La mujer en la Jahilíya

Habib Zayyat d. 1373 AH
24

La mujer en la Jahilíya

المرأة في الجاهلية

Géneros

وفي هذا الشاهد شواهد أخر جاءت مثبتة لبعض ما تقدم ذكره من موضوعات هذا البحث، أنبه عليها تعزيزا للدعوى، فمنها شاهد بأن الفتيات كن لا يغصبن على التزوج بمن لا يردنه، بل تعرض عليهن في الغالب الأزواج فيخترن من يشأن ويرفضن من يشأن. ومنها سلطة المرأة على الرجل وتأثيرها في أفكاره وأعماله، بحيث كان يأتمر بأمرها ولا يعصي لها نهيا. ومنها عناية بعض الأسر الكريمة بتعليم فتياتهن بعض الصنائع اليدوية، واعتقاد هؤلاء الفتيات تعلمهن لها من أفضل واجبات المرأة الكاملة وأهم الضروريات المعينة على الزواج، خلافا لما تقدم من أنفة أكثر النساء من الامتهان وتجافيهن عن الصناعات للإماء والحرائر غير العريقات في الشرف.

وقد كانت النساء لهذه العفة التي وصفت حريصات على سمعتهن، يغرن عليها غيرتهن على شرف أسرتهن، فكن يرضين بكل شيء خلا قبح الأحدوثة، ويؤثرن الموت على فعل ما يغض من ذكر قومهن أو يلحق بهن العار. وقد جاء عن فاطمة بنت الخرشب، وهي إحدى النساء المنجبات، وكان يقال لبنيها الكملة؛ أنه لما ظفر بها حمل بن بدر راكبة وقادها بجملها، قالت له: أي رجل، هل ضل حلمك؟ والله لئن أخذتني فصارت بي وبك هذه الأكمة التي أمامنا وراءنا، لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبدا؛ لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاءوه، وحسبك من شر سماعه. قال: إني أذهب بك حتى ترعي علي إبلي. فلما تيقنت أنه ذاهب بها، رمت بنفسها على رأسها من البعير فماتت؛ خوفا أن يلحقها أو يلحق بنيها عار فيها.

لا جرم إن أن اجتماع مثل هذه الخصال الشريفة في المرأة الجاهلية كان نتيجة حسن تأديب والديها لها، وأخص بفضل هذه التربية المرأة نفسها، وإن كان للرجل فيها حظ ونصيب، فإن الوالدة كانت للأدب الذي نشأت عليه تحرص على تهذيب ابنتها بمثل ما هذبت به نفسها، وتعنى ببث روح العفة وعزة النفس في فؤداها، حتى إذا ترعرعت خرجت نظيرها لا همة لها إلا كرم الأخلاق وطيب الخصال، ولا رغبة إلا في نقاء العرض وحسن الذكر، كما يشهد بذلك ما ذكر قريبا عن بنات أوس الطائي وتصرف الصغرى منهن خاصة مع زوجها. وقد نقل الرواة وصية أوصت بها امرأة عوف بن محلم الشيباني ابنتها لما خطبها عمرو بن حجر ملك اليمن، يعلم منها مبلغ التربية التي كانت تربي بها النساء فتياتهن في الجاهلية، ومنهج التأديب الذي كن ينهجنه في تعليمهن كيف يستسرن في المنزل، ومع الزوج إذا دفعن إلى الزواج، ومنها يستدل على مقدار الحكمة التي كانت متصفة بها الأنثى في الجاهلية، ووفرة العقل الذي كانت تستضيء برأيه في كل أمر تباشره أو خطة تجري عليها، وقد نقل عنها من الأقوال الآخذة بمجامع السداد المستولية على لب الصواب ما يشف عما كان يتقد فيها من الذكاء والنباهة. ومن طالع أقوال هند بنت الخس، إحدى حكيمات العرب الأربع، وما كان يدور بينها وبين أبيها من الأحاديث؛ تيقن صحة ما ذهبت إليه، واستدل بهذه الآثار على رفعة المكانة التي بلغتها المرأة في تلك القفار.

ومع كل ذلك لم تكن الأنثى تكتفي بهذه الفضائل، بل كانت تطمح إلى كثير من مزايا الرجل فتشاركه فيها: كالكرم والشجاعة والخوض في معامع الحروب والحرص على إدراك الثأر مما هو خاص بالرجل مشهور به وحده.

أما الكرم فإنها كانت لا تفرغ يومها أجمع من استقبال الضيوف وبذل القرى لهم، ولو لم يحضرها في ذلك زوجها، ومن المشتهرات بالجود والسخاء سفانة بنت حاتم الطائي، كان أبوها يعطيها القطعة من الإبل بعد القطعة فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها حاتم: يا بنية، إن القرينين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فإما أن أعطي وتمسكي أو أمسك وتعطي؛ فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت: لا أمسك أبدا. قال: وأنا لا أمسك أبدا. فقاسمها ماله وتباينا. ولما كان الكرم داعيا إلى الشجاعة كانت المرأة لا ترهب من شهود القتال، ولا تخشى الخوض في ساحات الوغى، ولست أعني بذلك أنها كانت تعتقل الرمح وتتقلد السيف وتبرز لمطاعنة الرجال، بل أنها كانت تخرج لتحرض فرسان قومها على الثبات في مدافعة العدو، وتؤجج في قلوبهم نار الحمية بما تهيجهم به من الأقوال الحماسية والمظاهر التي تلتهب لها الصدور غيرة، كما ذكرت عن ابنتي الفند الزماني، ومثلما يشاهد اليوم في بدويات العصر. ولايزال إلى الساعة صدى القفر يردد قول الزرقاء: ألا أن إن خضاب الرجال الدماء، وخضاب النساء الحناء. وقد نقل ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد جملة من مثل هذه الأقوال والخطب الحماسية المحفوظة عن أشهر النساء، فلتطالع هنالك.

