وعاد أبو رقية إلى القصر فالتقى به الوليد وأمه فحدثهما بكل ما حاك من حيلة وتدبير، ودهش الوليد، واستبد به الفرح، وانكب على أبي رقية يقبله، وأرسل فاشترى أثوابا من جميع الأنواع، وما جاء الصباح حتى غير من زيه وهيئته على نحو ما يرتدي باعة الملابس، فلبس عمامة صفراء وسروالا فضفاضا، وصدارا من الصوف الخشن، ولف حول رأسه شملة من الحرير الأحمر، وخرج من القصر بعد أن وضع الأثواب فوق حمار هزيل، حتى بلغ قصر سعيد نادى بأعلى صوته: أثواب وألوان، للعذارى الحسان، عندي من الحرير ما ليس له نظير، حرير صنعاني، وحرير تنيسي، وخز فارسي، ذهب بذهب، وعجب من عجب، فسمعته سلمى وأمرت إحدى جواريها أن تدعوه، فحمل بعض بضاعته، ودخل القصر، فقادته الجارية إلى حجرة سلمى، فبهره حسنها، وكاد يفضحه جمالها، وأخذ يتلعثم ويتمتم، وهم بأن يمد إليها يده، فنظرت إليه عابسة، وأشارت إلى جاريتها بالخروج، فلما خرجت رمى بالأثواب، وانكب على يديها يلتهمها لثما وتقبيلا، وجعل يئن ويقول: ارحميني يا حبيبتي، أنت حياة روحي، وريحانة نفسي، أنت الهواء الذي أتنسم، والأمل الذي أناغي، والسعادة التي أرجو وإليها أصبو، نظرة واحدة تكفيني، وبسمة تقنعني، وكلمة تفتح أمامي باب الرجاء. - قم أبا العباس فبي مثل ما بك، وحبي لك صدى لخفقات قلبك، ولكن أبي والخليفة يحولان دون هذا الحب. - إن الحب لا يعرف الحوائل، إنه ينفذ إلى ما لا ينفذ إليه الهواء، ويحلق فوق ما لا يصل إليه جناح، فإذا أحببتني فلا الخليفة ولا أبوك، ولا الدنيا كلها بمستطيعة أن تقف بيننا. - أحبك، فوثب عليها يقبل وجهها في شغف وفتون، فابتعدت عنه قليلا ثم قالت: اهدأ يا حبيبي؛ فإني لست لك بزوجة، وخير لنا أن نصبر حتى يصل الله بين حبلينا، ويقرب منا ما بعد. - إني سأكون خليفة، وسأنعم بزواجك. - هذا لا شك فيه. - ولن تتزوجي ابن عنبسة. - لن أتزوج به. - وكيف أظفر بقربك قبل أن يتم زواجنا؟ - نبيع أثوابا كل أسبوع، وتأتي إلينا بحمارك الناحل الأعجف، ثم قامت كأنها تدعوه إلى الانصراف، فوقف يودعها طويلا، فلما خرج وضع الأثواب على حماره، وهو يكاد يطير من الفرح، وأخذ يضرب الحمار بعصاه ويصيح: أثواب وألوان، للعذارى الحسان!
نار ورماد
كانت دولة بني أمية عربية النزعة، شديدة التعصب لكل ما هو عربي، تنظر إلى الأعاجم في تيه وتعاظم، وتحول بينهم وبين مناصب الدولة ومراتبها، ثم اشتط بعض الأمويين وغلا في إحياء نزعات الجاهلية، ونبش ما دفن من أحقاد القبائل التي جهد الإسلام في إماتتها، واجتثاث أصولها، فكان الخلفاء يؤثرون بعض القبائل بالمودة والعطاء، والتجاوز عن عدوانهم، وكان كل وال من ولاتهم يختص قبيلته بالبذل والمحاباة، فمرة تكون المحاباة لليمانية، ومرة تكون للمضرية، وكان الناس يشعرون بكل هذا فيطرقون واجمين، ويسكتون وجلين، حينما كانت الخلافة في عنفوانها، والدولة في شبابها، والسيف مصلتا فوق الرءوس، والولاة كلهم من طينة الحجاج بن يوسف الذي كان يقول: من قال برأسه هكذا، قلنا له بالسيف هكذا! فلما ضعفت الدولة بعد موت الوليد بن عبد الملك تطلعت رءوس من الفرس كانت مدفونة تحت أطباق الخوف، ونطقت أفواه من بني العباس كان يسكتها الذعر والحذر، وامتد الزمان بدولة بني أمية فزاد ضعفها باستنامة رجالها إلى النعيم، ففقدوا رجولتهم، وتسلبوا من خصائص عروبتهم، فكان ضعفهم قوة لأعدائهم، وتراخي حبلهم شدة وبأسا للخارجين عليهم، لهذا قوي أمر بني العباس بمعاونة الفرس في أواخر عهد هشام، وتجمع الناس حول دعاتهم بخراسان، وتكونت في أكثر أقطار الدولة جماعات من أنصارهم، كانوا جميعا يعملون سرا، ويعدون العدة في الخفاء، وينتظرون الفرصة للانقضاض على الدولة وثل عرشها.
