عفا الله عنك، لم تعنّى نفسك فى سبيل هؤلاء؟ وكأن القائل يقول:
رضى الله عنك، لم ترهق نفسك كل هذا الإرهاق؟
أن الآية القرآنية من هذا الوادى.
وضم هذه الآية الكريمة إلى أختها التى فى سورة النور:
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «١» .
تجد المعنى واضحا جليا، وهو أن الله سبحانه، فوض الأمر لنبيه، - صلوات الله وسلامه عليه-، فى أن يأذن لهم أو لا يأذن.
ليس النبى إذن معاتبا بهذه الآية- وحاشاه- بل كان ﷺ مخيرا، فلما أذن لهم أعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، ولتخلفوا بسبب نفاقهم، وأنه مع ذلك لا حرج عليه فى الإذن لهم، إنها آية مدح للرسول غاية فى الرقة ... ومن غير شك قد صدر الإذن لهم عن قلب رحيم، وعن هذا القلب الرحيم، وعن هذه الرحمة الفياضة، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يصدر فى أحكامه، وما كان فى ذلك إلا متبعا لقوله تعالى:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «٢» .
وهكذا الأمر فى كل ما يمارى فيه الممارون.
ومع ذلك فإننا نريد أن نزيد الأمر وضوحا فى الفرق بين من يركز على «بشر» ومن يركز على «يوحى إلى» لأهميته الكبرى، فنقص القصة التالية، ذات المغزى العميق، والقصة يرويها ابن عطاء الله السكندرى رضى الله عنه فى شرحه لقصيدة ولى الله: (أبو مدين) رضى الله عنه، يقول:
زار بعض السلاطين ضريح أبى يزيد رضى الله عنه وقال: هل هنا أحد ممن اجتمع بأبى يزيد؟
فأشير إلى شيخ كبير فى السن كان حاضرا هناك.
فقال له: هل سمعت شيئا من كلام أبى يزيد؟
فقال: نعم سمعته قال: «من زارنى لا تحرقه النار» .
فاستغرب السلطان ذلك الكلام، فقال: كيف يقول أبو يزيد ذلك، وأبو جهل رأى النبى ﷺ وتحرقه النار؟
فقال ذلك الشيخ للسلطان: أبو جهل لم ير النبى ﷺ، إنما رأى (يتيم أبى طالب)، ولو رآه ﷺ لم تحرقه النار.
ففهم السلطان كلامه وأعجبه هذا الجواب منه، أى أنه لم يره بالتعظيم والإكرام والأسوة، واعتقاد أنه رسول الله، ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار، لكنه رآه باحتقار، واعتقاد أنه (يتيم أبى طالب)، فلم تنفعه تلك الرؤية.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن أبى يزيد رضى الله عنه، وإنما نريد أن نتحدث عن كلمة الشيخ للسلطان من أن أبا جهل لم ير النبى ﷺ وإنما رأى (يتيم أبى طالب) .
هذه النظرة لأبى جهل هى التى نريد أن يتنزه المؤمنون عنها.
_________
(١) سورة النور: ٦٢.
(٢) سورة الأنبياء: ١٠٧.
المقدمة / 9