نصح وعناد
رشد وغي
سجن وإطلاق
هجرة ولقاء
نار ورماد
موت وحياة
ضحك وبكاء
قتل ودمار
نصح وعناد
رشد وغي
Página desconocida
سجن وإطلاق
هجرة ولقاء
نار ورماد
موت وحياة
ضحك وبكاء
قتل ودمار
مرح الوليد
مرح الوليد
تأليف
علي الجارم
Página desconocida
نصح وعناد
قصر راسخ القواعد، شامخ الذرا، رسا أصله فوق شرف عال من الأرض، وارتفعت قبابه في الجو كأنها تطلب شيئا في السماء، وقد موهت بالنضار، وسطع عليها الأصيل، فأرسلت شعاعا كان أجمل من الأصيل، وأبهى من خالص النضار، وامتدت حول القصر البساتين الفيح تجري بها الجداول بطيئة متعثرة، كأنها تخشى أن تلتقي بنهر بردى، فيلتقمها زخاره الخضم، ويدور بها كالمذعور فيقتحم كل دار، وينفذ من كل حائط، ورفت بها الأزهار رائعة الألوان، مسكية الشذا، وقد عبث بها النسيم فراحت تختبئ في أكمامها كأنها الغيد الحسان خافت خائنة الأعين، وفضول العاشقين، وماست أشجار الحور كأنما شجاها تغريد الطير فوقها، فأخذت تسارق الأنغام، وتساير رنين الإيقاع.
ذلك مشهد يجب أن يرى حتى يعرف، ويجب أن تراه عين فنان لتدرك بعض ما به من جمال وروعة. أما القلم، وأما اللسان، فأعجز من أن يصلا فيه إلى صورة، أو شبه صورة، تقر بها العيون، أو تطمئن لها النفوس، يقولون: إن اللغة أداة البيان، ويقولون: إن اللغة بريد العقول، فهل هي أداة البيان حقا؟ وهل هي بريد صادق يحمل ما في نفسك إلى نفس غيرك؟ إن من ضروب الأحاسيس ما يدق عن متناول اللسان، ويستعصي على سنان القلم، وإن من الصور الغريبة الألوان الغريبة التركيب ما يعجز الوصف، ويخرس البيان، ولن يملك المرء إذا رآها إلا أن يصيح: هذا باهر! هذا جميل! هذا فاتن! وكأنه يريد أن يقول شيئا آخر فلا يستطيع. وستبقى الإنسانية هكذا عجماء حتى توفق إلى وضع كلمات جديدة تترجم عن كل ما تراه العين، ويجيش به الوجدان. ويكفي أن أقول: إن هذا المنظر كان بربوة الوادي بالجانب الغربي من دمشق، وإن هذه الربوة تزدان بأبدع ما طرزته يد القدرة على هذه الأرض من حلل، وإنها إلى جنة الخلد أشبه بالمطلع إلى القصيدة، أو بالمقدمة إلى الكتاب، وهي التي حينما رآها عمر بن الخطاب عند قدومه إلى الشام قرأ قوله تعالى
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين .
هذه هي ربوة دمشق، وهذا هو قصر الوليد بن يزيد، وكان يسمى قصر «حبابة»، بناه يزيد بن عبد الملك الخليفة الأموي لجاريته «حبابة»، وأنفق فيه كثيرا من كنوز الدولة، وقام على بنائه وزخرفته كبار مهندسي الروم، فجاء صورة للفن الرائع، ومظهرا لفخامة الملك، وصولة السلطان.
وفي أحد أيام شوال من سنة ثلاث وعشرين ومائة جلس ببعض أبهاء هذا القصر يزيد بن الوليد، ويزيد بن عنبسة، ومحمد بن شهاب الزهري، ويزيد السلمي، وقد طال بهم الإطراق، ودلت أسارير وجوههم على ما تنطوي عليه أنفسهم من أمر عظيم، وهم دفين، وبعد لأي رفع الزهري رأسه، وكان من كبار المحدثين، وأعلام التابعين، عظيم المنزلة في الدولة لعلمه وورعه، وقال: لست أدري لم بعثنا الخليفة هشام إلى هذا الرجل، وهو يعلم أن انتقال جبل «قايسون» من مكانه أهون وأيسر في إدراك العقول من هدايته، وزحزحته عما هو فيه من عبث؟ لقد حدثته مرارا، وسقت إليه كثيرا من أقوال الرسول الكريم، ووعظته فأطلت الوعظ، فما كان يزيده كل هذا إلا تماديا، حتى كأنني كنت أغريه بلومي، وأثير فيه شيطان الغرور بمواعظي،
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ، صدق الله العظيم.
فرفع إليه يزيد بن الوليد بصره، وقد نم وجهه عن ضجر واشمئزاز، وقال: إن الأمر يا أبا بكر لو اقتصر على فتى سادر لهان وقلت نوازله، وخفت أوزاره، ولكنه أمر أسرة كريمة المنبت في الجاهلية والإسلام، وشأن دولة تحمل أعباء الخلافة، وتحمي صخرة الدين أن تنهار، بعد أن بذلت جهود وعقول في إرسائها، وحطمت سيوف في توطيد أركانها. والشيخ يرى ما تنهض به دولة بني أمية كل يوم من أعباء، وما تشهد من عزائم، فجيوشها لا تكاد تقفل من العراق وخراسان، حتى تسير إلى أرمينية وأرض الروم، فهي أبدا صائفة شاتية. وسيوفها لا تكاد تقر في أغمادها، حتى تستل من جديد، ولا تكاد تجف دماؤها من قهر خارجي، حتى ينبع لها خارجي من أقاصي الأرض، كأن الأرض أجدبت من كل نبات إلا من هؤلاء المناكيد. وإذا أسكتنا زئير أهل خراسان، أطلت علينا ثورة في المدينة، ومدت رأسها فتنة بالعراق، فإذا لم تكن أزمة الدولة في يد جريئة حازمة، ولم يصرف شئونها رجل داهية باقعة لم تستعبده الدنيا، ضاعت الدولة بددا، وكانت حرضا، وهذا الوليد بن يزيد الذي بعثنا اليوم هشام لنصحه ودعوته إلى الكف عن لهوه، لو كان فتى من فتيان بني أمية لا يرتبط بالخلافة، ولا يتصل بسياسة الحكم بسبب، لصرفنا عنه وجوهنا آسفين محزونين، ولقلنا: شاب أطغاه المال، والشباب، والحسب، فراح ينتهب لذات الحياة، وإن له لغاية هو مدركها، وأجلا هو موفيه، ولحظة ندم يهم أن يعتصم فيها بالتوبة، فلا تنفعه التوبة، ولكن يأبى القدر إلا أن يكون الوليد هذا ولي عهد الخلافة، وتأبى الأيام السود إلا أن تعده ليجلس حيث كان يجلس عبد الملك ابن مروان، وعمر بن عبد العزيز. يا ويل الخلافة، ويا ويل الإسلام إذا ألقيت مقاليد الحكم في يد هذا الرجل! وإننا إذا جئنا اليوم لنكفه عن شهواته، أو لنصلح من نفسه - إن كان ذلك الإصلاح مستطاعا - فإنما إلى صون الخلافة نقصد، وحماية الملك نريد.
فتحرك يزيد بن عنبسة في قلق المغيظ المحنق، وقد كان قبل ذلك يعتمد برأسه على قائم سيفه حزينا واجما، وقال: إن الله يريد لهذا الملك أمرا هو قاضيه، فإننا ما كدنا نبتهج بموت أبيه يزيد بن عبد الملك، وقيام خلافة هشام بعده، حتى دهمتنا المقادير فحتمت علينا أن يكون هذا الفتى ولي عهد هشام. لقد كان يزيد مسرفا على نفسه، قسم أيامه وأمواله بين سلامة القس المغنية، وحبابة اللعوب، وبنى لحبابة هذا القصر الشامخ الذي نجلس فيه اليوم، وأنفق عليه من الأموال ما كان يكفي لغزو الصين، وكل ما وراء البحر الأخضر من ممالك، ولكنا نحمد الله على أن عهده لم يطل، وأن هلاكه كان وشيكا، وكثيرا ما يكون الموت علاجا إذا أعضل الداء، وعز الدواء. كانت خلافته أربع سنين كادت تهوى فيها الدولة إلى الحضيض، لولا قوة فيها كامنة من عزمات صلاب وطدت أساسها من عهد قديم، وكأنه أراد أن يصل حباله بحبال ابنه فلم يمت حتى عهد بالخلافة بعده إلى هشام، ثم من بعد هشام إلى هذا الفتى، وإن أخشى ما نخشاه بعد أن أعاد هشام إلى الخلافة عظمتها، وغرس في القلوب الرهبة منها، وأقام عمودها، وحرص على جمع الأموال لسد مفاقرها أن يأتي بعده هذا الوليد فيمحو آثارها، ويبدد قوتها، ويمكن منها أعداءها القاعدين لها كل مرصد، والمتربصين لها الدوائر، والمتحرقين إلى فرصة يمزقونها فيها أشلاء، ويأتون على بنيانها من القواعد، وليس لدينا من الرجال اليوم ما كان لنا والدولة في عنفوانها، والملك في قوة اكتماله، فليس لنا مثل مسلم بن عقبة، وليس لنا مثل الحجاج بن يوسف، وليس لنا مثل قرة بن شريك، فإذا وقعت الواقعة، وحلت الفادحة، وتركت الدولة في أيد خائرة لم تجد بين الدافعين عنها إلا بنانا مخضبا، ومعصما أدماه السوار، وويل لدولة تحميها النساء!
فأسرع الزهري يقول: لقد حاول يزيد بن عبد الملك أن يخلع هشاما من ولاية العهد، وأن يقدم ابنه عليه لولا أن أدركه الموت من حيث لم يكن يتوقع، ولو أنه فعل لكان للمسلمين اليوم حال غير تلك الحال. وهنا اتجه يزيد بن عنبسة إلى السلمي وقال: مالك لا تنازعنا الحديث أبا مساحق؟ إن أكبر الظن أن كلامنا يثقل عليك، فلقد رأيت سحابة غيظ تركد على وجهك منذ دخولنا، ولعلك لم تكن تتوقع أن يزور صاحبك اليوم قوم غلاظ شداد يصارحونه القول، ويدعونه في عنف إلى تقوى الله، ومخالفة نفسه. فقال الزهري: إن السلمي كان معلم الوليد ونصيحه، وكان الأجدر به، وقد قضى في الإشراف على تهذيبه سنوات، أن يقوم قناته، وأن يصرف عنه شياطين الفتنة، فإنه لو فعل لأغنانا اليوم عن لقاء هذا الفتى، وجبهه بما يكره، ووالله لولا أن ألح علي الحقيقة، وألحف في وجوب القيام بنصحه، ما نقلت إلى داره قدما.