وكان بدمشق كثير من المحتطبين في حبل العباسيين بين فرس وعرب، وهؤلاء كانوا يبعثون بأخبار الخلافة وأسرارها إلى الزعماء بخراسان، ويتلقون أوامرهم وإشارتهم، وكانوا ينبثون بين الناس فيشيعون بينهم مساوئ الخلافة، وهفوات فتيان بني أمية بأسلوب شيطاني عجيب لا يلصق بهم تهمة، ولا يدع لسامعيهم شكا في أنهم أمناء مخلصون للدولة، حريصون على بلوغها ما ينبغي لها من عظمة ومجد؛ يبدأ الرجل منهم فخورا بمكانة الخلافة، وفضل رجالها الأولين، وقوادها السالفين، وأنها رفعت راية الإسلام، ونشرت كلمة التوحيد في كل مكان، ثم يقول في رنة حزن، وبصوت تكاد تخنقه العبرة، وتقلبه الحمية بكاء: هدى الله خلفاءنا السداد، وألهم فتيانهم التوفيق! أكان يفعل هشام كذا لو كان عمر بن عبد العزيز حيا؟ وهل كان يفعل الوليد كذا لو كان عبد الملك بن مروان حيا؟ ثم يزفر زفرة طويلة، ويرفع عينيه إلى السماء داعيا للإسلام والمسلمين. هكذا كانت تعمل هذه الفئة الثائرة، ومن أخاليق هؤلاء وأكاذيبهم امتلأت كتب الأدب والتاريخ بكثير من مثالب الأمويين، وكان بين هذه الطائفة أشخاص اندسوا في قصور الأمويين ليكونوا عليهم عيونا، ولينقلوا أسرارهم إلى أعدائهم.
وفي إحدى ليالي شهر رجب سنة أربع وعشرين ومائة وصل من دمشق إلى الكوفة إسماعيل بن يسار رسولا من الشام من قبل محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فنزل بدار بكير بن ماهان، وكان من كبار أنصار العباسيين، وأخبره بما قدم إلى الكوفة بسببه، فسهل له بكير لقاء سليمان بن كثير الحراني زعيم جماعتهم، ومالك بن الهيثم، واتفقوا على زيارة يونس بن عاصم وعيسى وإدريس ابني معقل في السجن، وكان قد اتهمهم يوسف بن عمر عامل هشام على خراسان بالدعاء إلى بني العباس، فلما ذهبوا إلى السجن قابلهم حارسه، وكان رجلا غليظا مفرطا في الطول، متين البناء، ينطق وجهه بالشراسة والشر، فتعمد ابن كثير أن يسقط من كمه دينارا، فأخذ يدور فوق الأرض، فانقض عليه الحارس يلتقطه، ثم رفعه إلى ابن كثير قائلا: هذا دينار سقط منك يا رجل.
فقال ابن كثير: خذه جزاء أمانتك، فإنما اللقطة لمن وجدها. ثم تعمد إسقاط دينار ثان، فانكب عليه الحارس وقال: وهذا دينار آخر، فأطبق عليه ابن كثير كف الحارث وقال: هو لك أيضا، فقد أحسنت في الأولى والثانية، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فبهت الحارس لهذه الأريحية، ثم اتجه إليه ابن كثير سائلا: هل بين ضيوفك في هذا السجن عيسى بن معقل؟ فإننا قوم من أهله جئنا لنراه، ولنحدثه في أمور أولاده وضياعه. - إن ابن عمر يحظر أن يلقاه أحد، ولكن أوامر الرؤساء دائما تصدر لتنقض، فلا تثريب عليكم من أن تروه على شرط ألا تطيلوا المكوث، وعلى شرط ألا تتحدثوا في أمر بني العباس.
