جلست في تلك الغرفة المقفلة النوافذ خائفة، حيية، وقد سكن كل ما حولها إلا نور سراج ضئيل يهتز شعاعه الباهت فتتراقص معه أخيلة بعض رياش الغرفة. وقد كانت الفتاة في وحشة ذلك الليل وحيدة على مقعد حريري أزرق، مطرقة كأن تلك الورود التي زانت رأسها ثقلت عليه فحنته. وقد تماوجت العطور من حولها وانتثرت الأزهار وتدلت بردايات الدمقس، وامتد السرير العريض ذو الوسادتين المجاورتين يعلوه اللحاف المطرز. وكانت قدماها قلقتين بالحذاء الجديد الأبيض اللماع، تكثر من تقليبهما، وأظافرها برمة بالطلاء الأحمر الذي لم تعرفه قبل صباح ذلك اليوم؛ فهي تتفرس بها ثم تطبق يديها وتبسطهما، وتهم بأن تقرض أظافرها بأسنانها فلا تفعل. وقد استقام خصرها النحيل تحت صدر عمر وتوثب جانباه، وتصلب جيدها في عقد من اللؤلؤ المزيف، وتنقب وجهها في طوقة النور البهي الذي يغمر وجوه العذارى.
وأرهفت فتاتنا سمعها وجلة فلم تسمع إلا ضربات فؤادها.
وأصغت فإذا بصدى خافت يتسرق من خلال النوافذ المقفلة علمت منه أن الموسيقى لا تزال تعزف في الطابق الأسفل. وعبثا حاولت أن تطرد عن أذنيها صدى مواعظ خالتها «أم عمر» التي ألقتها عليها والفتاة تستحم في فجر ذلك اليوم. وكانت تلك المواعظ خليطا من الإنذار والتشويق ووصفا للذة الجنسية وألمها لو لم تطهر ألفاظه لتبذل. وكانت الفتاة تشعر بالدوار؛ إذ ذعرت لسماع نحنحة خفيفة في الخارج، وبان ظل فدخل الباب محترسا واقترب منها متمهلا ملقيا في صوت ناعم مضطرب «مساء الخير!» ثم وقف الظل أمامها وامتدت يده إلى ذقنها، وعاد الظل إلى الكلام: «لماذا لا تنظرين إلي يا رئيفة؟» فرفعت نظرها خجلة متمهلة وأبصرت لأول مرة وجه محمد الكرار - الزوج الذي انتقوه لها - وابتسمت نشوى وقد فر الخوف من نفسها، وانبسطت أسارير وجهها وطيات روحها في لذة الضعف الأنوثي؛ إذ يستسلم للرجل القوي، فليس في الدنيا ما يبعث في نفس المرأة غريزة الاستسلام مثل قوة لفلفها الحنان.
يقولون لك: إن اقتياد فتاة إلى فراش زوج تجهله عادة همجية بهيمية، بل يسرفون في القول فيذكرون أن الهمج والبهائم تتعارف وتتآلف قبل أن تتزاوج. أما أنت - يا قارئي - فإنك مثلي محافظ رجعي ترى السفه في ذلك الافتراء؛ إذ إنه في وسعك أن تستشهد بمئات من الأزواج والزوجات الذين قطعوا مراحل العيش هانئين وهم لم يبدأ تعارفهم إلا في ليالي الزواج. ومن أظهر هؤلاء الأزواج الفتى محمد الكرار وعروسه رئيفه عبد المجيد؛ فإن رئيفة صيرها محمد سيدة منزل، وكانت في دار أبويها ابنة بين جمهور من إخوة وأخوات لا قيمة لها، ونعمت معه باللذة الجنسية المشروعة، فالتهبت بين يديه نزوات غرامها فأشعل تلك النيران برفق وأطفأها بلين وحنان. وأما محمد الكرار، فقد وجد في رئيفة عطف الأم التي فقدها طفلا ووفاء الممرضة وهيام الحبيبة التي تغزل بها شاعرا يحس بالغرام ولا يمارسه.