Página desconocida
فقال يزيد بن الوليد: ومن لهذا الأمر سواك يا ابن شهاب، وأنت اليوم مناط هذه الأمة في أمور دينها؟ ولقد كان عمر بن عبد العزيز ناصحا للمسلمين حين كتب إلى عماله في الآفاق يدعوهم إلى الأخذ بآرائك في الدين، ويقول لهم: إنكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية من ابن شهاب؛ فمد الزهري يده إلى يزيد كالمتوسل إليه أن يكف عن هذا المديح، ثم قال: أرسل إلي الخليفة إبراهيم المخزومي بعد أن انفتلت من صلاة الغداة، فقال: إن أمير المؤمنين يدعوك إليه الساعة، فذهبت معه على تثاقل وكره، فلما حضرت مجلسه أقبل علي كاسف النفس حزينا، وكان ولداه مسلمة والعباس واقفين في خدمته، ثم قال: اقرب مني قليلا يا أبا بكر. فقربت وسادتي من وسادته، فاتجه إلي وقال: إني نظرت يا ابن شهاب في أمري، وأمر هذا الملك الذي أسوسه، والأمة التي أرعاها، فرأيت أني أسير إلى الفناء وثبا، وأعدو نحو الموت عدوا، فإن هذه الذبحة ما زالت تعتادني بين الحين والحين، وقد استطعت حتى الساعة أن أنجو منها بذلك الدواء الذي أتجرعه، ولكن نوباتها أخذت تتقارب وتطول، وأخشى أن أكون مائتا بعد أيام أو أشهر، وقد بذلت كل ما في قدرة رجل مثلي لإنهاض الدولة، وتمكين سلطانها، ولو كنت أعلم أن الذي يلي هذا الأمر من بعدي رجل حمال للأعباء، شديد على اللأواء، كامل الرجولة، طاهر النفس، نقي الجيب، يخاف ربه، ويخافه عدوه، لهان علي الأمر واستقبلت الموت سعيدا رضيا، ولكن الخلافة ستنتقل إلى ابن أخي الوليد، وهو - كما علمت، وعلم أهل الحضر والمدر - قد نسي نفسه، ونسي حسبه، وانصرف إلى جلساء السوء، فماذا يكون من أمر هذه الأمة إذا وليها هذا الفتى؟ وماذا يكون من أمر أطراف الدولة، والثورات فيها لا تنطفئ نيرانها، ولا يركد قتامها؟ وماذا يكون من أمر ملك بقي إلى اليوم أكثر من ثمانين عاما تؤثله جبابرة الأمويين بآرائهم وسيوفهم؟ لن يبقى من ذلك شيء، وستتمزق فلول بني أمية في البلاد حيارى مطاردين، يحسدون رعاة الإبل في الصحاري الجرد على ما هم فيه من رخاء ونعمة. لقد بذلت كل ما في وسع البشر لإصلاح هذا الرجل، فلم ألق نجحا؛ وكان من آخر أمري أن وليته الحج بالناس لأصلح من سيرته، وأغريه بتقوى الله إغراء، فكان منه ما علمت وعلم الناس، والآن وقد ضاقت بي الحيلة، أدعوك لتذهب إليه أنت ويزيد بن الوليد وابن عنبسة؛ لتبصروه بما يجب عليه إزاء الله، وإزاء الخلافة، وإزاء نفسه، ولتخبروه بأن صلاحه لن يكون له وحده، بل لهذه الأمة التي نخشى أن تذهب ضياعا، وتصبح نهبا مقسما، هذا يا أبا بكر آخر سهم في كنانتي، فإن أجاب وأطاع هدأت نفسي، وإلا فلله أمر هو فاعله، اذهب الآن مباركا موفقا، وقد أمرت يزيد بن الوليد وابن عنبسة أن ينتظراك لدى الباب.
وكأن طول الحديث قد أجهد الزهري، فأخذ يرسل أنفاسا قصارا متلاحقة، ثم قال وهو ينظر إلى السلمي: وهكذا جئنا أبا مساحق لنروض هذا المهر الحرون؛ حتى يسلس قياده، وإني أرى في ملامحك ما يدل على الاستنكار والمخالفة، فهل لديك من شيء يقال؟ - لقد أطلتم الحديث، وسلكتم فيه فنونا، ولكنكم اتجهتم اتجاها واحدا، ونظرتم إلى الرجل من ناحية واحدة، فصورتموه كما شاءت نفوسكم لاهيا مرحا، تسلب من صفات الرجولة، وقطع كل صلة بينه وبين الخلق الكريم، وهذا تصوير مائن أيها البررة الأتقياء، إني خالطت الوليد منذ كان غلاما في الحادية عشرة، وهو الآن يجاوز الثلاثين، خالطته خلاط معاشرة واختبار، وسبرت غور نفسه، وعرفت ظاهر أمره وباطنه، فرأيت أنه سر آبائه جميعا، ففيه دهاء مروان بن الحكم وشغفه بالانتقام، وفيه تيه عبد الملك وكبرياؤه، وصدق عزيمته، وفيه عناد أبيه، وضعف نفسه، ثم إن به عرقا من أخواله بني هاشم أمده بالبلاغة، وإجادة الشعر، وذلل له سبيل التمكن من اللغة، ومعرفة الأخبار ، إنه ابن آبائه حقا، ورثهم في الجاه والمال والخلافة، كما ورثهم في الجبلة والخلق، وفيما يزين وفيما يشين، إنه حقيبة من وراثات مختلفة متباينة: فيها الخير، وفيها الشر، وفيها ما يسوء، وفيها ما يسر، وأشهد إني ما رأيته يقرأ القرآن، أو يدرس أحاديث النبي الكريم إلا متطهرا متطيبا جالسا على ركبتيه في خشوع ورهبة، وأشهد أنه طالما حدثني عن نفسه، وما ينساق إليه من هفوات الشباب، والدموع تنهمر من عينيه، والحزن يملأ جوانب نفسه، وكثيرا ما كان يقول وهو في تلك الحال: وماذا أفعل وقد خلقت ريشة في مهب الأهواء، وقصبة جوفاء في بحر مائج بالفتنة والإغراء؟ ثم يرفع رأسه إلى السماء في رعب وضراعة وهو يردد: اللهم إنك إنما سميت الغفور لأنك تغفر لمثلي. وسمعته مرة وقد اجتمع بفتية من بني أمية وهو يقول لهم: يا بني أمية، إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، ويثور ثورة الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء رقية الشيطان، إني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إلي من كل لذة، وأشهى إلي من الماء البارد إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يقال.
فأسرع ابن عنبسة يقول: أخشى يا أبا مساحق إذا طال بنا المجلس أن تزعم أن صاحبك من الملائكة الأطهار. - لا يا ابن أخي، إنه ليس من الملائكة الأطهار، إنه قد يكون أحيانا عبد نفسه، إذا جمحت به أرخى لها العنان، وتركها تسير به إلى حيث تريد، ولكني أقول: إنه رجل له جانبان: جانب للخير، يظهر فيه نبله، وكرم عنصره، وطهارة عرقه، وجانب للشر يرحل فيه العقل، وتنحل العزيمة، ويختفي الوليد الشريف الكريم، ويأتي الوليد الظريف المرح، وربما كان في انقياده إلى وازع نفسه لا يزيد عن أمثاله من الفتيان الذين خلقوا على غرار فطرته، ولكن الوليد أضاف إلى ما فيه من ضعف العزيمة ما طبع عليه من العناد، والتحدي، والتباهي بازدراء آراء الناس، وعدم المبالاة بلوم اللائمين، فلم يراء كما يراءون، ولم يخف الرقباء كما يخافون، بل قال ما يقول في علانية وسخرية، وكشف ذات نفسه لأعدائه وأصدقائه في غير خوف أو حذر، ومما أكثر فيه القالة شغف الناس بالأقاصيص، وغرائب الأخبار، فهم إذا نقل إليهم كاذب أنه شرب كأسا لم يرقهم أن ينقلوا الخبر كما هو، وأي طرافة في أن يشرب شاب كأسا محرمة بعد أن فسد الزمان؟ فراحوا يقولون: إنه شرب باطيتين حتى انتفخ بطنه، وهنا ابتدره ابن عنبسة فقال: إن الناس لا ينقلون إلا ما يسمعون من غلمان القصر وجواريه، وقد بلغني أنه اصطنع بركة في هذا القصر، وملأها خمرا، وأنه إذا استخفه الطرب ألقى فيها نفسه، وأخذ يكرع؛ حتى يبين النقص في أطرافها. - هذا اختلاق مائن، وإفك كاذب، فالوليد أبغض الناس للقذر، أو ما فيه احتمال القذر، وهو لحرصه على النظافة لا يشرب من إناء شرب منه غيره، ثم كيف يستساغ في العقل أن يشرب من البركة حتى يظهر النقص فيها؟ إنه لو فعل لكان اليوم من الهالكين، واسترحنا من الجدل في شأنه؛ وهذه الفرية البلقاء لا تقل في بشاعة كذبها عما يتناقله الناس من أنه أراد يوما أن يتفاءل، ففتح القرآن، فكانت أول آية تقع تحت عينيه قوله تعالى:
واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد . فقد قالوا إنه غضب عند ذلك وعربد، ومزق المصحف، وقال:
أتوعد كل جبار عنيد؟
فها أنا ذاك جبار عنيد!
إذا ما جئت ربك يوم الحشر
فقل يا رب مزقني الوليد
ويكفي لتفنيد هذا الهراء أني أعلم، وأنكم تعلمون أن العرب على ولوعها بالتفاؤل لا تتفاءل بالمصاحف، ولا بما يدون في الكتب، فإن ذلك لم يكن من عاداتها منذ خلق الله الصحراء والجمل.
وأكبر الظن عندي أن هناك ثلاث طوائف تعمل على الكيد لبني أمية كلهم لا للوليد وحده، وأنها تبذل الجهد ناشطة لإسقاط الدولة ومحو آثارها، وهذه الطوائف هي: طائفة الناقمين من غير العرب بعد أن أذلهم بني أمية، وقضوا على عزمهم ومجدهم، وأنزلوهم بدار الهوان والإتعاس، وطائفة بني العباس الذين يدعون «لمحمد بن علي»، والذين ربضوا بخراسان متربصين، يتحينون الفرصة للوثبة، وينشرون جواسيسهم وعمالهم في البلاد؛ ليبثوا في الناس كراهية الخلافة ورجال الدولة، ويذيعوا عنهم خروجهم عن الدين، واحتجانهم الأموال وتبديدها في اللهو والنعيم، وهناك شيعة علي بن أبي طالب الذين يجتذبون الناس بزهدهم، ويستدرون عطفهم بما أوقع بهم بنو أمية من القتل والتشريد، هؤلاء جميعا يعملون كادحين لإسقاط عرش الأمويين، وقد وجدوا في الوليد منبعا فياضا لإشاعة الأكاذيب، وابتداع الأخاليق، وراحوا يهولون من كل ما يبدو منه من لهو، فإذا لم يصدر عنه شيء رسم خيالهم أبشع الصور، ولفق لهم أسوأ الأحاديث، وهنا التفت إليه الزهري وقال: عجيب أمرك يا ابن مساحق، تعترف بعبث صاحبك، ثم تدفع عنه، وحينما ترى أن حجتك لا تنهض بجناح تحاول أن تنقل الأمر من الوليد إلى بني أمية عامة، ثم ما يحيط بهم من أحداث وأعداء. - لا يا أبا بكر إنني إنما أنكر على الناس تعصبهم عليه، وتألبهم للكيد له، وأخشى أن يكون من أسباب ذلك أنه ولي العهد، وأنه يسد الطريق على أبناء هشام، ولعله لو تخلى عن هذه الولاية لارتدت عنه سهامهم، ولعاش كما يعيش غيره، ولسكتت عنه ألسن السوء.
Página desconocida
وبينما هم في الحديث إذ بدت لهم من النافذة عن بعد جماعة من الفرسان، تثب الكلاب من حولهم ومن خلفهم، وقد سار في المقدمة فارس معتدل القامة، كأنه عامل الرمح، وهو يعبث بسوطه في الهواء، فقال السلمي: هذا هو الوليد ومعه فتيانه، وقد قدموا من الصيد، وسيكونون بيننا بعد قليل.
فتمكن الزهري في مجلسه، وتمتم بكلمات ربما كانت تسبيحا، وربما كانت استنكارا، وومضت عينا ابن عنبسة بالشر، وتنحنح يزيد بن الوليد وقال في حزن وأسى: وهكذا تدور حياة هذا الشاب بين مرح ولهو، وغناء وطرب! يا لضيعة بني أمية!
ويصل الوليد إلى القصر، ومعه من ندمائه كاتبه عياض بن مسلم، وابن سهيل، والمنذر بن أبي عمر، وعبد الصمد بن عبد الأعلى، فيسرع إليه غلامه رستم الفارسي، وخادمه سبرة، فيخبرانه بكل ما دار بين القوم من أحاديث، فيعبس وجهه قليلا، ثم ينبسط عن ابتسامة ماكرة، فيها عناد، وفيها تشف، وفيها انتقام وعبث، ثم يقول: أبعثهم إلي هشام لينصحوني، أم يمهدوا السبيل إلى خلعي من ولاية العهد وتولية ابنه مسلمة؟ والله لن أخلع ما وضعه الله في عنقي، أو أموت دونه! يقولون: إني لاه عابث، سأريهم يا سبرة كيف أعبث بهم، وكيف ألهو بأشياخهم، وسأريهم أني لا أبالي بما يذيعون عني من كذب وبهتان، ادع عمر الوادي وأبا كامل، وادع جميع المغنين، فسوف يعرفون اليوم من هو الوليد بن يزيد؟ وانطلق سبرة يطيع أمر مولاه، وما هي إلا لحظات حتى سمع رنين العيدان، ونقر الدفوف، وأقبل المغنون، ومشى أمامهم الوليد نحو زواره، فلما دخل عليهم كان أبو كامل يغني:
عللاني واسقياني
من شراب أصفهاني
من شراب الشيخ كسرى
أو شراب الهرمزان
إن بالكأس لمسكا
أو بكفي من سقاني
إنما الكأس ربيع
Página desconocida
يتعاطى بالبنان
وكانت القيان تدق بالكفوف والدفوف، ويمشين في خفة ومرح، كأنهن الحمائم ترف رفيفا، ثم اتجه الوليد إلى عمر الوادي صائحا: يا جامع لذتي ومحيي طربي، غنني من خفيف الرمل بالبنصر، فانطلق يغني:
أصدع نجي الهموم بالطرب
وانعم علي الدهر بابنة العنب
واستقبل العيش في غضارته
لا تقف منه آثار معتقب
من قهوة زانها تقادمها
فهي عجوز تعلو على الحقب
أشهى إلى الشرب يوم جلوتها
من الفتاة الكريمة النسب
Página desconocida
فقد تجلت ورق جوهرها
حتى تبدت في منظر عجب
فهي بغير المزاج من شرر
وهي لدى المزج سائل الذهب
في فتية من بني أمية أه
ل المجد والمأثرات والحسب
ما في الورى مثلهم، ولا بهم
مثلي، ولا منتم لمثل أبي
وما كاد ينتهي من غنائه حتى هجم عليه الوليد، وأخذ يقبله ويخلع من عقود الجوهر التي يتحلى بها، ويضعها في عنقه.
