن وتتقلب وتهذي. وجس محمد جبهتها بشفتيه فإذا هي حارة، ووضع محمد أنامله على نبضها فإذا هو قلق، متقطع، مسرع. وكان تنفسها مجهدا وفي أعلى وجهها شبه دائرتين متجمرتين؛ كل عوارض ذات الرئة، تشخيص حققه الطبيب حين لبى الدعوة مسرعا. «حسبتني أداوي مريضا واحدا فإذا بين يدي عليلان.»
عبارة طالما رددها الطبيب في غرفة رئيفة، فمذ لازمت الفراش عاف محمد مدرسته، وبقي يحوم حول سرير زوجته يثب لكل نأمة في الليل أو في النهار، متوتر الأعصاب، حانقا، خائفا، يغير وسادتها ويمسد لحافها، ويتعهد أمورها مسرعا بإلقاء الكلمة الناعمة الحنون، مشجعا إياها، حاسرا عن زنديه يتخطى الغرفة كمن يتحدى عدوا يريد مقاتلته. ولقد زهد بالطعام، فلئن جيء له بما يأكله فعل متأففا متعففا. أما النوم فما عرفه إلا كما تعرفه الهرر؛ غفوة ثم انتفاضة، ثم وثبة، ثم غفوة من جديد.
وجاء صباح اليوم السادس عشر ورئيفة غاطسة في نومها تتنفس تنفسا هادئا متسقا عميقا، صافية الوجه، فجسها الطبيب، وابتسم وهمس في أذن محمد: «ربحنا المعركة. ارجع إلى مدرستك.»
وود محمد أن يرقص ويغني أو يهتف، ولكنه كبح ثورة طربه مخافة أن تستفيق رئيفة من راحة غفوتها، فراح يتفرس بذلك الوجه الذي أحبه، وما درى إلا وقلمه في يده ينظم بضعة أبيات من الشعر في الإنكليزية يخطها على بياض الوسادة، وأحكم وضع الوسادة بحيث تقع عليها عينا رئيفة متى استفاقت. وكانت الأبيات أنشودة مطلعها: «صرعت الموت إذ دانى حبيبي!»
وحينما وضع محمد ساقيه في بنطلونه وجد أن بطنه ضمر قيراطين! •••
Página desconocida