فسوف ترى مجانبتي وبعدي
وسوف تلوم نفسك إن بقينا
وتبلو الناس والأحوال بعدي
إني جئت اليوم يا أمير المؤمنين لا لأطلب شيئا لنفسي، وإنما جئت لأسألك في فكاك أصحابي الذين ألقيت بهم في السجن، وليس لهم من جرم، إلا أنهم بي حفيون، ولعهدي مخلصون، وإذا كان لا بد لغضب أمير المؤمنين من متنفس فليصبه علي وحدي، فأنا به أوسع صدرا، وأكثر احتمالا.
فاربد وجه هشام، وانتفخت خياشيمه من الغضب، وصاح في وجهه: إني لن أترك الخلافة بين زق وعود، ولن أتركها لندمائك يبيعونها للأعداء، أما ما ذكرت من قطعي ما كنت أجريه فإني أستغفر الله من سبق إجرائه عليك، وأرجو أن يعفو الله عني بعد أن تداركت الأمر، وأسرعت بقطع مال كان ينفق في غير وجهه، وأما ندماؤك فهم عندي جذور الشر ومعاول الفساد، وهل زاد ابن سهيل - لله أبوك - عن أن يكون مغنيا زفانا، قد بلغ في السفه غايته؟ وهو مع ذلك ليس بشر ممن تستصحبهم في الأمور التي أكرم نفسي عن ذكرها، وهل عياض بن مسلم إلا وسيط سوء بيني وبينك، ومزور أخبار يستثيرك بها عن أهلك وقومك؟ وهل عبد الصمد إلا رجل احتال للوصول إليك ليكون لك معلما ومؤدبا، ثم انقلب فاجرا معربدا، وشيطانا مغويا؟ إن سجن الظلام منذ أن بناه الروم في عهودهم السحيقة لم تضم جدرانه، ولم يظل سقفه، أكثر إجراما، ولا أخبث أنفسا، ولا أجرأ على الشر من ندمائك الملاعين، لن يفك لهم إسار، ولن يروا نور الحياة مادام في نفس يتردد، وأقسم لولا صلة القربى التي ذكرتها، ولولا أن يشمت الأعداء ببني مروان لألحقتك بهم. يا حرسي، سر أمامنا إلى السجن لنري الوليد أحباءه، فلعله يرى فيهم عظة ومعتبرا. - لن أذهب معك يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن ينقض علينا غضب من الله ونحن في السجن. - إن غضب الله لا ينقض إلا على الغاوين. - إن كثيرا من الناس لا يعرفون أنفسهم. - ولو عرفوها ما هزوا أعواد الخلافة باستهتارهم، ولكفى الله المؤمنين شرهم. - وأي شر في مجالسة صديق، وسماع لحن من الثقيل الأول؟ - زوال الإسلام يا فتى، وذهاب ريح المسلمين، هلم إلى السجن لتمتع النظر بأصدقائك المخلصين.
فسار الوليد خلفه في تثاقل واستكراه كأنما يقاد بالسلاسل، ووصل الخليفة والحاشية إلى السجن بعد قليل.
وهو سجن روماني قديم نحت في باطن الأرض، ينزل إليه النازل بدرجات تبلغ الست والثلاثين، وهو متسع الرقعة، لا يزيد ارتفاعه عن قامة الرجل، وقد قسم بالبناء حجرات صغيرة يقيم بها المسجونون، وبه بئر عظيمة، بعيدة الغور تسمى «بئر الموت»، تلقى بها جثث من أنقذهم الموت من ويلات هذا الجحيم، وقد تراكمت به الأقذار، حتى أصبحت أرضا فوق أرضه، واشتد به الظلام حين حرم ضوء الشمس، وركدت به روائح العفن والقذر حين حرم نسمات الرياح، ولم يكن يفرق بينه وبين القبور إلا أن سكانه أحياء يشعرون فيتألمون، وسكانها أموات لا يشعرون، ظلمة لا تسمع فيها إلا شكاة الشاكين، ولا ترى فيها إلا أشباحا هزيلة تروح وتجيء في ضوء خافت من المشاعل تخفق في اضطراب وضعف، كما يخفق قلب الطائر الجريح أقصدته السهام، وسجانون شداد غلاظ كأنهم زبانية السعير، وأنات وزفرات تتلهف إلى قسوة الموت بعد أن يئست من رفق الحياة.
دخل هشام وقد وضع يدع على أنفه كراهية أن تصل إليه ريحه، ومشى أمامه كبير السجن حتى وصل إلى حجرة ابن سهيل؛ فرآه ملقى على الأرض في مسح خلق، والسوط ينصب عليه من سجان عنيف صخري القلب مفتول العضل، وهو يئن أنين المحتضر، ويستغيث فلا يجد مغيثا؛ فأسرع الوليد وأمسك بيد السجان، ثم وكزه بمرفقه في غضب ونكر حتى ابتعد عنه، واتجه إلي هشام فقال: يا أمير المؤمنين، اجعلني مكانه، أو مر هذا الجبار الأحمق أن يكف عنه، إن الموت يا أمير المؤمنين أروح له من هذا العذاب، فلوى عنه هشام وجهه، وأشار إلى السجان أن يمضي في عمله، وجذب الوليد من كمه، وسار وتبعته الحاشية فشهدوا من عذاب عياض، وعبد الصمد ما تقشعر له الجلود، وكان الوليد حزينا مطرقا يذرف الدمع مدرارا، وترسل أنفاسه حسرات إثر حسرات، حتى إذا بلغوا إحدى حجرات السجن رأوا شيخا في الثمانين، وقد طال شعره، وامتدت أظفاره، ولم يبق منه السجن إلا عينين ذاهلتين، ونفسا قصيرا متلاحقا، وجسما كادت تبرز منه العظام، فسأل هشام كبير السجن عنه فقال: هذا يا أمير المؤمنين «مجاهد بن حبيب» كان من أصحاب «سعيد بن جبير» الذي خلع «الحجاج بن يوسف» وخرج عليه، فلما تمكن الحجاج من سعيد وقبض على أصحابه كان هذا منهم، فألقي في هذا السجن ونسي ذكره، فبقي هنا إلى اليوم. - هذا كان من سنة أربع وتسعين! - نعم يا أمير المؤمنين. - ونحن الآن في سنة ثلاث وعشرين ومائة، أبقي الرجل منسيا في هذا السجن تسعا وعشرين سنة؟ - نعم يا أمير المؤمنين.
وقرب الخليفة من الشيخ وصاح في أذنه: قم أيها الشيخ؛ فأجاب في صوت خافت: وهل أبقى في السجن والهرم ساقين أقف عليهما؟ - خبرنا بحديثك. - نسيته. - من أنت؟ - كنت رجلا فيما مضى، ولكني أصبحت اليوم جثة بها نفس يطيل في عذابها. - أتحب أن نطلق سراحك؟ - ماتت في الرغبة والرهبة منذ زمن بعيد، فأصبحت لا أريد ولا أخشى. - أنا هشام بن عبد الملك الخليفة. -
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء الدماء
Página desconocida