وهكذا مرت عسال الشهور وهما في غمرة من سعادة لا يفترقان إلا ساعات المداومة التي يقضيها محمد في المدرسة الابتدائية؛ إذ كان يدرس فيها ويديرها. وكانت رئيفة في غيابه تطالع الكثير، وتختص بالقراءة من مكتبتها العامرة رواية «الغراب الشائب» لمؤلفها محمد الكرار، فما من يوم مضى إلا وأعادت قراءة تلك الرواية أو بعضها، وما من مساء عاد محمد من عمله في المدرسة إلا ولاقته رئيفة ضاحكة تقبله وتعيد عليه شيئا من نكات «الغراب الشائب» أو حوادثها، أو مقاطعها الرائعة، ثم تسأله فخورا: «هذا ما كتبت وأنت دون العشرين، ترى ما الذي تؤلف قبل أن تبلغ الأربعين؟»
وكانت تعيد هذا السؤال في النهار مرارا، متئدة في أول الأمر، حتى إذا مرت الشهور ولم ينتج محمد شيئا صار السؤال يحمل رنة العتاب. وفي العام الثاني من زواجهما، أمست رئيفة تلقي السؤال على زوجها بشيء من مرارة وقساوة، ثم تشير إليه بأسماء رفاقه في الدراسة وهم دونه مقدرة كيف نبه ذكرهم وكثر إنتاجهم الأدبي، وكيف لهجت الصحف بأنبائهم، وقد صار بعضهم في أعلى مراكز الدولة، في حين أنه - محمد الكرار - لا يزال معلم مدرسة في إحدى ضواحي دمشق.
أما محمد فكان يداعبها قائلا: «إني لا أطلب العظمة بل السعادة، وها إني في جنة الدنيا؛ دمشق، ظافر بملاك هذه الجنة؛ رئيفة، ومهنتي أشرف المهن؛ التعليم. من يطلب العظمة إلا الأبله؟ ولئن كنت تصرين علي بطلب العظمة، فاعلمي أنه كلما سما أحد من رفاقي، شعرت أن قد نبتت ريشة في جناحي وأن جناحي قوي واستطال. ما صاغني الله غازيا وما أنا بالطامح إلى الفتوحات. والآن، هات قبلة وابسمي فإنك بشعة حين تبسمين!»
وهكذا ركضت الأيام ورئيفة تتحرقها آلام الخيبة في زوجها الذي سمن ونعم، وبدأ الشعر يتراجع إلى مؤخرة رأسه في صلعة براقة، واستدار بطنه في بروز هائل، وراح ضميرها يؤنبها أن تلك السعادة التي غمرته بها أطفأت نار نبوغه؛ فقد كان في أول العهد - على رغم انقطاعه عن الكتابة - تنطلق من شفتيه كلمات لاذعة وهاجة. أما اليوم فقد ترهلت نكاته؛ فهو يشير إلى صلعته ويسميها «بيضة الرخ العاجية»، ويضع يده على بطنه ويقول: «كل العظمة التي أصبتها في الحياة التفت حول وسطي.» وشعرت رئيفة بما يشبه الاحتقار والكره نحو محمد، ولكن ذلك الشعور كان يذيبه منظر محمد أو تصهره قبلاته.
وغير مستغرب أن من خمل شأنه قل أصدقاؤه ... ولقد نسي الناس «الغراب الشائب». وما كان محمد بالمثري أو الزعيم السياسي، ولا هو تطلب عشرة الناس؛ فانقطعت الأقدام عن داره، وما دخلها من غريب إلا جيولوجي أميركي طاعن في السن كان ينقب في الصحراء السورية على دمن مدينة غابرة، ويؤم دمشق مرة كل شهرين لشراء بعض الحاجات فيتناول وقعة على مائدة تلميذه القديم محمد الكرار. وكان الأستاذ ورئيفة يتعاونان على محاولة قدح الشرار في نفس محمد، فيجيب هذا ضاحكا: «تريدني - يا أستاذي - أن أنقب عن مدينتي مثلما أنت منقب عن مدينتك؟ لكنت أنت أسعد حالا لو أنك مكثت مستريحا في الغوطة تمتع نظرك بجمال دمشق العامرة لا متعبا تنقب عن دمار مدينة غيبتها الرمال.»
وكان من عادة محمد حين يرجع إلى البيت في المساء أن يفاجئ زوجته بهدية صغيرة من أثمار أو حلويات، وربما ابتاع لها حلية مزيفة جذابة شأن من ضؤل راتبه وكبر قلبه؛ لذلك لم تستغرب ذات عشية أن تسمع منه حين آب: «في جيبي شيء لك.» ثم ناولها بدلا من الهدية ورقة دعوة لحضور الاستعراض السنوي في اليوم الثاني، وأخبرها أن مكانها سيكون على الدكة الكبرى المعدة للنساء، أما هو فسيمشي خلف الجيش، وزاد أنه سيحمل العلم السوري فيهزه مرتين: واحدة لرئيس الجمهورية، وثانية لرئيسة قلبه. بلى، فقد دب إلى حديث محمد شيء من السماجة.
Página desconocida