وهنا لم يطق الزهري الصبر، فهم بالوقوف، ودعا صاحبيه إلى الخروج، ولكن يزيد بن الوليد اجتذبه من كمه وهو يقول: إننا لا نستطيع أن نغادر القصر من غير أن نقضي حاجة هشام، فإنك تعرف ثورة غضبه على من يتهاون في تأدية ما يطلبه منه، ولمح الوليد ما يدور بين القوم فصرف المغنين، ثم أقبل على الزهري في أدب وخشوع، وكثير من الوقار، كأن لم يكن شيء، وكأن ما ملأ البهو من لهو وطرب منذ لحظة لم يكن منه شيء، أقبل على الزهري فحياه ورحب به، ثم نظر إلى يزيد بن الوليد، وإلى ابن عنبسة نظرة صلف، أتبعها بتحية، فيها تيه، وفيها اعتزاز، ثم أخذ يسأل الزهري عن مسائل في الحديث، وغريب اللغة، والقرآن، والقوم في دهش جارف ملك عليهم ألسنتهم، وأذهل عقولهم، فلما هدأت نفس الزهري قال: إننا جئنا إليك يا بني من قبل الخليفة لنسدي إليك النصح، وندعوك إلى ترك ما أنت فيه من لهو يقضي على المروءة، ويعبث بالشرف، وقد ضاق الخليفة ذرعا بما يسمعه عنك، وما ينقل إليه من أمرك، ثم إنه الآن - وقد تقدمت به السن - يخشى أن يترك الخلافة في يد من لا يصونها، أو يستطيع النفح دونها، وهؤلاء المسودة - كما يسمونهم - أو دعاة بني العباس قد ظهروا بخراسان، وأصبح لهم عديد وعدة، وأشياع وأنصار، فإذا لم يحم الخلافة رأي نافذ، وعزم باطش ضاع الملك الذي أثلتموه، ولاقى بنو أمية من أعدائهم شر ما يلاقي الذليل المقهور، فالخليفة ينذرك ويدعوك إلى التوبة، ونبذ ما أنت فيه، ويطلب إليك أن تسرح ندماءك وأصفياءك، وأن تبتدئ حياة جديدة كلها جد وصلاح، وابتعاد عن الدنيا، واهتمام بشئون الدولة؛ حتى تكون أهلا لولاية العهد.
Página desconocida
كان الوليد ينصت عابسا مفكرا يعبث بأصابعه في شعرات لحيته، وما كاد ينتهي الزهري حتى أرسل قهقهة طويلة اهتزت لها جوانح صدره، ثم نظر إلى القوم وقال: ألأجل ذلك جئتم؟ ومن أجل هذا أتعبتم دوابكم حتى بلغتم قصري؟ لقد سخر منكم هشام وغرر بكم، إن ما يجري في قصري من اللهو العفيف لا يزيد عما يجري في قصور فتيان بني أمية، ثم التفت إلى ابن عنبسة ويزيد، وقال: وعما يجري في دار ابن عنبسة، وفي قصر يزيد، وإن أبناء هشام أنفسهم يتمتعون بالحياة طولا وعرضا وعمقا، ولكن هشاما يريد شيئا آخر، يريد أن يسخركم من حيث لا تشعرون في مأرب هو أقصى أمانيه ومنتهى آماله، يريد أن يهدم هذا السد الذي يحول بين ابنه مسلمة والخلافة، يريد أن يخلع عني ولاية العهد بعد أن أقسم عليها أمام أبي أغلظ الأيمان، وأعطى أوثق العهود، ليقدمها إلى «أبي شاكر» هدية غالية ثمينة تبقى في أولاده وأحفاده أبد الدهر، ولم ير للوصول إلى ذلك من سبيل إلا أن يثلب عرضي، ويكثر في قالة السوء، ويبعث حولي جواسيسه وعيونه ليجعلوا من الفأرة جملا، ومن بيت النملة قصرا، وليملئوا الدنيا بأخبار زندقتي، حتى لقد أصبحت حديث السمار، ومثلا شرودا في اللهو وحب الطرب، وإني أسخر منه ومن أعوانه، وأزيد في نكايته بإصراري على ما أحب، وتمسكي بما يكره، ثم إنه أراد أن يخطو خطوته الأخيرة فبعثك يا ابن شهاب، وأنت من أنت في رأي العامة والخاصة علما ودينا ونسكا؛ ليستشهد بك لدى الناس إذا خلعني، وليقول لهم: لقد صبرت عليه كثيرا فلم يزدجر، ونصحت له كثيرا فلم يرعو، وهذا الزهري على ما أقول شهيد؛ لقد حرمني العطاء منذ عدت من الحج، وضيق علي وعلى ندمائي، ولكني لم أبال به، ولم آبه له، وإن لي من ميراث أبي ومن أموال أخوالي ما يزيد عن حاجتي، وإن في نفسي يقينا لا يزعزعه إرهاب هشام، ولا تنقص منه صولة هشام؛ ذلك أني سأكون خليفة على رغم أنوف بني أمية جميعا، وإن هشاما سيموت ويزول ملكه، ويذهب معه نهمه، وتدفن مطامعه، وسأكون من بعده الخليفة الأموي الفتي، وسوف أثيب أصدقائي أجزل الثواب، وأذيق أعدائي مر العذاب، فلقد أعددت في سرداب القصر مائة قيد من حديد كتبت على كل قيد اسم صاحبه، ثم التفت إلى ثلاثتهم وقال: وأكبر ظني أن أسماءكم بين ما كتب من أسماء، وسوف يقول الناس: إن الوليد لم يكن غرا مائقا، ولم يكن مغفلا ماجنا؛ لأنه عرف أعداءه فمحقهم، وعرف أحباءه فأجزل عطاءهم.
أنا ابن أبي العاصي وعثمان والدي
ومروان جدي ذو الفعال وعامر
أنا ابن عظيم القريتين وعزها
ثقيف وفهر والعصاة الأكابر
نبي الهدى خالي، ومن يك خاله
نبي الهدى يقهر به من يفاخر
ثم وقف ومد يده إلى الزهري وهو يقول: إذا لقيت هشاما فقل له عني:
كفرت يدا من منعم لو شكرتها
جزاك بها الرحمن ذو الفضل والمن
Página desconocida
رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي
ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
أراك على الباقين تجني ضغينة
فيا ويحهم إن مت من شر ما تجني
كأني بهم يوما وأكثر قولهم
ألا ليت أنا، حين «يا ليت» لا تغني
ثم ترك البهو فسار خلفه غلاماه، وترك القوم مشدوهين حائرين، فأخذ الزهري يجمع ثيابه ويتهيأ للخروج، وهو يقول: صدق رسول الله: «إن لكل دين خلقا، وإن خلق الإسلام الحياء».
رشد وغي
كان الوليد من أصبح الناس وجها، وأشدهم قوة، وأرقهم طبعا، وأظرفهم حديثا، وكان فارعا متين البناء، يكاد يتفجر منه ماء الشباب، وكان أعظم ما يجتذب إليه النظر عيناه السوداوان الواسعتان اللتان يلتمع منهما وميض وهاج، فيه القوة والعزيمة والشراسة، ثم لا يكاد يظهر هذا الوميض حتى يختفي، وتأخذ مكانه نظرات ذابلة ناعسة ذاهلة، فيها شعر، وفيها خيال، وفيها ما يشبه الذهول. وكان يلبس حلة خضراء من الحرير الدبيقي فوقها جبة بيضاء طرزت حواشيها بالذهب، وتغطي رأسه عمامة من الخز الأحمر، حليت أطرافها بالدر الثمين، ويتقلد عقودا من نفيس الجواهر المتلألئة الباهرة الألوان، كان يغير هذه العقود في اليوم مرارا كما يغير حلله وأثوابه.
قصد الوليد بعد أن ترك من جاءوا لنصحه إلى حجرة فسيحة كان بها جماعة من ندمائه وإخوانه، وكان بينهم أشعب بن جبير مضحكه ومندره ومسليه، وكان أشعب آية زمانه في سرعة البديهة، وتوقد الذكاء، وحسن الحيلة، وإجادة النادرة، وإثارة الضحك من غريب ما يقول، وعجيب ما يفعل.
Página desconocida
وكان لا يحب أن يزاحمه أحد في فنونه وألاعيبه، فقد زعموا أن رجلا بالمدينة حاول أن يسلك مسلكه، وأخذ يحاكيه في مذهبه ونوادره، حتى استطابه الناس، وأعجبوا به، وعلم أشعب بخبره فرقبه حتى عرف أنه يختلف إلى مجلس لبعض فتيان قريش يحادثهم ويضحكهم، فسار إليه، ثم قال له: بلغني أنك قد نحوت نحوي، وشغلت عني من كان يألفني، فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل، ثم غضن من وجهه، وعرضه، وشنجه حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه بها أحد، ثم أرسل وجهه وقال: ثم أفعل هكذا، وطول وجهه حتى كاد ذقنه يتجاوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف لامع، ثم نزع ثيابه وتحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير، وأصبح طوله مقدار شبر أو أكثر، ثم قام فتمدد حتى صار أطول ما يكون من الرجال؛ فضحك القوم حتى أغمي عليهم، وبهت الرجل فما تكلم بنادرة، ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، على الله عهد ألا أعاود ما تكره، وإنما أنا تلميذك وخريجك.
وكان أشعب في ذلك الحين قد جاوز التسعين، ولكنه بقي مستكملا قوته، حافظا لفنه ودعابته، وكان دقيق الجسم ناحله، أزرق العينين أحولهما، أصلع الرأس حتى كأن رأسه كرة من الشمع اللامع، وحينما ورد على الوليد حظي عنده فأمر خدمه أن يلبسوه سروالا من جلد قرد له ذنب طويل، وأن يشدوا في رجليه أجراسا، وفي عنقه جلاجل.
دخل الوليد على ندمائه باشا مبتهجا كأن وفد هشام لم يثر في نفسه هما، ولم يكدر له صفوا، فشرع ابن سهيل يقول: لقد أحسنت إجابتهم يا مولاي، وكشفت خديعتهم، ولكني أخشى ألا يقف هشام عند هذه الغاية، وأخشى أن يكون ما فعله اليوم إنما هو تحفيز لهجوم، وطليعة لمكيدة جديدة.
فقال عياض: إن هشاما لا يستطيع أن يمس الوليد، ولكنه سيصب غضبه علي وعليك يا أبا وهب، فقد بلغني من مولاه يعقوب - وهو جاسوس لي عليه - أن حديثا جرى منذ يومين بشأن الوليد وندمائه، وأن جواسيسه نقلوا إليه بعض شعرك الذي تمدح به الأمير، وتذكر ما يرجى منه إذا ولي الخلافة، وترمي فيه هشاما بأقبح الصفات ؛ فغضب حتى كاد يعود حوله عمى، ثم صاح: والله لأقصن جناحيه، ولأفرقن عنه قرناء السوء الذين يمالئونه علي! والرجل بطاش منتقم، يقتنص العصفور من بين براثن النسور، ولا يترك أعداءه للمقادير، وهنا قال عبد الصمد ابن عبد الأعلى: وكل حقده علي أني لم أخضع لأمره، ولم أقنع الوليد بالتخلي عن ولاية العهد، فأسرع عياض وقال: إن لي ولك عنده ذنوبا لا يحصيها العد، ولكنا لن نبالي به، ولن نأبه لوعيده، وسنكون ألصق بالوليد من جلده، وأقرب إليه من عقوده، ولو لقينا في سبيل ذلك الموت، ولله غيب هو مظهره، ولعلها غمرات ثم ينجلين، وظلمة يتبعها سفور الصباح، إن الرجل مضطرب مصاب بمرض يسمى ولاية العهد، ووجوب انتقالها إلى ابنه مسلمة.