ولقائل أن يقول إن غير ذلك كان أولى بالمرأة، وإنها لو انصرفت عن تهييج القوم على سفك دماء بعضهم إلى معالجة الجريح منهم وإعانة الملهوف، لكان أشبه بها وأزين لها. فأجيب إن المرأة إنما كانت تفعل ما تفعله لا رغبة في إراقة الدماء، ولكن لعلمها أن قومها إذا صدقوا القتال وأحسنوا الدفاع، حموا بذلك عرضها من أن تخلص إليه يد الغالب فتدنسه بما يكون سبة الأبد وعار الدهر، فضلا عن أن بعض النساء كن إذا شهدن الحرب ورأين الصريع من قومهن، يبادرن إليه فيعصبن جراحه ويعالجنه بما استطعن؛ كما حكي عن نساء بني بكر يوم التحالق أنهن تقلدن كل واحدة إداوة من ماء في يد، فكن إذا مررن بصريع من قومهن سقينه الماء ونعشنه، ولكنهن في ضد ذلك أخذن هراوة في اليد الأخرى، وكن إذا مررن على رجل من الأعداء ضربنه بها وأجهزن عليه.

وأما الحرص على إدراك الثأر فقد يظهر أن المرأة كانت لا ينام لها وتر ولا تغفل عن طلب الانتقام، وربما كانت تتشدد في هذا الطلب أكثر من الرجل، وتنبهه إليه إذا رأته مهملا له، مثلما ذكر عن ريحانة بنت معدي كرب أنها قالت لدريد بن الصمة بعد حول من مقتل أخيه: يا بني، إن كنت عجزت عن طلب الثأر بأخيك فاستعن بخالك وعشيرته. فأنف من ذلك وحلف لا يكتحل ولا يدهن ولا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، وما لبث حتى جاءها بقاتل أخيه وقتله بفنائها، وقال: هل بلغت ما في نفسك؟ قالت: نعم متعت بك. ولست أنكر أن مثل هذا الحرص على سفك الدم تشفيا وانتقاما مما لا تمدح به المرأة الجاهلية، وإن كان لها بعض العذر فيه؛ لكون القتيل قريبا لها من ذوي رحمها، وممن يعد الطلب بثأره والحقد على قاتله طبيعة لكل نفس، فإن مثل هذه الصفة هي بالرجال أجدر، لا سيما وأنهم كانوا يحسبون القعود عن طلب الثأر إقرارا بالعجز والجبن، وهو ما كانوا يأنفون منه. ومثل ذلك أنكر بعض الناس من المرأة سجيتي الكرم والشجاعة، وآثروا لها في ضدهما البخل والجبن، حتى كانوا إذا مدحوا الفاضلة من النساء مدحوها بهما وعدوهما فخرا وزينا لها، كما قال الطغرائي في لاميته:

قد زاد طيب أحاديث الكرام بها

ما بالكرائم من جبن ومن بخل

وإنما ذهبوا هذا المذهب لاعتقادهم أن المرأة إذا كانت كريمة تجود بمالها، لا تبطئ أن تجود بعرضها أيضا! وإذا كانت شجاعة قد تعودت مشاهدة الأبطال ولقاء الرجال، لا تلبث أن تألفهم فلا تستتر منهم وتعرض نفسها للاتهام بهم! قال الصفدي في شرح البيت المتقدم: «الجبن والبخل خصلتان محمودتان في النساء، مذمومتان في الرجال؛ لأن المرأة، إذا كان فيها شجاعة، ربما كرهت بعلها فأوقعت به فعلا أدى إلى هلاكه، أو تمكنت من الخروج من مكانها على ما تراه؛ لأنه لا عقل لها يمنعها مما تحاوله، وإنما يصدها عما يقتضيه عقلها الجبن الذي عندها والخور، فإذا لم يكن لها مانع من الجبن أقدمت على كل قبيح وتعاطت ما تختاره، إقداما منها على ما يأمرها به الشيطان، وإذا كانت المرأة سمحة جادت بما في بيتها فأضر ذلك بمال زوجها، ومتى علم منها الجود بما يطلب منها، ربما حصل الطمع فيها بأمر آخر وراء ذلك.» ولعل مثل هذه الاعتبارات تصدق في غير المرأة الجاهلية؛ فقد سبق في عفة هذه وصحة آدابها وأصالة رأيها ما يغني عن التكرار ويزيل كل شك وارتياب.

Página desconocida