إن لنا من الشغل بأنفسنا ما يذودنا عن الحديث في شئون غيرنا، وأشار إليهم الحارس بالدخول فوصلوا إلى حجرة المسجونين، وكانت واسعة فسيحة منعزلة في ناحية من البناء، وما كاد يراهم من بها حتى أسرعوا إليهم فرحين معانقين، وأخذوا يمطرونهم بالأسئلة عن محمد بن علي بن عبد الله، وعن ابنه وخليفته إبراهيم الإمام، ثم عن الدعوة بخراسان، وعن قوتها ونشاطها وانتشارها، وكان يخدمهم بالسجن شاب قصير في نحو الرابعة والعشرين، أسمر اللون، نقي البشرة، أحور العينين، عريض الجبهة، كانوا يدعونه أبا مسلم، وهو أبو مسلم الخرساني الذي كانت تدخر له الأيام عظمة ومجدا، وهو الذي أقام بسيفه ورأيه بعد ثماني سنوات لبني العباس دولة شامخة الذرا راسخة البيان.
جلس الجماعة بعد التحية وتبادل الأشواق، فقال ابن كثير في صوت خافت: هذا إسماعيل بن يسار شاعر الطائفة العباسية، ومذيع فضلها، وناشر مناقبها، قدم بالأمس من الحميمة بعد أن قابل ابن عم رسول الله، وزوده بما يجب علينا عمله لإشعال الثورة على الأمويين، وبثها في كل مكان، وهو يستطيع أن يحدثنا بكثير من أخبار فتيان بني أمية وعبثهم، وسخط الناس عليهم، وقد يهدينا تبادل الرأي وتجاذب التفكير إلى ما يحسم هذا الأمر، وإلى أن نرسم طريقا نمضي فيه إلى الغاية موفقين، لقد بلغ السيل الزبى، وجاوزت الشدة طاقة الاحتمال، ولا بد من ضربة سيف قاصمة مصممة تفرق بين الحق والباطل، وتعيد الخلافة إلى أهلها؛ فصاح أبو مسلم والدموع تتناثر من عينيه: نعم لا بد من ضربة سيف، ولا بد أن يمحى كل أثر لأبناء عبد شمس. - اهدأ يا بني، الرأي لا تنضجه نيران الغضب. - إن الغضب هو الذي يصهر العزائم، ويشحذ الهمم، وما حاجتي إلى رأي هزيل، تزيده الشكوك ضعفا وهزالا؟ فالتفت ابن كثير إلى ابن معقل في دهشة وقال: من هذا الشاب؟ - هذا أبو مسلم أشدنا حماسة في الدعوة، وهو أرهف من سيف، وأنفذ إلى مطالبه من سهم، إن نار الثورة تسري في شرايين جسمه، وإننا نسميه صخرة الأرض، وداهية الدواهي. - هذا كله حسن، ولكن أحب أن يضم إلى فورة شبابه حكمة الشيوخ ودهاءهم. - إن عنده من ذلك الشيء الكثير فلا يلفتك أمره عما نحن فيه. - أظن أن الكلام في جبروت الأمويين، وحرمانهم إيانا مناصب الدولة قد أصبح كلاما مكررا، وحديثا معادا، فقال إسماعيل بن يسار: إنهم يتعالون علينا، ويشمخون بأنوفهم حتى كأن الله خلقنا من طين وخلقهم من مسك وكافور، فقال عيسى بن معقل: إن دين الله لا يفرق بين عربي وأعجمي، ولا بين مضري ويماني، ولكن هؤلاء القوم يكيلون للناس بمكيالين، وينزلونهم منزلين، وينظرون لهؤلاء بعين ولأولئك بعين، ثم يزعمون أنهم نصراء القرآن، وحماة الإسلام، وهنا وثب أبو مسلم واقفا وقال: لو زرت خراسان اليوم يا صاحبي لرأيت الأعاجيب.
فقال ابن يسار: إن ما نلقاه بالشام أعجب وأغرب يا فتى. أنشد هشاما مرة قصيدة فدفعني الاعتزاز بقومي إلى أن أفخر بالفرس، وأشيد بمجدهم القديم، فما كان منه إلا أن غضب حتى نفرت أوداجه، وصاح في جبرية وزهو: أعلي تفخر بقومك أيها الأحمق؟ وإياي تنشد قصيدة تمدح فيها نفسك، وأعلاج قومك؟ ثم أمر عبيده أن يغطوني في الماء، فقذفوني في بركة حتى كدت أغرق، ثم أمر فنفيت إلى الحجاز، فصاح عيسى بن معقل: ماذا كانت قصيدتك لله أبوك؟ - قلت فيها يا سيدي:
إني وجدك ما عودي بذي خور
Página desconocida