فصرخ الوليد: دون هذا وتسيل الدماء، إن ولاية العهد قد كتبت في سجل القدر، ولن يستطيع هشام أن يمحو مداها، ولو استعان بأمواج البحار، ثم قام في اختلاج واضطراب إلى ندمائه، فأخذ يقبلهم واحدا واحدا، والدموع تنهمر من عينيه، وهو يقول: أنا أعلم أن المكروه سيصيبكم من أجلي، ويل لي! وويل لكم مني، أليس مما يمزق القلب أسفا أني لا أقدر أن أدفع عن أصدقائي وخلصائي؟ إنني إزاء بطش هذا الرجل أضعف من ذات خمار، ولقد عرف كيف ينتقم مني فيكم، وعرف كيف يحرمني بفقدكم طيب الحياة، إنني أعلم أن كلمة واحدة من فمي تنقذكم جميعا، ذلك بأن أذهب إلى هشام وأقول له: إني تخليت راضيا عن ولاية العهد، ولكني لن أفعل شيئا من هذا؛ لأني أعلم أني أحب إليكم من أنفسكم، وأنكم تفدونني بأرواحكم، وأن أكبر آمالكم أن أصبح خليفة، وأن أشفي نفسي بدماء أعدائي، ثم ضحك طويلا حتى كادت تسقط عمامته، وقال: موتوا مطمئنين أيها الأوفياء، ثم التفت إلى ابن سهيل وقال: ما أجملك مصلوبا يا أبا وهب، وقد امتدت ذراعاك في الهواء كأنك لا تزال تذكر عناق الحسان، لا تجزع يا حبيبي، ومت آمنا فسأقتل بك عشرين فتى من فتيان بني أمية، أما أنت يا ابن مسلم فمما تطيب له نفسك أن تعلم أن سيفا منذ طبعت السيوف لم يقطع عنقا أشرف ولا أكرم من عنقك، فلا تبتئس أيها الصديق، وسر إلى الموت كريما، فسأقتل بك خمسين فتى من فتيان بني أمية، وهنا صاح أشعب بصوت يشبه نقيق الضفادع قائلا: أما أنا أيها الأمير فسوف أموت فرحا مسرورا؛ لأنك ستقتل بي مائة عجل من عجول بني أمية! فأغرق القوم في الضحك، وقام الوليد يعدو وراءه، ففر منه وهو يقفز أحيانا، ويمشي على رأسه أحيانا، ولجلاجله صليل ورنين، ثم صاح به الوليد: ماذا كان جواب الرسالة التي بعثتك بها يا قرد السوء؟ ولم لم تخبرني بما تم فيها بالأمس؟ - انتظرتك حتى تفرغ من مجالسك يا أبا العباس، وكنت أظن أن ذلك لن يكون إلا في العام المقبل. - سأكون في العام المقبل خليفة؛ فلا أحتاج إلى الاستشفاع بك. - ولكنك ستكون بطبائعك الوليد بن يزيد الذي نعرفه جميعا، فلا تستغني عن شفاعتي؛ فضحك القوم، وقال ابن سهيل: ما تلك الرسالة أيها الأمير؟
فتأوه الوليد وغشيت وجهه سحابة من الحزن، وقال: رسالة إلى سعدة. - ألا تزال تذكرها؟ - دعني بالله يا ابن سهيل، ولا تثر لواعج نفسي، فإنني كلما ذكرت عهدها طار بي الشوق إليها، وهزني نحوها الحنين، إنني رجل منكود الحظ، شقي الطالع، لا أكاد أصل في سلم السعادة إلى درجة أشرف منها على الحياة حتى يسقط بي السلم في هوة لا ينادى وليدها، ولا يرجى فقيدها، لقد كان حبنا سماويا لم ينعم بمثله زوجان فوق الأرض الفانية، ولقد مرت بنا سنوات كأنها بسمات الروض لأشعة الصباح، عشنا فيها تظلنا دوحة الحب سعيدين هانئين. - إلى أن رأيت أختها سلمى. - إلى أن رأيت أختها سلمى يا ابن سهيل، ويلاه؛ ليت هذا اليوم لم يكن؛ ذلك كان يوم أن ذهبت لأعود أباها سعيد بن خالد، وإنه ليوم بالغ الأثر، شديد الخطر، تبدلت فيه حياتي، واضطربت من بعده أيامي، لمحت فيه سلمى، وقد برزت بوجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، وقامت حولها جواريها ليسترنها عني ففرعتهن طولا، فاهتز لها قلبي، وخفقت جوانحي، ورحت بها صبا متبولا، لا يستقر لي قرار، ولا ينطفئ أوار. - لذلك طلقت سعدة لتفوز بأختها. - نعم طلقتها في لحظة جنون، وكنت أظن أن الوصول إلى سلمى بعد ذلك من أهون الأمور، وأنه ليس علي إلا أن أخطبها من أبيها، فيجيب شاكرا مسرورا. - ولكن هشام وقف بينك وبينه، وحال بين الثمرة اليانعة وجانيها. - نعم يا أبا وهب فرجعت صفر اليدين، أندب محبوبتين، وأعاني آلام غرامين، فلا على سعدة حصلت، ولا بسلمى ظفرت. - والآن تريد أن تعود إلى مودة سعدة بعد أن هجرتها وهجرتك، وبعد أن أصبحت ذات بعل؟ - إن غرامي بها يكاد يصل إلى حد الجنون، وإن لي أملا في أن ينفصم عقدة زواجها، فأعود إليها كما كنت زوجا وافر الحظ سعيدا. - عجيب كل أمرك أيها الأمير، وأعجب ما فيه أنك بعد أن عاودك الهيام بسعدة لا تزال تحب سلمى. - لا أزال أحبها؟ إنني أحبها كما يقول ابن أبي ربيعة: «عدد الرمل والحصى والتراب»، إن لي في الحب يا ابن سهيل مذهبا لا تعرفه.
ثم اتجه إلى أشعب وصاح: ماذا كان جواب الرسالة أيها القرد الأحمق؟ فتقدم منه أشعب وهو يتصنع الخوف، وقال: ذهبت إليها بالأمس يا سيدي فلما أذن لي عليها، رأيت صورة رائعة الحسن ما وقعت على مثلها عيناي، فملكتني الدهشة، وتعثر بي لساني، فلما اطمأنت نفسي، واستقر بي مجلسي، وقفت أقول وأنا أرتعد رعبا: يا سيدتي، هذه رسالة مولاي إليك، وهو يقول لك فيها:
أسعدة هل إليك لنا سبيل؟
وهل حتى القيامة من تلاقي؟
بلى، ولعل دهرا أن يواتي
Página desconocida
بموت من حليلك أو طلاق
فأصبح شامتا وتقر عيني
ويجمع شملنا بعد افتراق
وما كدت أتم البيت الثالث حتى صرخت في وجهي، وأخذت تصيح بخدمها: خذوا عني هذا الفاسق الفاجر، جروه من رجليه، ثم اقتلوه في بستان القصر، ولا تدنسوا بدمه بساطي، فلم أملك نفسي من الرعب والوهل، وتعلقت بطرف ثوبها في ذلة وتوسل، وأنا أقول: ارحميني يا مولاتي ، ارحميني بحق جدك عثمان بن عفان، لقد والله كنت أعرف أني مقدم على مثل هذا، ولكن ماذا أصنع وأنا أشعب، وقد أغراني ثمن هذه الرسالة المشئومة؟ إن ثمنها يا مولاتي عشرة آلاف درهم! عشرة آلاف درهم! فابتسمت قليلا وقالت: والله لأقتلنك، أو تبلغه كما بلغتني؛ فهدأت نفسي وقالت: وماذا تهبين لي من أجر على رسالتك؟ قالت: بساطي الذي تحتي. قلت: قومي عنه إذا؛ فإني لا أحب بيع النسيئة، فقامت عنه وطويته تحت إبطي، ثم قلت: هاتي رسالتك جعلت فداك، قالت: قل له:
أتبكي على لبنى وأنت تركتها؟
فقد ذهبت لبنى، فما أنت صانع؟!
وما كاد ينتهي حتى وثب عليه الوليد كأنه الجمل الصائل، ولكن أشعب استطاع أن يفر منه قبل أن يلثمه بسوطه، فصرخ الوليد: إنها تقول: فما أنت صانع؟ الذي أصنعه يا ابن أم الخلندج أن أدليك منكسا في بئر، أو أن أقذف بك من قمة القصر، أو أن أضرب رأسك بسيفي ضربة أطيح بها رأسك، هذا هو الذي أنا صانع؛ فوقف أشعب في ثبات وثقة وقال: والله ما كنت لتفعل شيئا من هذا. - ولم يا ابن المجلودة؟ - لأنك لم تكن لتعذب عينين نظرتا إلى سعدة، فارتد الوليد عنه وهو يتأوه ويقول: نجوت يا ابن الورهاء، اغرب عني أيها الأزرق المشئوم.
وأذن مؤذن المغرب فانتفض الوليد كمن يرفع رأسه من لجة غامرة، وتبدلت حاله، ولبسته صورة رائعة من الخشوع والتبتل، ونظر إلى السماء في ذلة وخشية، وأسرع غلامه سبرة فأحضر إبريقا، وطستا فتوضأ، وقام القوم فتوضئوا، ثم صاح بصوت هز أرجاء القصر: الصلاة الصلاة، ونهض فأم من بالقصر، فلما فرغ من الصلاة أخذ يجاذب ندماءه طرائف الأحاديث والأخبار، حتى إذا مر طرف من الليل صاح: أين النوار؟ أين النوار؟ أين سعاد الكوفية؟ أين جامع لذتي ومحيي طربي؟ أين عمر الوادي؟ وكأنهم جميعا كانوا يترقبون هذا الأمر، فما مرت لحظات حتى أقبل الجواري والمغنون، فطلب إلى عمر الوادي أن يغنيه بشعره في سلمى، فعزفت العيدان، وارتفع صوت الناي، ودقت الدفوف ، وأخذ عمر يغني هزجا بالبنصر:
يا سليمى يا سليمى
كنت للقلب عذابا
Página desconocida
يا سليمى ابنة عمي
برد الليل وطابا
أيما واش وشى بي
فاملئي فاه ترابا
ريقها في الصبح مسك
باشر العذب الرضابا
فطار عقل ابن الوليد من الطرب، وخلع جبته، وقذف بها في وجه عمر، وهو يقول: خذها لا بارك الله لك فيها، ثم زدني بالله زدني، فانطلق يغني رملا بالبنصر:
يا من لقلب في الهوى متشعب؟
بل من لقلب بالحبيب عميد؟
سلمى هواه ليس يعرف غيرها
Página desconocida
دون الطريف ودون كل تليد؟
إن القرابة والسعادة ألفا
بين الوليد وبين بنت سعيد
فما أتم غناءه حتى قام الوليد فاختطف الدف من جاريته صدوف غاضبا، وقال: أنت لا تحسنين الإيقاع يا جارية! دق عليه أنت يا ابن عائشة، وغننا بالله يا أبا كامل، فأسرع يغني:
ويح سلمى لو تراني
لعناها ما عناني
متلفا في اللهو مالي
عاشقا حور القيان
إنما أحزن قلبي
قول سلمى إذ أتاني
Página desconocida
ولقد كنت زمانا
خالي الذرع لشاني
شاق قلبي وعناني
حب سلمى وبراني
ولكم لام نصيح
في سليمى ونهاني
فكاد يخرج من ثيابه لشدة الطرب، فلما هدأت نفسه وثب مسرعا إلى الجناح الذي تسكنه أمه، وهو يصيح: يا سبرة، اطرد المغنين، واصرف الجواري، فقد سئمت هذا العبث، أخرجهم من القصر إن شئت؛ فإنهم جنود إبليس في هذه الأرض.
دخل الوليد على أمه حزينا مطرقا، يكاد يطفر الدمع من عينيه، وكانت أمه بنت محمد بن يوسف بن الحكم الثقفي أخي الحجاج بن يوسف، في نحو السادسة والأربعين، وهي على تجاوزها ريعان الشباب، لا تزال تزهى بلمحات جمال بارع، لم تذهب بنضارته السنون، وكانت مولعة بالوليد، كثيرة التدليل له، والرفق به، والإغضاء عن هفواته.
