فقال أبو لهب: والله ما عبدت وأنت حي لأجلك، ولا تترك بعدك لموتك. فاطمأن الرجل ومات وهو يقول: الآن علمت أن لي خليفة يرعاها.
وكانت العزى بوادي خراص على يمين المصعد إلى العراق، وكانت قريش قد حمت لها شعبا يقال له: سقام، يضاهون به الكعبة، وهي التي يعنيها أبو جندب الهذلي إذ يقول في بعض غزله:
لقد حلفت جهدا يمينا غليظة
بفرع التي أحمت فروع سقام
ولها منحر تذبح فيه الذبائح، ويقصد إليه الحاج بعد منى كما يقول نهيكة الفزاري يخاطب عامر بن الطفيل :
يا عام لو قدرت عليك رماحنا
والراقصات إلى منى فالغبغب
وشأن هذه القصة في مناقب عبد المطلب أن التدين لم يكن وسيلة من وسائل الرجل إلى طلب السيادة والسدانة، وأنه لم يتدين لأنه سادن الكعبة وصاحب المنفعة في تعظيمها؛ بل كان يعظم العزي ولا منفعة له في هذا التعظيم، وكان الدين عنده إيمانا خالصا من الحيلة ومن مآرب الكهانة.
ولا يخفى أن الوراثة في الطبائع لا في الشعائر وظواهر العبادة، فمن كانت عنده عقيدة الإيمان بالغيب، والعلو بما يؤمن به عن عوارض الأهواء واللذات، وهان عليه نسيان المنافع والشهوات في سبيل رضاه، وطابت نفسه بالفداء وفرائض الطاعة والوفاء، فهذه هي الطبيعة التي تورث على اختلاف الشعائر والعبادات، ومثلها في ذلك مثل الشجاعة في القتال، ومثل السخاء بالمال؛ فإن الابن الذي يرث الشجاعة من أبيه لا يرث منه ميدانه، ولا تتوقف شجاعته الموروثة على سلاحه؛ فقد يحارب الابن بسلاح لم يعرفه أبوه، وفي ميدان غير ميدانه، وقد يبذل المال لإقامة مسجد ولم يبذل أبوه المال إلا لنحت صنم، أو ذبح قربان على وثن، ولا غضاضة على ما ورثه من شجاعة، ولا ما ورث من سخاء.
وهذه الطبيعة هي التي ينظر إليها الناظر في مناقب الأسرة الموروثة، فلو كان عبد المطلب ينافق بالتدين ليخدع به قومه، ويتذرع به إلى الرئاسة عليهم، لما كان هو عبد المطلب الذي تورث منه خصال الصدق والإيمان، ولكن تورث منه هذه الخصال حين يصدق في معتقده بالكعبة وبالعزى، وحين يدين الناس بما يدين به نفسه في رئاسة هؤلاء الناس.
Página desconocida