دخل عليها فرآها جالسة على أريكة نجدت بالحرير، وطرزت ستائرها بالقصب، وقد لفت رأسها بخمار من الحرير الأسود، فبدا منه وجهها كما يبدو البدر في حلك الظلام، وكانت تقرأ القرآن، وأبو رقية أمامها ممسك بالمصحف يستمع لتلاوتها.
وكان أبو رقية هذا في طليعة شبابه شديد الذكاء متوقد القريحة، تجرد لطلب علوم الدين والقرآن، فأوغل في الدرس، وواصل فيه ليله بنهاره، فغلبت عليه المرة السوداء، فاختلط عقله، وأصابته لوثة، وانتابه البله في أكثر أحواله، ولكنه كان يفيق أحيانا فيثوب إليه عقله، ويعاوده ذكاؤه، ويصدر عنه من الدهاء والمكر ما يعز على أكثر العقلاء، وقد يرى في أثناء إفاقته أن من الخير له أن يتباله، فلا يكاد يفرق من يراه بين بلاهته المطبوعة، وبلاهته المصنوعة، ومما يؤثر من نوادره في إحدى نوبات جنونه، أنه كان يحمل مرة في طوف ثوبه بيض دجاج، فأحرده الصبيان، وهموا برجمه بالحجارة، فخاف على البيض منهم، فوضعه على الأرض، وجلس عليه حتى لا يراه منهم أحد.
Página desconocida
واتفق عند دخول الوليد أن كانت أمه تقرأ قوله تعالى:
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم . فانكب على يديها يقبلهما في حزن وخشوع، وهو يجهش بالبكاء ويغمغم: نعم يا أماه، إنه هو الغفور الرحيم، ولكن عذابه هو العذاب الأليم، فأين أكون من هذين؟ وهل تتسع رحمته لمثلي؟ إنه كريم يقبل التوب، ويغفر الذنب، ولكن أين غفرانه مني وأنا أشرد منه شراد البعير؟ اسأليه عني يا أماه أن يرد عني كيد الشيطان، فإني أخجل من دعائه، والابتهال إليه، خذيني إليك يا أماه، وضميني إلى صدرك، فلعلي أعود كما كنت طفلا نقي الذيل، طاهر النقيبة، فقد استعبدتني نفسي، وأثقلتني همومي؛ فأقبلت عليه أمه تمسح على رأسه في حنان ورفق، وتملأ وجهه بقبلاتها، ثم قالت: خفف عن نفسك يا ولدي، فإن الدموع تغسل الذنوب، والخوف من الله أول مراتب التوبة النصوح، ثم ابتسمت وأخذت تربت كتفه وتقول: ولكنك يا بني لا تكاد تعري أفراس الصبا حتى تسرجها، وتركض بها غير مبال ولا هياب، ولا تكاد تحطب كأسا من اللهو حتى يسبك لك الشيطان كاسات، إن قلبك يا بني قلب مؤمن، إذا تيقظ كشف لك وجه الحق، فدعه دائما متيقظا. - ليتني أستطيع يا أماه! إن ابن إبليس تمنى على أبيه لعبة يلهو بها، فلم يجد له اللعين لعبة سواي، إنني أفيق كما يفيق المحموم، ثم أعود إلى الخمود، ويلتمع في نفسي نور من الحق كما يلتمع السراج في آخر الليل ثم يخبو، أرأيت هذا المجنون أبا رقية ...؟ فصاح أبو رقية في استنكار: لست مجنونا، ولكني أشعر بالجنون أحيانا حينما أراني مدفوعا إلى حب أمثالك يا أبا العباس، وإلى بذل ذات نفسي لدفع الشر عنهم. - أتحبني يا أبا رقية؟ - نعم، وأركب كل صعب للوصول إلى ما يرضيك. - أتقول حقا أيها الأبله؟ - لست بأبله؛ لأنني لا أشرب إلا إذا ظمئت، أما غيري فيشرب وهو ريان. - وكثيرا ما صفروا لك لتشرب. - خير لي أن أشرب مع الحمير من أن أشرب مع قرناء السوء. - أما ذقت الخمر يا أبا رقية؟ - ذقتها بعيني عندما رأيت عربدة المخمورين. - تبا لك من معتوه، والله ما رأيت لك مثلا. - إنك ترى كثيرا من أمثالي في مجالس الشراب.
فابتسمت أم الوليد، وأشارت إلى ابنها أن يكف، ثم سألت: ما شأن هؤلاء القوم الذين جاءوا اليوم؟ لقد أخبرتني صدوف بكل شيء. - صدوف؟ إنني لا أحب هذه الجارية يا أمي على جمالها وكمال أدبها، لا أدري لماذا؟ ولكنها نفرة أشعر بها كلما مددت إليها عينا. - إن صدوف من خير جواريك خلقا وخلقا، ولقد شكت لي منذ أيام صدودك عنها، وانصرافك إلى غيرها. - إن الحب والبغض شيئان نحسهما، ولا نعرف أسبابهما. - هذا حق، ولكن الكريم يجامل إذا لم يحب. - بم أخبرتك صدوف؟ - أخبرتني بكل ما قال لك رسل هشام، وبكل ما قلته لهم. إنها خدعة الصبي عن اللبن يا بني، فلا تركن إليهم. إن هشاما يريد أن يتخلص منك، فإياك أن تمكنه من مأربه، وإن ولاية العهد لأمانة لله في يديك، فمت دونها كريما، ولا تفرج عنها أصابعك، لقد مات أبوك بين سحري ونحري وهو ينظر إليك محزونا مكمودا، ويقول: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبين ولدي! فقد كانت ولاية العهد لك بعد أبيك يا بني، ولكن عمك مسلمة أدخل على أبيك الشبهة، وقد كنت صغيرا، فحمله على أن يعهد بها إلى هشام على أن تكون لك من بعده، والآن وقد استمرأ هشام مرعاها، واستحلى أفاويقها، يهم بأن يخلعك ليخص بها ابنه من بعده، إن ذلك أبعد إليه من السماكين، وأنأى من الفرقدين، إن بقصر هشام أحابيل تنصب لك، ومكايد تدبر لهلاكك، فكن منها على حذر، وامش يا بني كمن يمشي في مسبعة لا يرد الطرف عن ناحية حتى يصوبه إلى أخرى، وخير سلاح ترد به كيد أعدائك أن تتخلى عما أنت فيه من لهو، فإنهم يجعلون التشهير بك ذريعة إلى نيل ما يؤملون. - ليتني أستطيع أن أتخلى. - كن قوي العزم يا بني، وغالب نفسك بالصبر والجلد. ألا تزال تحن إلى سلمى؟ - حنين النيب إلى إفالتها، لقد قابلت أباها منذ أيام أمام باب الفراديس فسألته عن سلمى، وتذللت له، وألحفت في المسألة، فما كان منه إلا أن نأى بجانبه في أنفة وكبرياء، فأمسكت بذراعيه، وقد اشتد بي الغيظ، وقلت: سحقا لك من رجل منخوب الفؤاد، الآن تردني عنها، وكأني بك وقد وليت الخلافة تتملقني وتخطبني لابنتك فلا أجيبك، فما كان منه إلا أن نتر ذراعيه من يدي، وقال: إن امرءا يجعل كريمته عند مثلك لحقيق بأكثر مما قلت، فلم أملك إلا أن أجبهه بما يكره من شتائم، وتركته مغضبا. - لقد انقلبت الأوضاع يا بني في هذه الدولة، واضطربت الموازين، ولقد عشت حتى أرى سعيد بن خالد يأنف مصاهرة الوليد بن يزيد، كنت أزور اليوم أم عثمان زوج هشام، فسمعت منها أن يزيد بن عنبسة يلح في خطبة أختها سلمى، وأن هشاما يميل إلى تزويجه بها، فوثب الوليد كأنما انقضت عليه صاعقة ثم صاح: ويل للفاجر، يزيد بن عنبسة يخطب سلمى! إنه أقل من أن يشرف بنيل إحدى وصائفها، ألهذا جاء إلي اليوم في صورة الأمين الناصح، وجعل من نفسه صنيعة لهشام ليشهر بي، ويملأ الآفاق بمذمتي؟ - أخشى أن يكون تزويجه بسلمى جزءا من المكيدة التي تدبر لك. - لو نال منها شعرة لرويت منه سيفي .
وبينما هما في الحديث إذ سمعت ضجة في القصر، ودخل سبرة مذعورا وهو يلهث ويقول: قدم يا مولاي خالد بن القعقاع رئيس شرطة هشام، ومعه كثير من أعوانه، فوثبوا على القصر وقبضوا على ابن سهيل، وعياض، وعبد الصمد، وكبلوهم بالأغلال، ثم ساقوهم إلى سجن الخلافة، وكان أبو رقية ينصت دهشا، وقد اتسعت حدقتاه حتى كادتا تملآن وجهه، وتمتم بكلمات زادها الجنون إبهاما؛ وسقط الوليد لهول الخبر، ثم أخذ يئن أنين المجروح ويقول: أصدقائي! أحبائي! ندمائي! اللهم أجرني منه! اللهم أجرني منه!
أنا النذير لمسدي نعمة أبدا
إلى المقاريف ما لم يخبر الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرا
وإن أهنتهم ألفيتهم ذللا
أتشمخون ومنا رأس نعمتكم؟
ستعلمون إذا أبصرتم الدولا
Página desconocida
انظر فإن أنت لم تقدر على مثل
لهم سوى الكلب، فاضربه لهم مثلا
ثم وثب فجأة، وأمر سبرة أن يدعو المغنين، وانطلق من باب الحجرة كما ينطلق السهم، وهو يصيح: إلى مطلع الفجر! إلى مطلع الفجر.
سجن وإطلاق
كان هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي في نحو الخمسين من عمره، وسيم الوجه، أبيض البشرة بادنا، عريض الجبهة، حسن اللحية، يخضب بالسواد، في عينيه حول، وكان حازما ذا رأي ودهاء، من رآه رأى رجلا محشوا عقلا، وكان بخيلا، جماعا للأموال، وكان يجلس في هذا الصباح بدار الخلافة، وقد وقف أمامه كاتبه سالم أبو العلاء، وجلس إلى يمينه ابناه مسلمة وسعيد، وإلى يساره جمع من رجال بني أمية، منهم يزيد بن الوليد، وإبراهيم المخزومي، ويزيد بن عنبسة، وأخذ سالم يقرأ عليه ما حمله البريد من أخبار الأطراف، وما بعث به الولاة والقواد من رسائل، وما ورد من العيون والجواسيس الذين كان يبثهم الأمويون في أقطار الدولة.
وقرأ سالم أول ما قرأ رسالة من حسان النبطي، يذكر فيها: أن خالد بن عبد الله القسري عسف بأهل العراق، وسلب أموالهم بالقهر، حتى لقد بلغت غلته عشرين ألف ألف درهم؛ فزمجر هشام وصاح: بمثل هؤلاء الولاة تزول الدولة، وتنهار الممالك، والله لأردنه إلى بغلته وطيلسانه الفيروزي ؟ اكتب إلى يوسف بن عمر عامل اليمن بولاية العراق، ومره أن يسجن ابن النصرانية وعماله، وأن يحتجز كل ما لهم من صامت وناطق، لن يشرب ماء الفرات بعد اليوم، وأنا ابن عبد الملك؛ إن الدولة بولاتها، فإذا فسدوا فسد فيها كل شيء، هل من حدث آخر يا أبا العلاء؟ - وهذا يا أمير المؤمنين كتاب من خراسان بعث به عذافر بن يزيد يقول فيه: إن خراسان أصبحت عشا للفتن، ووكرا لشيعة بني العباس، ينشرون فيها دعوتهم، ويبعثون منها رسلهم، ويعدون فيها ما استطاعوا من قوة، ويتلقون بالطاعة ما يأمر به محمد بن علي بن العباس المقيم بالحميمة. وقد كتب عذافر يقول: إن سليمان بن كثير، وبكير بن ماهان يعملان جاهدين في خفية وحذر؛ لدعوة الناس إلى بني العباس، وصرفهم عن بني أمية، ويقول: إن شابا نشأ بأصفهان يكنى بأبي مسلم، سيكون له شأن وخطر، وإنه دولة في شخص، وجيش في رجل، وإنه ألد الخصام، واسع الحيلة، وإذا لم يقض عليه من أول نشأته عظم أمره، وأثارها شعواء لا تبقي ولا تذر. - إن خراسان مكمن الداء في هذه الدولة، وهي حصن أعدائنا الناقمين علينا، وهذا بكير بن ماهان يعمل منذ أن وليت الخلافة على الانتفاض عليها، وإيغار الصدور على ولاتها، أليس في مملكتي رجل كريم العم والخال، عربي الأرومة يوجر رمحه في أحشاء هذا الكلب العقور؟ ... ويل للخلافة من نصرائها، إنها تتلهف إلى حجاج ثان يثبت ما اهتز من أركانها، ثم إني حرت في أمر محمد بن علي هذا، إنك حيثما قلبته لا تجد إلا زهدا وصلاحا، وانصرافا إلى الله وتبتلا، إن اليد لترتعد إذا امتدت إليه بسوء، وإن السيف ليتحطم في غمده قبل أن يسل في وجهه، ولكني أخشى أن يكون لابسا غير ثوبه، وأن يكون ساترا وراء هذا الزهد خبثا وخديعة وفتكا، وكلما ذكرت خبر أبي معه تملكني الخوف، واعتصمت بالحذر؛ ذلك أن محمدا هذا ورد مع أبيه على أبي، وكان بالمجلس قائف يلمح ما غاب عن الناس من أحكام القدر، فلما انصرف التفت أبي إلى القائف وسأله: أتعرف هذا؟ قال: لا، ولكني أعرف من أمره واحدة. قال: وما هي؟ قال: إن كان الفتى الذي معه ابنه فإنه يخرج من عقبه فراعنة يملكون الأرض، ولا يناوئهم مناوئ إلا قتلوه، فالتفت إليه يزيد بن الوليد وقال: هون عليك يا أمير المؤمنين، فذلك حديث خرافة، والله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، وأنصار العباسيين بخراسان حفنة متخاذلة يكفي أن يسوقها أحد عبيدك بالسوط إلى طاعتك. - لا تستهينوا بصغار الأمور يا بني أمية، فإنها إحدى علائم زوال الدولة. - إن الدولة بخير يا أمير المؤمنين، وقد قمت بالأمر فيها ثماني عشرة سنة، فثبت دعائمها، وشددت أركانها. - أتستكثر علي ثماني عشرة سنة في الخلافة؟ ويل لكم من بعدي! والله ما تشبثت بأهدابها إلا لأصون ملكا ضيعه أهله، وعبث به فتيانه، ولقد أعلم أن كثيرا منكم يعيبني بأني حفي بالخلافة، أكاد أعض عليها بالنواجذ. نعم، إنني عليها حريص، وبها ضنين، ولكني أرى بعين بصيرتي مجدا يترنح، وعرشا تكاد تسقط قوائمه، فأود لو امتدت حياتي، وتنفس لي العمر حتى أعيد إلى الخلافة مجدها القديم. عجيب شأن الإنسان، لا يكاد يكتمل حتى يذبل ويدركه الموت، وإن في الحياة ومطالبها وغاياتها ما يضيق به عمره القصير الأمد، أليس من أعجب العجب أن تعيش السلحفاة، وهي من أحقر المخلوقات مائتي عام، وأن تضن الحياة على الإنسان المسكين بأكثر من ستين أو سبعين عاما؟ ولو أنه عاش عمر السلحفاة لصنع العجائب، وأتى بالمعجزات. وماذا نعمل بالحياة إذا كنا نموت كلما أوشكنا أن نفهم حقيقتها؟ ثم زفر زفرة طويلة، واتجه إلى كاتبه سائلا: أعندك شيء آخر؟ - نعم يا أمير المؤمنين، قبض الشرط بالأمس على رجل بالقرب من الباب الشرقي كان بداره قيان وخمر وطرب، وقد أحضرناه ومعه البربط الذي كان يعزف به.
ودخل الرجل فوثب هشام من مجلسه واختطف البربط من يده، وهو يصيح مهددا: والله لأكسرن هذا الطنبور على رأسك أيها الفاجر؟ فبكى الرجل وأغرق في البكاء ، فسأله هشام عن سبب بكائه، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أبكي من خوف الضرب، وإنما الذي أبكاني أنك تهين البربط، وتسميه طنبورا.
ولم ينفع الرجل بكاؤه ولا توسله، فضرب وكسر بربطه أو طنبوره على رأسه، وبعد انصرافه اتجه هشام إلى كاتبه يسأله عمن قبض عليهم بالأمس من ندماء الوليد، وعما فعل بهم. - قذفنا بهم في سجن الظلام مكبلين يا أمير المؤمنين. - إن هؤلاء شياطين الشر، وأس البلاء، ولولاهم ما ركب الوليد رأسه، ولا أطاع هوى نفسه، ولقد بعثت الزهري إليه بالأمس لينصح له فلم يلق منه إلا نكرا، وإن من الخيانة لعهد الله ورسوله أن تترك الخلافة في يد هذا الفتى، يقولون: إنني أريد أن أصرفها إلى ولدي مسلمة، وأقسم إنني لو رأيت في ابن أخي خيرا ما جال هذا الأمر لي بخاطر، إنني أريد أن أرقد في قبري هانئا مستريحا، وأن أترك خلق الله في رعاية من يخاف الله، ولو حال ابن أخي بيني وبين ما أحب لهذه الأمة لرويت منه سيفي غير مستحقب إثما.
وبينما هو منساق في حديثه إذ دخل الوليد وهو يمشي في بخترة وعجب، شامخ الأنف، أصيد العنق، فحيا أمير المؤمنين، ثم جلس بجانبه حتى التصقت ركبته بركبته، وكاد يزحمه في مجلسه، ونظر إليه هشام نظرة المغيظ المحنق، ثم أسرع فبسط له وجهه كأنما طافت برأسه فكرة خاطفة صرفته عن نيته، وشرع الوليد يقول: لقد بعث أمير المؤمنين إلي نفرا من جماعته بالأمس ليثلبوا عرضي، ويحطوا ما رفع الله من كرامتي، في أثواب ناصحين مشفقين، وما كنت لعمر الله لأصبر على هذا الضيم، لولا أنهم رسل أمير المؤمنين. إن أبناء عبد شمس - وهم سادة الجاهلية، وخلفاء الإسلام - أقوى شكيمة، وأحمى أنوفا من أن يطأطئوا رءوسهم لناصح متطفل، ثم ما هذا الذي فعلته يا أمير المؤمنين مما أقض مضجعك، وجعلك تترك شئون الخلافة لتفرغ لي ولأخداني؟ أأحدثت في الدين حدثا؟ أم هدمت من الخلافة ركنا؟ أم جردت للفتنة جيشا؟ إنني أعيش في قصري بعيدا عنك وعن حاشيتك وبطانتك، ولكني لا أسلم من رقبة جواسيسك وتطلع عيونك، حتى أصبحت هدفا لكل رام، ثم لم يكفك هذا فعملت كادحا على الانتقام مني، فقطعت عني عطاءك لأذل لك وأستكين، وأستجدي جدواك، وأقسم بمن خلق للحق ميزانا، وأعد للطاغين نيرانا، إني ما سررت بعطائك، ولا حزنت لانقطاعه، فقد سبب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد دون الله على قطع شيء منه دون مدته، ولا صرف شيء منه عن مواقعه، ولعل من الخير لك يا أمير المؤمنين أن ترعى في أواصر القربى، وأن تذكر أبي الذي آثرك بها على ولده.
فإن تك قد مللت القرب مني
Página desconocida
فسوف ترى مجانبتي وبعدي
وسوف تلوم نفسك إن بقينا
وتبلو الناس والأحوال بعدي
إني جئت اليوم يا أمير المؤمنين لا لأطلب شيئا لنفسي، وإنما جئت لأسألك في فكاك أصحابي الذين ألقيت بهم في السجن، وليس لهم من جرم، إلا أنهم بي حفيون، ولعهدي مخلصون، وإذا كان لا بد لغضب أمير المؤمنين من متنفس فليصبه علي وحدي، فأنا به أوسع صدرا، وأكثر احتمالا.
فاربد وجه هشام، وانتفخت خياشيمه من الغضب، وصاح في وجهه: إني لن أترك الخلافة بين زق وعود، ولن أتركها لندمائك يبيعونها للأعداء، أما ما ذكرت من قطعي ما كنت أجريه فإني أستغفر الله من سبق إجرائه عليك، وأرجو أن يعفو الله عني بعد أن تداركت الأمر، وأسرعت بقطع مال كان ينفق في غير وجهه، وأما ندماؤك فهم عندي جذور الشر ومعاول الفساد، وهل زاد ابن سهيل - لله أبوك - عن أن يكون مغنيا زفانا، قد بلغ في السفه غايته؟ وهو مع ذلك ليس بشر ممن تستصحبهم في الأمور التي أكرم نفسي عن ذكرها، وهل عياض بن مسلم إلا وسيط سوء بيني وبينك، ومزور أخبار يستثيرك بها عن أهلك وقومك؟ وهل عبد الصمد إلا رجل احتال للوصول إليك ليكون لك معلما ومؤدبا، ثم انقلب فاجرا معربدا، وشيطانا مغويا؟ إن سجن الظلام منذ أن بناه الروم في عهودهم السحيقة لم تضم جدرانه، ولم يظل سقفه، أكثر إجراما، ولا أخبث أنفسا، ولا أجرأ على الشر من ندمائك الملاعين، لن يفك لهم إسار، ولن يروا نور الحياة مادام في نفس يتردد، وأقسم لولا صلة القربى التي ذكرتها، ولولا أن يشمت الأعداء ببني مروان لألحقتك بهم. يا حرسي، سر أمامنا إلى السجن لنري الوليد أحباءه، فلعله يرى فيهم عظة ومعتبرا. - لن أذهب معك يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن ينقض علينا غضب من الله ونحن في السجن. - إن غضب الله لا ينقض إلا على الغاوين. - إن كثيرا من الناس لا يعرفون أنفسهم. - ولو عرفوها ما هزوا أعواد الخلافة باستهتارهم، ولكفى الله المؤمنين شرهم. - وأي شر في مجالسة صديق، وسماع لحن من الثقيل الأول؟ - زوال الإسلام يا فتى، وذهاب ريح المسلمين، هلم إلى السجن لتمتع النظر بأصدقائك المخلصين.
فسار الوليد خلفه في تثاقل واستكراه كأنما يقاد بالسلاسل، ووصل الخليفة والحاشية إلى السجن بعد قليل.
وهو سجن روماني قديم نحت في باطن الأرض، ينزل إليه النازل بدرجات تبلغ الست والثلاثين، وهو متسع الرقعة، لا يزيد ارتفاعه عن قامة الرجل، وقد قسم بالبناء حجرات صغيرة يقيم بها المسجونون، وبه بئر عظيمة، بعيدة الغور تسمى «بئر الموت»، تلقى بها جثث من أنقذهم الموت من ويلات هذا الجحيم، وقد تراكمت به الأقذار، حتى أصبحت أرضا فوق أرضه، واشتد به الظلام حين حرم ضوء الشمس، وركدت به روائح العفن والقذر حين حرم نسمات الرياح، ولم يكن يفرق بينه وبين القبور إلا أن سكانه أحياء يشعرون فيتألمون، وسكانها أموات لا يشعرون، ظلمة لا تسمع فيها إلا شكاة الشاكين، ولا ترى فيها إلا أشباحا هزيلة تروح وتجيء في ضوء خافت من المشاعل تخفق في اضطراب وضعف، كما يخفق قلب الطائر الجريح أقصدته السهام، وسجانون شداد غلاظ كأنهم زبانية السعير، وأنات وزفرات تتلهف إلى قسوة الموت بعد أن يئست من رفق الحياة.
دخل هشام وقد وضع يدع على أنفه كراهية أن تصل إليه ريحه، ومشى أمامه كبير السجن حتى وصل إلى حجرة ابن سهيل؛ فرآه ملقى على الأرض في مسح خلق، والسوط ينصب عليه من سجان عنيف صخري القلب مفتول العضل، وهو يئن أنين المحتضر، ويستغيث فلا يجد مغيثا؛ فأسرع الوليد وأمسك بيد السجان، ثم وكزه بمرفقه في غضب ونكر حتى ابتعد عنه، واتجه إلي هشام فقال: يا أمير المؤمنين، اجعلني مكانه، أو مر هذا الجبار الأحمق أن يكف عنه، إن الموت يا أمير المؤمنين أروح له من هذا العذاب، فلوى عنه هشام وجهه، وأشار إلى السجان أن يمضي في عمله، وجذب الوليد من كمه، وسار وتبعته الحاشية فشهدوا من عذاب عياض، وعبد الصمد ما تقشعر له الجلود، وكان الوليد حزينا مطرقا يذرف الدمع مدرارا، وترسل أنفاسه حسرات إثر حسرات، حتى إذا بلغوا إحدى حجرات السجن رأوا شيخا في الثمانين، وقد طال شعره، وامتدت أظفاره، ولم يبق منه السجن إلا عينين ذاهلتين، ونفسا قصيرا متلاحقا، وجسما كادت تبرز منه العظام، فسأل هشام كبير السجن عنه فقال: هذا يا أمير المؤمنين «مجاهد بن حبيب» كان من أصحاب «سعيد بن جبير» الذي خلع «الحجاج بن يوسف» وخرج عليه، فلما تمكن الحجاج من سعيد وقبض على أصحابه كان هذا منهم، فألقي في هذا السجن ونسي ذكره، فبقي هنا إلى اليوم. - هذا كان من سنة أربع وتسعين! - نعم يا أمير المؤمنين. - ونحن الآن في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أبقي الرجل منسيا في هذا السجن تسعا وعشرين سنة؟ - نعم يا أمير المؤمنين.
وقرب الخليفة من الشيخ وصاح في أذنه: قم أيها الشيخ؛ فأجاب في صوت خافت: وهل أبقى في السجن والهرم ساقين أقف عليهما؟ - خبرنا بحديثك. - نسيته. - من أنت؟ - كنت رجلا فيما مضى، ولكني أصبحت اليوم جثة بها نفس يطيل في عذابها. - أتحب أن نطلق سراحك؟ - ماتت في الرغبة والرهبة منذ زمن بعيد، فأصبحت لا أريد ولا أخشى. - أنا هشام بن عبد الملك الخليفة. -
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الدماء
Página desconocida
صدق الله العظيم.
فاتجه هشام إلى كبير السجن وقال: أطلقوا الرجل، ثم التفت إلى كاتبه وأمره أن يمنحه ما يكفيه في أيامه الباقية، وما كاد يخرج من السجن حتى رأى خادمه يعقوب يقبل إليه مسرعا، وقد تملكه الاضطراب والفزع، وهو يصيح: مولاي مسلمة يا أمير المؤمنين! - ما شأنه؟ - اختطفه اللصوص يا أمير المؤمنين! فبهت هشام وصرخ: اللصوص؟ أي لصوص ويلك؟ - نعم يا أمير المؤمنين، اختطفه اللصوص. - كيف ثكلتك أمك؟ - لقد خرج في الصباح كعادته على برذونه الطخاري، وصحبته إلى الغوطة، حتى إذا عزمنا على الرجوع بدا لنا من بعد رجل يضرب امرأة بسوط، لا تأخذه بها رحمة، وهي تصيح وتستغيث؛ فأشفق سيدي على المرأة، وجرى نحوها لينقذها وجريت معه، ثم نزل عن برذونه، وتقدم نحو الرجل شاهرا سيفه، وما كاد يفعل حتى خرج علينا كمين من الخلف فانقض علينا رجاله، وقبضوا على أيدينا فلم نستطع دفعا، ثم شدوا وثاقنا فلم نستطع حراكا، ثم جاءوا فربطوا على فمي وفم سيدي، وحملوه على جواد لهم، وانطلقوا به في سرعة الريح العاصفة، وبقيت مكتوفا مكموما حتى عثر بي أحد الأعراب فحل وثاقي، فأسرعت إليك يا أمير المؤمنين لتجد إلى إنقاذه سبيلا. - ويل لهم! يختطفون ابني في حاضرة ملكي وبين سمع أعواني وبصرهم! أي طريق سلكوا لا أم لك؟ - لا أدري يا أمير المؤمنين، فقد أثارت خيولهم غبارا حجب عني طريقهم. - صفهم لي. - كانوا يلبسون ثياب الأعراب، ولكنهم لم يكونوا من الأعراب، وقد دس أحدهم هذه الورقة في يدي، وهو يعقد وثاقي. - هاتها ويلك! فناوله يعقوب الورقة، فأسرع إلى قراءتها، وكان فيها: إن لم تطلق عبد الصمد بن عبد الأعلى، وابن سهيل، وابن مسلم الليلة ذبحنا ابنك كما تذبح الشاة، وقذفنا به في فناء قصرك، إننا جادون غير هازلين، وبيننا وبينك غروب الشمس، فإن أطلقتهم نام ابنك الليلة على فراشه، وإلا فقد أنذرناك.
صعق هشام بعد أن قرأ الورقة، وأخذت يداه ترتعشان، ورمى الوليد بنظرة كادت تسحقه، وصاح بكبير السجن: أطلق الكفرة الفجرة أصحاب الوليد، وسوف يكون لي ولهم شأن، فإن للعذاب ألوانا غير السجون، وسيعلم الأنذال ما ينتظرهم بعد حين.
هجرة ولقاء
ترك الوليد هشاما وهو يعجب لتصاريف القدر، ويفكر في أمر الذين جرءوا على ابن الخليفة فاختطفوه في النهار المبصر، كما تختطف السلع، أو كما تطر الجيوب، ثم طاف بخاطره أن هؤلاء القوم إنما كانوا يعملون لأجله، ويحتطبون في حبله، ويناصرونه على أعدائه، وأنهم ما أنقذوا ندماءه من براثن هشام إلا لحبهم إياه، وبغضبهم الخليفة، من يكون هؤلاء يا ترى؟ ومن الذي دفعهم إلى هذه الفعلة الجريئة؟ من هو ذاك الذي أمدهم بالمال، ورسم لهم تلك الخطة المحكمة، وذلك التدبير الحاذق؟ أسئلة لم يستطع الإجابة عنها بعد أن فكر طويلا، وأكد ذهنه طويلا، فسار إلى قصره حتى بلغه، فكان أول من قابله أبو رقية المعتوه بوجهه الأبله، وفمه المفتوح الذي لا ينقطع منه سيلان الريال، فقال الوليد: كيف حال الدنيا يا أبا رقية؟ - الدنيا بخير لأنها تجري على نمط مطرد، وإنما الناس هم الذين يتغيرون، ولو عاش الناس عيشة البهائم لرأوا أن للدنيا صورة واحدة جميلة تتكرر على مر الزمان، وإذا قلنا لهم: عيشوا عيشة البهائم، قالوا: إننا مجانين، إن الإنسان هو الذي يشقي نفسه في هذه الدنيا بمطامعه، وبعد مطالبه وضغنه على كل من يزاحمه في الحياة، أو يسبقه إلى لقيماتها، وكلما نال منها نصيبا زاد طمعه فلون الدنيا بألوان نفسه، فهو يرى فيها خوفا وحقدا، وخداعا وطمعا واغتصابا، ولو حقق لعلم أن هذه الألوان البشعة إنما هي مرائي نفسه وصورها. - مرحى أبا رقية، لقد أصبحت حكيما بصيرا بالحياة بعد أن عمي عنها العقلاء.
فضحك أبو رقية ضحكة أشبه بصراخ الأطفال وقال: وأين العقلاء أيها الأمير؟ إني أخشى أن تعدني منهم، أليس عجيبا أن العقل الذي يعرف الأشياء يعجز عن أن يعرف نفسه، وأن الناس يحصرون المجانين فيمن يرجمهم الصبيان بالأحجار، ولو علموا لرأوا أن الظالم والقاتل، والمدمن والمبذر، والشحيح والمزهو بنفسه، وكثيرا من أنواع الناس لا يعدون في صفوف العقلاء . - هل تكره الظلم يا أبا رقية؟ - أكرهه وأدفع شره بنفسي وبغيري، ثم رفع عينيه الذاهلتين إلى الوليد وقال: هل زرت الخليفة اليوم؟ - نعم، هل ذكرته حينما ذكرت الظلم والشر؟ - لا. ولكن نبئني: أوصلت إليه رسالة من أحد؟
فدهش الوليد، وقبض بشدة على ذراعي أبي رقية الرخويتين، وقال: من أنبأك بهذا أيها الأحمق؟ فابتسم أبو رقية ابتسامة الاطمئنان واليقين، وقال: الحمد لله لقد أفلح التدبير، وماذا فعل هشام؟ - أطلق سراح المسجونين، ومن أين لك علم كل هذا؟ - كان ذلك يسيرا علي، فإن الخليفة حينما أرسل أعوانه إلى القصر، فقبضوا على أصدقائك، وقذفوا بهم في السجن، علمت أن كل ذلك للنكاية بك والإساءة إليك، فذهبت باكيا إلى أمك فنفضت إليها الخبر، فقالت: وماذا أصنع في الخليفة؟ فقلت: تعطينني مائتي دينار، فابتسمت في حزن وأسى، وقالت: ترشو بهما الخليفة؟ فقلت: لا، بل أعطيهما «خارجة القيسي» شيخ لصوص الشام، فقالت: وما شأنك باللصوص؟ قلت: إذا قسا الحاكم تحكم اللصوص؛ فتنهدت طويلا، ثم قذفت إلي بثمانية أكياس، فأسرعت إلى خارجة، ورسمت له طريق العمل، ودعوت له بالتوفيق. - لقد أجاب الله دعاءك يا أخا «هبنقة»، ثم صاح: أين أشعب؟ فجاء إليه يحجل في مشيته كما يحجل القرد راعته عصا صاحبه، ثم رفع صوته محاكيا صوت الديك، ووضع رأسه على الأرض، ورجليه إلى الأعلى، ثم انقلب فعاد كما كان، وقال: هل يريد مولاي الأمير أن يعطيني شيئا؟ - أعطيك هذا، ثم قنعه بسوط كان في يده، فأخذ يحاكي صوت الكلب حينما يقذف بحجر، فرمى إليه الوليد دينارا فتلقفه بفمه في مهارة بارعة، ثم قال: الآن نستطيع أن نتحدث، ماذا تريد مولاي؟ - أتعرف ما كان من أمر ابن سهيل، وعياض، وعبد الصمد، فقد اعتقلهم الخليفة، وعذبهم عذابا شديدا، ثم أجبر مكرها على فك عقالهم، وهم الآن في دورهم، فاذهب إليهم أحضرهم إلي الساعة. - أتريد أن أحل محلهم في سجن الظلام؟ إن كل واحد منهم الآن محاط بجواسيس الخليفة، فهل تظنني أبا رقية حتى تقذف بي في هذه المهالك؟ - أتريد أن تعيش في قصري منعما مترفا دون أن تتعرض لمخوف؟ إن الغنم بالغرم يا ابن جبير. - لقد لقنتني أمي ألا أحمل غرما، وألا أتعفف عن غنم.
فأخرج الوليد من كمه كيسا، وهزه فسمعت وسوسة الدنانير، وقال: وما تقول في هذا؟ - الآن أذهب، ولعن الله أمي، ثم أخذ يمط وجهه، ويطوله حتى بلغ وسط صدره، وأصبح لا يعرفه من كان يعرفه، ثم وثب فاختطف الكيس من يد الوليد، وانطلق كما ينطلق السهم عن القوس.
وبعد قليل أقبل ندماء الوليد ضعفي يتوكئون حتى كأنهم خرجوا من معركة أثخنتهم جراحها، وما كاد يراهم الوليد حتى انقض عليهم معانقا مقبلا، ثم صاح: علي بالمغنين، علي بعمر الوادي وأصحابه، هذه ليلة الليالي، وواحدة الدهر؟ وسننسى الآلام، وسننسى هشاما؛ فأسرع المغنون إلى البهو، ودخل بعدهم نحو الأربعين من الجواري والقيان، بين روميات، وفارسيات، وتركيات في الملابس الزاهية، والحلي الباهر، وكان عمر الوادي قد لقنهن أبياتا للوليد في سلمى، فأخذن ينشدن معا بصوت ساحر بين رنين العيدان ونقر الدفوف:
خبروني أن سلمى
Página desconocida
خرجت يوم المصلى
فإذا طير مليح
فوق غصن يتفلى
قلت: هل تعرف سلمى؟
قال: ها. ثم تدلى
قلت: هل أبصرت سلمى؟
قال: لا. ثم تولى
ولعب الطرب بالرءوس، وظفر شره العيون بجمال الوجوه، فكان يلتهمها التهاما، وصاح رستم: لنرقص رقصة الفرس، لنرقص الفنزج، ولننشد معا:
نجا عياض وابن وهب قد نجا
ونال مولانا الوليد ما رجا
Página desconocida
هلم نرقص في هواه الفنزجا
فأخذ كل رجل بذراع فتاة، وتمايلت الرءوس، وماست الخصور، وسايرت الأقدام دقات الأنغام، واحمرت الوجنات، ولعبت العيون، وانطلقت الضحكات، وطغى المرح فأطلق لنفسه العنان، وطار العقل، وغادر المكان، وكان صياح، وكان هرج، وكان نزق، وبينما القوم في لهوهم إذ علا عند مدخل البهو صوت فيه رصانة، وفيه نبل، فنظر القوم مبهوتين، فإذا أم الوليد في جلال سمتها، واعتدال قوامها، ترسل نظرات ثاقبة ملؤها الغيظ والغضب، فأطرقوا في خشية وخجل، فقالت: ما هذا يا بني إن جواسيس هشام تحيط بقصري من كل جانب، وقد كنت أرضى كارهة عن الغناء والطرب، أما رقصات العلوج وضجيجهم ففوق احتمالي، وأكثر مما تسعه طاقتي.
وما سمعها القوم حتى تسللوا لواذا مطرقين وجلين.
وبقي الوليد وأمه وأبو رقية فالتفتت الأم إلى الوليد وقالت: يا بني، إن من يريد عرشا لا يصل إليه من هذه الطريق، وإن هشاما يقعد لك كل مرصد، ويسجل كل ما تأتي وما تذر؛ ليثبت لرجال بني أمية أنك لا تصلح للخلافة، وأن الحقيق بها ابنه مسلمة، ولقد غشي حبي لك على سمعي وبصري، فأغضيت عن شيء من اللهو، ولكني أراك تستمرئ ما أنت فيه، وتجاوز الحد فيما لا يليق بك؛ فبكى الوليد بكاء الطفل واحتضن أمه، وسرت العدوى إلى أبي رقية؛ فسالت دموعه مدرارا، وقال الوليد بين النحيب والنشيج: صفحك يا أمي، إني ولد عاق حقا، ولكن ماذا أعمل وخيال سلمى يعاودني في كل لحظة فيؤجج أشجاني، ويثير أحزاني؟ وكلما حاولت نسيانه والانصراف عنه وثب أمامي ساحرا فتانا، يعبس مرة، ويبسم أخرى، ويغرس في الأمل حينا، واليأس أحيانا، حتى كاد يسوقني إلى الجنون، إنني يا أمي أحاول نسيانه بهذا اللهو، وأجهد في طرده عني بضرب الدفوف وعزف المزاهر، إنني شقي يا أماه، جاه ومال وسلطان ودولة، ولكن أين السعادة بين كل هؤلاء؟ لا أرى لها أثرا، ولا ظلا من أثر، إن صلاحي في سلمى، وحياتي ومماتي لها، فلو أني نلتها أو فزت بكلمة منها لكنت أتقى الأتقياء، وخير الأصفياء.
وهنا تلعثم أبو رقية والدموع لا تزال تنهمر من عينيه وقال: إذا كان في قرب سلمى صلاحك فلم لا تتزوجها؟ فابتدره الوليد قائلا: ألم تعلم بما كان من أبيها أيها المجنون؟ ألم تعلم أني أطرد دونها كما تطرد غرائب الإبل عن المناهل، وأنها أبعد إلى مناط الثريا، وأنأى من آمال الحمقى؟ - هون عليك أبا العباس، فكل شيء ينال إذا صبرت له حتى آمال الحمقى. - وكيف ذلك يا رضيع «الجرنفش»؟ - إني سأفكر بعقلي، وأدبر لك لقاءها؟ - لقد يئس العقلاء من اجتذابها إلي فلم يبق إلا المجانين! - إن الناس يتقون العقلاء؛ لأنهم يعرفون طرق تفكيرهم فيتحصنون منهم، أما المجانين فلهم أسلوب في الحيل لا يهتدي إليه العقلاء، سأذهب إليها غدا، وستراها بعد غد.
فضحك الوليد ضحك اليائس، وأخذ يسخر من أبي رقية ويهزأ به، وأبو رقية مطرق لا ينبس، ثم طلب الوليد المصحف، وشرع يقرأ حتى إذا انتصف الليل ذهب إلى فراشه.
وفي الصباح خرج أبو رقية من القصر، ولما ابتعد عنه كثيرا، وقرب من قصر سعيد بن خالد، أخذ يهارش الصبيان ويغريهم بإيذائه، حتى إذا وصل إلى القصر شرعوا يرجمونه بالحجارة، وقد كثر عددهم، فطفق يصيح ويستغيث، وقد شج رأسه، فخرج العبيد فذادوا عنه الصبيان، وأدخلوه القصر، ولكنه استمر في عويله، وأخذ يرفع الصوت بشتم الصبيان والدعاء عليهم، فأطلت عليه سلمى مع بعض جواريها، وقالت: ماذا أصابك يا أبا رقية؟ - كل ما أصابني بسببك يا سيدتي. - بسببي؟ وهل أنا التي أغرت بك هؤلاء الشياطين؟ - نعم أنت، رأيت لك رؤيا بالأمس فأعجبتني، فجئت لأبشرك بها، فقابلني هؤلاء الأبالسة فشجوا رأسي، ألست أنت السبب في كل هذا؟ فضحكت سلمى ضحكة فاتنة لو سمعها الوليد لباع بها ملك الشام والعراق، ثم أدركتها شفقة على الرجل، ورثاء لما أصابه، وعطف يحسه العاقل على المجانين، فدعته إلى حجرتها، وقالت في دلال وعجب: حدثني بحديث هذه الرؤيا يا أبا رقية. - إنها رؤيا جميلة جدا لم أخبر بها أحدا، وأنا واثق من أنها ستقع؛ لأني لم أر شيئا في المنام إلا تحقق كما رأيته: رأيت مرة ليزيد بن عبد الملك أن حبيبته «حبابة» ستعود إليه، وقد كان يئس من لقائها، فعادت إليه بعد ثلاثة أيام، ورأيت لمسلمة بن عبد الملك قبل سفره إلى العراق أنه سيقود جيشا لمحاربة يزيد بن الملهب، وأنه سيقتله، فلم يمض شهر حتى تحققت الرؤيا. نعم يا سيدتي، إن العقلاء يرون الأشياء في النهار حينما تجيء، ونراها نحن في الليل قبل أن تجيء؛ فأغرقت سلمى في الضحك وقالت: أسرع أبا رقية وخبرني بهذه الرؤيا. - لا بد أن آخذ البشرى أولا. - لك عشرة دنانير. - لا يا سيدتي، وماذا أصنع بالدنانير؟ إنني أريد منك شيئا أعظم من هذا، بشرط أن تقسمي لي بجدك عثمان بن عفان أن تعطيني ما أطلبه منك. - أقسمت بعثمان فماذا تطلب؟ - أطلب طبقا من هريسة.
فأغرقت في الضحك، وأعجبها ما في الرجل من بلاهة وظرف، وأشارت إلى الجواري أن يغادرن الحجرة، واتجهت إليه قائلة: لك ما تطلب يا أبا رقية فاقصص رؤياك. - رأيت يا سيدتي كأنني في ميدان قصر الخلافة، وإذا بك أنت نفسك يا سيدتي تجرين في ذعر ووهل، ووراءك أسد مفترس ما رأيت في حياتي أشد منه شراسة وأنكر زئيرا، وكنت تصيحين وتستجيرين، فاجتمع الناس وملئوا جوانب الميدان، فأعدت النظر إلى الأسد، فإذا هو ينقلب رجلا أمرق العينين، أحمر الوجه، غزير شعر الحاجبين، أصفر شعر اللحية كثها، عظيم الشفتين، بخده الأيسر أثر ضربة سيف كاد يشوه وجهه، فنظرت إليه سلمى في ذهول وقالت: أنا أعرف هذا الرجل. - أنا لا أعرفه يا مولاتي، ولكني في النوم سمعت الناس يصيحون: ابن عنبسة، ولا أدري من هو. - نعم هو ابن عنبسة، يزيد بن عنبسة، إنه خطبني من أبي. - هذا لم يكن في منامي، ولا شأن لي بالرجل ولا بخطبته، انقلب الأسد رجلا في الوصف الذي ذكرت كأنني أراه أمامي الساعة، وكان في يده خنجر هم أن يطعنك به، فصحت وحاولت التخلص من يديه، وبينما أنت كذلك إذ أقبل رجل يشق صفوف الناس، وسيفه في يده، وعلى وجهه الشهامة والبطولة، وغضب الكريم لعرضه وشرفه، فصاح الناس: الوليد أمير المؤمنين. الخليفة. فرجعت البصر فإذا هو مولاي الوليد بن يزيد، فسألت رجلا بجانبي: أأصبح الوليد خليفة؟! فأجاب: نعم، أصبح الخليفة أيها الأبله، ألم تعلم أن هشاما مات منذ سنوات، وأنه الآن خليفة المسلمين؟ فسكت وترقبت فإذا الوليد يهجم بسيفه فيشطر الرجل الذي أراد طعنك بخنجره شطرين، ويأخذ بذراعك في رفق وحنان، ثم يمشي بك حتى يبلغ دار الخلافة بين صياح الصائحين، والدعاء لك ولزوجك أمير المؤمنين.
كانت سلمى ذاهلة واجمة، كأنها تسبح في حلم آخر، وكانت بفطرتها جمة المطامع، بعيدة الآمال طموحا، وكانت تبغض ابن عنبسة لثقل فيه ودمامة؛ ولأنه جاوز سن الشباب، فلما تعرض لخطبتها طلبت من أبيها أن يسوف الرجل ويمهله؛ لأن قلبها كان يهفو إلى الوليد على الرغم مما عرف عنه، وعلى الرغم من إباء هشام وتحريضه أباها ألا يزوجها إياه كانت تحب الوليد وتخاف رعونته، وكان مما يزهدها فيه، ويخفف من ثورة حبها له سعي هشام الحثيث لخلعه من ولاية العهد، وإطباق أكثر الناس على أنه لا يصلح للخلافة، بعد أن أرخى لنفسه العنان، وإذا ضاعت الخلافة من الرجل لم يبق منه إلا شبح هزيل من بني الإنسان لا جاه ولا غناء فيه، ولكن الرؤيا التي قصها عليها أبو رقية محت من نفسها كل شك، وأججت خامد الآمال، فالتفتت إليه وقالت: وبم تعبر هذه الرؤيا؟ - إنها لا تحتاج إلى تعبير، إنها كفلق الصبح. - وهل أصبح حقا في يوم من الأيام زوجة الخليفة؟ - ذلك بعد أن آكل الهريسة. فضحكت سلمى طويلا، ثم قالت: ولكني لا أحب الوليد، وقد خطبني من أبي، فرد طلبه في عنف وإباء! فكيف أتزوجه؟ لا يا أبا رقية إنك واهم، فلعلك رأيت في منامك فتاة أخرى تشبهني. - لم أرك وحدي، إن الناس الذين كانوا في ميدان الخلافة رأوك معي، وقالوا: هذه سلمى بنت سعيد، على أني أعرف أن الوليد بك صب مفتون، وأنه إنما يعبث ويلهو لينسى حبك بعد أن أيأسه أبوك من قربك، فلو أنه ظفر بك لرأى في حبك كل ما يحجبه عن اللهو والمرح، ثم إني لمحت منذ أيام أن جارية «عاتكة» بنت العباس بن الوليد قد أكثرت التردد على قصر حبابة، وأكثرت من الخلوة بالوليد، وعلمت من الجواري أن عاتكة مفتونة بحب الوليد، وأنها تحاول أن تجتذب مودته بعد أن يئس منك، ولست أبالي أتزوج عاتكة أم تزوج غيرها، ولكني لا أحب عاتكة؛ لأني ائتمنتها مرة على حجر قذفني به الصبيان فضيعته.
ثارت الغيرة في نفس سلمى، وتيقظت فيها غريزة المرأة فقالت : وماذا أعمل للوليد، وقد رأيت أنه محجوب عني وعن قصري؟ ثم ماذا أصنع وقد أقسم أبي ألا يزوجني إياه؟ - إنه يريد أن يطفئ نار غرامه برؤيتك والحديث إليك، أما زواجه بك فقد كتب في سجل القدر، ولن يستطيع يمين أبيك أن يمحو ما كتبه القدر. - وكيف أراه وعلي ألف عين من أهلي؟ - ذلك هين يسير، إنه سيأتي إلى القصر غدا متنكرا في هيئة رجل يبيع ثيابا، ومعه حماره وفوقه بضاعته، ولا تثريب عليك في شراء ثياب من بائع ثياب، فصاحت في خوف ممتزج بالفرح: أنت أعقل مجنون رأيته يا أبا رقية. - وأنت أجن عاقلة رأيتها، عمي صباحا، أرجو ألا ألتقي بالصبيان في عودتي، ثم انفتل من حولها فكأنما ابتلعته الأرض.
Página desconocida